نقوس المهدي
كاتب
تبدو الثيمات الإيروسية حتى في أكثر تفاصيلها براءةً كما لو أنها تمثِّل العنصر الأكثر إلحاحاً في المقاربات النقدية التي تتناول السرديات التي يتم إنجازها باللغة العربية، نشير إلى “اللغة العربية” حتى يتم فرز هذه السرديات عن تلك التي يشملها التعميم الواسع لتعبير “البلدان العربية” حيث يتصدى بضع قصّاص لتأليف روايات وقصص قصيرة تُكتب بلغات مغايرة. لماذا تكون الإيروسية ملحة ومثيرة للجدل هنا وفي هذا الوقت بالذات؟ ثم هل هناك حدود قصوى حمراء يمكن للكاتب تحريها أوان كتابة عمل سردي؟ وما هي فاعلية الإكراهات خارج نطاق العمل السردي التي تستهدف تكييفه بحيث يصير “ملائماً” لشروط الجهات التي تتصدى لنقد النص بتأويله وتفكيكه بل وتقييمه في الحالات الأكثر مغامرة؟
تندس الآيديولوجيا في ثنايا كل القراءات التي تتناول النصوص السردية بالنقد. لكن في المقابل، النصوص السردية ذاتها ليست في مأمن من براثن الآيديولوجيا. إنه المصير الماحق التي يتربص بكافة أنواع القول في ظل عنفوان الصراع على السُلَط (جمع سلطة)، بما فيها سلطة حيازة الخطاب نفسه وتجييره أو/ وتحييده، في الغالب الأعم بقصد السيطرة على كل ما يُستطاع الإمساك بها من سُلَط، بما فيها تلك المتعلقة بالثراء والبطش والحب والكراهية فتغدو لعبة الحيازة منطوية على متاهة من العلاقات الجدلية المتلاحقة.
تبرز الطهرانية كعنصر حاسم لمن يتخذ لجاجاً يقوم على تبجيل التابوهات التي تتأسس على عناصر تتعلق بالدين أو الثقافة. لكن على النقيض تتيح الثقافة ويتيح الدين في الفضاء العربسلامي حرية متناهية في تناول قضايا الجنس منذ عصور سحيقة، ويتم حالياً بصورة سافرة وعلى مرأى ومشهد من رواد قنوات التلفزيون بأعمارهم كافة الخوض في تفاصيل غاية في الدقة تختص بالعلاقات وبالأعضاء الحميمة لجماعات المتدينين. أيضاً لا تبدو الإيروسية مشينة حال ورودها في النصوص الشفاهية والمكتوبة في سياقات أخرى، طبية، قانونية، تربوية وهلمّ جرّا. وفي هذا الفضاء الذي يجتاحه عنف لا يعرف الشفقة بغرض الاستحواذ على السُلط كافة تحاول الجماعات (المتديِّنة) بَسط هيمنة طهرانية فيما تتيح تمرير بورنوغرافيا والغة في تاريخانيتها تخصها هي فيتم على نحو عملي بعث قيم الفتيا الغابرة كالسبي والاسترقاق ورضاعة الكبير.
بعض السرد، كما هو حال الشعر، بنظر الدين هو في مجمله فضاء لممارسة اللهو وبث الغواية. لذلك يلتجئ الفقهاء الأكثر صرامة إلى النفخ على الصافرة باستمرار وبأعلى ما يمكن بهدف إيقاف اللعبة. في المقابل يمكن إحصاء شواهد عديدة يمسى فيها اللهو نفسه غاية آمنة للترويح من وجهة نظر دينية. لكن الفقه في نسخته الأكثر تسامحاً ينطلق في تأويل النصوص من المصدر نفسه الذي يتأسس عليها السرد، أي اللغة الشعرية في تساميها الخلاق وبلاغتها الرفيعة. ها هو الصحابي، إبن عم النبي، عبد الله بن عباس يقول: “إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر. فإن الشعر ديوان العرب”. وفي ردوده على مسائل نافع بن الأزرق المتعلقة بتفسير القرآن، لا يتردد ابن عباس مطلقاً في تفسير التعبير القرآني (إذا أثمر وينعه) عن الاستشهاد ببليغ شعر العرب في الغزل:
(إذا مـا مشـت وسط النســاء تأودت كمـا اهتزغصن نـاعم النبـت يانـع).
في فزعهم العظيم بإزاء السلط الأمضى نجاعة في مصادرة النصوص وفرض الرقابة، ينبطح القصاص والروائيون والنقاد الأشد ميلاً للحفاظ على الوضع الحالي (الاستيسكو). بل يتبرع كثر بإفشاء الأضاليل حول أي النصوص السردية هي “الأفضل والأكثر رواجاً” فيتم “التبشير” لسرد بريء هو في أغلب الظن نتاج للرهبة أو الرهبنة أو كليهما وتمارس الرقابة الداخلية والخارجية، وهما على كل حال تشتغلان على نحو متسق ومتبادل، فعلهما بكفاءة وغلظة مما يتيح لانتشار زائف يقوم على رضا المؤسسات التي تهب القبول السياسي والاجتماعي والجوائز الأدبية السنية في الوقت نفسه.
وعلى العكس، يحتفي الأدب العربي والإسلامي على حدٍّ سواء بالنصوص الأنصع إيروسية وكاتبيها الأوفر مجوناً كما هو الحال مع نماذج (كتاب الأغاني) وقصص (ألف ليلة وليلة) وقصيدة النابغة في المتجردة وأشعار امروء القيس وأبو نواس مثلاً. وباستعراض سريع لكتابات اللغويين والنقاد العرب الأقدمين تتبين الشقة التي تفصل بين جرأتهم وبؤس من تناولنا بالوصف من النقاد والقصاص المحدثين بحيائهم الزائف لنكتشف أن كثيراً من الكتابات المعاصرة مضت في اتجاه يناقض التقدم ويمضي في اتجاه تقاليد تلتزم الخنوع المطلق بهدف إرضاء القطاعات السلطوية المحافظة.
يشترط النقاد في أحوال عديدة شروط غامضة للتسامح مع إدراج الجنس في النصوص السردية كأن يكون ضرورياً لتطور الأحداث والشخصيات. لكن الجنس نفسه يمكن أن يكون موضوعاً أثيراً لكاتب النص السردي مثلما كان دائماً موضوعاً مفضلاً لكتبة نصوص التحليل النفسي وفقه الأحوال الشخصية وطب المسالك البولية مثلاً. لقد تميزت التفاصيل السردية الإيروسية الأكثر حميمية عند كتاب مرموقين عديدين بمزايا درامية غاية في الجمال وبالمقابل تحولت معظم السرديات التي تركن، من ألفها إلى يائها، إلى طهرانية صفراء فاقعة إلى تفاصيل قصصية بائخة إلى أقصى حد. بالطبع لن يكون الجنس هو هاجس الرواية أو القصة العظيمة من الغلاف إلى الغلاف مثلما لن تكون الحرب مثلاً هي وسواسها الأوحد. لكن في عالم ما فتئ إنسانه منذ الأزل، أوان الهبوط المأساوي “لآدم وحواء”، من الجنة، ممسوساً بالحب، لا مندوحة من اختلاق حكايات إيروسية لا انقضاء لها. وعندما تحاول شهرزاد في ألف ليلة وليلة سرد قصة في العشق خالدة، لا نهاية لها، فإنما كانت تحاول اجتناب مصير جديها، آدم وحواء، اللذين سقطا من سماوات الأزل إلى أرضين الفناء، وعلى عكس الجدين اللذين يودي بهما الحب، إذ بدت لهما سوءتهما، إلى الموت، يضمن الحب لشهرزاد، الانتصار على شبح الهلاك الذي سُلِّط سيفه على رقبتها.
*روائي من السودان
تندس الآيديولوجيا في ثنايا كل القراءات التي تتناول النصوص السردية بالنقد. لكن في المقابل، النصوص السردية ذاتها ليست في مأمن من براثن الآيديولوجيا. إنه المصير الماحق التي يتربص بكافة أنواع القول في ظل عنفوان الصراع على السُلَط (جمع سلطة)، بما فيها سلطة حيازة الخطاب نفسه وتجييره أو/ وتحييده، في الغالب الأعم بقصد السيطرة على كل ما يُستطاع الإمساك بها من سُلَط، بما فيها تلك المتعلقة بالثراء والبطش والحب والكراهية فتغدو لعبة الحيازة منطوية على متاهة من العلاقات الجدلية المتلاحقة.
تبرز الطهرانية كعنصر حاسم لمن يتخذ لجاجاً يقوم على تبجيل التابوهات التي تتأسس على عناصر تتعلق بالدين أو الثقافة. لكن على النقيض تتيح الثقافة ويتيح الدين في الفضاء العربسلامي حرية متناهية في تناول قضايا الجنس منذ عصور سحيقة، ويتم حالياً بصورة سافرة وعلى مرأى ومشهد من رواد قنوات التلفزيون بأعمارهم كافة الخوض في تفاصيل غاية في الدقة تختص بالعلاقات وبالأعضاء الحميمة لجماعات المتدينين. أيضاً لا تبدو الإيروسية مشينة حال ورودها في النصوص الشفاهية والمكتوبة في سياقات أخرى، طبية، قانونية، تربوية وهلمّ جرّا. وفي هذا الفضاء الذي يجتاحه عنف لا يعرف الشفقة بغرض الاستحواذ على السُلط كافة تحاول الجماعات (المتديِّنة) بَسط هيمنة طهرانية فيما تتيح تمرير بورنوغرافيا والغة في تاريخانيتها تخصها هي فيتم على نحو عملي بعث قيم الفتيا الغابرة كالسبي والاسترقاق ورضاعة الكبير.
بعض السرد، كما هو حال الشعر، بنظر الدين هو في مجمله فضاء لممارسة اللهو وبث الغواية. لذلك يلتجئ الفقهاء الأكثر صرامة إلى النفخ على الصافرة باستمرار وبأعلى ما يمكن بهدف إيقاف اللعبة. في المقابل يمكن إحصاء شواهد عديدة يمسى فيها اللهو نفسه غاية آمنة للترويح من وجهة نظر دينية. لكن الفقه في نسخته الأكثر تسامحاً ينطلق في تأويل النصوص من المصدر نفسه الذي يتأسس عليها السرد، أي اللغة الشعرية في تساميها الخلاق وبلاغتها الرفيعة. ها هو الصحابي، إبن عم النبي، عبد الله بن عباس يقول: “إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر. فإن الشعر ديوان العرب”. وفي ردوده على مسائل نافع بن الأزرق المتعلقة بتفسير القرآن، لا يتردد ابن عباس مطلقاً في تفسير التعبير القرآني (إذا أثمر وينعه) عن الاستشهاد ببليغ شعر العرب في الغزل:
(إذا مـا مشـت وسط النســاء تأودت كمـا اهتزغصن نـاعم النبـت يانـع).
في فزعهم العظيم بإزاء السلط الأمضى نجاعة في مصادرة النصوص وفرض الرقابة، ينبطح القصاص والروائيون والنقاد الأشد ميلاً للحفاظ على الوضع الحالي (الاستيسكو). بل يتبرع كثر بإفشاء الأضاليل حول أي النصوص السردية هي “الأفضل والأكثر رواجاً” فيتم “التبشير” لسرد بريء هو في أغلب الظن نتاج للرهبة أو الرهبنة أو كليهما وتمارس الرقابة الداخلية والخارجية، وهما على كل حال تشتغلان على نحو متسق ومتبادل، فعلهما بكفاءة وغلظة مما يتيح لانتشار زائف يقوم على رضا المؤسسات التي تهب القبول السياسي والاجتماعي والجوائز الأدبية السنية في الوقت نفسه.
وعلى العكس، يحتفي الأدب العربي والإسلامي على حدٍّ سواء بالنصوص الأنصع إيروسية وكاتبيها الأوفر مجوناً كما هو الحال مع نماذج (كتاب الأغاني) وقصص (ألف ليلة وليلة) وقصيدة النابغة في المتجردة وأشعار امروء القيس وأبو نواس مثلاً. وباستعراض سريع لكتابات اللغويين والنقاد العرب الأقدمين تتبين الشقة التي تفصل بين جرأتهم وبؤس من تناولنا بالوصف من النقاد والقصاص المحدثين بحيائهم الزائف لنكتشف أن كثيراً من الكتابات المعاصرة مضت في اتجاه يناقض التقدم ويمضي في اتجاه تقاليد تلتزم الخنوع المطلق بهدف إرضاء القطاعات السلطوية المحافظة.
يشترط النقاد في أحوال عديدة شروط غامضة للتسامح مع إدراج الجنس في النصوص السردية كأن يكون ضرورياً لتطور الأحداث والشخصيات. لكن الجنس نفسه يمكن أن يكون موضوعاً أثيراً لكاتب النص السردي مثلما كان دائماً موضوعاً مفضلاً لكتبة نصوص التحليل النفسي وفقه الأحوال الشخصية وطب المسالك البولية مثلاً. لقد تميزت التفاصيل السردية الإيروسية الأكثر حميمية عند كتاب مرموقين عديدين بمزايا درامية غاية في الجمال وبالمقابل تحولت معظم السرديات التي تركن، من ألفها إلى يائها، إلى طهرانية صفراء فاقعة إلى تفاصيل قصصية بائخة إلى أقصى حد. بالطبع لن يكون الجنس هو هاجس الرواية أو القصة العظيمة من الغلاف إلى الغلاف مثلما لن تكون الحرب مثلاً هي وسواسها الأوحد. لكن في عالم ما فتئ إنسانه منذ الأزل، أوان الهبوط المأساوي “لآدم وحواء”، من الجنة، ممسوساً بالحب، لا مندوحة من اختلاق حكايات إيروسية لا انقضاء لها. وعندما تحاول شهرزاد في ألف ليلة وليلة سرد قصة في العشق خالدة، لا نهاية لها، فإنما كانت تحاول اجتناب مصير جديها، آدم وحواء، اللذين سقطا من سماوات الأزل إلى أرضين الفناء، وعلى عكس الجدين اللذين يودي بهما الحب، إذ بدت لهما سوءتهما، إلى الموت، يضمن الحب لشهرزاد، الانتصار على شبح الهلاك الذي سُلِّط سيفه على رقبتها.
*روائي من السودان