نقوس المهدي
كاتب
للجسد في مختلف الثقافات البشرية تمثلات أنتربولوجية و إثنية خاصة من جهة ، كما له تمثلات روحانية صرفة ترتبط بخاصيات الثقافات المحلية و بالخطابات العرفانية من جهة أخرى، و لا تختلف في ذلك المجتمعات » المتقدمة » عن المجتمعات » المتخلفة » ، فحتى الثقافة الغربية لا تملك على هذا المُستوى أي تصور عقلاني يميزها عن المجتمعات » البدائية » {1} .
و يشكل الجسد عنصرا تأسيسيا لمفهوم الذات أو الشخص في مختلف تمثلات الكائن البشري، سواء كانت تمثلات ذات طابع ديني أو بيولوجي أو ثقافي … فكل ثقافة تؤسس لمفهوم بيولوجي عن الجسد، عن مفهوم الوراثة و عن التكوين الجسدي، فمثلا: تعتبر مجموعة من القبائل الإفريقية في شرق القارة أن لكل طفل خصائص جسدية يكتسبها حتما عن أحد أجداده السالفين{2} ، بمعنى أنهم يؤمنون بفكرة تناسخ الأجساد التي تذكرنا بفكرة تناسخ الأرواح في المعهود البوذي و في بعض الديانات الشرقية القديمة…
كل ثقافة تؤسس لمفهوم ديني عن الجسد أيضا، حيث تزخر النصوص الرسالية بتصورات هامة للجسد، تختزن رصيدا هائلا من الدلالات التي يعطيها البشر لأجسادهم تحت تأثير الدين كما تحت تأثير أي منظومة تربوية أخلاقية أخرى…
كما أن كل ثقافة تختزن مفاهيم و تصورات فلسفية عن موضوعة الجسد، و هذا الشق الثالث من التصورات لا يرتبط غالبا بالوعي الجمعي، لأنه ينفلت من إطار ثقافة الكتلة ليدخل حيز ثقافة النخبة…
للجسد إذا هذه التمثلات المختلفة: النسبية و المطلقة ، و هي تمثلات تتمايز حسب الزمن و الرقعة الجغرافية و السياقات التاريخية و البنيات الثقافية ، إذ ليس التصور الفلسفي للجسد مثلا هو ذاته عند العرب كما عند الأوروبيين، و ليس التصور الديني الذي عند الهنود هو ذاته الذي عند الأوروبيين أو عند العرب ..و هكذا دواليك تتباعد التصورات أو تتقارب وفق أنماط و أنساق الثقافات المُلقى عليها الضوء…
لكن الأكيد هو أن بنيات المعرفة في كل ثقافة من حيث تكوينُها الداخلي تفرز تصورات متقاربة بما أنها تنطلق من إطارات مرجعية واحدة، فالثقافة نسق تشترك كل عناصره في سمات مميزة، و هو نسق محكوم بغلبة شكل معرفي في مقابل آخر أو أُخر ( بضم الهمزة) و هذا يجعل أن التصورات التي تصوغها ثقافة ما عن موضوعة ما، تصورات تختلف في الشكل لكنها تتقارب من حيث الجوهر و المبدأ الذي يحكمها، فمختلف أنماط المعرفة السائدة في ثقافة ما تتناول – و بتقاطع – موضوعة الجسد، تنتج حوله و فيه و له خطابات تتسم بخصائص نوعية ، إذا ما جمعت و اجتمعت تعطينا بعدا نظريا له قواعد مشتركة كافية لتقييم النظرية التي ينتجها النسق الثقافي عن موضوعة بخطورة الجسد مثلا، من هذا المنطلق سنحاول رصد بعض أشكال تمثل الجسد في المخيال البشري ، لا لشيء إلا لننبه إلى مكون أساسي من مكونات الذات ، و لنشعر بخطورة الاختزال و السلطوية التي يتعرض لها إن على مستوى الخطاب الديني و المنظور الفكري الكلاسيكي أو على مستوى التمثل العفوي الذي غالبا ما يكون نسقه المضمر ومرجعيته اللاواعية هي الثقافة الشعبية، فالخطير في التمثل الدوغمائي هو أن له أبعادا سلوكية يتم تبنيها وفق القناعات الفكرية.
1-تمثلات الجسد في الدين و الفكر الفلسفي:
1-أ) في الدين.
في هذا المستوى سنطرح سؤال فوكو الأساسي في مقاربته التاريخانية للجنسانية البشرية، لكننا سنحور قليلا من حيث بؤرة السؤال، فميشيل فوكو طرحه حول الجنس ، أما نحن فلا نبتعد كثيرا عن مداره الدلالي و نطرحه عن الجسد، مادام الجسد هو محور كل جنسانية بشرية ، فنتساءل :
-لماذا ربط الناس بين الخطيئة و الجسد، متى و لما و كيف تم حجز الفعالية الجسدية للبشر ضمن أفق أخلاقي؟
لكي نلامس بعضا من شساعة السؤال لا بأس من ملامسة عناصر الإجابة في بعض تمظهرات المُنجز النصي للدين ..
إن القمع هو التمثل العلائقي الأوضح بين السلطة والدين و الجنس و الجسد، بالرغم من أن الخلق بما هو مفهوم وجودي انطلق من حادثة خلق الجسد، سواء من العناصر الأربعة جميعها أو من بعضها كما قاربته الفلسفة الطبيعية عند الإغريق، أو من الطين ..
إن الإنسان أصله جسد، و إن جسد الإنسان إذ يتعرض لحالات القمع و السلطوية التي تفرضها التعاليم الدينية و السلطة الأبوية يفسر لنا كيف أن التزاوج الأسطوري بين الجسد و الوجود تم في أفق البدء، بدء الخليقة فالمرأة\ الإنسان جاءت من الجسد و انبثقت منه، و الأسطورة الدينية تحكي لنا كيف أن هذا الخلق الموازي أو الثاني له أهميته في توطد الحياة و بدء صيرورة التغير ، صيرورة البدء\الفناء..و هنا نلاحظ أن الإنسان انبثق من نفسه في لحظة لم يكن للروح و الفكر فيها أي ذكر أو وزن ( على الأقل في مستوى المنجز النصي) …و هي فكرة دينية بالأساس و إن كان الدين لاحقا سيعطي للفكر و الروح ما حَرم الجسد منه، على اعتبار كون الكائن البشري ليس كلا واحدا بل ثنائية من جسد و روح ، و هي ثنائية متجذرة في التاريخ البشري خاصة مع المنظور الديني، و في هذا الصدد يقول لنا الإنجيل:
» فأوقع الرب الإله سُباتا على آدم ، فنام فأخذ واحدة من أضلاعه و ملأ مكانها لحما و بنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة و أحضرها إلى آدم، فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي و لحم من لحمي ، هذه تدعى امرأة لأنها من امرئ أُخذت، لذلك يترك الرجل أباه و أمه و يلتصق بامرأته و يكونان جسدا واحدا. و كان كلاهما عريانين آدم و امرأته و هما لا يخجلان » {3}…
و يقول القرآن:
» فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة و ناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكم الشجرة و أقل لكما إن الشيطان عدو مبين… »{4}..
إن التصور الإنجيلي للجسد كمعطى ميثولوجي يؤسس لصورة الخلق الأولى كما جاءت في الميثولوجيات الدينية اللاحقة و السابقة عليه ، و هو يصور لنا حالة الصدمة الأولى ، صدمة العُري حيث وقف الإنسان ( آدم و حواء هنا) أمام حقيقة جسده الصارخة، حقيقة الجسد متجردا من غطاء أو ستر، و حري بنا أن ننتبه إلى رمزية العقاب الذي لحق بالإنسان، العقاب الذي ألحقه الرب هنا ليس ريحا صرصرا عاتية أو طوفانا يأتي على الأخضر و اليابس ، إنه – و قبل الإنزال إلى الأرض و الحرمان من جنة عدن - إقرار بالتعرية و بالحقيقة التي جهلها آدم عن نفسه، إنه عقاب يلحق بالجسد الإنساني، ليس يدميه أو يقطع أوصاله أو يلحق به جروحا ، و لكن يكشف عورته و يعريه أمام نفسه ، و لا حظوا معي هنا أن مفهوم الحشمة لم يتكون بعد ، فحواء و آدم وحدهما فقط، و ممن يحتشمان؟ ، الجنس البشري لازال في حالة بذرة لم تتفرع بعد، حين تُكشف « العورة » كردة فعل على خرق عقد الطاعة، يكون لذلك رمزيته الكبيرة و إن أنكرناها، إذ تنير لنا هذه الملاحظة أطراف النهر الغامق الذي يسبح فيه الجسد الإنساني منذ الخليقة، نهر الخطيئة الذي لا يرغب أحد في تجاوز شاطئه إلا و جرفه تيار المجموع و منطق العقاب و المراقبة ، إن ما فعله الإله لَيَكشفُ لنا عن جانب مضمر في اللاوعي البشري، هو جانب الخوف من الذات، الخوف من الجسد تعبير جزئي هنا عن هذا الخوف الأنطولوجي من الذات، و لنا أن نلاحظ ذلك اليوم في لحظتنا الراهنة في بعض الممارسات الطبيعية لدى بعض الشعوب ، طقس فض البكارة مثلا عند المسلمين تصاحبه هذه الهيبة، هنا الخوف يكون مزدوجا: خوف حواء على جسدها و خوف آدم من جسدها أيضا و من جسده الذي قد يخذله أمام الشرف القبلي ( المفهوم هنا أخلاقي أيضا بمعايير الجماعة) ، إن الله\ الإنسان إذ هو يقر بالخطيئة و بعقوبة الخطيئة يرسخ خوفه من الجسد في رمز، في نص ، يوثق خوفه من ذاته كي لا ينسى تبريره لذلك الخوف ، أو بالأحرى كي لا تعوزه الحيلة في تبرير خوفه أيضا، و الحال أنها حالة سيكولوجية لولا أنها قدست و دخلت في مضمار الممنوع و الطابوهات لأمكن تجاوزها و جبرها ككل حالة سيكولوجية أخرى، و ربما هذا بالضبط ما فعلته الفلسفة المعاصرة و علوم الأعصاب و الجراحون ورواد العلوم المعرفية و النفسية، لقد أصلحوا على المستوى النظري عطب النص المقدس ، و من خلاله حاولوا إصلاح العطب النفسي الذي خلق المقدس حين لم يستطع الوعي البشري استساغة مورفولوجية الجسد و وظيفيته بأدواته النقدية البدائية في مراحل سابقة…لكن و بالرغم من تلك المجهودات الفلسفية و العلمية يبقى المقدس أكثر عمقا في النفس، أكبر أثرا على المخيال لأنه و ببساطة ليس نتاج ظروف موضوعية أو خارجية يمكن تعديلها بعمليات جراحية ، لأنه إنتاج المخيال ذاته ، إن نظرة الإنجيل إلى الجسد لا يمكن فهمها على أنها مجرد اختزال لخوف آدمي تم ترميزه في النص الديني على يد البشر نفسهم ( مضطرون هنا للتذكير بإنسية النصوص الدينية ) بل هي تعني للناس أكثر من ذلك بكثير، إنها تعني « الحقيقة »، حقيقة الجسد ، لا ينظر الوعي الديني للجسد إلا داخل إطار الخطيئة إن واعيا أو غير واع، و يستمر في تحليل موقفه و تبريره على أساس إيماني دائما …
إن حواء و آدم حين لم يخجلا في المقطع كما يصورهما الإنجيل، كانا لم يكتسبا بعد و بثوان قليلة معنى للمحظور و للممنوع و الأخلاقي ، حتى يتسنى لهما تحديد ما هو غير أخلاقي على ضوئه، لكن اللحظة القرآنية مُوضَّحة في سورة الأعراف تصور لنا الحدث الكبير لسقوط الإنسان إلى الأرض في لحظة اكتساب الوعي لمفهوم الفضيلة، فضيلة الستر، مفهوم الأخلاق، مفهوم الحشمة بشكل أكثر تحديدا، وفي هذه اللحظة ، لحظة التعري الحقيقية ( حيث ينخرط الوعي مع الجسد في الإدراك) يكتشف الجسد نفسه أمام هول الحكم اللاحق به من قبل الإله، إن الجسد وفق ما ترسخه القصة نقطة ضعف يمكن معاقبة البشر من خلالها، فحالة العري حالة نقص صارخة لا يقتصر ضررها على الجسد في حد ذاته بل يتجاوزه إلى خدش الحياء و التشويش على العقل و استنفار الضمير الأخلاقي، و لعل ما جاء في بدء الآية يوضح أكثر و يعطينا تصورا معياريا لقيمة الجسد المستور في مقابل الجسد المفضوح، يقول الله لآدم محذرا إياه من الغواية الشيطانية: » فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى.إن لك ألا تجوع فيها و تعرى« …
إن الله إذ يغري آدم بالستر و الشبع في الجنة يدنيه من طاعته ، بل يغريه كي لا يعصينه، لكنه و من غرائب الصدف هو ذاته ( الله) سيرسم مسار المعصية بقدرته الكلية، إن المعصية محتومة هنا لا لشيء إلا لكونها ستجعل الإنسان يكتشف جسده و يُصدم منه، للخطيئة في هذا المستوى مسار محتوم للجسدين : الحوائي و الآدمي، و نحن إن تجاوزنا مستوى تحليل الخطاب القرآني \ الديني و مررنا إلى مستوى سيميائي، نفهم من ذلك أنه لم يكن للمخيال الرمزي للبشر من مخرج لتجاوز صدمة الجسد و فاجعة اكتشاف الذات سوى نسج الأسطورة و تغيير مسار الحبكة وفق بنية درامية تعطي النفور من الجسد شرعيته الميثولوجية و بالتالي الشعورية، و تُسوّغ الحكم النصي المُقدّس لسجن الجسد و احتقاره، لأنه و في سياق الثنائية الدلالية و المفهومية جسد\روح يعتبر الجسد أدنى قيمة، و هو التفاضل الذي صاغه الإنجيل بوضوح مُبين حين يقول:
» اهتمام الجسد هو موت و لكن اهتمام الروح هو حياة و سلام » \ » الذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله و أما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح » ….
و هو ما توجهت إليه معظم الديانات البشرية، لأن بنيتها التكوينية و القاعدية هي في واقعها بنية متشابهة في المبادئ التي تحكمها و إن اختلفت في الإجرائيات، و كمثال على هذا التقارب تحضر هذه الثنائية بقوة: ثنائية الروح \ الجسد، ففي معظم النصوص الدينية يتم بناء نماذج تحذيرية من إيلاء الاهتمام للجسد أو التفكير في إعطائه قيمة ما دامت الروح هي جوهر الذات ، في الإسلام كما في المسيحية كما في اليهودية تكون الروح القدس أو الروح الأمين أعلى قيمة من الجسد ، لأنه بؤرة الرذيلة و عليه تقع الزنا و الفواحش، أما النفس فبها يتحرر الفرد من طغيان المادة ، و في الديانة المندائية القديمة مثلا يوجد هذا التصور و بقوة ، حيث يُعتقد أن الموت هو تحرر من الجسد، فحين يموت الإنسان تتحرر على الأرض نفسه التي هي بؤرة الإيمان و التي تعرف الإيمان الحق بالفطرة، فتتحد بالكون الأعظم الخالد ( الله في الديانات الرسالية) تاركة الإنسان\الجسد فانيا لا أهمية له تذكر… و لعل الممارسات البشرية المتنوعة التي تأخذ الجسد البشري موضوعا لها توضح في أحايين كثيرة مدى احتقار الجسد، و أحيانا تكون هذه الممارسات إعادة و سيناريوها مصغرا و مكررا للفعل الربوبي كما يتجلى ذلك مثلا في فعل الرجم ، فعل الرجم بعيدا عن إبدالاته الاجتماعية و السيكولوجية و الحقوقية، بل فقط في مستواه الدلالي الرامز، إن الرجم كممارسة طقوسية قاسية تعيد إنتاج العلاقة بين الجسد و الروح في كل لحظة يتلى فيها النص المشرع للطقس هنا، أو في كل لحظة قد يمارس فيها تحقيقا على أرض الواقع، إن الحفر عن ميكانيزم اشتغال الوعي الديني في علاقته بالممارسة العنيفة يتطلب منا أكثر من عاطفة جوفاء نحو الجسد سواء أنثويا كان أو ذكوريا ( نادرا)، إنه فيما يبدو ( فعل الرجم) من حيث رمزيتُه تكفيرٌ عن الخطيئة الأولى ، خطيئة الغواية التي تعرضت لها حواء و آدم، و حواء بشكل أكثر لأنها هي التي وقعت تحت تأثير الغواية الشيطانية أولا، ما يفسر أن فعل الرجم يلحق بها أكثر من آدم …
لا يمكن إذا أن نفهم الممارسة العِقابية إلا على ضوء قصة الخلق الأولى كما لا يمكن أن نفهم عمق السؤال في بدء القول إلا على ضوء تمثل الجسد في المنطوق الديني، فالعقل الديني حين شرع لردم الجسد تحت ركام الحجر، كان ينطوي على نزوع انتقامية فُطامية ، شبه أنطولوجية حتى، إنه انتقام لمسألتين:
-الذل الذي تعرض له الجنس البشري ذاته مع فضيحة التعري اللاحقة بالجسد أصلا، و لا أدل على ذلك من استمرار النزوع نحو الستر الكلي للجسد في الأدبيات الدينية السلفية( النقاب نموذجا).
-المسألة الثانية متعلقة بالندم: الندم اللاواعي عن ضياع فرصة الخلود إلى الأبد{5}، فقد كان بمقدور الإنسان أن يخلد في النعيم العدني لولا أنه رتب للعصيان خوفا من جسده.
يتموقع إذا تصورنا الديني للجسد ضمن شبكة رمزية و سيميولوجية معقدة، حيث يكشف البعد الإشاري و الدلالي للأسطورة الدينية عن حقيقة من الضروري أن نستوعبها بقوة و إلزامية إن كنا نرغب في التصالح مع الجسد، هذه الحقيقة هي أن الجسد معطى إنساني، من الإنسان و إلى الإنسان يعود مصيره، فقصة السقوط من عدن إن هي تكشف لنا آلية الأسطرة التي جعلنا بها خوفنا من الجسد و دهشتنا منه مسألة مُقدّسة تعلو إلى مصاف المشاعر المُقدسة، تضعنا في الوقت ذاته أمام و عي ممكن للجسد في أفق تصالحي أولا يقوم على رفع حاجز المراقبة و العقاب من الناحية الدينية على الأقل ، أما فيما يربض بين سطور الحكاية، فلم يكن الله سوى الإنسان و هو يعاقب نفسه بدافعي الخوف و الدهشة ، فالذي يجعل القدرة الكلية للإله – ضمن متن الحكاية- تنحو نحو إرباك حواء أمام غواية إبليس ( رمز الشر المطلق) هو الخوف البشري من الجسد، من شكله، تقاطيعه، امتداداته، أطرافه، حرارته أو برودته، كونه واقعا و حاضرا…يمكننا أن نتصور الآن كيف وصل البشر إلى وعي جسدهم وعيا « كافيا » ، خاصة في ظل تقدم علوم الطب و التشريح و التواصل و السيميولوجيا، و علوم الأعصاب و العلوم المعرفية التقنية و الطبيعية..إلخ، لكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن انبثاق النص الديني كان في تاريخ سابق جدا، لم تكن هناك الآليات الفكرية و العلمية الممكنة لوعي شامل و عميق للذات الإنسانية، لذلك نحا الدين و مشتقاته نحو تصور بدائي للجسد يقوم على مبدإ أساسي ينحوه الإنسان كلما شعر بالخوف و الخطر، و هو مبدأ « المهاجمة خير وسيلة للدفاع »، و بالرغم من أن مهاجمة الذات تبدو فعلا أخرقا و غير مسوغ منطقيا، غير أننا أوضحنا أن مفهوم الذات لم يكن هو نفسه الذي نتبناه حاليا في الأغلب الأعم، فمفهوم الذات كان يقوم على مفهوم جوهرية الفكر و الروح ، بمعنى أن إمكانية الحجر على الجسد تستمد مقومها المنطقي من هذا التصور المعطوب و المعاق للذات البشرية، و لكي أكون أكثر توضيحا في هذه النقطة ألمح لكم هنا إلى ما أسميته بمشتقات الأديان، أي الخطابات الصوفية، حيث كان ديدن و دأب المتصوفة و « جهادهم الكبير » أن يكبحوا نزوع الجسد على غرار النص الشرعي ، فالتدين الرسمي بالنسبة لهذه المسألة أشبه بالمركز و التصوف خطابه الهامشي الذي سار على دربه، و إن كان المسير وفق مقومات مفهومية مغايرة، فكبح الغرائز البشرية و خاصة الطعام من خلال الصوم و الجنس من خلال الامتناع عن النساء و الانقطاع إلى الله، معطيات لا تبتعد كثيرا عن دائرة الخطاب الديني « العادي » في مقابل الصوفي\ العرفاني، إذ يعني مفهوم » رياضة الجسد » -بالنظر إلى مركزيته في الفكر الصوفي- ترويض الجسد و إخضاعه و « تنقيته » من مُغريات الدنيا بالعبادة و الصوم إلى أن تصفو الروح و تسمو لتتحد مع الله، و الصوم هنا يلحق بوظيفتين حيوتين- و يا للمصادفة- يختص بهما الجسد : الجنس و الطعام ، و لهذا أكثر من دلالة و أكثر من تأشير على أن الخطاب الصوفي في مقاربته لثنائية الجسد و الروح كان أكثر راديكالية من الخطاب الديني الرسمي في تحقيره للجسد و الإقرار بهامشيته مقارنة مع مفهوم الروح السامية في طبقات التصوف …
غير أننا في تناولنا لتمثل الدين للجسد لا يجب أن نغفل الحالات المغايرة ، خاصة و إن كانت لا تنتمي لمنظومة الأديان الرسالية التي يحكمها المبدأ ذاته، فتوسع الظاهرة الدينية على مستوى التاريخ البشري و غناها و تعددها الكبير، جعل أن تصور الجسد نحا في بعض الأديان – القديمة و المنقرضة خاصة- نحوا مغايرا للتوصيف الذي أشرنا إليه ، و لا بأس هنا من الإشارة إلى أن هناك اتجاهين دينيين يؤطران الدين في علاقته بالجسد:
-اتجاه التصور القمعي التطهري الحاسم، و هو مرتبط بالديانات التوحيدية أساسا، نظرا لكونها- وفق منظور الأديان المقارنة – تمتح من المتن الأسطوري المشترك، و لكونها تعتمد على بعضها البعض في تناقل القصص و الأحكام ، كما أن لها المرجعيات المشتركة و التصورات و الرؤى المؤطرة للوجود التي لا تختلف إلا ظاهريا في بعض القضايا العقدية..
-اتجاه غنوصي قديم يفتح لفعل الجسد – على مستوى النص على الأقل- بابا أشمل للحركة و النشاط، يرتكز أساسا على اعتبار الجسد معبرا تطهُّريا نحو النقاء، و لنا في بعض الديانات القديمة نموذجا و أسوة حسنة، في الهند مثلا يرمز إلى إله الجنس بالعضو الذكري، و في الديانة الإسماعيلية بالشام ( على ندرة أتباعها و مجهوليتها) يعبدون فرج المرأة و يقدسونه لدرجة يصير ممرا ضروريا للمعمودية..
و لكن التوجهات التي خلقت من الجنس معبرا لتأليه الجسد تعتبر أكثر راديكالية من ديانات ما بين النهرين ، مثلا في المتن البابلي لملحمة جلجامش الشهيرة ، لا يُعتبر الجنس مُقدسا في حد ذاته، لكنه تعبير عن حالة مرور من الحالة الحيوانية إلى حالة الإنسية ( طقس معمودي)، و تبرز هنا قصة العاهرة المُقدّسة نموذجا في متن الملحمة الدينية، كانت هذه العاهرة كاهنة في معبد الربة عشتار (إلهة الخصب) و قد قامت بمجامعة الوحش » أنكيدو » الذي يغرق في غرائزه البهيمية ، و من خلال مجامعتها رفعته من مصاف الحيوانات إلى مصاف البشر، يقول نص الملحمة:
[ فأسفرت البغي عن صدرها و كشفت عن عورتها
فتمتع بمفاتن جسمها
نضت ثيابها فوقع عليها
و علمت الوحش الغر فن المرأة، فانجذب إليها و تعلق بها
و لبث » أنكيدو » يتصل بالبغي ستة أيام و سبع ليال
و بعد أن قضى وطره منها
وجه وجهه إلى إلفه من حيوان البر
فما إن رأت الظباء » أنكيدو » حتى ولت عنه هاربة
هم أنكيدو أن يلحق بها و لكن شل جسمه
لقد خذلته ركبتاه لما أراد اللحاق بحيواناته
أضحى » أنكيدو » خائر القوى لا يستطيع أن يعدو كما يفعل من قبل
و لكنه صار فطنا واسع الحس و الفهم]{6}
إن الوحش » أنكيدو » حين جامع عاهرة المعبد المقدسة رفضته وحوش الغابة و ظباؤها لأنه ارتقى إلى مرتبة أسمى من خلال قناة الجسد، من خلال فعل الجسد المدنس استطاع ولوج عالم المُقدس، و هنا تظهر شرعية التقسيم الذي آليته بين منظومتين لاهوتيتين كبريتين: منظومة الديانات التوحيدية من جهة، و منظومة الديانات المشرقية البائدة والمنقرضة من جهة ، و ذلك فقط لأجل التفريق و الفصل داخل الخطاب الديني بين هذه التوجهات التي قد يُعترضُ بتمايزها النسبي على ما تمت الإشارة إليه بخصوص المراقبة و العقاب الذي تمارسة الديانات التوحيدية على الجسد في مقابل التقديس الذي تمنحه إياه بعض الأشكال الدينية المشرقية القديمة، غير أنه لا يجب أن يُفهم من هذا التقسيم الإجرائي الذي فرضته ضرورة التحليل أن الديانات القديمة تكرم الإنسان كذات كلية، أو أنها صوَّرته كشخص دون أن تُمايز بين جسده و روحه، أو الأخطر من ذلك أن يعتبر البعض – بإسقاط للقيم الحالية على الماضي- أن ديانات ما بين النهرين أو ديانات الشرق الهندية و ديانات فارس قدمت تصورا منصفا للجسد في مقابل إجحاف الديانات السماوية، بل إن هذه الديانات هي الأخرى لم تعترف ببشرية الجسد، و من خلال نموذج جلجامش يتوضح أيضا أن العاهرة ليست امرأة عادية أيضا، إنها مقدسة، و هي لم تكتسب سلطة المعمودية إلا لأنها خادمة الآلهة، إلا لأنها خادمة عشتار ربة الخصب، كما أننا لا نجد في نص الملحمة أي تنصيص على فعل جسدي بشري، إذ تدور أصلا حول قصة الخلق و تسلط الضوء على صراع الآلهة الذين يقررون مصير البشر ( البشر كجسد أيضا)، و ليس هذا بغريب، فالأديان في جوهرها نتاج تخييلي تتشكل خطاباته من عناصر حكائية خارقة تتجاوز الإنساني …
يبقى علينا أن نقارب موضوعة الجسد من المنظور الفكري الفلسفي للمسألة ، و هي مقاربة لن تتم دون وعي الإطار الإبستمولوجي الذي دار فيه الحوار و الذي تتأطر فيه المقاربات المختلفة، ألا وهو نقاش الجسد و الفكر و الذي يتقاطع مع نقاش الجنسانية، و المبرر الجامع بين التصور الديني للجسد و الفكر الفلسفي هو كونهما معا – و إلى درجة معينة- يشتركان في لعبة التقسيم المفهومي للذات البشرية فكر\جسد و لو ظهر أحيانا أن بعض التصورات الفلسفية تنحو نحوا مضادا فذلك لا يمنع أن الفلسفة اشتغلت على الثنائية ذاتها، بل لعل من يفكر في الجسد فلسفيا لا يستطيع الهروب من خندق الثنائية و الفخ الأزلي الذي خلقه التصور الأنيمي للعالم، إذ دائما يُفكَّر في و بالثنائية فكر\امتداد أو روح\ جسد سواء مع أو ضد.
1-ب)- ثنائية الجسد و الفكر في الفكر الفلسفي.
في فترة ما بعد النهضة الأوروبية تمت مقاربة الجسد بناء على الإرث الإغريقي القديم، خاصة على التصور المَاهوي الذي يفصل الجسد عن مفهوم الذات و ينفيه خارجه، و قد أدى الفكر الجوهراني ( مع ديكارت خصوصا) إلى ترسيخ ثنائية جسد/عقل تحت لواء نزعة تقر بجوهرية الفكرية و عرضية الجسد، إذ إن الذات الإنسانية لا تحقق وجودها – من خلال هذا المنظور- إلا من خلال عملية التفكير » أنا أفكر إذا أنا … »، و لهذا التصور أسسه حيث يمتح من الفلسفة الأفلاطونية التي تصور العالم مُنقسما إلى شقين، شق الحقائق و هو » عالم الفكر » و شق الزيف و المحاكاة المغلوطة الذي هو عالم الأشياء، على اعتبار أن الجسد ينتمي إلى هذا العالم المادي، و يبدو هذا التقسيم المفتعل بوضوح في محاورة فيدون حيث أسس أفلاطون لشرعية إقصاء الجسد من سياق التفلسف …
إن التقسيم الديكارتي للذات الإنسانية بين جوهر و عرض رسخ في التقليد الفرنكفوني مفهوما تجزيئيا للذات، فمعظم فكر القرن السابع عشر سيقوم على أساس محورية الفكر و واحدية الأنا(الذات)،إما أنه تبنى الفكرة و طور فيها كما حصل مع ليبنتز و مالبرانش و معظم تلامذة الديكارتية وإما أنه حوّر قليلا في المبدأ كما هو الحال مع باروخ اسبينوزا الذي انشغل بثنائية الفكر و الامتداد لكن ليس إلى الحد الذي يمكن به أن يتجاوز ديكارتية العصر، فسرعان ما انصرف عن الموضوع لاعتباره إياه لا يثير مشكلة فلسفية حقيقية..
إن الخلفية الفلسفية للقرن السابع عشر انطلقت من براديغم معرفي امتدت تطبيقاته إلى المستوى المُمارساتي للحجر على الجسد، إذ كان هذا القرن » بداية عصر للقمع خاص بالمجتمعات التي ندعوها برجوازية »{7}، و من أجهزة هذا القمع كان الفكر الفلسفي بارزا و بقوة، ففلسفة التقسيم الثنائي للذات التي أفرزت لنا الشرعية المعرفية لإقصاء الجسد هي جزء لا يتجزأ من » مُركب كامل من الأجهزة لإنتاج خطابات حول الجنس، خطابات..كفيلة بأن تشتغل و تحدث أثارا في اقتصاده » {8}، و اقتصاد الفعالية الجنسانية في حقيقته تطبيق قسري على الجسد يربو أيضا إلى احتكار الفعالية الجسدانية، إذ إن الجسد هو بؤرة الجنسانيات مهما كانت، إنه اقتصاد للجسد من خلال تقنين وظائفه و توجيهها وفق مصالح معينة ترعاها مؤسسات و طبقات لها المصلحة في ذلك…
لقد حد الفكر الفلسفي الكلاسيكي من فضاءات تحرك الجسد و فاعليته في وقت كانت البرجوازية الصاعدة تدّعي تحرير الإنسان من سطوة الفيودالية و أنظمة الاستعباد التي عرفتها الفترة القروسطية, لكن و مع منتصف القرن الثامن عشر برز خطاب التنوير في أنحاء أوروبا بدء من فرنسا ديكارت ذاتها، ليعيد الجسد الإنساني إلى مركز الاهتمام و ينشغل بحاجياته الاقتصادية و الفكرية و الحقوقية \ القانونية ( روسو و مونتسكيو)، فالخطاب القانوني الذي صاغه نموذج » العقد الاجتماعي » حرّر و لو جزئيا أجساد الناس من سطوة » الروح الكنسية »..
لكن اللحظة الكبرى التي سيصل فيها الوعي الأوروربي إلى صدمة قوية و رجة كبيرة تعيد تأثيث الرؤية في و للجسد هي اللحظة النيتشوية، باعتبارها لحظة قلب كل المفاهيم التي أنتجها الفكر الجوهراني حول الجسد.
لقد جاء نيتشه في لحظة كانت المنظومة الكلاسيكية الاجتماعية والفكرية قد مارست فيها سلطوية كبيرة على الجسد أدت إلى بروز مظاهر الشذوذ التي لم تكن سوى نتاجا واقعيا لتدخل السلطة في الأجساد و في مُتَعِها {9} ، جاء نيتشه و رفع شعار التفلسف بالمطرقة لأجل تحرير الوعي الإنساني من الإيمان بفكرة العالم المُفارق، و هو بذلك كان واعيا بما يستتبع هذه الفكرة من نتائج، من بينها بروز تصور جديد للجسد، إن الإيمان بعالم علوي مُفارق لعالمنا – بالنسبة لنيتشه – يجعل الوعي البشري شاعرا بنقص أنطولوجي نحو الذات البشرية في مقابل كمال الذات الإلهية، نقص ذو طبائع متعددة أبرزها الطابع الفكري المتعلق بالوعي و الإرادة، يؤدي هذا النقص إلى احتقار للجسد و لنشاطاته، بما في ذلك الغرائزية و الفطرية التي تُسحق تحت عنوان فضفاض هو : الفضيلة الأخلاقية.
لقد اعتبرت الفلسفات الجوهرانية الجسد سجنا عميقا يُكبّل الحرية و الوعي و يغرقهما في بركة الدنيوية و مظاهرها الديونيزيسية، إن الرغبة المُنحطة التي تؤدي إلى » النزول » نحو مستوى الحيوانية لهي رغبة أحق بالكبت و الخنق في نظر الفلسفات و الأديان التطهُّرية، لأن المحدد الوحيد للوجود الإنساني في نظر هذه البراديغمات المعرفية و العرفانية هو : الفكر وحده.
لكن مطرقة الفلسفة هدمت المفهوم المُختزِل للوجود الإنساني في الجانب الفكري/الروحي الذي حاول سقراط أن يرسخه في وعي الشباب الأثيني، و الذي جاء المسيح ليكلّله بتعاليمه المنحرفة ، التي توطدت مع الأديان التوحيدية تحت عنوان الطهارة و القُدسية.
إن ما يهم في تصور نيتشه للجسد هو تمهيده لإعادة الاعتبار له لكونه هو الذات، باعتباره « عقلا كبيرا » يحتوي ما اصطُلح عليه ب »الروح »، يقول نيتشه في زرادشته: » جسد أنا بكُلّي و كُليّتي و لا شيء غير ذلك، و ليست الروح سوى كلمة لتسمية شيء ما في الجسد »{10} و يضيف في مكان آخر » الجسد المُبدع هو الذي ابتدع لنفسه العقل يدا لإرادته » {11}..
لقد كان نيتشه قنطرة مهمة لتجاوز إشكالية ثنائية فكر/جسد ، إذ من خلال منجزه الفلسفي و الشعري تم الوعي بأن الفكر لا يمكن أن يتحقق بدون جسد، بل إن الجسد هو صاحب فعل الوعي و قصديته، فالشكل هو الذي يعي و يشعر، والشعور الذي رُبط لفترة طويلة بالروح هو في حقيقته مرتبط بالجسد مثله مثل عملية الوعي، شعور الحب مثلا و الرغبة في الآخر منبثق عن الجسد، فكل المشاعر تنمو بدافع جسدي كما ستثبت علوم التشريح و الأعصاب ، لأن نواة الشعور تنطلق من دافع جسدي بالأساس » إذ إن الانجذاب البيوكيماوي الذي غالبا ما يُعد الجوهر الموضوعي للحب يمكن أن يولد موضوعيا الخوف و الرعب و عمليات التصعيد… » {12}، لقد أراد نيتشه من الإنسان أن يعي حقيقة كيانه ، لأن الكيان هو جسد بالمرتبة الأولى، بل هو جسد بالضرورة ، و كل أشكال الحجر النفسية و التطبيقية التي مُورست عليه كانت لها دوافعها و إطارها التاريخي، » و لكن في عصر تميّز بالعلمنة للعالم الإنساني و أزمة مفهوم الجوهر و الإنجازات التي حققها علم وظائف الأعصاب و البحث السايكو-برسونولوجي ( علم دراسة الشخصية) و علم التأويل اللغوي فإن الصياغة القانونية لمسألة عقل/جسد لم تعد مُجدية »{13}..
إننا و بعد أكثر من قرنين على وفاة نيتشه نُقرُّ – في إطار فلسفي معاصر- أن للجسد « وجودا في العالم » ( هايدجر) و أن « الشكل لازم للتعبير عن الذات، فلا يُمكن أن يُوجد وعي بدون أن يوجد شيء يعيه…فمن القوانين الأولى للوعي أنه يجب أن يرتدي شيئا ما »{14}. أما ما رسخه الفكر الكلاسيكي للقرن السابع عشر من نبذ للجسد فله إطاره التاريخي الذي لا يمكن وعيه خارج الاهتمام بالمؤسسة، و هذا هو ما انتبه له فوكو خصوصا.
تناول فوكو الجسد ضمن إطار رصده للتطورات التي لحقت بالمؤسسات الاجتماعية، و ضمن استقصائه للبنى التي شيدت للمدنية مع البرجوازية الأوروبية، فمعظم تفكيره في الجسد هو محاولة للكشف عن الإستراتيجية السلطوية المتبعة في مسارات السيطرة على الجسد في مختلف حالاته: المرض/التعقل/الجنون/الجريمة/المرح/اللذة…إلخ.
إن المؤسسة البرجوازية بعد أن حررت الجسد من وصاية رجال الدين زجت به في خدمة مصالحها الليبرالية المتوحشة، فابتدعت أفانين لاستغلاله في العمل ( المصنع) و خارجه. هنا يكون اغتراب الجسد ناتجا عن التوظيف الجديد لإمكاناته بالتوافق مع مصالح البرجوازية، حيث وعت أوساط هذه الطبقة أهمية النزوع التحرري/الشبقي/الغرائزي…إلخ للجسد البشري، فأطلقت له زمام الحبل قليلا، لكنها و بالمقابل خلقت له حدودا « اختيارية » يُزَجُّ فيها لأجل استمرارية الحضارة، إنها لعبة المؤسسة، حيث يدخل الجسد في دوامة اليومي و المتطلب و الضروري الذي تحتويه المؤسسة: مؤسسة الزواج ( الأسرة)، التعليم/المعرفة( المدرسة) مع الإشارة هنا إلى احتكار المعرفة مؤسساتيا تماشيا مع احتكار السلطة، العمل( المصنع) ، التطبيب ( الصيدلية – المارستان – مستشفى المجانين)…
إن المؤسسة بهذا المعنى هي السجن الجديد للجسد، سجن خارج-نصي ذو طابع اجتماعي بالأساس، فمع السلطة الأخلاقية للنص الديني و السلطة الفكرية للفلسفة الكلاسيكية، لعبت المؤسسة (وتلعب) دور المدخل الرئيس » للاسترقاق المدني » ، فخيارات البرجوازية المعرفية لم تكن في واقعها سوى منافذ لاستعباد الجسد، وفي هذه النقطة بالذات ( المتعلقة بالخطاب المعرفي في علاقته مع السلطة) يعيد ميشيل فوكو – على ضوء حفرياته – تقييم العلوم الإنسانية تحليلا و نقدا، إذ تَوضَّح له أن كل العلوم التي كان من المفروض أن تُعين الإنسان على فهم ذاته و جسده و غرائزيته و نزوعاته …إلخ لم تفعل سوى شرعنة الرق في صورة أقل همجية، لقد ساهمت هذه العلوم ( الفلسفية منها أيضا) في تنميط الوعي الإنساني و تشريع الاستعباد الذي تمارسه البرجوازية بصورة أقل همجية من الرق الفيودالي في القرون الوسطى و الاستعباد الفكري و الجسدي في العصر الفكتوري (القرن 17).
إن استلاب الجسد وفق التحليل الحفرياتي واقع مستمر و مرتبط بالدولة البرجوازية و مؤسساتها ( فوكو هنا يبدو أكثر ماركسية)، و لعلنا نلاحظ هذا الاستلاب اليوم على عدة مستويات، فبالإضافة إلى ما سبق يمكن أن نلمس الاستلاب على مستوى الخطاب الإعلامي( ألإشهاري بشكل أوضح- جسد الأنثى)، يمكن أن نلمس الاستلاب الجسدي في السجون حيث أن » العنف الجسدي الذي يُمارس خلال التعذيب شديد التنوع، و كله ينصب على هدف واحد أساسي هو إحداث أشد الآلام الممكنة، التي تحاول كسر مقاومة الضحية، من خلال إيصال هذه الآلام إلى أقصى درجات احتمال الشخص »{15}، نشاهد الاستلاب في بيوت الدعارة ( و هي مؤسسات أيضا) حيث تنزل قيمة الجسد الأنثوي إلى درجة السلعة الرخيصة، ما يجعل الجسد شاعرا بالقرف من ذاته و غير راض على فعاليته التي تتم تحت ظروف ابتزازية تكون أقوى تعبير عن الاستلاب و عدم الاعتراف بإنسانية الإنسان و بسلطة الإرادة الذاتية على الجسد…إلخ.
إن الثنائية جسد / فكر التي انتهت إلى تحقير الجسد في الفلسفة الكلاسيكية ، و استلاب الدين للجسد، و استلاب هذا الجسد داخل إطار المؤسسة لَهِي أشكال مُتعايشة في نسيج المجتمعات الحداثية و المُنجمعات النصف-حداثية، فبالرغم من تباين مستويات استلاب الجسد من منظومة إلى أخرى، و بالرغم من المسافة التاريخية التي تفصل بين إطار و آخر، و بالرغم من طبيعة الإطار الذي يُستلب فيه الجسد، إلا أن واقع التغريب مستمر في هذا الطور من الحضارة كما في الماضي، ما جعل الجسد ذاته – و منذ القديم- يبحث لنفسه عن مخارج جانبية يُمارس فيها حريته اللامشروطة و فعاليته، لعل أبرز هذه المخارج مخرج الأدب، حيث الاستعارة و المجاز تحرُّرٌ من سلطوية المؤسسة المعرفية ( الفلسفية مثلا في لحظة معينة)، فالمجال الأدبي كان دائما و بمختلف تنويعاته فضاءً لتفجير إمكانات الجسد داخل مملكة اللغة ، القصيدة، الحكي و السرد…
لكن و حتى بعيدا عن المجاز يجب أن يجد الجسد حريته في التعبير، لابد للوعي البشري أن يباشر تصورا جديدا للجسد يضع في حسبانه مقدمة بديهية هي أن الجسد مُعطى : فردي/واقعي/غريزي/ذاتي/…حر.
فالجسد حرية، و هو أيضا مُعطى حاضر بثقله ف »لكل شخص تعرفه هناك جسد، مُحتمل أنك لم تُفكّر في هذه العلاقة البسيطة، و لكن ها هي: شخص واحد، جسد واحدٌ، و عقلٌ واحد..لم تلتقِ أبدا بشخص دون جسد و لم تلتق حتما بشخص له جسدان أو عدة أجساد.. »{16}.
* محمد البوعيادي
الهوامش:
{1} Nicole sindzincre. Dans : encyclopédie universalis 2011.
{2} Ibid.
{3} الإنجيل، سفر التكوين. 2/21-25
{4} القرآن، سورة الأعراف/23
{5} تركي علي الربيعو، العنف و المقدس و الجنس في الميثولوجيا الإسلامية،المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 1995، ص 81.
{6} طه باقر، ملحمة جلجامش ص 43 ، نقلا عن الربيعو.
{7} ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية: ج 1 إرادة العرفان، ترجمة: محمد هشام، إفريقيا الشرق ط 2004، ص 15.
{8} نفسه، ص 21.
{9} نفسه، ص 43.
{10} فريديريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ت: علي مصباح، دار الجمل ، ص 75.
{11} نفسه، ص 77.
{12} سيرجيو مورافيا، لغز العقل: مشكلة العقل/الجسد في الفكر المُعاصر،ت: عدنان حسن،منشورات وزارة الثقافة –سوريا 2002، ص 51.
{13} نفسه، ص 14.
{14} عزت الأمير، صدمة العُري: رؤية جديدة لعلاقة الإنسان بالكون، دار الهلال، ص 86.
{15} د. مصطفى حجازي، الإنسان المهدور:دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي، ص 131-132.
{16} أنطونيو داماسيو، الشعور بما يحدث: دور الجسد و العاطفة في صناعة الوعي، ت: رفيف كامل غدّار، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 2010، ص 150.
و يشكل الجسد عنصرا تأسيسيا لمفهوم الذات أو الشخص في مختلف تمثلات الكائن البشري، سواء كانت تمثلات ذات طابع ديني أو بيولوجي أو ثقافي … فكل ثقافة تؤسس لمفهوم بيولوجي عن الجسد، عن مفهوم الوراثة و عن التكوين الجسدي، فمثلا: تعتبر مجموعة من القبائل الإفريقية في شرق القارة أن لكل طفل خصائص جسدية يكتسبها حتما عن أحد أجداده السالفين{2} ، بمعنى أنهم يؤمنون بفكرة تناسخ الأجساد التي تذكرنا بفكرة تناسخ الأرواح في المعهود البوذي و في بعض الديانات الشرقية القديمة…
كل ثقافة تؤسس لمفهوم ديني عن الجسد أيضا، حيث تزخر النصوص الرسالية بتصورات هامة للجسد، تختزن رصيدا هائلا من الدلالات التي يعطيها البشر لأجسادهم تحت تأثير الدين كما تحت تأثير أي منظومة تربوية أخلاقية أخرى…
كما أن كل ثقافة تختزن مفاهيم و تصورات فلسفية عن موضوعة الجسد، و هذا الشق الثالث من التصورات لا يرتبط غالبا بالوعي الجمعي، لأنه ينفلت من إطار ثقافة الكتلة ليدخل حيز ثقافة النخبة…
للجسد إذا هذه التمثلات المختلفة: النسبية و المطلقة ، و هي تمثلات تتمايز حسب الزمن و الرقعة الجغرافية و السياقات التاريخية و البنيات الثقافية ، إذ ليس التصور الفلسفي للجسد مثلا هو ذاته عند العرب كما عند الأوروبيين، و ليس التصور الديني الذي عند الهنود هو ذاته الذي عند الأوروبيين أو عند العرب ..و هكذا دواليك تتباعد التصورات أو تتقارب وفق أنماط و أنساق الثقافات المُلقى عليها الضوء…
لكن الأكيد هو أن بنيات المعرفة في كل ثقافة من حيث تكوينُها الداخلي تفرز تصورات متقاربة بما أنها تنطلق من إطارات مرجعية واحدة، فالثقافة نسق تشترك كل عناصره في سمات مميزة، و هو نسق محكوم بغلبة شكل معرفي في مقابل آخر أو أُخر ( بضم الهمزة) و هذا يجعل أن التصورات التي تصوغها ثقافة ما عن موضوعة ما، تصورات تختلف في الشكل لكنها تتقارب من حيث الجوهر و المبدأ الذي يحكمها، فمختلف أنماط المعرفة السائدة في ثقافة ما تتناول – و بتقاطع – موضوعة الجسد، تنتج حوله و فيه و له خطابات تتسم بخصائص نوعية ، إذا ما جمعت و اجتمعت تعطينا بعدا نظريا له قواعد مشتركة كافية لتقييم النظرية التي ينتجها النسق الثقافي عن موضوعة بخطورة الجسد مثلا، من هذا المنطلق سنحاول رصد بعض أشكال تمثل الجسد في المخيال البشري ، لا لشيء إلا لننبه إلى مكون أساسي من مكونات الذات ، و لنشعر بخطورة الاختزال و السلطوية التي يتعرض لها إن على مستوى الخطاب الديني و المنظور الفكري الكلاسيكي أو على مستوى التمثل العفوي الذي غالبا ما يكون نسقه المضمر ومرجعيته اللاواعية هي الثقافة الشعبية، فالخطير في التمثل الدوغمائي هو أن له أبعادا سلوكية يتم تبنيها وفق القناعات الفكرية.
1-تمثلات الجسد في الدين و الفكر الفلسفي:
1-أ) في الدين.
في هذا المستوى سنطرح سؤال فوكو الأساسي في مقاربته التاريخانية للجنسانية البشرية، لكننا سنحور قليلا من حيث بؤرة السؤال، فميشيل فوكو طرحه حول الجنس ، أما نحن فلا نبتعد كثيرا عن مداره الدلالي و نطرحه عن الجسد، مادام الجسد هو محور كل جنسانية بشرية ، فنتساءل :
-لماذا ربط الناس بين الخطيئة و الجسد، متى و لما و كيف تم حجز الفعالية الجسدية للبشر ضمن أفق أخلاقي؟
لكي نلامس بعضا من شساعة السؤال لا بأس من ملامسة عناصر الإجابة في بعض تمظهرات المُنجز النصي للدين ..
إن القمع هو التمثل العلائقي الأوضح بين السلطة والدين و الجنس و الجسد، بالرغم من أن الخلق بما هو مفهوم وجودي انطلق من حادثة خلق الجسد، سواء من العناصر الأربعة جميعها أو من بعضها كما قاربته الفلسفة الطبيعية عند الإغريق، أو من الطين ..
إن الإنسان أصله جسد، و إن جسد الإنسان إذ يتعرض لحالات القمع و السلطوية التي تفرضها التعاليم الدينية و السلطة الأبوية يفسر لنا كيف أن التزاوج الأسطوري بين الجسد و الوجود تم في أفق البدء، بدء الخليقة فالمرأة\ الإنسان جاءت من الجسد و انبثقت منه، و الأسطورة الدينية تحكي لنا كيف أن هذا الخلق الموازي أو الثاني له أهميته في توطد الحياة و بدء صيرورة التغير ، صيرورة البدء\الفناء..و هنا نلاحظ أن الإنسان انبثق من نفسه في لحظة لم يكن للروح و الفكر فيها أي ذكر أو وزن ( على الأقل في مستوى المنجز النصي) …و هي فكرة دينية بالأساس و إن كان الدين لاحقا سيعطي للفكر و الروح ما حَرم الجسد منه، على اعتبار كون الكائن البشري ليس كلا واحدا بل ثنائية من جسد و روح ، و هي ثنائية متجذرة في التاريخ البشري خاصة مع المنظور الديني، و في هذا الصدد يقول لنا الإنجيل:
» فأوقع الرب الإله سُباتا على آدم ، فنام فأخذ واحدة من أضلاعه و ملأ مكانها لحما و بنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة و أحضرها إلى آدم، فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي و لحم من لحمي ، هذه تدعى امرأة لأنها من امرئ أُخذت، لذلك يترك الرجل أباه و أمه و يلتصق بامرأته و يكونان جسدا واحدا. و كان كلاهما عريانين آدم و امرأته و هما لا يخجلان » {3}…
و يقول القرآن:
» فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة و ناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكم الشجرة و أقل لكما إن الشيطان عدو مبين… »{4}..
إن التصور الإنجيلي للجسد كمعطى ميثولوجي يؤسس لصورة الخلق الأولى كما جاءت في الميثولوجيات الدينية اللاحقة و السابقة عليه ، و هو يصور لنا حالة الصدمة الأولى ، صدمة العُري حيث وقف الإنسان ( آدم و حواء هنا) أمام حقيقة جسده الصارخة، حقيقة الجسد متجردا من غطاء أو ستر، و حري بنا أن ننتبه إلى رمزية العقاب الذي لحق بالإنسان، العقاب الذي ألحقه الرب هنا ليس ريحا صرصرا عاتية أو طوفانا يأتي على الأخضر و اليابس ، إنه – و قبل الإنزال إلى الأرض و الحرمان من جنة عدن - إقرار بالتعرية و بالحقيقة التي جهلها آدم عن نفسه، إنه عقاب يلحق بالجسد الإنساني، ليس يدميه أو يقطع أوصاله أو يلحق به جروحا ، و لكن يكشف عورته و يعريه أمام نفسه ، و لا حظوا معي هنا أن مفهوم الحشمة لم يتكون بعد ، فحواء و آدم وحدهما فقط، و ممن يحتشمان؟ ، الجنس البشري لازال في حالة بذرة لم تتفرع بعد، حين تُكشف « العورة » كردة فعل على خرق عقد الطاعة، يكون لذلك رمزيته الكبيرة و إن أنكرناها، إذ تنير لنا هذه الملاحظة أطراف النهر الغامق الذي يسبح فيه الجسد الإنساني منذ الخليقة، نهر الخطيئة الذي لا يرغب أحد في تجاوز شاطئه إلا و جرفه تيار المجموع و منطق العقاب و المراقبة ، إن ما فعله الإله لَيَكشفُ لنا عن جانب مضمر في اللاوعي البشري، هو جانب الخوف من الذات، الخوف من الجسد تعبير جزئي هنا عن هذا الخوف الأنطولوجي من الذات، و لنا أن نلاحظ ذلك اليوم في لحظتنا الراهنة في بعض الممارسات الطبيعية لدى بعض الشعوب ، طقس فض البكارة مثلا عند المسلمين تصاحبه هذه الهيبة، هنا الخوف يكون مزدوجا: خوف حواء على جسدها و خوف آدم من جسدها أيضا و من جسده الذي قد يخذله أمام الشرف القبلي ( المفهوم هنا أخلاقي أيضا بمعايير الجماعة) ، إن الله\ الإنسان إذ هو يقر بالخطيئة و بعقوبة الخطيئة يرسخ خوفه من الجسد في رمز، في نص ، يوثق خوفه من ذاته كي لا ينسى تبريره لذلك الخوف ، أو بالأحرى كي لا تعوزه الحيلة في تبرير خوفه أيضا، و الحال أنها حالة سيكولوجية لولا أنها قدست و دخلت في مضمار الممنوع و الطابوهات لأمكن تجاوزها و جبرها ككل حالة سيكولوجية أخرى، و ربما هذا بالضبط ما فعلته الفلسفة المعاصرة و علوم الأعصاب و الجراحون ورواد العلوم المعرفية و النفسية، لقد أصلحوا على المستوى النظري عطب النص المقدس ، و من خلاله حاولوا إصلاح العطب النفسي الذي خلق المقدس حين لم يستطع الوعي البشري استساغة مورفولوجية الجسد و وظيفيته بأدواته النقدية البدائية في مراحل سابقة…لكن و بالرغم من تلك المجهودات الفلسفية و العلمية يبقى المقدس أكثر عمقا في النفس، أكبر أثرا على المخيال لأنه و ببساطة ليس نتاج ظروف موضوعية أو خارجية يمكن تعديلها بعمليات جراحية ، لأنه إنتاج المخيال ذاته ، إن نظرة الإنجيل إلى الجسد لا يمكن فهمها على أنها مجرد اختزال لخوف آدمي تم ترميزه في النص الديني على يد البشر نفسهم ( مضطرون هنا للتذكير بإنسية النصوص الدينية ) بل هي تعني للناس أكثر من ذلك بكثير، إنها تعني « الحقيقة »، حقيقة الجسد ، لا ينظر الوعي الديني للجسد إلا داخل إطار الخطيئة إن واعيا أو غير واع، و يستمر في تحليل موقفه و تبريره على أساس إيماني دائما …
إن حواء و آدم حين لم يخجلا في المقطع كما يصورهما الإنجيل، كانا لم يكتسبا بعد و بثوان قليلة معنى للمحظور و للممنوع و الأخلاقي ، حتى يتسنى لهما تحديد ما هو غير أخلاقي على ضوئه، لكن اللحظة القرآنية مُوضَّحة في سورة الأعراف تصور لنا الحدث الكبير لسقوط الإنسان إلى الأرض في لحظة اكتساب الوعي لمفهوم الفضيلة، فضيلة الستر، مفهوم الأخلاق، مفهوم الحشمة بشكل أكثر تحديدا، وفي هذه اللحظة ، لحظة التعري الحقيقية ( حيث ينخرط الوعي مع الجسد في الإدراك) يكتشف الجسد نفسه أمام هول الحكم اللاحق به من قبل الإله، إن الجسد وفق ما ترسخه القصة نقطة ضعف يمكن معاقبة البشر من خلالها، فحالة العري حالة نقص صارخة لا يقتصر ضررها على الجسد في حد ذاته بل يتجاوزه إلى خدش الحياء و التشويش على العقل و استنفار الضمير الأخلاقي، و لعل ما جاء في بدء الآية يوضح أكثر و يعطينا تصورا معياريا لقيمة الجسد المستور في مقابل الجسد المفضوح، يقول الله لآدم محذرا إياه من الغواية الشيطانية: » فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى.إن لك ألا تجوع فيها و تعرى« …
إن الله إذ يغري آدم بالستر و الشبع في الجنة يدنيه من طاعته ، بل يغريه كي لا يعصينه، لكنه و من غرائب الصدف هو ذاته ( الله) سيرسم مسار المعصية بقدرته الكلية، إن المعصية محتومة هنا لا لشيء إلا لكونها ستجعل الإنسان يكتشف جسده و يُصدم منه، للخطيئة في هذا المستوى مسار محتوم للجسدين : الحوائي و الآدمي، و نحن إن تجاوزنا مستوى تحليل الخطاب القرآني \ الديني و مررنا إلى مستوى سيميائي، نفهم من ذلك أنه لم يكن للمخيال الرمزي للبشر من مخرج لتجاوز صدمة الجسد و فاجعة اكتشاف الذات سوى نسج الأسطورة و تغيير مسار الحبكة وفق بنية درامية تعطي النفور من الجسد شرعيته الميثولوجية و بالتالي الشعورية، و تُسوّغ الحكم النصي المُقدّس لسجن الجسد و احتقاره، لأنه و في سياق الثنائية الدلالية و المفهومية جسد\روح يعتبر الجسد أدنى قيمة، و هو التفاضل الذي صاغه الإنجيل بوضوح مُبين حين يقول:
» اهتمام الجسد هو موت و لكن اهتمام الروح هو حياة و سلام » \ » الذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله و أما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح » ….
و هو ما توجهت إليه معظم الديانات البشرية، لأن بنيتها التكوينية و القاعدية هي في واقعها بنية متشابهة في المبادئ التي تحكمها و إن اختلفت في الإجرائيات، و كمثال على هذا التقارب تحضر هذه الثنائية بقوة: ثنائية الروح \ الجسد، ففي معظم النصوص الدينية يتم بناء نماذج تحذيرية من إيلاء الاهتمام للجسد أو التفكير في إعطائه قيمة ما دامت الروح هي جوهر الذات ، في الإسلام كما في المسيحية كما في اليهودية تكون الروح القدس أو الروح الأمين أعلى قيمة من الجسد ، لأنه بؤرة الرذيلة و عليه تقع الزنا و الفواحش، أما النفس فبها يتحرر الفرد من طغيان المادة ، و في الديانة المندائية القديمة مثلا يوجد هذا التصور و بقوة ، حيث يُعتقد أن الموت هو تحرر من الجسد، فحين يموت الإنسان تتحرر على الأرض نفسه التي هي بؤرة الإيمان و التي تعرف الإيمان الحق بالفطرة، فتتحد بالكون الأعظم الخالد ( الله في الديانات الرسالية) تاركة الإنسان\الجسد فانيا لا أهمية له تذكر… و لعل الممارسات البشرية المتنوعة التي تأخذ الجسد البشري موضوعا لها توضح في أحايين كثيرة مدى احتقار الجسد، و أحيانا تكون هذه الممارسات إعادة و سيناريوها مصغرا و مكررا للفعل الربوبي كما يتجلى ذلك مثلا في فعل الرجم ، فعل الرجم بعيدا عن إبدالاته الاجتماعية و السيكولوجية و الحقوقية، بل فقط في مستواه الدلالي الرامز، إن الرجم كممارسة طقوسية قاسية تعيد إنتاج العلاقة بين الجسد و الروح في كل لحظة يتلى فيها النص المشرع للطقس هنا، أو في كل لحظة قد يمارس فيها تحقيقا على أرض الواقع، إن الحفر عن ميكانيزم اشتغال الوعي الديني في علاقته بالممارسة العنيفة يتطلب منا أكثر من عاطفة جوفاء نحو الجسد سواء أنثويا كان أو ذكوريا ( نادرا)، إنه فيما يبدو ( فعل الرجم) من حيث رمزيتُه تكفيرٌ عن الخطيئة الأولى ، خطيئة الغواية التي تعرضت لها حواء و آدم، و حواء بشكل أكثر لأنها هي التي وقعت تحت تأثير الغواية الشيطانية أولا، ما يفسر أن فعل الرجم يلحق بها أكثر من آدم …
لا يمكن إذا أن نفهم الممارسة العِقابية إلا على ضوء قصة الخلق الأولى كما لا يمكن أن نفهم عمق السؤال في بدء القول إلا على ضوء تمثل الجسد في المنطوق الديني، فالعقل الديني حين شرع لردم الجسد تحت ركام الحجر، كان ينطوي على نزوع انتقامية فُطامية ، شبه أنطولوجية حتى، إنه انتقام لمسألتين:
-الذل الذي تعرض له الجنس البشري ذاته مع فضيحة التعري اللاحقة بالجسد أصلا، و لا أدل على ذلك من استمرار النزوع نحو الستر الكلي للجسد في الأدبيات الدينية السلفية( النقاب نموذجا).
-المسألة الثانية متعلقة بالندم: الندم اللاواعي عن ضياع فرصة الخلود إلى الأبد{5}، فقد كان بمقدور الإنسان أن يخلد في النعيم العدني لولا أنه رتب للعصيان خوفا من جسده.
يتموقع إذا تصورنا الديني للجسد ضمن شبكة رمزية و سيميولوجية معقدة، حيث يكشف البعد الإشاري و الدلالي للأسطورة الدينية عن حقيقة من الضروري أن نستوعبها بقوة و إلزامية إن كنا نرغب في التصالح مع الجسد، هذه الحقيقة هي أن الجسد معطى إنساني، من الإنسان و إلى الإنسان يعود مصيره، فقصة السقوط من عدن إن هي تكشف لنا آلية الأسطرة التي جعلنا بها خوفنا من الجسد و دهشتنا منه مسألة مُقدّسة تعلو إلى مصاف المشاعر المُقدسة، تضعنا في الوقت ذاته أمام و عي ممكن للجسد في أفق تصالحي أولا يقوم على رفع حاجز المراقبة و العقاب من الناحية الدينية على الأقل ، أما فيما يربض بين سطور الحكاية، فلم يكن الله سوى الإنسان و هو يعاقب نفسه بدافعي الخوف و الدهشة ، فالذي يجعل القدرة الكلية للإله – ضمن متن الحكاية- تنحو نحو إرباك حواء أمام غواية إبليس ( رمز الشر المطلق) هو الخوف البشري من الجسد، من شكله، تقاطيعه، امتداداته، أطرافه، حرارته أو برودته، كونه واقعا و حاضرا…يمكننا أن نتصور الآن كيف وصل البشر إلى وعي جسدهم وعيا « كافيا » ، خاصة في ظل تقدم علوم الطب و التشريح و التواصل و السيميولوجيا، و علوم الأعصاب و العلوم المعرفية التقنية و الطبيعية..إلخ، لكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن انبثاق النص الديني كان في تاريخ سابق جدا، لم تكن هناك الآليات الفكرية و العلمية الممكنة لوعي شامل و عميق للذات الإنسانية، لذلك نحا الدين و مشتقاته نحو تصور بدائي للجسد يقوم على مبدإ أساسي ينحوه الإنسان كلما شعر بالخوف و الخطر، و هو مبدأ « المهاجمة خير وسيلة للدفاع »، و بالرغم من أن مهاجمة الذات تبدو فعلا أخرقا و غير مسوغ منطقيا، غير أننا أوضحنا أن مفهوم الذات لم يكن هو نفسه الذي نتبناه حاليا في الأغلب الأعم، فمفهوم الذات كان يقوم على مفهوم جوهرية الفكر و الروح ، بمعنى أن إمكانية الحجر على الجسد تستمد مقومها المنطقي من هذا التصور المعطوب و المعاق للذات البشرية، و لكي أكون أكثر توضيحا في هذه النقطة ألمح لكم هنا إلى ما أسميته بمشتقات الأديان، أي الخطابات الصوفية، حيث كان ديدن و دأب المتصوفة و « جهادهم الكبير » أن يكبحوا نزوع الجسد على غرار النص الشرعي ، فالتدين الرسمي بالنسبة لهذه المسألة أشبه بالمركز و التصوف خطابه الهامشي الذي سار على دربه، و إن كان المسير وفق مقومات مفهومية مغايرة، فكبح الغرائز البشرية و خاصة الطعام من خلال الصوم و الجنس من خلال الامتناع عن النساء و الانقطاع إلى الله، معطيات لا تبتعد كثيرا عن دائرة الخطاب الديني « العادي » في مقابل الصوفي\ العرفاني، إذ يعني مفهوم » رياضة الجسد » -بالنظر إلى مركزيته في الفكر الصوفي- ترويض الجسد و إخضاعه و « تنقيته » من مُغريات الدنيا بالعبادة و الصوم إلى أن تصفو الروح و تسمو لتتحد مع الله، و الصوم هنا يلحق بوظيفتين حيوتين- و يا للمصادفة- يختص بهما الجسد : الجنس و الطعام ، و لهذا أكثر من دلالة و أكثر من تأشير على أن الخطاب الصوفي في مقاربته لثنائية الجسد و الروح كان أكثر راديكالية من الخطاب الديني الرسمي في تحقيره للجسد و الإقرار بهامشيته مقارنة مع مفهوم الروح السامية في طبقات التصوف …
غير أننا في تناولنا لتمثل الدين للجسد لا يجب أن نغفل الحالات المغايرة ، خاصة و إن كانت لا تنتمي لمنظومة الأديان الرسالية التي يحكمها المبدأ ذاته، فتوسع الظاهرة الدينية على مستوى التاريخ البشري و غناها و تعددها الكبير، جعل أن تصور الجسد نحا في بعض الأديان – القديمة و المنقرضة خاصة- نحوا مغايرا للتوصيف الذي أشرنا إليه ، و لا بأس هنا من الإشارة إلى أن هناك اتجاهين دينيين يؤطران الدين في علاقته بالجسد:
-اتجاه التصور القمعي التطهري الحاسم، و هو مرتبط بالديانات التوحيدية أساسا، نظرا لكونها- وفق منظور الأديان المقارنة – تمتح من المتن الأسطوري المشترك، و لكونها تعتمد على بعضها البعض في تناقل القصص و الأحكام ، كما أن لها المرجعيات المشتركة و التصورات و الرؤى المؤطرة للوجود التي لا تختلف إلا ظاهريا في بعض القضايا العقدية..
-اتجاه غنوصي قديم يفتح لفعل الجسد – على مستوى النص على الأقل- بابا أشمل للحركة و النشاط، يرتكز أساسا على اعتبار الجسد معبرا تطهُّريا نحو النقاء، و لنا في بعض الديانات القديمة نموذجا و أسوة حسنة، في الهند مثلا يرمز إلى إله الجنس بالعضو الذكري، و في الديانة الإسماعيلية بالشام ( على ندرة أتباعها و مجهوليتها) يعبدون فرج المرأة و يقدسونه لدرجة يصير ممرا ضروريا للمعمودية..
و لكن التوجهات التي خلقت من الجنس معبرا لتأليه الجسد تعتبر أكثر راديكالية من ديانات ما بين النهرين ، مثلا في المتن البابلي لملحمة جلجامش الشهيرة ، لا يُعتبر الجنس مُقدسا في حد ذاته، لكنه تعبير عن حالة مرور من الحالة الحيوانية إلى حالة الإنسية ( طقس معمودي)، و تبرز هنا قصة العاهرة المُقدّسة نموذجا في متن الملحمة الدينية، كانت هذه العاهرة كاهنة في معبد الربة عشتار (إلهة الخصب) و قد قامت بمجامعة الوحش » أنكيدو » الذي يغرق في غرائزه البهيمية ، و من خلال مجامعتها رفعته من مصاف الحيوانات إلى مصاف البشر، يقول نص الملحمة:
[ فأسفرت البغي عن صدرها و كشفت عن عورتها
فتمتع بمفاتن جسمها
نضت ثيابها فوقع عليها
و علمت الوحش الغر فن المرأة، فانجذب إليها و تعلق بها
و لبث » أنكيدو » يتصل بالبغي ستة أيام و سبع ليال
و بعد أن قضى وطره منها
وجه وجهه إلى إلفه من حيوان البر
فما إن رأت الظباء » أنكيدو » حتى ولت عنه هاربة
هم أنكيدو أن يلحق بها و لكن شل جسمه
لقد خذلته ركبتاه لما أراد اللحاق بحيواناته
أضحى » أنكيدو » خائر القوى لا يستطيع أن يعدو كما يفعل من قبل
و لكنه صار فطنا واسع الحس و الفهم]{6}
إن الوحش » أنكيدو » حين جامع عاهرة المعبد المقدسة رفضته وحوش الغابة و ظباؤها لأنه ارتقى إلى مرتبة أسمى من خلال قناة الجسد، من خلال فعل الجسد المدنس استطاع ولوج عالم المُقدس، و هنا تظهر شرعية التقسيم الذي آليته بين منظومتين لاهوتيتين كبريتين: منظومة الديانات التوحيدية من جهة، و منظومة الديانات المشرقية البائدة والمنقرضة من جهة ، و ذلك فقط لأجل التفريق و الفصل داخل الخطاب الديني بين هذه التوجهات التي قد يُعترضُ بتمايزها النسبي على ما تمت الإشارة إليه بخصوص المراقبة و العقاب الذي تمارسة الديانات التوحيدية على الجسد في مقابل التقديس الذي تمنحه إياه بعض الأشكال الدينية المشرقية القديمة، غير أنه لا يجب أن يُفهم من هذا التقسيم الإجرائي الذي فرضته ضرورة التحليل أن الديانات القديمة تكرم الإنسان كذات كلية، أو أنها صوَّرته كشخص دون أن تُمايز بين جسده و روحه، أو الأخطر من ذلك أن يعتبر البعض – بإسقاط للقيم الحالية على الماضي- أن ديانات ما بين النهرين أو ديانات الشرق الهندية و ديانات فارس قدمت تصورا منصفا للجسد في مقابل إجحاف الديانات السماوية، بل إن هذه الديانات هي الأخرى لم تعترف ببشرية الجسد، و من خلال نموذج جلجامش يتوضح أيضا أن العاهرة ليست امرأة عادية أيضا، إنها مقدسة، و هي لم تكتسب سلطة المعمودية إلا لأنها خادمة الآلهة، إلا لأنها خادمة عشتار ربة الخصب، كما أننا لا نجد في نص الملحمة أي تنصيص على فعل جسدي بشري، إذ تدور أصلا حول قصة الخلق و تسلط الضوء على صراع الآلهة الذين يقررون مصير البشر ( البشر كجسد أيضا)، و ليس هذا بغريب، فالأديان في جوهرها نتاج تخييلي تتشكل خطاباته من عناصر حكائية خارقة تتجاوز الإنساني …
يبقى علينا أن نقارب موضوعة الجسد من المنظور الفكري الفلسفي للمسألة ، و هي مقاربة لن تتم دون وعي الإطار الإبستمولوجي الذي دار فيه الحوار و الذي تتأطر فيه المقاربات المختلفة، ألا وهو نقاش الجسد و الفكر و الذي يتقاطع مع نقاش الجنسانية، و المبرر الجامع بين التصور الديني للجسد و الفكر الفلسفي هو كونهما معا – و إلى درجة معينة- يشتركان في لعبة التقسيم المفهومي للذات البشرية فكر\جسد و لو ظهر أحيانا أن بعض التصورات الفلسفية تنحو نحوا مضادا فذلك لا يمنع أن الفلسفة اشتغلت على الثنائية ذاتها، بل لعل من يفكر في الجسد فلسفيا لا يستطيع الهروب من خندق الثنائية و الفخ الأزلي الذي خلقه التصور الأنيمي للعالم، إذ دائما يُفكَّر في و بالثنائية فكر\امتداد أو روح\ جسد سواء مع أو ضد.
1-ب)- ثنائية الجسد و الفكر في الفكر الفلسفي.
في فترة ما بعد النهضة الأوروبية تمت مقاربة الجسد بناء على الإرث الإغريقي القديم، خاصة على التصور المَاهوي الذي يفصل الجسد عن مفهوم الذات و ينفيه خارجه، و قد أدى الفكر الجوهراني ( مع ديكارت خصوصا) إلى ترسيخ ثنائية جسد/عقل تحت لواء نزعة تقر بجوهرية الفكرية و عرضية الجسد، إذ إن الذات الإنسانية لا تحقق وجودها – من خلال هذا المنظور- إلا من خلال عملية التفكير » أنا أفكر إذا أنا … »، و لهذا التصور أسسه حيث يمتح من الفلسفة الأفلاطونية التي تصور العالم مُنقسما إلى شقين، شق الحقائق و هو » عالم الفكر » و شق الزيف و المحاكاة المغلوطة الذي هو عالم الأشياء، على اعتبار أن الجسد ينتمي إلى هذا العالم المادي، و يبدو هذا التقسيم المفتعل بوضوح في محاورة فيدون حيث أسس أفلاطون لشرعية إقصاء الجسد من سياق التفلسف …
إن التقسيم الديكارتي للذات الإنسانية بين جوهر و عرض رسخ في التقليد الفرنكفوني مفهوما تجزيئيا للذات، فمعظم فكر القرن السابع عشر سيقوم على أساس محورية الفكر و واحدية الأنا(الذات)،إما أنه تبنى الفكرة و طور فيها كما حصل مع ليبنتز و مالبرانش و معظم تلامذة الديكارتية وإما أنه حوّر قليلا في المبدأ كما هو الحال مع باروخ اسبينوزا الذي انشغل بثنائية الفكر و الامتداد لكن ليس إلى الحد الذي يمكن به أن يتجاوز ديكارتية العصر، فسرعان ما انصرف عن الموضوع لاعتباره إياه لا يثير مشكلة فلسفية حقيقية..
إن الخلفية الفلسفية للقرن السابع عشر انطلقت من براديغم معرفي امتدت تطبيقاته إلى المستوى المُمارساتي للحجر على الجسد، إذ كان هذا القرن » بداية عصر للقمع خاص بالمجتمعات التي ندعوها برجوازية »{7}، و من أجهزة هذا القمع كان الفكر الفلسفي بارزا و بقوة، ففلسفة التقسيم الثنائي للذات التي أفرزت لنا الشرعية المعرفية لإقصاء الجسد هي جزء لا يتجزأ من » مُركب كامل من الأجهزة لإنتاج خطابات حول الجنس، خطابات..كفيلة بأن تشتغل و تحدث أثارا في اقتصاده » {8}، و اقتصاد الفعالية الجنسانية في حقيقته تطبيق قسري على الجسد يربو أيضا إلى احتكار الفعالية الجسدانية، إذ إن الجسد هو بؤرة الجنسانيات مهما كانت، إنه اقتصاد للجسد من خلال تقنين وظائفه و توجيهها وفق مصالح معينة ترعاها مؤسسات و طبقات لها المصلحة في ذلك…
لقد حد الفكر الفلسفي الكلاسيكي من فضاءات تحرك الجسد و فاعليته في وقت كانت البرجوازية الصاعدة تدّعي تحرير الإنسان من سطوة الفيودالية و أنظمة الاستعباد التي عرفتها الفترة القروسطية, لكن و مع منتصف القرن الثامن عشر برز خطاب التنوير في أنحاء أوروبا بدء من فرنسا ديكارت ذاتها، ليعيد الجسد الإنساني إلى مركز الاهتمام و ينشغل بحاجياته الاقتصادية و الفكرية و الحقوقية \ القانونية ( روسو و مونتسكيو)، فالخطاب القانوني الذي صاغه نموذج » العقد الاجتماعي » حرّر و لو جزئيا أجساد الناس من سطوة » الروح الكنسية »..
لكن اللحظة الكبرى التي سيصل فيها الوعي الأوروربي إلى صدمة قوية و رجة كبيرة تعيد تأثيث الرؤية في و للجسد هي اللحظة النيتشوية، باعتبارها لحظة قلب كل المفاهيم التي أنتجها الفكر الجوهراني حول الجسد.
لقد جاء نيتشه في لحظة كانت المنظومة الكلاسيكية الاجتماعية والفكرية قد مارست فيها سلطوية كبيرة على الجسد أدت إلى بروز مظاهر الشذوذ التي لم تكن سوى نتاجا واقعيا لتدخل السلطة في الأجساد و في مُتَعِها {9} ، جاء نيتشه و رفع شعار التفلسف بالمطرقة لأجل تحرير الوعي الإنساني من الإيمان بفكرة العالم المُفارق، و هو بذلك كان واعيا بما يستتبع هذه الفكرة من نتائج، من بينها بروز تصور جديد للجسد، إن الإيمان بعالم علوي مُفارق لعالمنا – بالنسبة لنيتشه – يجعل الوعي البشري شاعرا بنقص أنطولوجي نحو الذات البشرية في مقابل كمال الذات الإلهية، نقص ذو طبائع متعددة أبرزها الطابع الفكري المتعلق بالوعي و الإرادة، يؤدي هذا النقص إلى احتقار للجسد و لنشاطاته، بما في ذلك الغرائزية و الفطرية التي تُسحق تحت عنوان فضفاض هو : الفضيلة الأخلاقية.
لقد اعتبرت الفلسفات الجوهرانية الجسد سجنا عميقا يُكبّل الحرية و الوعي و يغرقهما في بركة الدنيوية و مظاهرها الديونيزيسية، إن الرغبة المُنحطة التي تؤدي إلى » النزول » نحو مستوى الحيوانية لهي رغبة أحق بالكبت و الخنق في نظر الفلسفات و الأديان التطهُّرية، لأن المحدد الوحيد للوجود الإنساني في نظر هذه البراديغمات المعرفية و العرفانية هو : الفكر وحده.
لكن مطرقة الفلسفة هدمت المفهوم المُختزِل للوجود الإنساني في الجانب الفكري/الروحي الذي حاول سقراط أن يرسخه في وعي الشباب الأثيني، و الذي جاء المسيح ليكلّله بتعاليمه المنحرفة ، التي توطدت مع الأديان التوحيدية تحت عنوان الطهارة و القُدسية.
إن ما يهم في تصور نيتشه للجسد هو تمهيده لإعادة الاعتبار له لكونه هو الذات، باعتباره « عقلا كبيرا » يحتوي ما اصطُلح عليه ب »الروح »، يقول نيتشه في زرادشته: » جسد أنا بكُلّي و كُليّتي و لا شيء غير ذلك، و ليست الروح سوى كلمة لتسمية شيء ما في الجسد »{10} و يضيف في مكان آخر » الجسد المُبدع هو الذي ابتدع لنفسه العقل يدا لإرادته » {11}..
لقد كان نيتشه قنطرة مهمة لتجاوز إشكالية ثنائية فكر/جسد ، إذ من خلال منجزه الفلسفي و الشعري تم الوعي بأن الفكر لا يمكن أن يتحقق بدون جسد، بل إن الجسد هو صاحب فعل الوعي و قصديته، فالشكل هو الذي يعي و يشعر، والشعور الذي رُبط لفترة طويلة بالروح هو في حقيقته مرتبط بالجسد مثله مثل عملية الوعي، شعور الحب مثلا و الرغبة في الآخر منبثق عن الجسد، فكل المشاعر تنمو بدافع جسدي كما ستثبت علوم التشريح و الأعصاب ، لأن نواة الشعور تنطلق من دافع جسدي بالأساس » إذ إن الانجذاب البيوكيماوي الذي غالبا ما يُعد الجوهر الموضوعي للحب يمكن أن يولد موضوعيا الخوف و الرعب و عمليات التصعيد… » {12}، لقد أراد نيتشه من الإنسان أن يعي حقيقة كيانه ، لأن الكيان هو جسد بالمرتبة الأولى، بل هو جسد بالضرورة ، و كل أشكال الحجر النفسية و التطبيقية التي مُورست عليه كانت لها دوافعها و إطارها التاريخي، » و لكن في عصر تميّز بالعلمنة للعالم الإنساني و أزمة مفهوم الجوهر و الإنجازات التي حققها علم وظائف الأعصاب و البحث السايكو-برسونولوجي ( علم دراسة الشخصية) و علم التأويل اللغوي فإن الصياغة القانونية لمسألة عقل/جسد لم تعد مُجدية »{13}..
إننا و بعد أكثر من قرنين على وفاة نيتشه نُقرُّ – في إطار فلسفي معاصر- أن للجسد « وجودا في العالم » ( هايدجر) و أن « الشكل لازم للتعبير عن الذات، فلا يُمكن أن يُوجد وعي بدون أن يوجد شيء يعيه…فمن القوانين الأولى للوعي أنه يجب أن يرتدي شيئا ما »{14}. أما ما رسخه الفكر الكلاسيكي للقرن السابع عشر من نبذ للجسد فله إطاره التاريخي الذي لا يمكن وعيه خارج الاهتمام بالمؤسسة، و هذا هو ما انتبه له فوكو خصوصا.
تناول فوكو الجسد ضمن إطار رصده للتطورات التي لحقت بالمؤسسات الاجتماعية، و ضمن استقصائه للبنى التي شيدت للمدنية مع البرجوازية الأوروبية، فمعظم تفكيره في الجسد هو محاولة للكشف عن الإستراتيجية السلطوية المتبعة في مسارات السيطرة على الجسد في مختلف حالاته: المرض/التعقل/الجنون/الجريمة/المرح/اللذة…إلخ.
إن المؤسسة البرجوازية بعد أن حررت الجسد من وصاية رجال الدين زجت به في خدمة مصالحها الليبرالية المتوحشة، فابتدعت أفانين لاستغلاله في العمل ( المصنع) و خارجه. هنا يكون اغتراب الجسد ناتجا عن التوظيف الجديد لإمكاناته بالتوافق مع مصالح البرجوازية، حيث وعت أوساط هذه الطبقة أهمية النزوع التحرري/الشبقي/الغرائزي…إلخ للجسد البشري، فأطلقت له زمام الحبل قليلا، لكنها و بالمقابل خلقت له حدودا « اختيارية » يُزَجُّ فيها لأجل استمرارية الحضارة، إنها لعبة المؤسسة، حيث يدخل الجسد في دوامة اليومي و المتطلب و الضروري الذي تحتويه المؤسسة: مؤسسة الزواج ( الأسرة)، التعليم/المعرفة( المدرسة) مع الإشارة هنا إلى احتكار المعرفة مؤسساتيا تماشيا مع احتكار السلطة، العمل( المصنع) ، التطبيب ( الصيدلية – المارستان – مستشفى المجانين)…
إن المؤسسة بهذا المعنى هي السجن الجديد للجسد، سجن خارج-نصي ذو طابع اجتماعي بالأساس، فمع السلطة الأخلاقية للنص الديني و السلطة الفكرية للفلسفة الكلاسيكية، لعبت المؤسسة (وتلعب) دور المدخل الرئيس » للاسترقاق المدني » ، فخيارات البرجوازية المعرفية لم تكن في واقعها سوى منافذ لاستعباد الجسد، وفي هذه النقطة بالذات ( المتعلقة بالخطاب المعرفي في علاقته مع السلطة) يعيد ميشيل فوكو – على ضوء حفرياته – تقييم العلوم الإنسانية تحليلا و نقدا، إذ تَوضَّح له أن كل العلوم التي كان من المفروض أن تُعين الإنسان على فهم ذاته و جسده و غرائزيته و نزوعاته …إلخ لم تفعل سوى شرعنة الرق في صورة أقل همجية، لقد ساهمت هذه العلوم ( الفلسفية منها أيضا) في تنميط الوعي الإنساني و تشريع الاستعباد الذي تمارسه البرجوازية بصورة أقل همجية من الرق الفيودالي في القرون الوسطى و الاستعباد الفكري و الجسدي في العصر الفكتوري (القرن 17).
إن استلاب الجسد وفق التحليل الحفرياتي واقع مستمر و مرتبط بالدولة البرجوازية و مؤسساتها ( فوكو هنا يبدو أكثر ماركسية)، و لعلنا نلاحظ هذا الاستلاب اليوم على عدة مستويات، فبالإضافة إلى ما سبق يمكن أن نلمس الاستلاب على مستوى الخطاب الإعلامي( ألإشهاري بشكل أوضح- جسد الأنثى)، يمكن أن نلمس الاستلاب الجسدي في السجون حيث أن » العنف الجسدي الذي يُمارس خلال التعذيب شديد التنوع، و كله ينصب على هدف واحد أساسي هو إحداث أشد الآلام الممكنة، التي تحاول كسر مقاومة الضحية، من خلال إيصال هذه الآلام إلى أقصى درجات احتمال الشخص »{15}، نشاهد الاستلاب في بيوت الدعارة ( و هي مؤسسات أيضا) حيث تنزل قيمة الجسد الأنثوي إلى درجة السلعة الرخيصة، ما يجعل الجسد شاعرا بالقرف من ذاته و غير راض على فعاليته التي تتم تحت ظروف ابتزازية تكون أقوى تعبير عن الاستلاب و عدم الاعتراف بإنسانية الإنسان و بسلطة الإرادة الذاتية على الجسد…إلخ.
إن الثنائية جسد / فكر التي انتهت إلى تحقير الجسد في الفلسفة الكلاسيكية ، و استلاب الدين للجسد، و استلاب هذا الجسد داخل إطار المؤسسة لَهِي أشكال مُتعايشة في نسيج المجتمعات الحداثية و المُنجمعات النصف-حداثية، فبالرغم من تباين مستويات استلاب الجسد من منظومة إلى أخرى، و بالرغم من المسافة التاريخية التي تفصل بين إطار و آخر، و بالرغم من طبيعة الإطار الذي يُستلب فيه الجسد، إلا أن واقع التغريب مستمر في هذا الطور من الحضارة كما في الماضي، ما جعل الجسد ذاته – و منذ القديم- يبحث لنفسه عن مخارج جانبية يُمارس فيها حريته اللامشروطة و فعاليته، لعل أبرز هذه المخارج مخرج الأدب، حيث الاستعارة و المجاز تحرُّرٌ من سلطوية المؤسسة المعرفية ( الفلسفية مثلا في لحظة معينة)، فالمجال الأدبي كان دائما و بمختلف تنويعاته فضاءً لتفجير إمكانات الجسد داخل مملكة اللغة ، القصيدة، الحكي و السرد…
لكن و حتى بعيدا عن المجاز يجب أن يجد الجسد حريته في التعبير، لابد للوعي البشري أن يباشر تصورا جديدا للجسد يضع في حسبانه مقدمة بديهية هي أن الجسد مُعطى : فردي/واقعي/غريزي/ذاتي/…حر.
فالجسد حرية، و هو أيضا مُعطى حاضر بثقله ف »لكل شخص تعرفه هناك جسد، مُحتمل أنك لم تُفكّر في هذه العلاقة البسيطة، و لكن ها هي: شخص واحد، جسد واحدٌ، و عقلٌ واحد..لم تلتقِ أبدا بشخص دون جسد و لم تلتق حتما بشخص له جسدان أو عدة أجساد.. »{16}.
* محمد البوعيادي
الهوامش:
{1} Nicole sindzincre. Dans : encyclopédie universalis 2011.
{2} Ibid.
{3} الإنجيل، سفر التكوين. 2/21-25
{4} القرآن، سورة الأعراف/23
{5} تركي علي الربيعو، العنف و المقدس و الجنس في الميثولوجيا الإسلامية،المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 1995، ص 81.
{6} طه باقر، ملحمة جلجامش ص 43 ، نقلا عن الربيعو.
{7} ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية: ج 1 إرادة العرفان، ترجمة: محمد هشام، إفريقيا الشرق ط 2004، ص 15.
{8} نفسه، ص 21.
{9} نفسه، ص 43.
{10} فريديريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ت: علي مصباح، دار الجمل ، ص 75.
{11} نفسه، ص 77.
{12} سيرجيو مورافيا، لغز العقل: مشكلة العقل/الجسد في الفكر المُعاصر،ت: عدنان حسن،منشورات وزارة الثقافة –سوريا 2002، ص 51.
{13} نفسه، ص 14.
{14} عزت الأمير، صدمة العُري: رؤية جديدة لعلاقة الإنسان بالكون، دار الهلال، ص 86.
{15} د. مصطفى حجازي، الإنسان المهدور:دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي، ص 131-132.
{16} أنطونيو داماسيو، الشعور بما يحدث: دور الجسد و العاطفة في صناعة الوعي، ت: رفيف كامل غدّار، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 2010، ص 150.