نقوس المهدي
كاتب
باب النسيب
حق النسيب أن يكون حلو الألفاظ رسلها، قريب المعاني سهلها، غير كز ولا غامض، وأن يختار له من الكلام ما كان ظاهر المعنى، لين الإيثار، رطب المكسر، شفاف الجوهر، يطرب الحزين، ويستخف الرصين.
وروى أبو علي إسماعيل بن القاسم، عن ابن دريد، عن أبي حاتم، عن الأصمعي، عن أبي عمرو بن العلاء، عن رواية كثير قال: كنت مع جرير وهو يريد الشام فطرب، وقال: أنشدني لأخي بني مليح يعني كثيرا فأنشدته حتى انتهيت إلى قوله:
وأدنيتني حتى إذا ما سنيتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح
تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وخلفت ما خلفت بين الجوانح
فقال: لولا أنه لا يحسن بشيخ مثلي النخير لنخرت حتى يسمع هشام على سريره..
وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحدا لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.
والنسيب والتغزل والتشبيب كلها بمعنى واحد.. وأما الغزل فهو إلف النساء، والتخلق بما يوافقهن، وليس مما ذكرته في شيء؛ فمن جعله بمعنى التغزل فقد أخطأ، وقد نبه على ذلك قدامة وأوضحه في كتابه نقد الشعر.
وقال الحاتمي: من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه أن يكون ممزوجا بما بعده من مدح أو ذم، متصلا به، غير منفصل منه، فإن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه، وتعفي معالم جماله، ووجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون من مثل هذه الحال احتراسا يحميهم من شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان.
ومن مختار ما قيل في النسيب قول المرار العدوي.
وهي هيفاء هضيم كشحها ... فخمة حيث يشد المؤتزر
صلتة الخد طويل جيدها ... ضخمة الثدي ولما ينكسر
يضرب السبعون في خلخالها ... فإذا ما أكرهته ينكسر
لا تمس الأرض إلا دونها ... عن بلاط الأرض ثوب منعفر
تطأ الخز ولا تكرمه ... وتطيل الذيل منه وتجر
ثم تنهد على أنماطها ... مثل ما مال كثيب منقعر
عبق العنبر والمسك بها ... فهي صفراء كعرجون العمر
أملح الناس إذا جردتها ... غير سمطين عليها وسور
قال عبد الكريم: هذه أملح وأشرف ما وقع في الوصف، وهي أشبه بنساء الملوك.
وأنشد لغيره:
قليلة لحم الناظرين يزينها ... شباب ومخفوض من العيش بارد
أرادت لتنتاش الرواق فلم أقم ... إليه، ولكن طأطأته الولائد
تناهى إلى لهو الحديث كأنها ... أخو سقطة قد أسلمته العوائد
وأنواع النسيب كثيرة، وهذا الذي أنشدته أفضلها في مذاهب المتقدمين، وللمحدثين طريق غير هذه كثيرة الأنواع أيضا: فما أختار من ذلك ما ناسب قول أبي نواس:
حلت سعاد وأهلها سرفا ... قوما عدى ومحلة قذفا
وكأن سعدي إذ تودعنا ... وقد اشرأب الدمع أن يكفا
رشا تواصين القيان به ... حتى عقدن بأذنه شنفا
فإن هذا في غاية الجودة ونهاية الإحسان، وما ناسب قول مسلم بن الوليد:
أحب التي صدت وقالت لتربها: ... دعيه، الثريا منه أقرب من وصلي
أماتت وأحيت مهجتي فهي عندها ... معلقة بين المواعيد والمطل
وما نلت منها نائلا غير أنني ... بشجو المحبين الألى سلفوا قبلي
بلى، وربما وكلت عيسى بنظرة ... إليها تزيد القلب خبلا على خبل
ومن الجيد قول الوليد بن عبيد البحتري:
رددن ما خففت منه الخصور إلى ... ما في المآزر فاستثقلن أردافا
إذا نضين شفوف الريط آونة ... قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافا
والبحتري أرق الناس نسيبا، وأملحهم طريقة، ألا تسمع قوله:
إني وإن جانبت بعض بطالتي ... وتوهم الواشون أني مقصر
ليشوقني سحر العيون المجتلي ... ويروقني ورد الخدود الأحمر
وشعره من هذا النمط، لا سيما إن ذكر الطيف؛ فإنه الباب الذي شهر به، ولم يكن لأبي تمام حلاوة توجب له حسن التغزل، وإنما يقع له من ذلك التافه اليسير في خلال القصائد، مثل قوله:
بت أرعى الخدود حتى إذا ما ... فارقوني بقيت أرعى النجوما
وقوله أول قصيدة:
أرامة، كنت ما لف كل ريم ... لو استمتعت بالأنس المقيم
أدار البؤس، حسنك التصابي ... إلي فصرت جنات النعيم
ومما ضرم البرجاء أني ... شكوت فما شكوت إلى رحيم
وأما أبو الطيب فمن مليح ما سمعت له قوله:
كئيبا توقاني العواذل في الهوى ... كما يتوقى ريض الخيل حازمه
قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانية، والمتلف الشيء غارمه
سقاك وحيانا بك الله، إنما ... على العيس نور والخدور كمائمه
فقد جاء بأملح شيء وأوفاه من الظرافة والغرابة.
وقوله يذكر ربع أحبابه:
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا
نذم السحاب الغر في فعلها به ... ونعرض عنها كلما طلعت عتبا
وقال في ذكر الديار أيضا:
ودسنا بأخفاف المطي ترابها ... فلا زلت أستشفي بلثم المناسم
ديار اللواتي دارهن عزيزة ... بسمر القنا يحفظن لا بالتمائم
حسان التثني ينقش الوشي مثله ... إذا مسن في أجسامهن النواعم
ويبسمن عن در تقلدن مثله ... كأن التراقي وشحت بالمباسم
ورد جماعة من الكتاب على العتابي، وهو بحلب، وفي يده رقعة، وقد أطال فيها النظر والتأمل، فقال: أرأيتم الرقعة التي كانت في يدي؟ قالوا: نعم، قال: لقد سلك صاحبها واديا ما سلكه غيره، فلله دره، وكان في الرقعة قول أبي نواس:
رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفى عليه بكى عليك طويل
يا ناظرا ما أقلعت لحظاته ... حتى تشحط بينهن قتيل
روى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: أغزل بيت قالته العرب قول عمر بن أبي ربيعة:
فتضاحكن وقد قلن لها: ... حسن في كل عين من تود
وكان الأصمعي يقول: أغزل بيت قالته العرب قول امرئ القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
وحكى عن الوليد بن يزيد بن عبد الملك أنه قال: لم تقل العرب بيتا أغزل من قول جميل بن معمر:
لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل عندهن شهيد
وفضلته بهذا البيت سكينة بنت الحسين بن علي رضوان الله عليهم، وأثابته به دون جماعة من حضر من الشعراء.
وقال بعضهم: الأحوص من أغزل الناس بقوله:
إذا قلت أني مشتف بلقائها ... وحم التلاقي بيننا زادني سقما
وقال غيره: بل جميل بقوله:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقتها فيعود
وقال آخر: بل جرير بقوله:
فلما التقى الحيان ألقيت العصي ... ومات الهوى لما أصيبت مقاتله
والأحوص عندهم أغزلهم في هذه الأبيات الثلاثة؛ لزيادته سقما إذا التقى المحبوب.
وقال الحاتمي: أغزل ما قالته العرب قول أبي صخر:
فيا حبذا زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
وقال أبو عبيدة: ما حفظت شعرا لمحدث، إلا قول أبي نواس:
كأن ثيابه أطلع ... ن من أزراره قمرا
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
بعين خالط التفت ... ير من أجفانها الحورا
وخد سابري لو ... تصوب ماؤه قطرا
وللشعراء أسماء تخف على ألسنتهم وتحلو أفواههم، فهم كثيرا ما يأتون بها زورا نحو: ليلى، وهند، وسلمى، ودعد، ولبنى، وعفراء، وأروى، وريا، وفاطمة، ومية، وعلوة، وعائشة، والرباب، وجمل، وزينب، ونعم، وأشباههن.
ولذلك قال مالك بن زغبة الباهلي، أنشده الأصمعي:
ما كان طبي حبها غير أنه ... يقام بسلمى للقوافي صدورها
وأما عزة وبثينة فقد حماهما كثير وجميل، حتى كأنهما حرما على الشعراء..
وربما أتى الشعراء بالأسماء الكثيرة في القصيدة؛ إقامة للوزن، وتحلية للنسيب، كما قال جرير:
أجد رواح القوم؟ بل لات روحوا ... نعم كل من يعنى بجمل مبرح
ثم قال بعد بيت واحد:
إذا سايرت أسماء يوما ظعائنا ... فأسماء من تلك الظعائن أملح
ظللن حوالي خدر أسماء فانتحى ... بأسماء موار الملاطين أروح
صحا القلب عن أسما وقد برحت به ... وما كان يلقى من تماضر أبرح
وأما قول السيد الحميري:
ولقد تكون بها أوانس كالدمى ... هند وعبدة والرباب وبوزع
فإنه ثقيل من أجل بوزع.
وأنكر هذه اللفظة عبد الملك بن مروان على جرير، فما ظنك بالسيد الحميري؟ وكلما كانت اللظة أحلى كان ذكرها في الشعر اشهى، اللهم إلا أن يكون الشاعر لم يزور الاسم، وإنما قصد الحقيقة لا إقامة الوزن؛ فحينئذ لا ملامة عليه، ما لم يجد في الكنية مندوحة..
وقال يزيد بن أم الحكم:
أمسى بأسماء هذا القلب معمودا ... إذا أقول صحا يعتاده عيدا
كان أحور من غزلان ذي بقر ... أهدى لعائشة العينين والجيدا
على أن بعضهم رواه " أهدى لها شبه العينين " وهو أجود لا محالة، ومثل هذا كثير في أشعار القدماء، ولست أرى مثله من عمل المحدثين صوابا، ولا علمته وقع لأحد منهم، إلا ما ناسب قول السيد المتقدم آنفا، وقول أبي تمام الطائي:
وإن رحلت في ظعنهم وحدوجهم ... زيانب من أحبابنا وعواتك
ومن عيوب هذا الباب أن يكثر التغزل ويقل المديح، كما يحكى عن شاعر أتى نصر بن سيار بأرجوزة فيها مائة بيت نسيبا وعشرة أبيات مديحا، فقال له نصر: والله ما أبقيت كلمة عذبة ولا معنى لطيفا إلا وقد شغلته عن مديحي بنسيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب، فغدا عليه فأنشده:
هل تعرف الدار لأم عمرو؟ ... دع ذا وحبر مدحة في نصر
فقال نصر: لا هذا ولا ذاك، ولكن بين الأمرين.
فأما مذهبه الأول في طول النسيب وقصر المديح فإن نصيبا اتبعه فيه، ولكن ذاك منه إنما كان على اقتراح في القصيدة التي مدح بها بني جبريل، وأما المذهب الثاني فانتحله أبو الطيب في قوله:
واحر قلباه ممن قلبه شبم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم
ثم خرج إلى المدح في البيت الثاني.
ويعاب على الشاعر أن يفتخر أو يتعاطى فوق قدره، كما أخذ على عباس قوله:
فإن تقتلوني لا تفوتوا بمهجتي ... مصاليت قومي من حنيفة أو عجل
وعيب على الفرزدق وهو صميم بني تميم قوله:
يا أخت ناجية بن سامة إنني ... أخشى عليك بني إن طلبوا دمي
اللهم إلا أن يكون النسيب الذي يصنع مجازا كالذي في بسط القصائد، فإن ذلك لا بأس به، ولا مكروه فيه.
وسمع ابن أبي عتيق قول ابن أبي ربيعة المخزومي:
بينما ينعتنني أبصرنني ... دون قيد الميل يعدو بي الأغر
قالت الكبرى: أتعرفن الفتى؟ ... قالت الوسطى: نعم، هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها: ... قد عرفناه، وهل يخفى القمر!؟
فقال له: أنت لم تنسب بهن، وإنما نسبت بنفسك، وإنما كان ينبغي لك أن تقول: قالت لي فقلت لها، فوضعت خدي فوطئت عليه.
وكذلك قال له كثير لما سمع قوله:
قالت لها أختها تعاتبها ... لا تفسدن الطواف في عمر
قومي تصدي له لأبصره ... ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها: قد غمزته فأبى ... ثم اسبطرت تشتد في أثري
أهكذا يقال للمرأة؟؟ إنما توصف بأنها مطلوبة ممتنعة.
قال بعضهم أظنه عبد الكريم: العادة عند العرب أن الشاعر هو المتغزل المتماوت، وعادة العجم أن يجعلوا المرأة هي الطالبة والراغبة المخاطبة، وهنا دليل كرم النجيزة في العرب وغيرتها على الحرم.
وعاب كثير على نصيب قوله:
أهيم بدعد ما حييت، فإن أمت ... فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي
حتى إنه قال له: كأنك اغتممت لمن يفعل بها بعدك، وهو لا يكنى..
ومثل هذه الحكاية ما قاله بعض الكتاب وقد دخل على علي بن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وهو محبوس فقال: أين هذا الجعفري الذي يتديث في شعره؟ قال علي: فعلمت أنه يريدني لقولي:
ولما بدا لي أنها لا تحبني ... وأن هواها ليس عني بمنجلي
تمنيت أن تهوى سواي، لعلها ... تذوق صبابات الهوى فترق لي
فما كان إلا عن قليل وأشغفت ... بحب غزال أدعج الطرف أكحل
وعذبها حتى أذاب فؤادها ... وذوقها طعم الهوى والتذلل
فقلت لها: هذا بهذا، فأطرقت ... حياء، وقالت: كل من عايب ابتلي
فقلت: أنا هو جعلت فداك، وأنا الذي أقول في الغيرة:
ربما سرني صدودك عني ... وطلابيك وامتناعك مني
حذرا أن أكون مفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنت التمني
ويعاب ما ناسب قول الآخر، وهو جميل:
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي
لأن الصواب قول عباس، أو مسلم:
أبكي وقد ذهب الفؤاد، وإنما ... أبكي لفقدك لا لفقد الذاهب
فأما طرد الخيال والمجاورة في المحبة فهو مذهب مشهور، وقد ركبه جلة الشعراء، ورواه رواة: منهم طرفة، ولبيد، ثم جرير، ثم جميل، فقال طرفة، وهو أول من طرقه:
فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها، فإني واصل حبل من وصل
وقال لبيد في مثل ذلك:
فاقطع لبانة من تعرض وصله ... ولشر واصل خلة صرامها
يقول: اقطع المزار ممن تعرض وصله للقطيعة ويقال: تعرض الشيء، إذا فسد، حكاه الخليل فإن شر من وصلك من قطعك بلا ذنب، يريد
الذي تعرض وصله، ومن الناس من رواه ولخير واصل خلة صرامها يقول: إن خير من وصل الخلة من قطعها باستحقاق، يعني نفسه..
وقال جرير:
طرقتك صائدة القلوب، وليس ذا ... وقت الزيارة، فارجعي بسلام
على أن قوما زعموا أنه كان محرما، فلذلك طرد الخيال، كأنه تحرج وليس طرد عتب.
وقال جميل:
ولست وإن عزت علي بقائل ... لها بعد صرم: يا بثين صليني
وجرى على سنن هؤلاء جماعة من المولدين، واعتقدوا هذا المبدأ قولا وفعلا، حتى تعداه بعضهم إلى القتل، مثل عبد السلام بن رغبان، ونصر الخابز أرز ومن شاكلهما من الشطار، إلا أن أصل هذا المذهب عند قدامة فاسد، وعاب عن نابغة بني تغلب واسمه الحارث بن عدوان، أحد بني زيد بن عمرو بن غنم بن تغلب قوله:
بخلنا لبخلك لو تعلمين ... وكيف يعيب بخيل بخيلا؟
لأن الواجب عنده في التغزل أن يكون على خلاف هذا، وكل ما لا يليق بالمحبوب فهو مكروه في باب النسيب.
قالت عزة لكثير يوما ويقال بثينة ما أردت بنا حين قلت:
وددت وبيت الله أنك بكرة ... وأني هجان مصعب ثم نهرب
كلانا به عر فمن يرنا يقل ... على حسنها جرباء تعدى وأجرب
نكون لذى مال كثير مغفل ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب
إذا ما وردنا منهلا صاح أهله ... علينا، فلا ننفك نرمى ونضرب
لقد أردت بنا الشقاء، أما وجدت أمنية أوطأ من هذه؟! فخرج من عندها خجلا وإنما اقتدى بالفرزدق حيث يقول، وهذا من سوء الأتباع:
ألا ليتنا كنا بعيرين لا نرد ... على حاضر إلا نشل ونقذف
كلانا به عر يخاف قرافه ... على الناس مطلي الأشاعر أخشف
بأرض خلاء وحدنا وثيابنا ... من الريط والديباج درع وملحف
ولا زاد إلا فضلتان: سلافة ... وأبيض من ماء الغمامة قرقف
وأشلاء لحم من حباري يصيدها ... إذا نحن شئنا صاحب متألف
لنا ما تمنينا من العيش مادعا ... هديلا بنعمان حمائم هتف
وإذا كان بعيرا فما هذه الأمنية التي كلها للحيوان الناطق؟ لولا أنه ردها إلى نفسه حقيقة، وإلا فما أملح الجمل نشوان يصيد الحباري بالبازي.
ومعايب هذا الباب كثيرة، وفما قدمت منها دليل على باقيها.
واشتقاق التشبيب يجوز أن يكون من ذكر الشبيبة، وأصله الإرتفاع، كأن الشباب ارتفع عن حال الطفولية، أو رفع صاحبه، ويقال: شب الفرس، إذا رفع يديه وقام على رجليه.
قال الجاحظ: يقال شبت شبوبا، وشب الفرس بيديه فهو يشب شبيبا، ويقال: مالك عضاض ولا شباب، انقضى كلامه.
ويجوز أن يكون من الجلاء، يقال: شب الحمار وجه الجارية، إذا جلاه ووصف ما تحته من محاسنه؛ فكأن هذا الشاعر قد أبرز هذه الجارية في صفته إياها وجلاها للعيون، ومنه الشب الذي يجتلي به وجوه الدنانير، ويستخرج غشها، ومنها: شببت النار، إذا رفعت سناها وزدتها ضياء.
وأنشد الأصمعي لعكاشة بن أبي مسعدة: يدفع عنها كل مشبوب أغر قال: المشبوب الذي إذا رأيته فزعت لحسنه.. قال ابن دريد: شببت في الشعر شبيبا، مثل نسبت نسيبا، والنسيب أكثر ما يستعمل في الشعر.
كتاب: العمدة في محاسن الشعر وآدابه
المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)
المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد
* كتاب: العمدة في محاسن الشعر وآدابه
المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)
المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد
.
حق النسيب أن يكون حلو الألفاظ رسلها، قريب المعاني سهلها، غير كز ولا غامض، وأن يختار له من الكلام ما كان ظاهر المعنى، لين الإيثار، رطب المكسر، شفاف الجوهر، يطرب الحزين، ويستخف الرصين.
وروى أبو علي إسماعيل بن القاسم، عن ابن دريد، عن أبي حاتم، عن الأصمعي، عن أبي عمرو بن العلاء، عن رواية كثير قال: كنت مع جرير وهو يريد الشام فطرب، وقال: أنشدني لأخي بني مليح يعني كثيرا فأنشدته حتى انتهيت إلى قوله:
وأدنيتني حتى إذا ما سنيتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح
تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وخلفت ما خلفت بين الجوانح
فقال: لولا أنه لا يحسن بشيخ مثلي النخير لنخرت حتى يسمع هشام على سريره..
وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحدا لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.
والنسيب والتغزل والتشبيب كلها بمعنى واحد.. وأما الغزل فهو إلف النساء، والتخلق بما يوافقهن، وليس مما ذكرته في شيء؛ فمن جعله بمعنى التغزل فقد أخطأ، وقد نبه على ذلك قدامة وأوضحه في كتابه نقد الشعر.
وقال الحاتمي: من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه أن يكون ممزوجا بما بعده من مدح أو ذم، متصلا به، غير منفصل منه، فإن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه، وتعفي معالم جماله، ووجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون من مثل هذه الحال احتراسا يحميهم من شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان.
ومن مختار ما قيل في النسيب قول المرار العدوي.
وهي هيفاء هضيم كشحها ... فخمة حيث يشد المؤتزر
صلتة الخد طويل جيدها ... ضخمة الثدي ولما ينكسر
يضرب السبعون في خلخالها ... فإذا ما أكرهته ينكسر
لا تمس الأرض إلا دونها ... عن بلاط الأرض ثوب منعفر
تطأ الخز ولا تكرمه ... وتطيل الذيل منه وتجر
ثم تنهد على أنماطها ... مثل ما مال كثيب منقعر
عبق العنبر والمسك بها ... فهي صفراء كعرجون العمر
أملح الناس إذا جردتها ... غير سمطين عليها وسور
قال عبد الكريم: هذه أملح وأشرف ما وقع في الوصف، وهي أشبه بنساء الملوك.
وأنشد لغيره:
قليلة لحم الناظرين يزينها ... شباب ومخفوض من العيش بارد
أرادت لتنتاش الرواق فلم أقم ... إليه، ولكن طأطأته الولائد
تناهى إلى لهو الحديث كأنها ... أخو سقطة قد أسلمته العوائد
وأنواع النسيب كثيرة، وهذا الذي أنشدته أفضلها في مذاهب المتقدمين، وللمحدثين طريق غير هذه كثيرة الأنواع أيضا: فما أختار من ذلك ما ناسب قول أبي نواس:
حلت سعاد وأهلها سرفا ... قوما عدى ومحلة قذفا
وكأن سعدي إذ تودعنا ... وقد اشرأب الدمع أن يكفا
رشا تواصين القيان به ... حتى عقدن بأذنه شنفا
فإن هذا في غاية الجودة ونهاية الإحسان، وما ناسب قول مسلم بن الوليد:
أحب التي صدت وقالت لتربها: ... دعيه، الثريا منه أقرب من وصلي
أماتت وأحيت مهجتي فهي عندها ... معلقة بين المواعيد والمطل
وما نلت منها نائلا غير أنني ... بشجو المحبين الألى سلفوا قبلي
بلى، وربما وكلت عيسى بنظرة ... إليها تزيد القلب خبلا على خبل
ومن الجيد قول الوليد بن عبيد البحتري:
رددن ما خففت منه الخصور إلى ... ما في المآزر فاستثقلن أردافا
إذا نضين شفوف الريط آونة ... قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافا
والبحتري أرق الناس نسيبا، وأملحهم طريقة، ألا تسمع قوله:
إني وإن جانبت بعض بطالتي ... وتوهم الواشون أني مقصر
ليشوقني سحر العيون المجتلي ... ويروقني ورد الخدود الأحمر
وشعره من هذا النمط، لا سيما إن ذكر الطيف؛ فإنه الباب الذي شهر به، ولم يكن لأبي تمام حلاوة توجب له حسن التغزل، وإنما يقع له من ذلك التافه اليسير في خلال القصائد، مثل قوله:
بت أرعى الخدود حتى إذا ما ... فارقوني بقيت أرعى النجوما
وقوله أول قصيدة:
أرامة، كنت ما لف كل ريم ... لو استمتعت بالأنس المقيم
أدار البؤس، حسنك التصابي ... إلي فصرت جنات النعيم
ومما ضرم البرجاء أني ... شكوت فما شكوت إلى رحيم
وأما أبو الطيب فمن مليح ما سمعت له قوله:
كئيبا توقاني العواذل في الهوى ... كما يتوقى ريض الخيل حازمه
قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانية، والمتلف الشيء غارمه
سقاك وحيانا بك الله، إنما ... على العيس نور والخدور كمائمه
فقد جاء بأملح شيء وأوفاه من الظرافة والغرابة.
وقوله يذكر ربع أحبابه:
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا
نذم السحاب الغر في فعلها به ... ونعرض عنها كلما طلعت عتبا
وقال في ذكر الديار أيضا:
ودسنا بأخفاف المطي ترابها ... فلا زلت أستشفي بلثم المناسم
ديار اللواتي دارهن عزيزة ... بسمر القنا يحفظن لا بالتمائم
حسان التثني ينقش الوشي مثله ... إذا مسن في أجسامهن النواعم
ويبسمن عن در تقلدن مثله ... كأن التراقي وشحت بالمباسم
ورد جماعة من الكتاب على العتابي، وهو بحلب، وفي يده رقعة، وقد أطال فيها النظر والتأمل، فقال: أرأيتم الرقعة التي كانت في يدي؟ قالوا: نعم، قال: لقد سلك صاحبها واديا ما سلكه غيره، فلله دره، وكان في الرقعة قول أبي نواس:
رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفى عليه بكى عليك طويل
يا ناظرا ما أقلعت لحظاته ... حتى تشحط بينهن قتيل
روى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: أغزل بيت قالته العرب قول عمر بن أبي ربيعة:
فتضاحكن وقد قلن لها: ... حسن في كل عين من تود
وكان الأصمعي يقول: أغزل بيت قالته العرب قول امرئ القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
وحكى عن الوليد بن يزيد بن عبد الملك أنه قال: لم تقل العرب بيتا أغزل من قول جميل بن معمر:
لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل عندهن شهيد
وفضلته بهذا البيت سكينة بنت الحسين بن علي رضوان الله عليهم، وأثابته به دون جماعة من حضر من الشعراء.
وقال بعضهم: الأحوص من أغزل الناس بقوله:
إذا قلت أني مشتف بلقائها ... وحم التلاقي بيننا زادني سقما
وقال غيره: بل جميل بقوله:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقتها فيعود
وقال آخر: بل جرير بقوله:
فلما التقى الحيان ألقيت العصي ... ومات الهوى لما أصيبت مقاتله
والأحوص عندهم أغزلهم في هذه الأبيات الثلاثة؛ لزيادته سقما إذا التقى المحبوب.
وقال الحاتمي: أغزل ما قالته العرب قول أبي صخر:
فيا حبذا زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
وقال أبو عبيدة: ما حفظت شعرا لمحدث، إلا قول أبي نواس:
كأن ثيابه أطلع ... ن من أزراره قمرا
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
بعين خالط التفت ... ير من أجفانها الحورا
وخد سابري لو ... تصوب ماؤه قطرا
وللشعراء أسماء تخف على ألسنتهم وتحلو أفواههم، فهم كثيرا ما يأتون بها زورا نحو: ليلى، وهند، وسلمى، ودعد، ولبنى، وعفراء، وأروى، وريا، وفاطمة، ومية، وعلوة، وعائشة، والرباب، وجمل، وزينب، ونعم، وأشباههن.
ولذلك قال مالك بن زغبة الباهلي، أنشده الأصمعي:
ما كان طبي حبها غير أنه ... يقام بسلمى للقوافي صدورها
وأما عزة وبثينة فقد حماهما كثير وجميل، حتى كأنهما حرما على الشعراء..
وربما أتى الشعراء بالأسماء الكثيرة في القصيدة؛ إقامة للوزن، وتحلية للنسيب، كما قال جرير:
أجد رواح القوم؟ بل لات روحوا ... نعم كل من يعنى بجمل مبرح
ثم قال بعد بيت واحد:
إذا سايرت أسماء يوما ظعائنا ... فأسماء من تلك الظعائن أملح
ظللن حوالي خدر أسماء فانتحى ... بأسماء موار الملاطين أروح
صحا القلب عن أسما وقد برحت به ... وما كان يلقى من تماضر أبرح
وأما قول السيد الحميري:
ولقد تكون بها أوانس كالدمى ... هند وعبدة والرباب وبوزع
فإنه ثقيل من أجل بوزع.
وأنكر هذه اللفظة عبد الملك بن مروان على جرير، فما ظنك بالسيد الحميري؟ وكلما كانت اللظة أحلى كان ذكرها في الشعر اشهى، اللهم إلا أن يكون الشاعر لم يزور الاسم، وإنما قصد الحقيقة لا إقامة الوزن؛ فحينئذ لا ملامة عليه، ما لم يجد في الكنية مندوحة..
وقال يزيد بن أم الحكم:
أمسى بأسماء هذا القلب معمودا ... إذا أقول صحا يعتاده عيدا
كان أحور من غزلان ذي بقر ... أهدى لعائشة العينين والجيدا
على أن بعضهم رواه " أهدى لها شبه العينين " وهو أجود لا محالة، ومثل هذا كثير في أشعار القدماء، ولست أرى مثله من عمل المحدثين صوابا، ولا علمته وقع لأحد منهم، إلا ما ناسب قول السيد المتقدم آنفا، وقول أبي تمام الطائي:
وإن رحلت في ظعنهم وحدوجهم ... زيانب من أحبابنا وعواتك
ومن عيوب هذا الباب أن يكثر التغزل ويقل المديح، كما يحكى عن شاعر أتى نصر بن سيار بأرجوزة فيها مائة بيت نسيبا وعشرة أبيات مديحا، فقال له نصر: والله ما أبقيت كلمة عذبة ولا معنى لطيفا إلا وقد شغلته عن مديحي بنسيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب، فغدا عليه فأنشده:
هل تعرف الدار لأم عمرو؟ ... دع ذا وحبر مدحة في نصر
فقال نصر: لا هذا ولا ذاك، ولكن بين الأمرين.
فأما مذهبه الأول في طول النسيب وقصر المديح فإن نصيبا اتبعه فيه، ولكن ذاك منه إنما كان على اقتراح في القصيدة التي مدح بها بني جبريل، وأما المذهب الثاني فانتحله أبو الطيب في قوله:
واحر قلباه ممن قلبه شبم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم
ثم خرج إلى المدح في البيت الثاني.
ويعاب على الشاعر أن يفتخر أو يتعاطى فوق قدره، كما أخذ على عباس قوله:
فإن تقتلوني لا تفوتوا بمهجتي ... مصاليت قومي من حنيفة أو عجل
وعيب على الفرزدق وهو صميم بني تميم قوله:
يا أخت ناجية بن سامة إنني ... أخشى عليك بني إن طلبوا دمي
اللهم إلا أن يكون النسيب الذي يصنع مجازا كالذي في بسط القصائد، فإن ذلك لا بأس به، ولا مكروه فيه.
وسمع ابن أبي عتيق قول ابن أبي ربيعة المخزومي:
بينما ينعتنني أبصرنني ... دون قيد الميل يعدو بي الأغر
قالت الكبرى: أتعرفن الفتى؟ ... قالت الوسطى: نعم، هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها: ... قد عرفناه، وهل يخفى القمر!؟
فقال له: أنت لم تنسب بهن، وإنما نسبت بنفسك، وإنما كان ينبغي لك أن تقول: قالت لي فقلت لها، فوضعت خدي فوطئت عليه.
وكذلك قال له كثير لما سمع قوله:
قالت لها أختها تعاتبها ... لا تفسدن الطواف في عمر
قومي تصدي له لأبصره ... ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها: قد غمزته فأبى ... ثم اسبطرت تشتد في أثري
أهكذا يقال للمرأة؟؟ إنما توصف بأنها مطلوبة ممتنعة.
قال بعضهم أظنه عبد الكريم: العادة عند العرب أن الشاعر هو المتغزل المتماوت، وعادة العجم أن يجعلوا المرأة هي الطالبة والراغبة المخاطبة، وهنا دليل كرم النجيزة في العرب وغيرتها على الحرم.
وعاب كثير على نصيب قوله:
أهيم بدعد ما حييت، فإن أمت ... فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي
حتى إنه قال له: كأنك اغتممت لمن يفعل بها بعدك، وهو لا يكنى..
ومثل هذه الحكاية ما قاله بعض الكتاب وقد دخل على علي بن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وهو محبوس فقال: أين هذا الجعفري الذي يتديث في شعره؟ قال علي: فعلمت أنه يريدني لقولي:
ولما بدا لي أنها لا تحبني ... وأن هواها ليس عني بمنجلي
تمنيت أن تهوى سواي، لعلها ... تذوق صبابات الهوى فترق لي
فما كان إلا عن قليل وأشغفت ... بحب غزال أدعج الطرف أكحل
وعذبها حتى أذاب فؤادها ... وذوقها طعم الهوى والتذلل
فقلت لها: هذا بهذا، فأطرقت ... حياء، وقالت: كل من عايب ابتلي
فقلت: أنا هو جعلت فداك، وأنا الذي أقول في الغيرة:
ربما سرني صدودك عني ... وطلابيك وامتناعك مني
حذرا أن أكون مفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنت التمني
ويعاب ما ناسب قول الآخر، وهو جميل:
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي
لأن الصواب قول عباس، أو مسلم:
أبكي وقد ذهب الفؤاد، وإنما ... أبكي لفقدك لا لفقد الذاهب
فأما طرد الخيال والمجاورة في المحبة فهو مذهب مشهور، وقد ركبه جلة الشعراء، ورواه رواة: منهم طرفة، ولبيد، ثم جرير، ثم جميل، فقال طرفة، وهو أول من طرقه:
فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها، فإني واصل حبل من وصل
وقال لبيد في مثل ذلك:
فاقطع لبانة من تعرض وصله ... ولشر واصل خلة صرامها
يقول: اقطع المزار ممن تعرض وصله للقطيعة ويقال: تعرض الشيء، إذا فسد، حكاه الخليل فإن شر من وصلك من قطعك بلا ذنب، يريد
الذي تعرض وصله، ومن الناس من رواه ولخير واصل خلة صرامها يقول: إن خير من وصل الخلة من قطعها باستحقاق، يعني نفسه..
وقال جرير:
طرقتك صائدة القلوب، وليس ذا ... وقت الزيارة، فارجعي بسلام
على أن قوما زعموا أنه كان محرما، فلذلك طرد الخيال، كأنه تحرج وليس طرد عتب.
وقال جميل:
ولست وإن عزت علي بقائل ... لها بعد صرم: يا بثين صليني
وجرى على سنن هؤلاء جماعة من المولدين، واعتقدوا هذا المبدأ قولا وفعلا، حتى تعداه بعضهم إلى القتل، مثل عبد السلام بن رغبان، ونصر الخابز أرز ومن شاكلهما من الشطار، إلا أن أصل هذا المذهب عند قدامة فاسد، وعاب عن نابغة بني تغلب واسمه الحارث بن عدوان، أحد بني زيد بن عمرو بن غنم بن تغلب قوله:
بخلنا لبخلك لو تعلمين ... وكيف يعيب بخيل بخيلا؟
لأن الواجب عنده في التغزل أن يكون على خلاف هذا، وكل ما لا يليق بالمحبوب فهو مكروه في باب النسيب.
قالت عزة لكثير يوما ويقال بثينة ما أردت بنا حين قلت:
وددت وبيت الله أنك بكرة ... وأني هجان مصعب ثم نهرب
كلانا به عر فمن يرنا يقل ... على حسنها جرباء تعدى وأجرب
نكون لذى مال كثير مغفل ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب
إذا ما وردنا منهلا صاح أهله ... علينا، فلا ننفك نرمى ونضرب
لقد أردت بنا الشقاء، أما وجدت أمنية أوطأ من هذه؟! فخرج من عندها خجلا وإنما اقتدى بالفرزدق حيث يقول، وهذا من سوء الأتباع:
ألا ليتنا كنا بعيرين لا نرد ... على حاضر إلا نشل ونقذف
كلانا به عر يخاف قرافه ... على الناس مطلي الأشاعر أخشف
بأرض خلاء وحدنا وثيابنا ... من الريط والديباج درع وملحف
ولا زاد إلا فضلتان: سلافة ... وأبيض من ماء الغمامة قرقف
وأشلاء لحم من حباري يصيدها ... إذا نحن شئنا صاحب متألف
لنا ما تمنينا من العيش مادعا ... هديلا بنعمان حمائم هتف
وإذا كان بعيرا فما هذه الأمنية التي كلها للحيوان الناطق؟ لولا أنه ردها إلى نفسه حقيقة، وإلا فما أملح الجمل نشوان يصيد الحباري بالبازي.
ومعايب هذا الباب كثيرة، وفما قدمت منها دليل على باقيها.
واشتقاق التشبيب يجوز أن يكون من ذكر الشبيبة، وأصله الإرتفاع، كأن الشباب ارتفع عن حال الطفولية، أو رفع صاحبه، ويقال: شب الفرس، إذا رفع يديه وقام على رجليه.
قال الجاحظ: يقال شبت شبوبا، وشب الفرس بيديه فهو يشب شبيبا، ويقال: مالك عضاض ولا شباب، انقضى كلامه.
ويجوز أن يكون من الجلاء، يقال: شب الحمار وجه الجارية، إذا جلاه ووصف ما تحته من محاسنه؛ فكأن هذا الشاعر قد أبرز هذه الجارية في صفته إياها وجلاها للعيون، ومنه الشب الذي يجتلي به وجوه الدنانير، ويستخرج غشها، ومنها: شببت النار، إذا رفعت سناها وزدتها ضياء.
وأنشد الأصمعي لعكاشة بن أبي مسعدة: يدفع عنها كل مشبوب أغر قال: المشبوب الذي إذا رأيته فزعت لحسنه.. قال ابن دريد: شببت في الشعر شبيبا، مثل نسبت نسيبا، والنسيب أكثر ما يستعمل في الشعر.
كتاب: العمدة في محاسن الشعر وآدابه
المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)
المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد
* كتاب: العمدة في محاسن الشعر وآدابه
المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)
المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد
.
صورة مفقودة