نبيل محمود
كاتب
اذعان
-------
فتحت النافذة .
أطلقت الريح ، في هبة مفاجئة ، شعرها ،
كطائرين كبيرين ، على كتفيها .
أغلقت النافذة .
كان الطائران على المنضدة ينظران إليها .
أحنت رأسها بينهما
وبكت في هدوء .
نساء
-------
النساء بعيدات ، بعيدات .
تفوح ملاءاتهن بـ (( تصبح على خير )) .
يضعن الخبز على المائدة حتى لا نشعر بأنهن غائبات ؟
ندرك - آنئذ - أنه خطأنا .
ننهض من الكرسي ونقول :
(( لقد بذلت اليوم جهدا شاقا )) ،
أو (( دعيه ، سأضيء المصباح )) .
عندما نشعل الكبريت ، تستدير ببطء
وتخرج إلى المطبخ في احتشاد غير مفهوم .
ظهرها تل حزين ممرور ، مثقل بموتى كثيرين -
موتى العائلة ، موتاها ، وموتك .
وأنت تسمع خطواتها تفرقع
على الأرضية العتيقة ،
تسمع الأطباق تصرخ في الرف ،
ثم تسمع القطار الذي يأخذ الجنود إلى الجبهة .
يأس بنيلوب
------------
لم تكن المسألة أنها لم تستطع التعرف عليه
في الضوء الكابي للنيران
لم تكن أسمال المتسول ، وتنكره .
لا .
كانت هناك علامات واضحة :
الندبة في مقدمة الركبة ،
جسده المفتول العضلات ونظرته الماكرة .
حاولت - في رعبها ، وهي تستند على الجدار -
أن تجد تبريرا ما ، مهلة ما ، كي تتفادى الرد ،
حتى لا تخون أفكارها .
أكان من أجله أن ضيعت عشرين عاما ،
عشرين عاما من الانتظار والحلم
من أجل هذا البائس ، الغارق بالدماء ، بلحيته البيضاء ؟
انهارت على المقعد بلا كلمة ،
أمعنت النظر في الثياب الذبيحة على الأرض ،
كما لو كانت ترى رغباتها القتيلة .
قالت : (( أهلا )) ،
فتسمع صوتها كأنه يجيء من بعيد ،
كأنه صوت شخص غريب .
والنول - في الركن - يرمي بظله كقفص على السقف ،
والطيور التي نسجتها بخيوط حمراء زاهية وسط الأخضر
تتحول الآن إلى الرمادي والأسود
وترحل مرفرفة خفيضة في السماء الفاترة
لمحنتها الأخيرة .
نسخة مصغرة
---------------
وقفت أمام المنضدة .
تبدأ يداها الحزينتان في تقطيع شرائح ليمون نحيلة للشاي
مثل عجلات صفراء لعربة صغيرة جدا
مصنوعة لإحدى حكايات الأطفال .
الضابط الشاب الذي يجلس في المواجهة
مدفون في الكرسي القديم . لا ينظر إليها .
يشعل سيجارته .
يده التي تمسك الكبريت ترتعش ،
وهي ترمي بالضوء على ذقنه الرقيقة
ويد فنجان الشاي .
أوقفت الساعة دقتها برهة .
شيء ما تأجل .
مرت البرهة . فات الوقت الآن .
فلنشرب شاينا . أيمكن للموت ، إذن ،
أن يأتي في عربة من هذا النوع ؟
يمر علينا ويمضي ؟
ويكون لهذه العربة وحدها أن تبقى ،
بعجلاتها الصغيرة المصنوعة من ليمون ،
متوقفة لسنوات طويلة في شارع جانبي منطفئ ،
وبعدها غنوة صغيرة ، وضباب قليل ،
ثم لا شيء ؟
ماء وطين
------------
انحنى فوق البئر - دائرة من ظلام ،
ظلام بارد يتلألأ .
وهناك، في المركز ، وجهه المضيء محصور .
آنئذ رمى الدلو وسحب الماء . كان عطشانا .
شرب . لم يكن في الماء أحد .
هل يمكن أن يكون - في عطشه قد شرب وجهه ؟
سيحتاج الآن - على الأقل - إلى قناع يشبهه
( وإلا فكيف سيعيش وسط الكائنات الانسانية ؟ )
أخذ ماء وطينا ، عجن الطين بعناية ،
لكنه لم يعد يستطيع تذكر شكل وجهه .
نظر إلى يديه ،
- طين يتدلى - أحمر لامعا - من أصابعه .
أصيل
--------
الدجاج ما يزال ينقر في الطريق .
وزوجة القبطان العجوز جالسة في الباب
تحمل حفيدها في حجرها المفتوح .
طفل يحمل سلة .
البيوت العشوائية تواجه الغروب ، بجذوعها القديمة
وأسرتها ومناضدها الحديد - وصورها المؤطرة .
الملاءات تنشر تاريخها في مستطيلات عريضة .
البحر غير مسموع .
ويد كبيرة خفية ترفع المقاعد شبرين فوق الأرض .
كيف يعيش الناس بلا شعر ؟
نهاية خطبة
-------------
في اللحظة الأخيرة ، وهو ينهي خطبته وسط التوفيق ،
أضاف تعبيرا غامضا وهادئا :
(( الرجل الذي صفقتم له لم يكن أنا ،
وكلماتي لم تكن لي -
إنها مرايا صغيرة في مواجهتكم
ترجع شظايا من وجوهكم في توقعكم ،
وفي مواجهة كلماتي كنت اقف أيضا كضوء بعيد
ينعكس في المرايا ، ويرمي أشعته الناصعة في عيونكم
لتمنعكم من رؤيتي .
كلماتنا الحقيقية تكمن عميقا في الصمت
( ولا حاجة بنا إليها ، على أية حال ) .
وأفعالنا الحقيقية دائما ما تقصي الشهود أو تقتلهم إن استطاعت
أو تتخلص منهم مقابل ثمن باهظ
ما نمتلكه هو- فقط - ما لا يحتاج إلى برهان .
وكل التصفيق هو شهادة تالية أو زائفة بلا وعي )) .
في تلك اللحظة ، انطفأت الأضواء فجأة
وبدأ الجميع يتدافعون ناحية أبواب الطوارئ ،
فلم يستطع أحد أن يرى التعبير على وجوههم أو وجهه .
ربما فقط ، كان هناك صمت اجباري معتم ، يرفرف حرا
في المرايا المعلقة بقاعة الاستماع .
لوحة ثلاثية
-------------
1 - إلى أن حل الظلام :
أمسك بيدها في يده . لم يتكلم .
سمع بعيدا ، وربما داخله ،
البحر ، واشجار الصنوبر ، والتلال كانت يدها .
إن لم يقل لها ذلك ، فكيف يمكن أن يمسك بيدها ؟
كانا ساكنين إلى أن حل الظلام .
وتحت الظلام ، لم يكن هناك
غير تمثال بيدين مكسورتين .
2 - امرأة :
تلك الليلة : وهي عسيرة المنال ، لم تقبل أحدا -
وحيدة في خوفها من عدم وجود من يقبلها ،
بخمسة أصابع من نجوم تخفي خصلة شعر بيضاء ،
وهي جميلة مثل انكار ذاتها الفاتنة .
3 - لماذا هو خطأنا ؟
تحت لسانك بقايا رقيقة من سمك البريل ،
بذور عنب والياف خوخ
في ظل رموشك بلد دافئ .
يمكنني أن أتمدد وأسترخي بلا سؤال ، قال .
ما الذي يعنيه ذلك الآن ، (( هذا البعيد أمامنا )) ؟
لماا هو خطأك . دون شك . أن تظل وسط الأوراق -
جميلا ، بسيطا ، في الشكل الذهبي لحرارتك ؟
ولماذا هو خطئي أن أمضي قدما في الليل ،
سجين حريتي ، قال ، أعاقب المعاقب ؟
البعيد
--------
ايها البعيد ، البعيد ، العصي المنال ،
فلتتسع دائما للصامتين في غيابهم ، في غياب الآخرين
عندما يصبح خطر القريبين ، خطر القرب ذاته ، عبئا ثقيلا
خلال ليالي الوعد بالأضواء الملونة الكثيرة في الحدائق ،
عندما تلتمع عيون الأسود والنمور نصف المغمضة
بلا مبالاة خضراء وامضة في أقفاصها
والمهرج العجوز أمام المرآة المعتمة
يزيل دموعه المرسومة حتى يستطيع البكاء -
أيها المستعصي على الامتلاك ، أنت بيدك الطويلة الكئيبة
خفي ، بلا استعارة أو إعارة ، بلا التزامات ،
تسمر المسامير في الهواء ، تدعم العالم
في ذلك التراخي العميق حيث تسود الموسيقى .
ذنب
------
أخذ قبعته وخرج .
ظلت عند المنضدة بالقرب المصباح .
عندما أصبح وقع خطواته بعيدا .
نظرت إلى يدها في الضوء .
(( إنها جميلة )) . قالت .
بعد ذلك ، كما لو كانت تبرئ نفسها أمام شخص ما هناك ،
أخذت الخبز إلى المطبخ وأطفأت النور .
في الخارج مرت عربات الكارو والقمر .
ايضاح ضروري
-----------------
هناك مقطوعات معينة - وأحيانا قصائد بكاملها -
لا أعرف معناها .
إنه ما لا أعرف هو الذي يحملني على الصمت .
فأنت محق في أن تسألني .
لكن لا تسألني .
فأنا لا أدري ، أقول لك :
ضوءان متوازيان يأتيان من نفس المركز .
صوت الماء المتساقط في الشتاء
من ماسورة صرف المياه الزائدة ،
أو صوت قطرات الماء وهي تساقط
من زهرة في حديقة مروية ،
بطيئة ، بطيئة على مسار ربيعي
كنشيج طائر .
لا أعرف ما يعنيه هذا الصوت ،
ومع ذلك ، فإنني اقبل به .
فأيا ما كان ما أعرف ، فقد أوضحته لك .
لست متجاهلا .
لكن هذه - ايضا - تضيف إلى حياتنا .
فإنني ألاحظ - عندما نامت -
كيف شكلت ركبتاها زاوية على الملاءة -
لم تكن- فحسب - مسألة حب .
فقد كان هذا الركن ملتقى العذوبة ،
وشذى الملاءة ، والنظافة ،
والربيع المكمل لذلك الشيء المستعصي على التفسير
الذي حاولت - دون جدوى مرة أخرى - أن افسره لك .
العودة
--------
في البداية ، رحلت التماثيل .
وبعد قليل ، الأشجار والناس والحيوانات .
أصبحت الأرض - بكاملها - مهجورة .
هبت الريح .
تجمعت الجرائد والأشواك في الشوارع .
في الغسق ، انطفأت الأنوار من تلقاء نفسها .
عاد رجل وحده ، نظر حواليه ،
أخرج مفتاحه ، وغرسه في الأرض
كأنه يسلمه إلى يد تحت الأرض
أو كأنه يزرع شجرة .
ثم صعد السلالم الرخامية
وحدق أسفله في المدينة .
في حذر ، واحدا وراء الآخر ، عادت التماثيل
___________________________________________________
المصدر: يانيس ريتسوس، البعيد، مختارات شعرية شاملة،
ترجمة وتقديم رفعت سلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1997.
-------
فتحت النافذة .
أطلقت الريح ، في هبة مفاجئة ، شعرها ،
كطائرين كبيرين ، على كتفيها .
أغلقت النافذة .
كان الطائران على المنضدة ينظران إليها .
أحنت رأسها بينهما
وبكت في هدوء .
نساء
-------
النساء بعيدات ، بعيدات .
تفوح ملاءاتهن بـ (( تصبح على خير )) .
يضعن الخبز على المائدة حتى لا نشعر بأنهن غائبات ؟
ندرك - آنئذ - أنه خطأنا .
ننهض من الكرسي ونقول :
(( لقد بذلت اليوم جهدا شاقا )) ،
أو (( دعيه ، سأضيء المصباح )) .
عندما نشعل الكبريت ، تستدير ببطء
وتخرج إلى المطبخ في احتشاد غير مفهوم .
ظهرها تل حزين ممرور ، مثقل بموتى كثيرين -
موتى العائلة ، موتاها ، وموتك .
وأنت تسمع خطواتها تفرقع
على الأرضية العتيقة ،
تسمع الأطباق تصرخ في الرف ،
ثم تسمع القطار الذي يأخذ الجنود إلى الجبهة .
يأس بنيلوب
------------
لم تكن المسألة أنها لم تستطع التعرف عليه
في الضوء الكابي للنيران
لم تكن أسمال المتسول ، وتنكره .
لا .
كانت هناك علامات واضحة :
الندبة في مقدمة الركبة ،
جسده المفتول العضلات ونظرته الماكرة .
حاولت - في رعبها ، وهي تستند على الجدار -
أن تجد تبريرا ما ، مهلة ما ، كي تتفادى الرد ،
حتى لا تخون أفكارها .
أكان من أجله أن ضيعت عشرين عاما ،
عشرين عاما من الانتظار والحلم
من أجل هذا البائس ، الغارق بالدماء ، بلحيته البيضاء ؟
انهارت على المقعد بلا كلمة ،
أمعنت النظر في الثياب الذبيحة على الأرض ،
كما لو كانت ترى رغباتها القتيلة .
قالت : (( أهلا )) ،
فتسمع صوتها كأنه يجيء من بعيد ،
كأنه صوت شخص غريب .
والنول - في الركن - يرمي بظله كقفص على السقف ،
والطيور التي نسجتها بخيوط حمراء زاهية وسط الأخضر
تتحول الآن إلى الرمادي والأسود
وترحل مرفرفة خفيضة في السماء الفاترة
لمحنتها الأخيرة .
نسخة مصغرة
---------------
وقفت أمام المنضدة .
تبدأ يداها الحزينتان في تقطيع شرائح ليمون نحيلة للشاي
مثل عجلات صفراء لعربة صغيرة جدا
مصنوعة لإحدى حكايات الأطفال .
الضابط الشاب الذي يجلس في المواجهة
مدفون في الكرسي القديم . لا ينظر إليها .
يشعل سيجارته .
يده التي تمسك الكبريت ترتعش ،
وهي ترمي بالضوء على ذقنه الرقيقة
ويد فنجان الشاي .
أوقفت الساعة دقتها برهة .
شيء ما تأجل .
مرت البرهة . فات الوقت الآن .
فلنشرب شاينا . أيمكن للموت ، إذن ،
أن يأتي في عربة من هذا النوع ؟
يمر علينا ويمضي ؟
ويكون لهذه العربة وحدها أن تبقى ،
بعجلاتها الصغيرة المصنوعة من ليمون ،
متوقفة لسنوات طويلة في شارع جانبي منطفئ ،
وبعدها غنوة صغيرة ، وضباب قليل ،
ثم لا شيء ؟
ماء وطين
------------
انحنى فوق البئر - دائرة من ظلام ،
ظلام بارد يتلألأ .
وهناك، في المركز ، وجهه المضيء محصور .
آنئذ رمى الدلو وسحب الماء . كان عطشانا .
شرب . لم يكن في الماء أحد .
هل يمكن أن يكون - في عطشه قد شرب وجهه ؟
سيحتاج الآن - على الأقل - إلى قناع يشبهه
( وإلا فكيف سيعيش وسط الكائنات الانسانية ؟ )
أخذ ماء وطينا ، عجن الطين بعناية ،
لكنه لم يعد يستطيع تذكر شكل وجهه .
نظر إلى يديه ،
- طين يتدلى - أحمر لامعا - من أصابعه .
أصيل
--------
الدجاج ما يزال ينقر في الطريق .
وزوجة القبطان العجوز جالسة في الباب
تحمل حفيدها في حجرها المفتوح .
طفل يحمل سلة .
البيوت العشوائية تواجه الغروب ، بجذوعها القديمة
وأسرتها ومناضدها الحديد - وصورها المؤطرة .
الملاءات تنشر تاريخها في مستطيلات عريضة .
البحر غير مسموع .
ويد كبيرة خفية ترفع المقاعد شبرين فوق الأرض .
كيف يعيش الناس بلا شعر ؟
نهاية خطبة
-------------
في اللحظة الأخيرة ، وهو ينهي خطبته وسط التوفيق ،
أضاف تعبيرا غامضا وهادئا :
(( الرجل الذي صفقتم له لم يكن أنا ،
وكلماتي لم تكن لي -
إنها مرايا صغيرة في مواجهتكم
ترجع شظايا من وجوهكم في توقعكم ،
وفي مواجهة كلماتي كنت اقف أيضا كضوء بعيد
ينعكس في المرايا ، ويرمي أشعته الناصعة في عيونكم
لتمنعكم من رؤيتي .
كلماتنا الحقيقية تكمن عميقا في الصمت
( ولا حاجة بنا إليها ، على أية حال ) .
وأفعالنا الحقيقية دائما ما تقصي الشهود أو تقتلهم إن استطاعت
أو تتخلص منهم مقابل ثمن باهظ
ما نمتلكه هو- فقط - ما لا يحتاج إلى برهان .
وكل التصفيق هو شهادة تالية أو زائفة بلا وعي )) .
في تلك اللحظة ، انطفأت الأضواء فجأة
وبدأ الجميع يتدافعون ناحية أبواب الطوارئ ،
فلم يستطع أحد أن يرى التعبير على وجوههم أو وجهه .
ربما فقط ، كان هناك صمت اجباري معتم ، يرفرف حرا
في المرايا المعلقة بقاعة الاستماع .
لوحة ثلاثية
-------------
1 - إلى أن حل الظلام :
أمسك بيدها في يده . لم يتكلم .
سمع بعيدا ، وربما داخله ،
البحر ، واشجار الصنوبر ، والتلال كانت يدها .
إن لم يقل لها ذلك ، فكيف يمكن أن يمسك بيدها ؟
كانا ساكنين إلى أن حل الظلام .
وتحت الظلام ، لم يكن هناك
غير تمثال بيدين مكسورتين .
2 - امرأة :
تلك الليلة : وهي عسيرة المنال ، لم تقبل أحدا -
وحيدة في خوفها من عدم وجود من يقبلها ،
بخمسة أصابع من نجوم تخفي خصلة شعر بيضاء ،
وهي جميلة مثل انكار ذاتها الفاتنة .
3 - لماذا هو خطأنا ؟
تحت لسانك بقايا رقيقة من سمك البريل ،
بذور عنب والياف خوخ
في ظل رموشك بلد دافئ .
يمكنني أن أتمدد وأسترخي بلا سؤال ، قال .
ما الذي يعنيه ذلك الآن ، (( هذا البعيد أمامنا )) ؟
لماا هو خطأك . دون شك . أن تظل وسط الأوراق -
جميلا ، بسيطا ، في الشكل الذهبي لحرارتك ؟
ولماذا هو خطئي أن أمضي قدما في الليل ،
سجين حريتي ، قال ، أعاقب المعاقب ؟
البعيد
--------
ايها البعيد ، البعيد ، العصي المنال ،
فلتتسع دائما للصامتين في غيابهم ، في غياب الآخرين
عندما يصبح خطر القريبين ، خطر القرب ذاته ، عبئا ثقيلا
خلال ليالي الوعد بالأضواء الملونة الكثيرة في الحدائق ،
عندما تلتمع عيون الأسود والنمور نصف المغمضة
بلا مبالاة خضراء وامضة في أقفاصها
والمهرج العجوز أمام المرآة المعتمة
يزيل دموعه المرسومة حتى يستطيع البكاء -
أيها المستعصي على الامتلاك ، أنت بيدك الطويلة الكئيبة
خفي ، بلا استعارة أو إعارة ، بلا التزامات ،
تسمر المسامير في الهواء ، تدعم العالم
في ذلك التراخي العميق حيث تسود الموسيقى .
ذنب
------
أخذ قبعته وخرج .
ظلت عند المنضدة بالقرب المصباح .
عندما أصبح وقع خطواته بعيدا .
نظرت إلى يدها في الضوء .
(( إنها جميلة )) . قالت .
بعد ذلك ، كما لو كانت تبرئ نفسها أمام شخص ما هناك ،
أخذت الخبز إلى المطبخ وأطفأت النور .
في الخارج مرت عربات الكارو والقمر .
ايضاح ضروري
-----------------
هناك مقطوعات معينة - وأحيانا قصائد بكاملها -
لا أعرف معناها .
إنه ما لا أعرف هو الذي يحملني على الصمت .
فأنت محق في أن تسألني .
لكن لا تسألني .
فأنا لا أدري ، أقول لك :
ضوءان متوازيان يأتيان من نفس المركز .
صوت الماء المتساقط في الشتاء
من ماسورة صرف المياه الزائدة ،
أو صوت قطرات الماء وهي تساقط
من زهرة في حديقة مروية ،
بطيئة ، بطيئة على مسار ربيعي
كنشيج طائر .
لا أعرف ما يعنيه هذا الصوت ،
ومع ذلك ، فإنني اقبل به .
فأيا ما كان ما أعرف ، فقد أوضحته لك .
لست متجاهلا .
لكن هذه - ايضا - تضيف إلى حياتنا .
فإنني ألاحظ - عندما نامت -
كيف شكلت ركبتاها زاوية على الملاءة -
لم تكن- فحسب - مسألة حب .
فقد كان هذا الركن ملتقى العذوبة ،
وشذى الملاءة ، والنظافة ،
والربيع المكمل لذلك الشيء المستعصي على التفسير
الذي حاولت - دون جدوى مرة أخرى - أن افسره لك .
العودة
--------
في البداية ، رحلت التماثيل .
وبعد قليل ، الأشجار والناس والحيوانات .
أصبحت الأرض - بكاملها - مهجورة .
هبت الريح .
تجمعت الجرائد والأشواك في الشوارع .
في الغسق ، انطفأت الأنوار من تلقاء نفسها .
عاد رجل وحده ، نظر حواليه ،
أخرج مفتاحه ، وغرسه في الأرض
كأنه يسلمه إلى يد تحت الأرض
أو كأنه يزرع شجرة .
ثم صعد السلالم الرخامية
وحدق أسفله في المدينة .
في حذر ، واحدا وراء الآخر ، عادت التماثيل
___________________________________________________
المصدر: يانيس ريتسوس، البعيد، مختارات شعرية شاملة،
ترجمة وتقديم رفعت سلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1997.
اللوحة: بثينة عبد الرحيم