محمد رمصيص - صورة المرأة في الإشهار

يتصف الإشهار بكونه خطابا لعوبا وماكرا يعمل دوما على إظهار مزايا المنتوج دون سلبياته. يتوسل كل الوسائط لتحويل الرغبة الكاذبة إلى حاجة ملحة.خطاب محكوم بمنطق الربح وغير معني بأي ميثاق أخلاقي..غايته الأولى التشجيع على جعل فعل الاقتناء والتبضع حاجة حقيقية وضرورة ملحة، وهو بفعله ذلك يحقق وهم مكافحة المتبضع لشعوره بالنقص وانتصاره على بؤس الواقع، الأمر الذي يصوّغ لنا وصف الإشهار بكونه خطابا عاطفيا يتوجه إلى المشاعر لا العقل، وهذا ما يفسر رهانه على بيع الوهم لا الإقناع..بل إن خطورته تكمن في تنميطه للأذواق وتوحيدها وصياغة نموذج عيش ونمط حياة ينبغي أن يحتذى لبلوغ السعادة الوهمية.ولبلوغه هذه الغاية ينتقي صوره بعناية فائقة لأنه خطاب يدرك تماما أن الصورة أقدم من الكلمة وأكثر انغراسا في اللاوعي البشري، ومن ثم وقعها أكثر تأثيرا على وجدان الأفراد والجماعات. فالمشتكي من الحمى، مثلا، يشفى بحيازته صورة مشروب غازي بارد لأن الصورة قلما تثير فينا الشك حول صدقية أو كذب خطابها بخلاف الكلمة، الأمر الذي يجعلنا نخلص إلى أن من يصنع الصورة ويسوقها يصوغ وجدان الشعوب إن لم نقل إنه يمتلك العالم.
1 -محاولة في التشخيص
لرسم صورة دقيقة للمرأة في الإشهار نقترح الاستئناس بالمدخل الاستفهامي التالي: من يقف خلف صورتها تلك؟ أليس الرجل طرفا في هذه اللعبة مادام هو المسؤول عن إنتاج وسائل الرغبة؟ وهل يحق محاسبة المرأة أم محاسبة المجتمع الذي أنتجها؟ وقبل هذا وذاك كيف تحضر وتغيب المرأة في الإشهار؟ أسئلة مركبة تستدعي استحضار السياق التنافسي للمجتمع الاستهلاكي قصد إسقاط ورقة التوت عن عورة الإشهار. إشهار لا يقدم خدمة مجانية ومحايدة بقدر ما يروم تنميط الذوق العام وبيع الوهم من خلال التكرار والإيحاء وتحويل الفرد إلى مجرد آلة راغبة ومنفذة دون وجود الحاجة الفعلية للشيء..سياق مجتمعي واقتصادي عام جعل من المرأة رمزا للغواية وموضوعا جنسيا صرفا من خلال تجزيء جسدها إلى قطع غيار ما يصلح منه للتلذذ يسلط عليه الضوء وما دون ذلك يترك جانبا، حيث تنصرف كاميرا الإشهار إلى الصدر النافر والقوام الممشوق والأرداف المنحوتة وما شابه ذلك مع تغييب فادح لقيمة الذكاء والعقل أو العمل المنتج..وبهذا تكف المرأة عن تقديم نفسها كذات لأنها تمسي مجرد وسيط للبيع إن لم نقل إنها هي نفسها تصبح سلعة.إن ما يحفز في العمق على التبضع هو لعبة التقابل والتوازي بين جمال السلعة وجمال المرأة. فعل تبضع يسعف لا شعوريا على امتلاك المادة المعلنة والوسيط/الطعم دفعة واحدة، علما أن اختزال جسد المرأة في كائن جميل وجميل فقط يعطل باقي ملكاتها الموازية، فيصير جمالها وبالا عليها ويعطل باقي الملكات.اختزال يبخس الجسد ويجعل منه قطعة زينة وأداة جذب ومحتوى جنسيا ليس إلا. ومن الملاحظ أن الأماكن المهيمنة على إشهار المرأة هي البيت، حيث تقدم إما كزوجة أو خادمة، بمعنى أن كينونتها مرتهنة بالرجل، ومن ثم فهي كائن لغيره لا لذاته. وحتى عندما تقدم المرأة خارج البيت فهي إما للتبضع أو لشراء لوازمه من قبيل مسحوق الغسيل أو معطر الجو أو حتى حفاظات الأطفال الاصطناعية وما شابه، وكأني بها تعيش عقدة اتساخ متجذرة وباطنية. إن اقتران المرأة بعقدة الاتساخ يجد مبرره في تنشئة اجتماعية متجذرة في التاريخ السحيق، حيث تشكل وعيها بالذات من خلال النص الديني تحديدا، الذي يعتبر دم الحيض، مثلا، نجاسة على المرأة التخلص منه في أقرب فرصة لتمحو عطلا فادحا يحرم عليها دخول المسجد أو الحج ويمنعها من إقامة شعائرها الدينية إلى حين، وبالتالي يعطل وصالها مع الله لحظة التعبد التي تقتضي الطهارة. وهذا بالضبط ما يفسر شوقها الحارق واللاشعوري للطهر بمعناه الرمزي والمادي. «إن دم الحيض لا يقصي المرأة من القداسة، بل من حقل السلطة أيضا.فهي لا يحق لها تقلد مناصب القيادة في نظر بعض الفقهاء نظرا لأن دم الحيض والنفاس يؤثران على نفسيتها، وفي الآن نفسه يحولان دون كمال دينها.وتعتبر في مدة أيامه مقصية من الحقل الديني بفرائضه وطقوسه، وهو وضع لا ينطبق مع من يريد أن يتحمل مسؤولية ولقب إمارة المؤمنين بأبعادها السياسية والدينية والرمزية من هذا المنظور الفقهي». وبموازاة هذا المشهد تقدم المرأة ككائن مهووس بوسائل الزينة، بما في ذلك العطور و أحمر الشفاه، علما أن عنايتها الفائقة بالجسد، في الغالب، من خلال تلميعه وتجميله ليس هدفا لذاته ولكن لامتلاك رجل افتراضي..مقام إعلاني يقفز على البعد النفعي والتواصلي للجسد ليركز على بؤرة شهوة استثناء، «والمناطق الإيروسية، وبلاغة الجماع والإشارات التي تروم الإغراء والفتنة، وكذا قسمات الوجه، وحركة اليدين والرجلين، الكاشفة تحديدا عن الانفعالات والأحاسيس من قبيل القلق والملل أو النشوة أو الإجهاد أو العياء».
إن الإشهار في الواقع لا يبيع السلعة معزولة بقدر ما يبيع طقسا رومانسيا وحالة حلمية، أجواء دالة على سعادة وهمية. فالمرأة المغمضة العينين جراء حيازتها السلعة المعلنة كناية على إيحاء خادع بحصول نشوة الاستمتاع. إشهار يقدم المرأة غالبا سعيدة بمسحوق غسيل كفرح طفل فقد أمه ولقيها بعد طول غياب. وهذا الانتقاص من قدرها يصل حد تقديمها كقطة وديعة في حاجة إلى رعاية، ويقظتها غير مطلوبة إلا لحظة رعايتها للأطفال.إن الإعلان بتوظيفه جسد المرأة في بعده الشهوي لا النفعي يبني إستراتيجيته على الرغبة المتجددة، التي لا حدود لها ما دام المجتمع بني في الأصل على الحرمان لا الإشباع، علما أن السعادة في أذهان الناس مرتبطة بإشباع رغبتهم، والواقع أن الإشباع محكوم بالنفي المتتالي والتجدد المستمر. لكن يجب التمييز هنا بين الرغبة الفطرية والرغبة الثقافية، فالثانية تتميز عن الأولى بكونها مصنوعة صنعا ومختلقة أنتجتها وسائل الإعلام والدعاية لا الحاجة الفعلية للشيء كما هو شأن الرغبة الفطرية.
يبقى أن نشير إلى أن صورة المرأة في الإشهار يتحمل الرجل نصيبا كبيرا في رسمها، فهو الذي رباها على أن كل امرأة لا تغري تعيش انمحاء وجوديا وموتا رمزيا مدى الحياة. ومن ثم دفعها إلى وسائط الزينة وإلغاء العقل والتوسل بالجسد لتحقيق رغباتها. تترعرع المرأة في الحياة، كما في الإشهار، على أنها بالمساحيق تؤجل تبخيس ذاتها وتؤجج رغبة الرجل، تأخذ احتياطا من صورتها الأصل، تغير وجهها باستمرار لتعجبه أولا. وثانيا لأنها ترفض الضبط والتحديد جراء كونها كائنا متعددا في رغباته وتجلياته. وبتسويق المرأة للمساحيق وجسدها المجمل تكرس نمط هوية بشرية مؤسسة على إعجاب الآخر. وهذا نوع من المازوشية المبطنة يمحو الأنا لصالح الأنت. وبهذا يصير حلم المرأة الأكبر هو جعل جسدها مادة مرغوبة مدى الحياة. والرجل بحكم عطشه التاريخي للجنس يتواطأ مع المرأة على هذه الكذبة، وكلاهما يعلم أنهما يعيشان على هامش الحقيقة. إن المرأة بحدسها تدرك حساسية الرجل حيال نوافذ جسدها، الأمر الذي يبرر عنايتها الفائقة بعينيها وفمها كشرفتين ذواتي استعمال مزدوج: فمن جهة، الشفاه الحمر تصرح بظمأ جنسي افتراضي ونافذة للبوح وللاستقبال. ومن جهة ثانية، تعتبر العيون الحور جسرا لاطلاعها على الخارج وقناة لقراءة الرجل عوالم أحشائها الداخلية.
2 - وهم الجسد المستباح
إن خطورة تسويق جسد المرأة وتسليعه يكمن في كون خطاب الإشهار يوهم المتلقي بأنه يعطي في الوقت الذي يأخذ. فالإشباع الفعلي يظل مؤجلا، لكن الصورة الإشهارية تعوض ذاك النقص الواقعي بإشباع وهمي. عند هذا المستوى يحق لنا أن نتساءل على النحو التالي: هل تتحقق سعادة الفرد في تلجيم الرغبات والتحرر من سلطتها بإخضاعها للإرادة والعقل؟ أم في إشباعها على اعتبار أن تحققها هو المحرك الأساسي للحياة ومصدر كل إنتاج وفعل؟ ألا يترجم هذا الإقبال المتزايد على جسد المرأة في الإشهار فداحة حجم آلامنا وتشوهاتنا النفسية؟ علما أن تمظهر الرغبة ما هو إلا ألم، وأن وتيرة طفوها على السطح تأشير واضح على كم الألم وحرقته، طالما أن الألم في الأصل هو رغبة غير مشبعة. وبالتالي هل نتلذذ بإيلام بعضنا البعض من خلال إشهارات مماثلة؟ وهل يعني هذا أننا نسير في الأفق البوذي الذي يتصور العالم ألما؟ نترك هذه الأسئلة مفتوحة تماما كما هي جراح المرأة في مجتمع ذكوري.
إن العناية الفائقة بالجسد دون الروح من لدن المرأة تبدو صادمة ومفارقة، وتسير عكس تصور الديانات الشرقية للجسد، حيث اعتبرته خسيسا مقابل الروح النفيسة. سياق يعيد إلى الواجهة ذاك التعارض القديم بين الروح والجسد كنقطتين متباعدتين جعلتا الإنسان مقسوما على نفسه وموزعا بين السماء والأرض، وبين الخير والشر، وبين الخطيئة والفضيلة، علما أن هذا التنائي بين الاحتفاء بالجسد ومحوه تلخصه تجربتان مائزتان في التاريخ البشري: فإذا كان التصوف قد قتل كل رغبة في الجسد بهدف تحقيق الكشف الإلهي من خلال الصوم والعزلة والعبادة، ومن ثم تحويل الجسد من نقطة ضعف إلى نقطة قوة، فإن الأبيقورية لا ترى خيرا خارج نطاق الجسد. يقول أبيقور نفسه: «إنني لا أتصور الخير إذا غضضت النظر عن الذات والذوق ولذات الحب، ولذات السمع، وتلك الناجمة عن الصور الجميلة المدركة بالعيون، وبالجملة عن كل اللذات التي يحصل عليها الناس بواسطة الحواس، وليس صحيحا أن سرور العقل هو وحده الخير، لأن العقل يسير برجاء اللذات الحسية التي بالتمتع بها يمكن للطبيعة أن تتحرر من الألم».
إن انصراف الخطاب الإشهاري نحو البعد الإيروسي من جسد المرأة وتركيزه على بعده الإغرائي الغاية منه إقناع المتلقي الجريح جراء وقوعه تحت ثقل قرون من الكبت، وسيلته في ذلك وهم الصورة التي تملك القدرة على إرواء ظمئه من خلال عدم حمل الإشهار لتوقيع صاحبه. خطاب يقدم نفسه في غنى عن تسمية منتجه، موهما الجمهور بأنه يلهج بلسان كل الناس، وقوته الإقناعية تتكرس بفعل تكراره قصد ترسخه في لاوعي المستهلك. وبهذا يتوفق الخطاب الإشهاري في صنع القطيع وتهميش المختلف ونبذ الخارج عن الإجماع، علما أن طاقة ونفس المقاومة عند المتلقين قصيرتان، وقصرهما مرده قرون الكبت والحرمان الطويلة، الأمر الذي يجعل مناعة المتلقي هشة، فيسقط بسرعة في مصيدة الاستهلاك، متوهما بأنه بحيازة المنتوج المقدم من لدن المرأة سيحقق حياة سعيدة، لكن ليست أي امرأة، فالقصد هنا المرأة الرشيقة، الجميلة والفاتنة، امرأة وفق الطلب وعلى المقاس، علما أن الانتساب إلى الأنوثة في الواقع ليس معطى طبيعيا يتحقق بشكل نهائي وتلقائي، ولكن يلزمه سند ثقافي يوجه أفعاله وحركاته وفق نماذج منجزة في الأخلاق والإتيكيت من قبيل وقت الصمت والكلام وطريقة المشي والجلوس وشكل الحركة والسكوت.
نخلص إلى أن الإشهار لا يكتفي بحفز المتلقي على التبضع، ولكن منتهى أمله هو قيادة جمهرة المتلقين للعيش وفق نمط عيش مجتمعي يقدم على أنه النموذج الموصل للسعادة الوهمية. وبهذا يختزل الإشهار الحياة في الاستهلاك، وما دون ذلك هباء وعدم. إن إحدى مفارقات الخطاب الدعائي -خلافا للثقافة السائدة التي قسمت الذات لجسد وروح مع الإعلاء من قيمة الثاني- هو إعلاؤه من قيمة الجسد ليس بغاية إعادة الاعتبار إليه، ولكن استثمارا لوظيفته الإغرائية قصد استغلاله اقتصاديا وتسييد مصالح فئة طبقية دون أخرى..
ننتهي إلى خلاصة تركيبية مفادها أن الصورة الإشهارية عموما ليست مجرد وصف لمنتوج معطى، ولكنها في العمق تحديد لعلاقات وأنماط سلوك. هي تعبير متسام عن حاجات معطلة ووسيلة لرصد حجم الجرح وفداحة التشوه، الذي مس الأفراد كما الجماعات.يكفي أن نتمثل تحول عوالم الرجال إلى عيون متلصصة، وأجساد النساء إلى فرجة بلهاء.


محمد رمصيص
صورة المرأة في الإشهار
نشر في المساء يوم 04 - 02 - 2015
 
أعلى