نقوس المهدي
كاتب
أخبار أبي نواس
الحسن بن هانئ
هو الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح مولى الجراح بن عبد الله بن جعادة بن أفلح بن الحارث بن دوة بن حدقة بن مظة بن سلهم بن الحكم بن سعد العشيرة بن مالك ، وكنيته أبو نواس سئل عن كنيته ما أراد بها ومن كناه بها وهل هو نواس أو نواس فقال نواس وجدن ويزن وكلال وكلاع أسماء جبال لملوك حمير والجبل الذي لهم يقال له نواس
قال
وكان سبب كنيتي أن رجلا من جيراني بالبصرة دعا إخوانا له فأبطأ عليه واحد منهم فخرج من بابه يطلب من يبعثه إليه يستحثه على المجيء إليه فوجدني مع صبيان ألعب معهم وكان لي ذؤابة في وسط رأسي فصاح بي يا حسن امض إلى فلان جئني به فمضيت أعدو لأدعو الرجل وذؤابتي تتحرك فلما جئت بالرجل قال لي أحسنت يا أبا نواس لتحرك ذؤابتي فلزمتني هذه الكنية
وسئل مرة أخرى فقيل له من كناك أبا نواس قال أنا كنيت نفسي بذلك لأني من قوم لا يشتهر منهم إلا من كان اسمه فردا وكانت كنيته سنيعة فتكنيت بأبي نواس
ويروى بفتح النون والواو مخففة وأما النواس بن سمعان فهو مشدد
وكانت كنيته الأصلية أبا علي وإنما هو كان يشتهي أن يلقب بأبي نواس لشهرته وأنه من أسماء ملوك اليمن ومن أسمائهم أيضا ذو نواس
وكان هانئ أبو الحسن بن هانئ كاتبا لمسعود الماذرائي على ديوان الخراج وكان اسمه هني وكان راعي غنم ولم يكن له ولاء ولا حلف حتى مات فلما كبر أبو نواس وأدب قال لنفسه حسن بن هانئ وإنما كان حسن بن هني
وقيل كان أبو أبي نواس حائكا
وقيل كان من جند مروان بن محمد من أهل دمشق وكان فيمن قدم الأهواز في أيام مروان للرباط بها والشحنة فتزوج بجلبان وأولدها عدة أولاد منهم أبو نواس وأبو معاذ وأسمه أحمد
وكان أبو معاذ أحمد مؤدب أولاد فرج الرخجي وكان أبو معاذ عطلا من مذاهب أبي نواس لا يحسن شيئا إلا أنه تعيش بأنه أخ لأبي نواس نقله إلى البصرة وهو ابن ست سنين
فنقلت أبا نواس أمه إلى البصرة وهو ابن ست سنين
وقيل
إن أمه يقال لها شحمة من نهر تيرى قرية من قرى الأهواز تدعى بباب آذر وكانت تعمل الصوف وتنسج الجوارب والأخراج فتزوجها هني أبوه فولدت أبا نواس وكان هني قد رآها وعشقها على شط نهر من أنهار قرى الأهواز وهي تغسل الصوف وكان لها ابن آخر
قيل وكانت تعمل الخيزران
وكانت لأبي نواس أخت عند فرج القصار عبد كان لأحمد بن عصمة الباخرزي مولده ووفاته
واختلف في مولد أبي نواس فقيل كان مولده في سنة ست وثلاثين ومائة وقيل سنة خمس وأربعين وقيل سنة ثمان وأربعين وقيل سنة تسع وأربعين
واختلف في موته فقيل توفي سنة خمس وتسعين ومائة وقيل سنة ست وتسعين وقيل سنة سبع وتسعين وقيل سنة ثمان وتسعين وقيل سنة تسع وتسعين وقيل مات قبل دخول المأمون بغداد بثمان سنين وكان عمره تسعا وخمسين سنة
وقيل
كان اسم جده رباح وكان رباح هذا مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان من أهل البصرة
وقيل
كان أبو نواس من الخوز من باب شيركان
وقيل من قرية من قرى الأهواز
وقيل بل من أرض مناذر الصغرى
والمجمع عليه أن أصله من خوز الأهواز وقيل من مناذر الكبرى من رستاق ما برثى من قرية يقال لها باسكنى
وقيل
كان أبو نواس مولى محمد بن عمر الحكمي من حاء وحكم قبيلتين من مذحج من اليمن
ومحمد بن عمر هذا خال بشر بن المفضل اللاحقي الفقيه
وكان أبو نواس يزعم أنه من العجم والذي صح مما ادعاه أبو نواس أنه مولى للحكميين وإنما ادعى ولاء حاء وحكم بالبصرة لأن بها قوما منهم وما كان في جميع عمل الأهواز رجل واحد من حاء وحكم يقال إنه يدعى فيهم نشأته وبعض من صفاته
وكان أبو نواس قد نشأ بالبصرة وقرأ القرآن على يعقوب الحضرمي فلما حذق القراءة رمى إليه يعقوب بخاتمه وقال اذهب فأنت أقرأ أهل البصرة
وكان أبو نواس حسن الوجه رقيق اللون أبيض حلو الشمائل حسن الجسم وكان في رأسه سماجة وتسفيط فكان دائم العمة والقلسة لذلك
وكان ألثغ على الراء يجعلها غينا وهي كثيرة بالبصرة لا يخلو من العشرين اثنان أن يلثغا بها
قال الجاحظ
ما رأيت أحدا كان أعلم باللغة من أبي نواس ولا أفصح لهجة مع حلاوة ومجانبة للاستكراه
وكان نحيفا في حلقة بحة لا تفارقه
قال ولما شب أسلمته أمه براء يبري عود البخور وكبر وتأدب وصحب أهل المسجد والمجان
واشتهى الكلام فقعد إلى أصحابه فتعلم منهم شيئا من الكلام ثم دعاه ذلك إلى الزندقة فكان ذلك يحسب منه على جهة العبث ثم مجن في شعره وشخص إلى مدينة السلام فأقام بها وعاشر الملوك فحط منه مجونه ووضعه خبث لسانه وحط منه تهتكه وكثرة سفهه وعبثه
وكان ينادم ولد المهدي فلم يبق مع أحد من الناس ونادم القاسم ابن الرشيد هارون ولقي منه أشياء كرهها وكرهت له
جلس أبو نواس إلى الناشئ الراوية فقرأ عليه شعر ذي الرمة فأقبل الناشئ على أبيه هانئ وقال له إن عاش ابنك هذا وقال الشعر ليقولنه بلسان مشقوق
وكان ابتداء صلة أبي نواس بوالبة بن الحباب الأسدي أن والبة جاء من الأهواز إلى البصرة إلى سوق العطارين يشتري حوائج وبخورا فاشترى منها عودا هنديا وأبو نواس كان يبري العود وهو غلام فاحتيج إليه في بري ذلك العود وتنقيته فلما رآه والبة بن الحباب كاد عقله يذهب فلم يزل يختدعه حتى صار إليه فحمله إلى الأهواز وقدم به الكوفة بعد منصرفهم فشاهد معه أدباء أهل الكوفة في ذلك الوقت فتأدب بأدبهم أول شعر قاله بالكوفة
وكان أول شعر قاله في الكوفة إذ دخل معه إلى منزل محمد بن سيار ابن مقرن وكان لمحمد ابن جميل وله قيان يخرجهن إلى ندمائه فاتفق أن أخرجهن وجلس ابن محمد في صفهن فقال أبو نواس حينئذ
( يا ظبي آل سيار ** وزين صف القيان )
( لينعتنك وهمي ** إن كل عنك لساني )
( خلقت في الحسن فردا ** فما لحسنك ثاني )
( كأنما أنت شيء ** حوى جميع المعاني )
( ويلي لقد كنت عنكم ** بمعزل ومكان )
( علقت من جل عني ** وشأنه عز شاني )
( من ليس يطمع فيه ** إلا فلان الفلاني ) اتصاله بوالبة بن الحباب
وقيل في اجتماعه بوالبة غير ذلك وهو أن النجاشي الأسدي والي الأهواز للمنصور احتاج إلى عطر يعمل له فلم يجد في الأهواز من يعمله فبعث إلى البصرة فحمل عطارين فيهم أستاذ أبي نواس وأبو نواس معه فكانوا يعملون في دار النجاشي وقدم عليه والبة بن الحباب الأسدي الشاعر وهو ابن عمه فرأى أبا نواس فاستحلى قده وأعجب بظرفه فقال له إني أرى فيك مخايل فلاح وأرى لك ألا تضيعها وستقول الشعر وتعلو فيه فاصحبني حتى أخرجك قال ومن أنت قال أبو أسامة قال والبة قال نعم قال أنا والله جعلت فداك في طلبك وقد أردت الخروج إلى الكوفة وإلى بغداد من أجلك قال ولماذا قال شهوة للقائك ولأبيات سمعتها لك قال وما هي فأنشده
( ولها ولا ذنب لها ** حب كأطراف الرماح )
( جرحت فؤادك بالهوى ** فالقلب مجروح النواحي )
( سل الخليفة صارما ** هو للفساد وللصلاح )
( أحذته كف أبي الوليد ** يدا مبارية الرياح )
( ألقى بجانب خصره ** أمضى من الأجل المتاح )
( وكأنما ذر الهباء ** عليه أنفاس الرياح )
فمضى معه فلما صار إلى منزله وأكلا وشربا أراده وألبة فلما كشف عنه رأى حسن بدنه فلم يتمالك أن قبل آسته فحبق أبو نواس فقال له يا خبيث ما هذا قال كرهت يا سيدي أن يضيع المثل ولا أحققه في قولهم جزاء من قبل الاست ضرطة فازداد به حبا وعجبا ومضى معه إلى الكوفة
وروي أنه قال له يا حبيبي أقبلك وتجازيني بهذا فقال كرهت أن يضيع المثل
قال والبة بن الحباب
رأيت فيما يرى النائم كأن إبليس أتاني فقال ترى غلامك الحسن بن هانئ قلت ما شأنه قال إن له لشأنا ووالله لاغوين به أمة محمد ثم لا أرضى حتى ألقي محبته في قلوب المرائين من أمته وقلوب العاشقين لحلاوة شعره
ولما اشتد أبو نواس وكبر وعرف قدره وفضله قال واعجبا من شاعر مفلق ينيكه والبة بن الحباب
وكان أبو نواس متهتكا أيضا في مؤاجرته وبعد كبره فإنه ذكر عنه لما كان بمصر وورد على الخصيب أنه جمش غلاما من أهل مصر فنفر منه وتتايه عليه وتجنى فقال
( تتيه علينا أن رزقت ملاحة ** فمهلا علينا بعض تيهك يا بدر )
( فقد طال ما كنا ملاحا وربما ** صددنا وتهنا ثم غيرنا الدهر )
( وكم من صديق قد ترهزت تحته ** فأعجبه مني الترهز والعصر )
( فطبت له نفسا بما لا يضرني ** وبادرت إمكاني فعاد له شكر )
قال أبو العشنزر
قلت الشعر وأنا غلام وأبو نواس غلام وكنا جميعا نبري العود وكنت أحسن وجها من أبي نواس وأبو نواس أطبع مني فتفاخرنا بالشعر فقلت له خلقتي أحسن من خلقتك فقال بل أنا احسن منك وجها وافره فجعلنا بيننا شيخا من جيراننا معروفا باللواط فدخلنا إليه وهو يكتب كتابا وبين يديه دواة كبيرة فاحتكمنا إليه فقال الحكم على الغيب لا يجوز ولكن هذه دراهم فخذوها ودعوني أحكم عن علم فأخذناها منه فلما رأى حسن وجهي بدأ بي ثم ثنى بأبي نواس فأبطأ عليه وكان عظيم الرأس أصلع فقال له أبو نواس ما هذه الزيادة عذبتني فقال له اسكت فديتك فإني أريد أن أسجل لك قال فأخذ أبو نواس سوادا من الدواة فجعل يسود صلعته فقال ما هذا فقال أسود القمطر حتى يعلم أنك قاض فقال قم لعنك الله فإنك عضلة من العضل
وروى أبو هفان أن أبا نواس لما نشأ وتأدب وظرف ورغب فيه فتيان البصرة للمصادقة قال لا أصادق إلا رجلا غريبا شاعرا يشرب الخمر ويصفها ويصف المجالس ويكون له سخاء وشجاعة فذكروا له جماع فلم يحب أن يكون الرجل من أهل بلده فهرب إلى الكوفة وذكر له بها رجل من بني أسد يقال له والبة بن الحباب يشرب الخمر ويقول الشعر ويجمع الخصال التي أرادها أبو نواس فصار إليه فسأل عنه فقيل له إنه بطيزناباذ يشرب الخمر عند خمار هناك فصار إلى منزله فسأل عنه فأخبر بأنه في مجلسه فاستأذن عليه فأذنت له جاريه لوالبة فدخل فإذا والبة نائم سكران فقال للجارية أعندك ما يؤكل ويشرب قالت نعم قال هاتيه فجاءته بطعام فأكل وجاءته بشراب فلم يزل يشرب ويغني حتى نام مكانه فانتبه والبة فقال من هذا الرجل النائم فأخبرته الجارية خبره فقال هاتي لنا طعاما فأكل ولم يزل يشرب وأبو نواس نائم حتى نام والبة فانتبه أبو نواس فسأل عنه وعما كان من خبره فأخبرته الجاريه فقال هاتي طعامك فأكل ولم يزل يشرب ووالبة نائم حتى نام أبو نواس ثم انتبه والبة فسأل عن خبره فأخبرته فقال هاتي طعامك فأكل ولم يزل يشرب وأبو نواس نائم حتى نام والبة وانتبه أبو نواس فسأل عن خبره فأخبرته بما كان من أمره فدعا بماء وتطهر ودعا بالطعام والشراب ولم يزل كل واحد منهما على هذه الحال سبعة أيام لا يلتقيان وهما في مجلس واحد
ثم إن والبة أمر الجارية أن تحبس عنه الشراب إلى وقت قيامه فلما انتبه أبو نواس قال للجارية أصلحت طعامك قالت الآن يصلح قال لا قد عرفت ما أراد لعله قال لك دافعيه حتى أنتبه فقالت الجارية ما أحسبك إلا من الجن وما رأيت إنسيا على حالك فانتبه والبة فسأله عن خبره وحاله فأخبره بما قصد إليه فسر والبة به ووجه إلى أصحابه وندمائه فجعل لهم مجلسا وأخبرهم خبر أبي نواس وما قصد له فلبثوا على ذلك أياما في صبوح وغبوق
ثم إن والبة مد يده إلى أبي نواس على سكر فلما عراه رأى بدنا حسنا وكان جميل الوجه حسن البدن فأطار عقله ولم يتمالك أن قبل استه فضرط أبو نواس في وجهه فغضب والبة من ذلك واستشاط وقبض على سكينة وهم به فقال له أبو نواس جعلني الله فداك هل تعلم ما حملني على ما فعلت قال لا قال المثل المضروب جزاء من قبل الاست ضرطة فضحك والبة منه وعرف أنه أحد المجان فلم يزل مقيما عنده
ثم سأله أن يخرج إلى البادية مع وفد بني أسد ليتعلم العربية والغريب فأخرجه مع قوم منهم فأقام بالبادية سنة ثم قدم ففارق والبة ورجع إلى بغداد
قال أبو السمح
قلت لوالبة وكنت أرى أبا نواس عنده وهو غلام حسن الوجه أنا والله أشتهي حسنا غلامك فقال لي ويلك ما تستحي هو غلامي فقلت له أحدث في متاع الشطار قال فلا تبرح حتى يجئ فجاء أبو نواس فقال له والبة إن أبا السمح يشتهيك فقال له أبو نواس جعلت فداك تأمرني بحسن التبغل وتقضي بي حوائج الإخوان قال أبو السمح له ويلك احذر هذا الغلام فإنه إن بقي كان داهية راوية بشار يتحدث عنه
حدث يحيى بن الجون راوية بشار قال
جاء أبو نواس إلى بشار فأنشده قصيدته اللامية التي يصف فيها النخل فاستحسنها فلما خرج قال بشار لقد حسدت هذا الغلام على هذا الكلام وماذا أخرج منه غرمول شاعر الكوفة يعني والبة بن الحباب
وكان أبو نواس متكلما جدلا راوية فحلا رقيق الطبع ثابت الفهم في الكلام اللطيف ويدل على معرفته بالكلام أشياء من شعره منها قوله
( وذات خد مورد ** قوهية المتجرد )
( تأمل العين منها ** محاسنا ليس تنفد )
( والحسن في كل شيء ** منها معاد مردد )
( فبعضه قد تناهى ** وبعضه يتولد )
ومنها قوله
( يا عاقد القلب مني ** هلا تذكرت حلا )
( تركت مني قليلا ** من القليل أقلا )
( يكاد لا يتجزا ** أقل في اللفظ من لا )
ومنها قوله في امرأة اسمها حسن
( إن اسم حسن لوجهها صفة ** ولا أرى ذا في غيرها اجتمعا )
( فهي إذا سميت فقد وصفت ** فيجمع الاسم معنيين معا )
ومنها قوله فيما يتعلق بالحكمة
( قل لزهير إذا حدا وشدا ** أقلل وأكثر فأنت مهذار )
( سخنت من شدة البرودة حتى ** صرت عندي كأنك النار )
( لا يعجب السامعون من صفتي ** كذلك الثلج بارد حار )
هذا شيء أخذه أبو نواس من مذهب حكماء الهند فإنهم يقولون إن الشيء إذا أفرط في البرد انقلب حارا وقالوا إن الصندل يحك منه اليسير فيبرد فإذا أكثر منه سخن
وله من هذا الجنس أشياء كثيرة توضع في مواضعها من هذه الترجمة الأصمعي يحدث قعنب عن أبي نواس
قال أبو عمرو قعنب
خرجت مع الأصمعي من المسجد الجامع فلما صرنا على الدرب الذي يخرج من سكة المربد إلى بني أصمع وقف بي على دار مبنية بالآجر والجص هناك فقال أترى هذه الدار عهدي بها مرة من قصب وكان فيها طراز حائك وكان فيها إنسان فارسي تزوج امرأة فولدت غلاما فأرضعت بلبانه غلاما من ثقيف فتعلم الصبي من الحائك القرآن ثم قال الشعر وخرج إلى بغداد وبلغني أنه قال
( واهج نزارا وأفر جلدتها ** وهتك الستر عن مثالبها )
وادعى اليمن وتولاهم فسألته عنه فقال هو أبو نواس
وإنما ادعى حاء وحكم في آخر أمره وذكر أنه مولى لهم لأن منهم بالبصرة قوما فذكر أن جده مولى أولئك
وكان دعيا يخلط في دعوته فمن ذلك قوله
( فإن أك بصريا فإن مهاجري ** دمشق ولكن الحديث فنون )
ثم هجا اليمن في هذه القصيدة بقوله
( لأزد عمان بالمهلب نزوة ** إذا ذكر الأقوام ثم تلين )
وإنما نشأ بالبصرة وليس له بدمشق قبل ولا بعد
ومما هجا به اليمن قوله لهاشم بن حديج
( وتختم ذاك بفخر عليه ** بكندة فاسلح على كنده )
وقوله
( بحديج فخرت يا بن حديج ** وحديج به تسمى العبيد )
وقوله
( يا هاشم بن حديج لو عددت أبا ** مثل القلمس لم يعلق بك الدنس )
فانظر إليه كيف قدم نزارا
والقلمس أحد بني كنانة وهو الذي نسأ النسيء في الشهر الحرام فأطاعته العرب وقال الله جل وعلا { إنما النسيء زيادة في الكفر }
ومنه قوله في هاشم بن حديج
( يا هاشم بن حديج ليس فخركم ** بقتل صهر رسول الله بالسدد )
( إن تقتلوا ابن أبي بكر فقد قتلت ** حجرا بدارة ملحوب بنو أسد )
( فكل كندية قالت لجارتها ** والدمع ينهل من مثنى ومنفرد )
( ألهى أمرأ القيس تشبيب بغانية ** عن ثأره وصفات النؤي والوتد )
وإنما عير ابن حديج لأن جده قتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما وهو عامل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على مصر
وقوله بدارة ملحوب أراد قتل بني أسد حجر بن عمرو آكل المرار الكندي جد امرئ القيس فما أدرك بثأره عود حرمل واشتغل بالنساء والغزل إلى أن قتله ملك الروم ادعاؤه أنه من ولد عبيد الله بن زياد
وكان أو نواس في أول دعوته ادعى أنه من ولد عبيد الله بن زياد بن ظبيان من بني عائش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة بن عكابة وعبيد الله بن زياد هو الذي قتل مصعب بن الزبير فقيل لأبي نواس إن الرجل الذي تدعي له لا عقب له لأنه فلج ومات ولا ولد له فلو أنك قلت إنك ولد النابئ بن زياد أخي عبيد الله قبلنا منك وكان النابئ خارجيا قتله مصعب فقتل عبيد الله مصعبا بأخيه فاستحى أبو نواس وهرب من بني تيم الله بن ثعلبة وقد كان يرى بينهم اختلافه إلى خلف الأحمر وأبي زيد
ثم طلب الأخبار والأشعار ونفر عن المثالب والأنساب لمكان هذه القصة وأقام لهذه الغلطة بالبصرة في العطارين فإذا كان العشي أتى أبا عبيدة يسأله عن أخبار العرب وأيام الناس ثم اختلف إلى أبي محرز خلف الأحمر مولى الأشعريين فكان يسأله عن الشعر ومعانيه ثم رثى خلفا بعد موته بشعره
( أودى جميع العلم مذ أودى خلف ** )
واختلف إلى أبي زيد فكتب الغريب والألفاظ ثم نظر في نحو سيبويه ثم طلب الحديث فكتب عن عبد الواحد بن زياد ويحيى القطان وأزهر السمان وغيرهم فلم يتخلف عن أحد وأدرك الناس فعلم ثم قدم بغداد بعد ذلك
وكان أيضا يتنزر ويدعي للفرزدق
حدث أبو يحيى الثقفي صاحب أبو نواس ونديمه قال
قدم علينا أبو نواس بغداد وكان يكنى بأبي فراس فقلنا له ممن الرجل فقال من ولد الفرزق أبو نواس والحكم بن قنبر
ثم وقع بينه وبين الحكم بن قنبر بن رزام التميمي الذي كان يهاجي مسلم بن الوليد فهجاه الحكم بن قنبر بن رزام التميمي وذكر بريه العود وبغى عليه وثلبه وعارضه في قوله
( ألم تربع على الطلل الطماس ** )
بقوله
( دع الأطلال عنك أبا نواس ** عفاها كل أسحم ذي ارتجاس )
( فما ذكراك من رسم محيل ** ومن نؤي ومن طلل طماس )
( وبالأهواز أمك فاذكرنها ** مطية كل علج في كناس )
( وهني من الأخواز وغد ** وراعي البهم في كنفي هساس )
( وبري العود ما لا تدفعنه ** فما دعواك صلب أبي فراس )
( سألت الخوز عنك فما أساؤوا ** وقالوا ثابت فينا المراسي )
( عهدنا شيخة ترعى رماما ** ونساجا بدور أبي جلاس )
( بخوزستان أنسج من رأينا ** ولا سيما لجلباب خماسي )
( ككندة في الحياكة بل علاها ** بحذق طم في فن القياس
ويقال إن هذا الشعر مصنوع على الحكم بن قنبر لانه من رديء الكلام وكلام الحكم فوق هذا
وقيل
كانت أم أبي نواس عجمية نباذة في الفرات
وقيل كانت سندية يقال لها جلبان وفيها يقول اللاحقي
( أبو نواس ابن هاني ** وأمه جلبان )
( والناس أفطن شيء ** إلى دقيق المعاني )
( إن زدت حرفا على ذا ** يا صاح فاقطع لساني )
يريد أنه ليس لجلبان أب يعرف
قال وتفسير جلبان أب يعرف
قال وتفسير جلبان بالعربية وردة على أذن
كانت عنان جارية الناطفي لا تبالي ما قالت فوقع بينها وبين أبي نواس شر فدست إليه سفهاء الكرخ والعيارين فقالت إذا مر بكم أبو نواس فصيحوا به وعطعطوا عليه
( أبو نواس اليماني ** وأمه جلبان )
( والنغل أفطن شيء ** إلى حروف المعاني )
وأرادت بقولها النغل أبا نواس
جلبان امرأة موسرة بالبصرة كانت تجمع أولاد الزنا وتربيهم ففعلوا ذلك وشاعت القضية
فقال له الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح بالله عليك إلا أخجلتها وإن أخجلتها فلك عندنا ما تحب فأتاها أبو نواس وعندها جماعة فسلم عليها ثم تحدثوا ساعة ثم قال لها يا عنان ما هجاء أير
فصاحت بأعلى صوتها أير ومدت صوتها فقال لها لم رفعت صوتك ومددته به قالت لعظم حقه علينا فخرج أبو نواس يجر رجله خجلا نفاه ابن قنبر فانقلب على النزارية
فلما نفاه ابن قنبر وفضحه بأبياته السينية انقلب على النزارية وادعى أنه من حاء وحكم فزجره آل يزيد بن منصور الحميري خال المهدي وقالوا له أنت خوزي فمالك ولحاء وحكم قال أنا مولى لهم فتركوه وقال بعضهم لبعض إنه لظريف اللسان غزير العلم فدعوه وهذا الولاء يتعصب لنا ويكايد عنا ويهجو النزارية فكان كما قالوا وكما ظنوا فانقلب إلى اليمن ونزل عن كنيته بأبي فراس واكتنى بأبي نواس تشبها بكنية ذي نواس كما كانت اليمن تكتني وندم على هجاء اليمن ووجدهم له أنصر ولدعوته أقبل فاعتذر إلى هاشم بن حديج فقال
( أهاشم خذ مني رضاك وإن أتى ** رضاك على نفسي فغير ملوم )
( فأقسم ما جاوزت بالشتم والدي ** وعرضي وما مزقت غير أديمي )
( وما كنت إلا كالذي كشف استه ** بمرأى عيون من عدا وحميم )
( فعذت بحقوي هاشم فأعاذني ** كريم أراه فوق كل كريم )
( وإن امرأ عفى على مثل زلتي ** وإن جرحت فيه لجد حليم )
( تطاول فوق الناس حتى كأنما ** يرون به نجما أمام نجوم )
( إذا سارت الأحساب يوما بأهلها ** أناخ إلى عادية وصميم )
( إلى كل معصوب به التاج مقول ** إليه أتاوى عامر وتميم )
وكان قبل أن يتولى اليمن ويدعي أنه من نزار يتعاجم في شعره فمن ذلك قوله
( فاسقنيها وغن صوتا ** لك الخير أعجما )
( ليس في نعت دمنة ** لا ولا زجر أشأما )
وقوله
( تدار علينا الكأس في عسجدية ** حبتها بأنواع التصاوير فارس )
( قرارتها كسرى وفي جنباتها ** مها تدريها بالقسي الفوارس )
وقوله
( تراث أبي ساسان كسرى ولم يكن ** مواريث ما أبقت تميم ولا بكر ) رأي الجاحظ في شعره
كان الجاحظ يقول
ما أعرف لأبي نواس شعرا يفضل هذه القصيدة
( ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ** بها أثر منهم جديد ودارس )
( مساحب من جر الزقاق على الثرى ** وأضعاث ريحان جني ويابس )
( حبست بها صحبي فجددت عهدهم ** وإني على أمثال تلك لحابس )
( ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم ** بشرقي ساباط الديار البسابس )
( أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ** ويوما له يوم الترحل خامس )
( تدار علينا الكأس في عسجدية ** حبتها بأنواع التصاوير فارس )
( قرارتها كسرى وفي جنباتها ** مها تدريها بالقسي الفوارس )
( فللخمر ما زرت عليه جيوبها ** وللماء ما دارت عليه القلانس )
ليس في الشعراء من تقدمه إلى هذا المعنى ولا من شاركه فيه ومعناه أن كسرى مصور في سفل الكأس وقرارها وفي جوانبها بقر ترميها الفوارس وقوله
( فللخمر ما زرت عليه جيوبها ** )
يعني أن الخمر مصبوب فيها إلى حلوق الصور صرفا
( وللماء ما دارت عليه القلانس ** )
يعني أنهم صبوا الماء في مزجها حتى علا رؤوسها
قال الجاحظ
أنشدت هذه الأبيات أبا شعيب القلال وكان عالما شاعرا فقال يا أبا عثمان هذا شعر لو نقر لطن فقلت له ويلك ما تفارق الجرار والخزف حيث كنت
وقال الجاحظ
نظرنا في الشعر القديم والمحدث فوجدنا المعاني تقلب وبعض يأخذ من بعض وقل معنى من معاني الشعر القديم تفرد بإبداعه شاعر إلا ورأيت من الشعراء من زاحمه فيه واشتق منه شيئا غير عنترة يصف ذبابا خلا في دار عبلة وذلك قوله
( وخلا الذباب بها فليس ببارح ** غردا كفعل الشارب المترنم )
( هزجا يحك ذراعه بذراعه ** فعل المكب على الزناد الأجذم )
وقول أبي نواس من المحدثين
( قرارتها كسرى وفي جنباتها ** مها تدريها بالقسي الفوارس )
( فللخمر ما زرت عليه جيوبها ** وللماء ما دارت عليه القلانس )
وقال يصف كرما
( لنا هجمة لا يدري الذئب سخلها ** ولا راعها رز الفحالة والخطر )
كنى عن الكرم بالإبل وهو يعني الدنان
ولا راعها رز الفحالة صوت الفحالة
( إذا امتحنت ألوانها مال صفرها ** إلى الكمت إلا إن أوبارها خضر )
الكمت لون العنب والخضر ورق الكرم
( وإن قام فيها الحالبون اتقتهم ** بنجلاء ثقب الخرت درتها الخمر )
اتقتهم يعني الدنان ونجلاء يعني سعة البزال
( مسارحها الغربي من نهر صرصر ** فقطريل فالصالحية فالعقر )
( قصرت بها ليلي وليل ابن حرة ** له حسب زاك وليس له وفر )
( تراث أبي ساسان كسرى ولم تكن ** مواريث ما أبقث تميم ولا بكر ) أبو نواس والرقاشي
وفي تعاجم أبي نواس في شعره يقول الرقاشي يهجوه
( نبطي فإذا قيل له ** أنت مولى حكم قال أجل )
( هو مولى الله إن كان به ** لاحقا فالله أعلى وأجل )
( واضعا نسبته حيث اشتهى ** فإذا ما رابه ريب رحل )
فقال أبو نواس يهجوه
( هجوت الفضل دهري وهو عندي ** رقاشي كما زعم المسول )
( فلما أن نصصناها إليه ** ليعلم ما يقال وما يقول )
( وجدنا الفضل أبعد من رقاش ** من الأتن ادعت فيها الفيول )
( وجدنا الفضل أكرم من رقاش ** لأن الفضل مولاه الرسول )
يريد بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم أنا مولى من لا مولى له
وقوله
( من الأتن ادعت فيها الفيول ** )
أراد بذلك قول يزيد بن مفرغ يخاطب معاوية
( ألا أبلغ معاوية بن حرب ** مغللة من الرجل اليماني )
( أتغضب أن يقال أبوك عف ** وترضى أن يقال أبوك زاني )
( وأشهد أن رحمك من زياد ** كرحم الفيل من ولد الأتان )
وكان أبو نواس في دعاويه يتماجن ويعبث ويخفي نسبه واسم أمه لئلا يهجى وذلك مشهور عنه ولو غضب هو نفسه على أبيه لهجاه ولم يحتشم
والمذكور من أمره أنه كان مولى الحكميين فيفخر باليمن ويمدحهم لذلك ويمدح العجم ويذكرهم لأنه منهم فلذلك قال في العجم ما قال
وكان أكثر أستاذي أبي نواس تأديبا وتخريجا له خلف الأحمر وأقدمهم في أستاذيته والبة بن الحباب
ولما رجع أبو نواس من الكوفة إلى البصرة وفارق والبة قيل له أرغبت عن والبة ومللت الكوفة قال هي أعذب وأطيب من أن تمل ووالبة ممن لا يرغب عنه ولكني نزعت إلى الأوطان واشتقت إلى الإخوان
حدث أبو سعيد الجهني عن أخيه بدر البراء وكان يبري العود في السوق قال
كان أخي صاحب غلمان ثم أقلع وتاب وتزوج وولد له أولاد وكان في أيام فتوته له غلمان أبو نواس من جملتهم
قال
قدمت بغداد ومعي ثلاثة أولاد لي قريبة أسنانهم بعضهم من بعض فبينا أنا أمشي في بغداد إذا أنا برجل أشيب على برذون فاره ومعه شاكري فلما رآني عرفني ولم أعرفه فأقبل نحوي فسلم علي وبرني فأنكرته
فقال ويحك يا بدر ألا تعرفني قلت لا قال أنا أبو نواس فعرفته فسألته عن حاله وألطفته فقال لي يا بدر من هؤلاء الغلمان معك قلت هم أولادي فقال لا إله إلا الله تزوجت وولد لك قال قلت نعم قال ويحك يا بدر كاد هؤلاء الأولاد أن يكونوا مني لو بقيت معك قال فنهرته وقلت له قبحك الله وقبح ما جئت به فقال هو ما قلت لك وقد أفلت ثم مضى وهو يضحك أبو نواس يؤاجر في البساتين والدور
قال محمد بن عمر
رأيت أبا نواس في البساتين يؤاجر وأسود مثل الحمار فوقه
قال أبو الإصبع ذؤيب بن ربعي الهذلي
طلبت أنا وصباح بن خاقان المنقري ويحيى الأرقط وعيسى بن غصين وابن الكهل مولى بني تميم وعبيد العاشقين وإنما سمي عبيد العاشقين لأنه كان في جواره رجلان أحدهما يعشق غلاما مملوكا والأخر يعشق مغنيه مملوكه فلم يزل يسعى له حتى ملكهما فسمي عبيد العاشقين
قال أبو الإصبع
فخرجنا نبتغي مؤاجرا فأتينا باب أبي عمرو بن العلاء فإذا نحن بغلام من أحسن الناس وجها وأحسنهم قدا وهو يتثنى قال فقلت له ما اسمك قال الحسن بن هانئ فقلنا له أبو من قال أبو نواس قال فشارطناه ثلاثة أيام بدينار في شارعة الصباح وهي على نهر بالابلة وأخذناه ومضينا وطبنا أطيب يوم وليلة حتى إذا كان اليوم الثاني وطبنا كانت حمالة في بني تميم فأعطى من أعطى وجاء أعرابي عليه عمامة كأنها فسطاط إلى صباح فظن أبو نواس أنه يحمل عليه فانحدر إلى البصرة هاربا وانحدر القوم بعده فجلسوا إلى باب أبي عمرو بن العلاء إذ أقبل أبو نواس فقالوا ويحك ما حسن ما صنعت بنا فقال رأيت عندكم من لم تسمح نفسي بمعاشرته ولا عيني بالنظر إليه ففررت منكم وقد قلت شعرا فيكم وما قلت قبل ذلك شعرا وأنتم علماء هذا الباب فقلنا له ما قلت فقال
( كنت في قرة عين ** مع عيسى بن غصين )
( وابن كهل وابن خاقان ** النجيب الأبوين )
( والفتى الأرقط يحيى ** وعبيد العاشقين )
( وابن ربعي الفتى السمح ** الجواد الراحتين )
( عندنا الصهباء صرفا ** في قوارير اللجين )
( وندامى سادة ** كلهم زين لزين )
( وحديث كان أشهى ** من إياب بعد بين )
( ونغني حين نلهو ** لغريض وحنين )
( إذ أتى الله بأحد ** أو كأحد مرتين )
( بفتى فظ غليظ ** ساقه الله لحيني )
( حال من شقوة جدي ** بين إخواني وبيني )
قال فاتخذناه صديقا لا نفارقه آراء الرواة في شعر أبي نواس
كان أبو عبيدة يقول
ذهبت اليمن بجد الشعر وهزله امرؤ القيس بجده وأبو نواس بهزله
وكان يقول
ذهبت اليمن بجيد الشعر في قديمه وحديثه امرؤ القيس في الأوائل وأبو نواس في المحدثين
وكان يقال
شعراء اليمن ثلاثة امرؤ القيس وحسان بن ثابت وأبو نواس
وقال أبو عبيدة أبو نواس في المحدثين مثل امرئ القيس في المتقدمين فتح لهم هذه الفطن ودلهم على المعاني وأرشدهم إلى الطريق والتصرف في فنونه
قال ميمون بن هارون
سألت يعقوب بن السكيت عما يختار لي روايته من أشعار الشعراء فقال إذا رويت من الجاهليين لإمرئ القيس والأعشى ومن الإسلاميين لجرير والفرزدق ومن المحدثين لأبي نواس فحسبك
قيل للعتبي من أشعر الناس قال أعند الناس أم عندي قال قلت عند الناس قال امرؤ القيس قال قلت فعندك قال أبو نواس
قال عبيد الله بن محمد بن عائشة من طلب الأدب فلم يرو شعر أبي نواس فليس بتام الأدب
قال إبراهيم بن العباس الصولي إذا رأيت الرجل يحفظ شعر أبي نواس علمت أن ذلك عنوان أدبه ورائد ظرفه
سئل حبيب بن أوس عن شعر أبي نواس كيف هو عنده فقال ابو نواس ومسلم اللات والعزى وأنا أعبدهما
وكان أبو نواس يقول عن نفسه سفلت عن طبقة من تقدمني من الشعراء وعلوت عن طبقة من معي ومن يجيء بعدي فأنا نسيج وحدي
حدث جماعة من الرواة ممن شاهد أبا نواس قالوا كان أقل ما في أبي نواس الشعر وكان فحلا راوية عالما
قال سليمان بن أبي سهل
قلت لأبي نواس ما الذي أستجيد من أجناس شعرك فقال أشعاري في الخمر لم يقل مثلها وأشعاري في الغزل فوق أشعار الناس وأجود شعري إن لم يزاحم غزلي ما قلته في الطرد
وكان أبو نواس يقول
ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنك بالرجال وإني لأروى سبعمائة أرجوزة ما تعرف
وكان قد أستأذن خلفا الأحمر في نظم الشعر فقال لا آذن لك في عمل الشعر إلى أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ومائة أرجوزة قصيد ومقطوع فغاب عنه مدة وحضر إليه فقال له قد حفظتها فقال أنشدها فانشده أكثرها في عدة أيام ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر فقال له لا آذن لك إلى أن تنسى هذه الألف أرجوزة كأنك لم تحفظها فقال له هذا أمر يصعب علي فإني قد أتقنت حفظها فقال لا آذن لك أو تنساها فذهب إلى بعض الديرة وخلا بنفسه وأقام مدة حتى نسيها ثم حضر إليه فقال قد نسيتها حتى كأن لم أكن حفظتها قط فقال الان فانظم الشعر حديثه عن نظمه للشعر
كان أبو نواس يقول
لا أكاد أقول شعرا جيدا حتى تكون نفسي طيبة وأكون في بستان مونق وعلى حال أرتضيها من صلة أوصل بها أو وعد بصلة وقد قلت وأنا على غير هذه الحال أشعارا لا أرضاها
وكان يعمل القصيدة ثم يتركها أياما ثم يعرضها على نفسه فيسقط كثيرا منها ويترك صافيها ولا يسره كل ما يقذف به خاطره وكان نهمه للشعر في الخمر فلا يعمله إلا في وقت نشاطه ولم يكن في الشعراء لا بالبطيء ولا بالسريع بل كان في منزلة وسطى
سئل ابن عائشة
من أشعر المحدثين فقال الذي يقول
( كأن ثيابه أطلعن ** من أزراره قمرا )
( يزيدك وجهه حسنا ** إذ ما زدته نظرا )
( بعين خالط التفتير ** من أجفانها الحورا )
( ووجه سابري لو ** تصوب ماؤه قطرا )
( وقد خطت حواضنه ** له من عنبر طررا )
كان الأصمعي يقول
يعجبني من شعر الشاطر بيت واحد قد أجاد قائله وهو
( ضعيفة كر الطرف تحسب أنها ** قريبة عهد بالإفاقة من سقم )
( وإني لآتي الأمر من حيث يتقى ** ويعلم سهمي حين أنزع من أرمي )
وهذا شعر أبي نواس
قال أبو ثابت حبيب بن النعمان بن حبيب الحميري
سمعت كلثوم بن عمرو العتابي يقول لرجل وتناظرا في شعر ابي نواس والله لو أدرك الخبيث الجاهلية ما فضل عليه أحد
وكان أبو عبيدة يقول
يعجبني من شعر ابي نواس قوله
( بنينا على كسرى سماء مدامة ** مكللة حافاتها بنجوم )
( فلورد في كسرى بن ساسان روحه ** إذا لاصطفاني دون كل نديم )
كان أبو عمرو الشيباني يقول
أشعر الناس في وصف الخمر ثلاثة الاعشى والاخطل وأبو نواس
قال بعضهم
كنت ألقى أبا عبد الله محمد بن زياد الأعرابي عند ولد سعيد بن مسلم وكانت مع ابن الأعرابي صحيفة لا تفارق كمه فكنا نحب أن نقف عليها فدخل يوما إلى المتهيأ وترك صحيفته تلك في مجلسه فنظرنا فيها فإذا فيها كثير من شعر ابي نواس في الخمر وقد كنا إذا ذكرنا أبا نواس استحفى به وبذكره فأعدنا عليه ذكره وعرف في وجوهنا وقوفنا على ما في الصحيفة فقال أو قد قرأتم الصحيفة قلنا اجل وعجبنا من ازدرائك بأبي نواس مع تدوينك شعره فقال انه لمن اشعر الناس وما يمنعنا من رواية شعره إلا تبذله وسخفه فكتبنا ما في الصحيفة لامرين أحدهما أن تكون رواية ابن الأعرابي والأخر لعلمنا أن ذلك من جيد شعره لأنه اختيار ابن الأعرابي لنفسه حسد شعراء عصره له
قال محمد بن عمر
لم يكن شاعر في عصر ابي نواس إلا وهو يحسده لميل الناس إليه وشهوتهم لمعاشرته ولبعد صوته وظرف لسانه
قال ابو حاتم السجستاني سئل أبو نواس عن شعره فقال إذا أردت أن أجد قلت مثل قصيدي
( أيها المنتاب عن عفره ** )
وإذا أردت العبث قلت مثل قصيدي
( طاب الهوى لعميده ** )
فأما الذي لعبي فيه وحدي جد فإذا وصفت الخمر
قال أبو ذكوان
كنا عند الثوري فذكرت عنده أبا نواس فوضع بعض الحاضرين منه فقال له الثوري أتقول هذا لرجل يقول
( تخافه الناس ويرجونه ** كأنه الجنة والنار )
والذي يقول
( فما فاته جود ولا حل دونه ** ولكن يصير الجود حيث يصير )
والذي يقول
( فتمشت في مفاصلهم ** كتمشي البرء في السقم )
إلى ما سوى ذلك والله لقد لحق من قبله وفات من بعده
قال ابن الأعرابي يوما لجلسائه ما اشعر ما قال أبو نواس في الخمر
فقال بعضهم قوله
( إذا عب فيها شارب القوم خلته ** يقبل في داج من الليل كوكبا )
وقال آخر بل قوله
( كأن كبرى وصغرى من فواقعها ** حصباء ذر على أرض من الذهب )
وقال آخر بل قوله
( ترى حيثما كانت من البيت مشرقا ** وما لم تكن فيه من البيت مغربا )
وقال آخر بل قوله
( فكأن الكؤوس فينا نجوم ** دائرات بروجها أيدينا )
وقال آخر بل قوله
( صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ** لو مسها حجر مسته سراء )
فقال ابن الأعرابي أن هذا كله لشاعر قد انفرد بالإحسان فيه وتقدم من سبقه ومن تأخر عنه ولكنه أشعر من هذا كله في قوله
( لا ينزل الليل حيث حلت ** فدهر شرابها نهار ) رأي ابي العتاهية في شعره
قال مسلمة بن مهزم
لقيت أبا العتاهية فقلت من أشعر الناس قال تريد جاهليا أو
إسلاميا أو مولدا قلت كلا أريد قال الذي يقول في المديح
( إذا نحن أثنينا عليك بصالح ** فأنت الذي نثني وفوق الذي نثني )
( وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة ** لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني )
والذي يقول في الهجاء
( وما أبقيت من عيلان إلا ** كما أبقت من البظر المواسي )
( وما حامت عن الأحساب إلا ** لترفع ذكرها بأبي نواس )
والذي يقول في الزهد
( وما الناس إلا هالك وابن هالك ** وذو نسب في الهالكين عريق )
فقلت هذا كله لأبى نواس قال هو هو ثم لقيت العتابي فسألته عن هذا السؤال فأجابني بهذا الجواب كأنهما كانا اتفقا عليه
قال الجاحظ سمعت النظام يقول وقد انشد شعرا لأبى نواس في الخمر كأن هذا الفتى جمع له الكلام فاختار أحسنه
وقال بعضهم كأن المعاني حبست عليه فأخذ منها حاجته وفض الباقي على الناس
كان أبو العتاهية يقول
سبقني أبو نواس إلى ثلاثة وددت أني سبقته إليها بكل ما قلته فإنه اشعر الناس فيها منها قوله
( يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر ** )
وقوله
( من لم يكن لله متهما ** لم يمس محتاجا إلى أحد )
وقوله
( إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ** له عن عدو في ثياب صديق )
ثم قال
قلت في الزهد ستة عشر ألف بيت وددت أن أبا نواس له ثلثها بهذه الأبيات وهذه الأبيات لأبي نواس وأولها
( ألا رب وجه في التراب عتيق ** ويا رب حسن في التراب رقيق )
( ويا رب حزم في التراب ونجدة ** ويا رب رأي في التراب وثيق )
( فقل للقريب اليوم إنك راحل ** إلى منزل داني المحل سحيق )
( وما الناس إلا هالك وابن هالك ** وذو نسب في الهالكين عريق )
( إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ** له عن عدو في ثياب صديق )
والمأمون يقول رأيه فيه
كان المأمون يقول
لو سئلت الدنيا عن نفسها فنطقت لما وصفت نفسها كما وصفها أبو نواس في قوله
( إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ** له عن عدو في ثياب صديق )
وكان أبو نواس يقول لو أن شعري يملأ الفم ما تقدمني أحد
قال أبو حاتم
كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس
وقال المكي
ما زالت المعاني مكنوزة في الأرض حتى جاء أبو نواس فاستخرجها
قال احمد بن يوسف الكاتب
كنت أنا وعبد الله بن طاهر عند المأمون وهو مستلق على قفاه فقال لعبد الله بن طاهر يا أبا العباس من اشعر الناس في خلافة بني هاشم فقال أمير المؤمنين أعلى عينا واعرف بهذا فقال على ذلك فقل وتكلم أنت أيضا يا احمد بن يوسف فقال عبد الله بن طاهر أشعرهم الذي يقول
( ويا قبر معن كنت أول حفرة ** من الأرض خطت للسماحة موضعا )
قال فقلت بل أشعرهم الذي يقول
( أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ** إذ كان حظي منك حظي منهم )
فقال المأمون يا احمد أبيت إلا غزلا أين انتم عن الذي يقول
( يا شفيق النفس من حكم ** نمت عن ليلى ولم أنم )
فقلنا صدقت يا أمير المؤمنين
ورد على العتابي بحلب عدة من الكتاب من أهل قنسرين فدخلوا وسلموا وكان في يده رقعة ينظر إليها فقال لهم لقد سلك صاحب هذه الرقعة واديا ما سلكه أحد قبله لله دره فنظروا فإذا هو شعر ابي نواس
( ربع الكرى بين الجفون محيل ** عفى عليه بكا عليك طويل )
( يا ناظرا ما أقلعت لحظاته ** حتى تشحط بينهن قتيل )
( أحللت من قلبي هواك محلة ** ما حلها المشروب والمأكول )
( بكمال صورتك التي من دونها ** يتحير التشبيه والتمثيل )
اجتمع أبو نواس وأبو العتاهية يوما عند إسحاق بن إبراهيم بن ميمون وكل واحد منهما لا يعرف صاحبه قال إسحاق فأخبرت أبا العتاهية بمكان أبي نواس فسلم عليه واستنشده وقال كنت أحب أن أراك فجعل أبو نواس ينشده من سفساف شعره فلما رأى ذلك أبو العتاهية اندفع فأنشده من غير أن يسأله فقال أبو نواس هذا والله المطمع الممتنع فقال أبو العتاهية هذا القول خير من كل ما أنشدت اليوم ثم قال كيف قلت في اعتذارك إلى الرشيد أو قال إلى الفضل بن الربيع قال فأنشده الشعر الذي يقول فيه
( ما من يد في الناس واحدة ** كيد أبو العباس مولاها )
( قد كنت خفتك ثم أمنني ** من أن أخافك خوفك الله )
فقال أبو العتاهية ما عليك ألا تقول بعد هذا شيئا قد كنت والله أحب أن أكون قد سبقتك إليه
قال عبد الله بن سلمة بن عياش
كنت أسير في طريق أصبهان فإذا أنا برجل عليه فرو جالس إلى عين في المنزل فقال لي ممن الرجل قلت من أهل البصرة قال أنشدني
____________________
(1/50)
* ملحق الأغاني (أخبار أبي نواس)
أبو الفرج الأصبهاني سنة الولادة 284هـ/ سنة الوفاة 356هـ
تحقيق علي مهنا وسمير جابر
الحسن بن هانئ
هو الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح مولى الجراح بن عبد الله بن جعادة بن أفلح بن الحارث بن دوة بن حدقة بن مظة بن سلهم بن الحكم بن سعد العشيرة بن مالك ، وكنيته أبو نواس سئل عن كنيته ما أراد بها ومن كناه بها وهل هو نواس أو نواس فقال نواس وجدن ويزن وكلال وكلاع أسماء جبال لملوك حمير والجبل الذي لهم يقال له نواس
قال
وكان سبب كنيتي أن رجلا من جيراني بالبصرة دعا إخوانا له فأبطأ عليه واحد منهم فخرج من بابه يطلب من يبعثه إليه يستحثه على المجيء إليه فوجدني مع صبيان ألعب معهم وكان لي ذؤابة في وسط رأسي فصاح بي يا حسن امض إلى فلان جئني به فمضيت أعدو لأدعو الرجل وذؤابتي تتحرك فلما جئت بالرجل قال لي أحسنت يا أبا نواس لتحرك ذؤابتي فلزمتني هذه الكنية
وسئل مرة أخرى فقيل له من كناك أبا نواس قال أنا كنيت نفسي بذلك لأني من قوم لا يشتهر منهم إلا من كان اسمه فردا وكانت كنيته سنيعة فتكنيت بأبي نواس
ويروى بفتح النون والواو مخففة وأما النواس بن سمعان فهو مشدد
وكانت كنيته الأصلية أبا علي وإنما هو كان يشتهي أن يلقب بأبي نواس لشهرته وأنه من أسماء ملوك اليمن ومن أسمائهم أيضا ذو نواس
وكان هانئ أبو الحسن بن هانئ كاتبا لمسعود الماذرائي على ديوان الخراج وكان اسمه هني وكان راعي غنم ولم يكن له ولاء ولا حلف حتى مات فلما كبر أبو نواس وأدب قال لنفسه حسن بن هانئ وإنما كان حسن بن هني
وقيل كان أبو أبي نواس حائكا
وقيل كان من جند مروان بن محمد من أهل دمشق وكان فيمن قدم الأهواز في أيام مروان للرباط بها والشحنة فتزوج بجلبان وأولدها عدة أولاد منهم أبو نواس وأبو معاذ وأسمه أحمد
وكان أبو معاذ أحمد مؤدب أولاد فرج الرخجي وكان أبو معاذ عطلا من مذاهب أبي نواس لا يحسن شيئا إلا أنه تعيش بأنه أخ لأبي نواس نقله إلى البصرة وهو ابن ست سنين
فنقلت أبا نواس أمه إلى البصرة وهو ابن ست سنين
وقيل
إن أمه يقال لها شحمة من نهر تيرى قرية من قرى الأهواز تدعى بباب آذر وكانت تعمل الصوف وتنسج الجوارب والأخراج فتزوجها هني أبوه فولدت أبا نواس وكان هني قد رآها وعشقها على شط نهر من أنهار قرى الأهواز وهي تغسل الصوف وكان لها ابن آخر
قيل وكانت تعمل الخيزران
وكانت لأبي نواس أخت عند فرج القصار عبد كان لأحمد بن عصمة الباخرزي مولده ووفاته
واختلف في مولد أبي نواس فقيل كان مولده في سنة ست وثلاثين ومائة وقيل سنة خمس وأربعين وقيل سنة ثمان وأربعين وقيل سنة تسع وأربعين
واختلف في موته فقيل توفي سنة خمس وتسعين ومائة وقيل سنة ست وتسعين وقيل سنة سبع وتسعين وقيل سنة ثمان وتسعين وقيل سنة تسع وتسعين وقيل مات قبل دخول المأمون بغداد بثمان سنين وكان عمره تسعا وخمسين سنة
وقيل
كان اسم جده رباح وكان رباح هذا مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان من أهل البصرة
وقيل
كان أبو نواس من الخوز من باب شيركان
وقيل من قرية من قرى الأهواز
وقيل بل من أرض مناذر الصغرى
والمجمع عليه أن أصله من خوز الأهواز وقيل من مناذر الكبرى من رستاق ما برثى من قرية يقال لها باسكنى
وقيل
كان أبو نواس مولى محمد بن عمر الحكمي من حاء وحكم قبيلتين من مذحج من اليمن
ومحمد بن عمر هذا خال بشر بن المفضل اللاحقي الفقيه
وكان أبو نواس يزعم أنه من العجم والذي صح مما ادعاه أبو نواس أنه مولى للحكميين وإنما ادعى ولاء حاء وحكم بالبصرة لأن بها قوما منهم وما كان في جميع عمل الأهواز رجل واحد من حاء وحكم يقال إنه يدعى فيهم نشأته وبعض من صفاته
وكان أبو نواس قد نشأ بالبصرة وقرأ القرآن على يعقوب الحضرمي فلما حذق القراءة رمى إليه يعقوب بخاتمه وقال اذهب فأنت أقرأ أهل البصرة
وكان أبو نواس حسن الوجه رقيق اللون أبيض حلو الشمائل حسن الجسم وكان في رأسه سماجة وتسفيط فكان دائم العمة والقلسة لذلك
وكان ألثغ على الراء يجعلها غينا وهي كثيرة بالبصرة لا يخلو من العشرين اثنان أن يلثغا بها
قال الجاحظ
ما رأيت أحدا كان أعلم باللغة من أبي نواس ولا أفصح لهجة مع حلاوة ومجانبة للاستكراه
وكان نحيفا في حلقة بحة لا تفارقه
قال ولما شب أسلمته أمه براء يبري عود البخور وكبر وتأدب وصحب أهل المسجد والمجان
واشتهى الكلام فقعد إلى أصحابه فتعلم منهم شيئا من الكلام ثم دعاه ذلك إلى الزندقة فكان ذلك يحسب منه على جهة العبث ثم مجن في شعره وشخص إلى مدينة السلام فأقام بها وعاشر الملوك فحط منه مجونه ووضعه خبث لسانه وحط منه تهتكه وكثرة سفهه وعبثه
وكان ينادم ولد المهدي فلم يبق مع أحد من الناس ونادم القاسم ابن الرشيد هارون ولقي منه أشياء كرهها وكرهت له
جلس أبو نواس إلى الناشئ الراوية فقرأ عليه شعر ذي الرمة فأقبل الناشئ على أبيه هانئ وقال له إن عاش ابنك هذا وقال الشعر ليقولنه بلسان مشقوق
وكان ابتداء صلة أبي نواس بوالبة بن الحباب الأسدي أن والبة جاء من الأهواز إلى البصرة إلى سوق العطارين يشتري حوائج وبخورا فاشترى منها عودا هنديا وأبو نواس كان يبري العود وهو غلام فاحتيج إليه في بري ذلك العود وتنقيته فلما رآه والبة بن الحباب كاد عقله يذهب فلم يزل يختدعه حتى صار إليه فحمله إلى الأهواز وقدم به الكوفة بعد منصرفهم فشاهد معه أدباء أهل الكوفة في ذلك الوقت فتأدب بأدبهم أول شعر قاله بالكوفة
وكان أول شعر قاله في الكوفة إذ دخل معه إلى منزل محمد بن سيار ابن مقرن وكان لمحمد ابن جميل وله قيان يخرجهن إلى ندمائه فاتفق أن أخرجهن وجلس ابن محمد في صفهن فقال أبو نواس حينئذ
( يا ظبي آل سيار ** وزين صف القيان )
( لينعتنك وهمي ** إن كل عنك لساني )
( خلقت في الحسن فردا ** فما لحسنك ثاني )
( كأنما أنت شيء ** حوى جميع المعاني )
( ويلي لقد كنت عنكم ** بمعزل ومكان )
( علقت من جل عني ** وشأنه عز شاني )
( من ليس يطمع فيه ** إلا فلان الفلاني ) اتصاله بوالبة بن الحباب
وقيل في اجتماعه بوالبة غير ذلك وهو أن النجاشي الأسدي والي الأهواز للمنصور احتاج إلى عطر يعمل له فلم يجد في الأهواز من يعمله فبعث إلى البصرة فحمل عطارين فيهم أستاذ أبي نواس وأبو نواس معه فكانوا يعملون في دار النجاشي وقدم عليه والبة بن الحباب الأسدي الشاعر وهو ابن عمه فرأى أبا نواس فاستحلى قده وأعجب بظرفه فقال له إني أرى فيك مخايل فلاح وأرى لك ألا تضيعها وستقول الشعر وتعلو فيه فاصحبني حتى أخرجك قال ومن أنت قال أبو أسامة قال والبة قال نعم قال أنا والله جعلت فداك في طلبك وقد أردت الخروج إلى الكوفة وإلى بغداد من أجلك قال ولماذا قال شهوة للقائك ولأبيات سمعتها لك قال وما هي فأنشده
( ولها ولا ذنب لها ** حب كأطراف الرماح )
( جرحت فؤادك بالهوى ** فالقلب مجروح النواحي )
( سل الخليفة صارما ** هو للفساد وللصلاح )
( أحذته كف أبي الوليد ** يدا مبارية الرياح )
( ألقى بجانب خصره ** أمضى من الأجل المتاح )
( وكأنما ذر الهباء ** عليه أنفاس الرياح )
فمضى معه فلما صار إلى منزله وأكلا وشربا أراده وألبة فلما كشف عنه رأى حسن بدنه فلم يتمالك أن قبل آسته فحبق أبو نواس فقال له يا خبيث ما هذا قال كرهت يا سيدي أن يضيع المثل ولا أحققه في قولهم جزاء من قبل الاست ضرطة فازداد به حبا وعجبا ومضى معه إلى الكوفة
وروي أنه قال له يا حبيبي أقبلك وتجازيني بهذا فقال كرهت أن يضيع المثل
قال والبة بن الحباب
رأيت فيما يرى النائم كأن إبليس أتاني فقال ترى غلامك الحسن بن هانئ قلت ما شأنه قال إن له لشأنا ووالله لاغوين به أمة محمد ثم لا أرضى حتى ألقي محبته في قلوب المرائين من أمته وقلوب العاشقين لحلاوة شعره
ولما اشتد أبو نواس وكبر وعرف قدره وفضله قال واعجبا من شاعر مفلق ينيكه والبة بن الحباب
وكان أبو نواس متهتكا أيضا في مؤاجرته وبعد كبره فإنه ذكر عنه لما كان بمصر وورد على الخصيب أنه جمش غلاما من أهل مصر فنفر منه وتتايه عليه وتجنى فقال
( تتيه علينا أن رزقت ملاحة ** فمهلا علينا بعض تيهك يا بدر )
( فقد طال ما كنا ملاحا وربما ** صددنا وتهنا ثم غيرنا الدهر )
( وكم من صديق قد ترهزت تحته ** فأعجبه مني الترهز والعصر )
( فطبت له نفسا بما لا يضرني ** وبادرت إمكاني فعاد له شكر )
قال أبو العشنزر
قلت الشعر وأنا غلام وأبو نواس غلام وكنا جميعا نبري العود وكنت أحسن وجها من أبي نواس وأبو نواس أطبع مني فتفاخرنا بالشعر فقلت له خلقتي أحسن من خلقتك فقال بل أنا احسن منك وجها وافره فجعلنا بيننا شيخا من جيراننا معروفا باللواط فدخلنا إليه وهو يكتب كتابا وبين يديه دواة كبيرة فاحتكمنا إليه فقال الحكم على الغيب لا يجوز ولكن هذه دراهم فخذوها ودعوني أحكم عن علم فأخذناها منه فلما رأى حسن وجهي بدأ بي ثم ثنى بأبي نواس فأبطأ عليه وكان عظيم الرأس أصلع فقال له أبو نواس ما هذه الزيادة عذبتني فقال له اسكت فديتك فإني أريد أن أسجل لك قال فأخذ أبو نواس سوادا من الدواة فجعل يسود صلعته فقال ما هذا فقال أسود القمطر حتى يعلم أنك قاض فقال قم لعنك الله فإنك عضلة من العضل
وروى أبو هفان أن أبا نواس لما نشأ وتأدب وظرف ورغب فيه فتيان البصرة للمصادقة قال لا أصادق إلا رجلا غريبا شاعرا يشرب الخمر ويصفها ويصف المجالس ويكون له سخاء وشجاعة فذكروا له جماع فلم يحب أن يكون الرجل من أهل بلده فهرب إلى الكوفة وذكر له بها رجل من بني أسد يقال له والبة بن الحباب يشرب الخمر ويقول الشعر ويجمع الخصال التي أرادها أبو نواس فصار إليه فسأل عنه فقيل له إنه بطيزناباذ يشرب الخمر عند خمار هناك فصار إلى منزله فسأل عنه فأخبر بأنه في مجلسه فاستأذن عليه فأذنت له جاريه لوالبة فدخل فإذا والبة نائم سكران فقال للجارية أعندك ما يؤكل ويشرب قالت نعم قال هاتيه فجاءته بطعام فأكل وجاءته بشراب فلم يزل يشرب ويغني حتى نام مكانه فانتبه والبة فقال من هذا الرجل النائم فأخبرته الجارية خبره فقال هاتي لنا طعاما فأكل ولم يزل يشرب وأبو نواس نائم حتى نام والبة فانتبه أبو نواس فسأل عنه وعما كان من خبره فأخبرته الجاريه فقال هاتي طعامك فأكل ولم يزل يشرب ووالبة نائم حتى نام أبو نواس ثم انتبه والبة فسأل عن خبره فأخبرته فقال هاتي طعامك فأكل ولم يزل يشرب وأبو نواس نائم حتى نام والبة وانتبه أبو نواس فسأل عن خبره فأخبرته بما كان من أمره فدعا بماء وتطهر ودعا بالطعام والشراب ولم يزل كل واحد منهما على هذه الحال سبعة أيام لا يلتقيان وهما في مجلس واحد
ثم إن والبة أمر الجارية أن تحبس عنه الشراب إلى وقت قيامه فلما انتبه أبو نواس قال للجارية أصلحت طعامك قالت الآن يصلح قال لا قد عرفت ما أراد لعله قال لك دافعيه حتى أنتبه فقالت الجارية ما أحسبك إلا من الجن وما رأيت إنسيا على حالك فانتبه والبة فسأله عن خبره وحاله فأخبره بما قصد إليه فسر والبة به ووجه إلى أصحابه وندمائه فجعل لهم مجلسا وأخبرهم خبر أبي نواس وما قصد له فلبثوا على ذلك أياما في صبوح وغبوق
ثم إن والبة مد يده إلى أبي نواس على سكر فلما عراه رأى بدنا حسنا وكان جميل الوجه حسن البدن فأطار عقله ولم يتمالك أن قبل استه فضرط أبو نواس في وجهه فغضب والبة من ذلك واستشاط وقبض على سكينة وهم به فقال له أبو نواس جعلني الله فداك هل تعلم ما حملني على ما فعلت قال لا قال المثل المضروب جزاء من قبل الاست ضرطة فضحك والبة منه وعرف أنه أحد المجان فلم يزل مقيما عنده
ثم سأله أن يخرج إلى البادية مع وفد بني أسد ليتعلم العربية والغريب فأخرجه مع قوم منهم فأقام بالبادية سنة ثم قدم ففارق والبة ورجع إلى بغداد
قال أبو السمح
قلت لوالبة وكنت أرى أبا نواس عنده وهو غلام حسن الوجه أنا والله أشتهي حسنا غلامك فقال لي ويلك ما تستحي هو غلامي فقلت له أحدث في متاع الشطار قال فلا تبرح حتى يجئ فجاء أبو نواس فقال له والبة إن أبا السمح يشتهيك فقال له أبو نواس جعلت فداك تأمرني بحسن التبغل وتقضي بي حوائج الإخوان قال أبو السمح له ويلك احذر هذا الغلام فإنه إن بقي كان داهية راوية بشار يتحدث عنه
حدث يحيى بن الجون راوية بشار قال
جاء أبو نواس إلى بشار فأنشده قصيدته اللامية التي يصف فيها النخل فاستحسنها فلما خرج قال بشار لقد حسدت هذا الغلام على هذا الكلام وماذا أخرج منه غرمول شاعر الكوفة يعني والبة بن الحباب
وكان أبو نواس متكلما جدلا راوية فحلا رقيق الطبع ثابت الفهم في الكلام اللطيف ويدل على معرفته بالكلام أشياء من شعره منها قوله
( وذات خد مورد ** قوهية المتجرد )
( تأمل العين منها ** محاسنا ليس تنفد )
( والحسن في كل شيء ** منها معاد مردد )
( فبعضه قد تناهى ** وبعضه يتولد )
ومنها قوله
( يا عاقد القلب مني ** هلا تذكرت حلا )
( تركت مني قليلا ** من القليل أقلا )
( يكاد لا يتجزا ** أقل في اللفظ من لا )
ومنها قوله في امرأة اسمها حسن
( إن اسم حسن لوجهها صفة ** ولا أرى ذا في غيرها اجتمعا )
( فهي إذا سميت فقد وصفت ** فيجمع الاسم معنيين معا )
ومنها قوله فيما يتعلق بالحكمة
( قل لزهير إذا حدا وشدا ** أقلل وأكثر فأنت مهذار )
( سخنت من شدة البرودة حتى ** صرت عندي كأنك النار )
( لا يعجب السامعون من صفتي ** كذلك الثلج بارد حار )
هذا شيء أخذه أبو نواس من مذهب حكماء الهند فإنهم يقولون إن الشيء إذا أفرط في البرد انقلب حارا وقالوا إن الصندل يحك منه اليسير فيبرد فإذا أكثر منه سخن
وله من هذا الجنس أشياء كثيرة توضع في مواضعها من هذه الترجمة الأصمعي يحدث قعنب عن أبي نواس
قال أبو عمرو قعنب
خرجت مع الأصمعي من المسجد الجامع فلما صرنا على الدرب الذي يخرج من سكة المربد إلى بني أصمع وقف بي على دار مبنية بالآجر والجص هناك فقال أترى هذه الدار عهدي بها مرة من قصب وكان فيها طراز حائك وكان فيها إنسان فارسي تزوج امرأة فولدت غلاما فأرضعت بلبانه غلاما من ثقيف فتعلم الصبي من الحائك القرآن ثم قال الشعر وخرج إلى بغداد وبلغني أنه قال
( واهج نزارا وأفر جلدتها ** وهتك الستر عن مثالبها )
وادعى اليمن وتولاهم فسألته عنه فقال هو أبو نواس
وإنما ادعى حاء وحكم في آخر أمره وذكر أنه مولى لهم لأن منهم بالبصرة قوما فذكر أن جده مولى أولئك
وكان دعيا يخلط في دعوته فمن ذلك قوله
( فإن أك بصريا فإن مهاجري ** دمشق ولكن الحديث فنون )
ثم هجا اليمن في هذه القصيدة بقوله
( لأزد عمان بالمهلب نزوة ** إذا ذكر الأقوام ثم تلين )
وإنما نشأ بالبصرة وليس له بدمشق قبل ولا بعد
ومما هجا به اليمن قوله لهاشم بن حديج
( وتختم ذاك بفخر عليه ** بكندة فاسلح على كنده )
وقوله
( بحديج فخرت يا بن حديج ** وحديج به تسمى العبيد )
وقوله
( يا هاشم بن حديج لو عددت أبا ** مثل القلمس لم يعلق بك الدنس )
فانظر إليه كيف قدم نزارا
والقلمس أحد بني كنانة وهو الذي نسأ النسيء في الشهر الحرام فأطاعته العرب وقال الله جل وعلا { إنما النسيء زيادة في الكفر }
ومنه قوله في هاشم بن حديج
( يا هاشم بن حديج ليس فخركم ** بقتل صهر رسول الله بالسدد )
( إن تقتلوا ابن أبي بكر فقد قتلت ** حجرا بدارة ملحوب بنو أسد )
( فكل كندية قالت لجارتها ** والدمع ينهل من مثنى ومنفرد )
( ألهى أمرأ القيس تشبيب بغانية ** عن ثأره وصفات النؤي والوتد )
وإنما عير ابن حديج لأن جده قتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما وهو عامل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على مصر
وقوله بدارة ملحوب أراد قتل بني أسد حجر بن عمرو آكل المرار الكندي جد امرئ القيس فما أدرك بثأره عود حرمل واشتغل بالنساء والغزل إلى أن قتله ملك الروم ادعاؤه أنه من ولد عبيد الله بن زياد
وكان أو نواس في أول دعوته ادعى أنه من ولد عبيد الله بن زياد بن ظبيان من بني عائش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة بن عكابة وعبيد الله بن زياد هو الذي قتل مصعب بن الزبير فقيل لأبي نواس إن الرجل الذي تدعي له لا عقب له لأنه فلج ومات ولا ولد له فلو أنك قلت إنك ولد النابئ بن زياد أخي عبيد الله قبلنا منك وكان النابئ خارجيا قتله مصعب فقتل عبيد الله مصعبا بأخيه فاستحى أبو نواس وهرب من بني تيم الله بن ثعلبة وقد كان يرى بينهم اختلافه إلى خلف الأحمر وأبي زيد
ثم طلب الأخبار والأشعار ونفر عن المثالب والأنساب لمكان هذه القصة وأقام لهذه الغلطة بالبصرة في العطارين فإذا كان العشي أتى أبا عبيدة يسأله عن أخبار العرب وأيام الناس ثم اختلف إلى أبي محرز خلف الأحمر مولى الأشعريين فكان يسأله عن الشعر ومعانيه ثم رثى خلفا بعد موته بشعره
( أودى جميع العلم مذ أودى خلف ** )
واختلف إلى أبي زيد فكتب الغريب والألفاظ ثم نظر في نحو سيبويه ثم طلب الحديث فكتب عن عبد الواحد بن زياد ويحيى القطان وأزهر السمان وغيرهم فلم يتخلف عن أحد وأدرك الناس فعلم ثم قدم بغداد بعد ذلك
وكان أيضا يتنزر ويدعي للفرزدق
حدث أبو يحيى الثقفي صاحب أبو نواس ونديمه قال
قدم علينا أبو نواس بغداد وكان يكنى بأبي فراس فقلنا له ممن الرجل فقال من ولد الفرزق أبو نواس والحكم بن قنبر
ثم وقع بينه وبين الحكم بن قنبر بن رزام التميمي الذي كان يهاجي مسلم بن الوليد فهجاه الحكم بن قنبر بن رزام التميمي وذكر بريه العود وبغى عليه وثلبه وعارضه في قوله
( ألم تربع على الطلل الطماس ** )
بقوله
( دع الأطلال عنك أبا نواس ** عفاها كل أسحم ذي ارتجاس )
( فما ذكراك من رسم محيل ** ومن نؤي ومن طلل طماس )
( وبالأهواز أمك فاذكرنها ** مطية كل علج في كناس )
( وهني من الأخواز وغد ** وراعي البهم في كنفي هساس )
( وبري العود ما لا تدفعنه ** فما دعواك صلب أبي فراس )
( سألت الخوز عنك فما أساؤوا ** وقالوا ثابت فينا المراسي )
( عهدنا شيخة ترعى رماما ** ونساجا بدور أبي جلاس )
( بخوزستان أنسج من رأينا ** ولا سيما لجلباب خماسي )
( ككندة في الحياكة بل علاها ** بحذق طم في فن القياس
ويقال إن هذا الشعر مصنوع على الحكم بن قنبر لانه من رديء الكلام وكلام الحكم فوق هذا
وقيل
كانت أم أبي نواس عجمية نباذة في الفرات
وقيل كانت سندية يقال لها جلبان وفيها يقول اللاحقي
( أبو نواس ابن هاني ** وأمه جلبان )
( والناس أفطن شيء ** إلى دقيق المعاني )
( إن زدت حرفا على ذا ** يا صاح فاقطع لساني )
يريد أنه ليس لجلبان أب يعرف
قال وتفسير جلبان أب يعرف
قال وتفسير جلبان بالعربية وردة على أذن
كانت عنان جارية الناطفي لا تبالي ما قالت فوقع بينها وبين أبي نواس شر فدست إليه سفهاء الكرخ والعيارين فقالت إذا مر بكم أبو نواس فصيحوا به وعطعطوا عليه
( أبو نواس اليماني ** وأمه جلبان )
( والنغل أفطن شيء ** إلى حروف المعاني )
وأرادت بقولها النغل أبا نواس
جلبان امرأة موسرة بالبصرة كانت تجمع أولاد الزنا وتربيهم ففعلوا ذلك وشاعت القضية
فقال له الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح بالله عليك إلا أخجلتها وإن أخجلتها فلك عندنا ما تحب فأتاها أبو نواس وعندها جماعة فسلم عليها ثم تحدثوا ساعة ثم قال لها يا عنان ما هجاء أير
فصاحت بأعلى صوتها أير ومدت صوتها فقال لها لم رفعت صوتك ومددته به قالت لعظم حقه علينا فخرج أبو نواس يجر رجله خجلا نفاه ابن قنبر فانقلب على النزارية
فلما نفاه ابن قنبر وفضحه بأبياته السينية انقلب على النزارية وادعى أنه من حاء وحكم فزجره آل يزيد بن منصور الحميري خال المهدي وقالوا له أنت خوزي فمالك ولحاء وحكم قال أنا مولى لهم فتركوه وقال بعضهم لبعض إنه لظريف اللسان غزير العلم فدعوه وهذا الولاء يتعصب لنا ويكايد عنا ويهجو النزارية فكان كما قالوا وكما ظنوا فانقلب إلى اليمن ونزل عن كنيته بأبي فراس واكتنى بأبي نواس تشبها بكنية ذي نواس كما كانت اليمن تكتني وندم على هجاء اليمن ووجدهم له أنصر ولدعوته أقبل فاعتذر إلى هاشم بن حديج فقال
( أهاشم خذ مني رضاك وإن أتى ** رضاك على نفسي فغير ملوم )
( فأقسم ما جاوزت بالشتم والدي ** وعرضي وما مزقت غير أديمي )
( وما كنت إلا كالذي كشف استه ** بمرأى عيون من عدا وحميم )
( فعذت بحقوي هاشم فأعاذني ** كريم أراه فوق كل كريم )
( وإن امرأ عفى على مثل زلتي ** وإن جرحت فيه لجد حليم )
( تطاول فوق الناس حتى كأنما ** يرون به نجما أمام نجوم )
( إذا سارت الأحساب يوما بأهلها ** أناخ إلى عادية وصميم )
( إلى كل معصوب به التاج مقول ** إليه أتاوى عامر وتميم )
وكان قبل أن يتولى اليمن ويدعي أنه من نزار يتعاجم في شعره فمن ذلك قوله
( فاسقنيها وغن صوتا ** لك الخير أعجما )
( ليس في نعت دمنة ** لا ولا زجر أشأما )
وقوله
( تدار علينا الكأس في عسجدية ** حبتها بأنواع التصاوير فارس )
( قرارتها كسرى وفي جنباتها ** مها تدريها بالقسي الفوارس )
وقوله
( تراث أبي ساسان كسرى ولم يكن ** مواريث ما أبقت تميم ولا بكر ) رأي الجاحظ في شعره
كان الجاحظ يقول
ما أعرف لأبي نواس شعرا يفضل هذه القصيدة
( ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ** بها أثر منهم جديد ودارس )
( مساحب من جر الزقاق على الثرى ** وأضعاث ريحان جني ويابس )
( حبست بها صحبي فجددت عهدهم ** وإني على أمثال تلك لحابس )
( ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم ** بشرقي ساباط الديار البسابس )
( أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ** ويوما له يوم الترحل خامس )
( تدار علينا الكأس في عسجدية ** حبتها بأنواع التصاوير فارس )
( قرارتها كسرى وفي جنباتها ** مها تدريها بالقسي الفوارس )
( فللخمر ما زرت عليه جيوبها ** وللماء ما دارت عليه القلانس )
ليس في الشعراء من تقدمه إلى هذا المعنى ولا من شاركه فيه ومعناه أن كسرى مصور في سفل الكأس وقرارها وفي جوانبها بقر ترميها الفوارس وقوله
( فللخمر ما زرت عليه جيوبها ** )
يعني أن الخمر مصبوب فيها إلى حلوق الصور صرفا
( وللماء ما دارت عليه القلانس ** )
يعني أنهم صبوا الماء في مزجها حتى علا رؤوسها
قال الجاحظ
أنشدت هذه الأبيات أبا شعيب القلال وكان عالما شاعرا فقال يا أبا عثمان هذا شعر لو نقر لطن فقلت له ويلك ما تفارق الجرار والخزف حيث كنت
وقال الجاحظ
نظرنا في الشعر القديم والمحدث فوجدنا المعاني تقلب وبعض يأخذ من بعض وقل معنى من معاني الشعر القديم تفرد بإبداعه شاعر إلا ورأيت من الشعراء من زاحمه فيه واشتق منه شيئا غير عنترة يصف ذبابا خلا في دار عبلة وذلك قوله
( وخلا الذباب بها فليس ببارح ** غردا كفعل الشارب المترنم )
( هزجا يحك ذراعه بذراعه ** فعل المكب على الزناد الأجذم )
وقول أبي نواس من المحدثين
( قرارتها كسرى وفي جنباتها ** مها تدريها بالقسي الفوارس )
( فللخمر ما زرت عليه جيوبها ** وللماء ما دارت عليه القلانس )
وقال يصف كرما
( لنا هجمة لا يدري الذئب سخلها ** ولا راعها رز الفحالة والخطر )
كنى عن الكرم بالإبل وهو يعني الدنان
ولا راعها رز الفحالة صوت الفحالة
( إذا امتحنت ألوانها مال صفرها ** إلى الكمت إلا إن أوبارها خضر )
الكمت لون العنب والخضر ورق الكرم
( وإن قام فيها الحالبون اتقتهم ** بنجلاء ثقب الخرت درتها الخمر )
اتقتهم يعني الدنان ونجلاء يعني سعة البزال
( مسارحها الغربي من نهر صرصر ** فقطريل فالصالحية فالعقر )
( قصرت بها ليلي وليل ابن حرة ** له حسب زاك وليس له وفر )
( تراث أبي ساسان كسرى ولم تكن ** مواريث ما أبقث تميم ولا بكر ) أبو نواس والرقاشي
وفي تعاجم أبي نواس في شعره يقول الرقاشي يهجوه
( نبطي فإذا قيل له ** أنت مولى حكم قال أجل )
( هو مولى الله إن كان به ** لاحقا فالله أعلى وأجل )
( واضعا نسبته حيث اشتهى ** فإذا ما رابه ريب رحل )
فقال أبو نواس يهجوه
( هجوت الفضل دهري وهو عندي ** رقاشي كما زعم المسول )
( فلما أن نصصناها إليه ** ليعلم ما يقال وما يقول )
( وجدنا الفضل أبعد من رقاش ** من الأتن ادعت فيها الفيول )
( وجدنا الفضل أكرم من رقاش ** لأن الفضل مولاه الرسول )
يريد بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم أنا مولى من لا مولى له
وقوله
( من الأتن ادعت فيها الفيول ** )
أراد بذلك قول يزيد بن مفرغ يخاطب معاوية
( ألا أبلغ معاوية بن حرب ** مغللة من الرجل اليماني )
( أتغضب أن يقال أبوك عف ** وترضى أن يقال أبوك زاني )
( وأشهد أن رحمك من زياد ** كرحم الفيل من ولد الأتان )
وكان أبو نواس في دعاويه يتماجن ويعبث ويخفي نسبه واسم أمه لئلا يهجى وذلك مشهور عنه ولو غضب هو نفسه على أبيه لهجاه ولم يحتشم
والمذكور من أمره أنه كان مولى الحكميين فيفخر باليمن ويمدحهم لذلك ويمدح العجم ويذكرهم لأنه منهم فلذلك قال في العجم ما قال
وكان أكثر أستاذي أبي نواس تأديبا وتخريجا له خلف الأحمر وأقدمهم في أستاذيته والبة بن الحباب
ولما رجع أبو نواس من الكوفة إلى البصرة وفارق والبة قيل له أرغبت عن والبة ومللت الكوفة قال هي أعذب وأطيب من أن تمل ووالبة ممن لا يرغب عنه ولكني نزعت إلى الأوطان واشتقت إلى الإخوان
حدث أبو سعيد الجهني عن أخيه بدر البراء وكان يبري العود في السوق قال
كان أخي صاحب غلمان ثم أقلع وتاب وتزوج وولد له أولاد وكان في أيام فتوته له غلمان أبو نواس من جملتهم
قال
قدمت بغداد ومعي ثلاثة أولاد لي قريبة أسنانهم بعضهم من بعض فبينا أنا أمشي في بغداد إذا أنا برجل أشيب على برذون فاره ومعه شاكري فلما رآني عرفني ولم أعرفه فأقبل نحوي فسلم علي وبرني فأنكرته
فقال ويحك يا بدر ألا تعرفني قلت لا قال أنا أبو نواس فعرفته فسألته عن حاله وألطفته فقال لي يا بدر من هؤلاء الغلمان معك قلت هم أولادي فقال لا إله إلا الله تزوجت وولد لك قال قلت نعم قال ويحك يا بدر كاد هؤلاء الأولاد أن يكونوا مني لو بقيت معك قال فنهرته وقلت له قبحك الله وقبح ما جئت به فقال هو ما قلت لك وقد أفلت ثم مضى وهو يضحك أبو نواس يؤاجر في البساتين والدور
قال محمد بن عمر
رأيت أبا نواس في البساتين يؤاجر وأسود مثل الحمار فوقه
قال أبو الإصبع ذؤيب بن ربعي الهذلي
طلبت أنا وصباح بن خاقان المنقري ويحيى الأرقط وعيسى بن غصين وابن الكهل مولى بني تميم وعبيد العاشقين وإنما سمي عبيد العاشقين لأنه كان في جواره رجلان أحدهما يعشق غلاما مملوكا والأخر يعشق مغنيه مملوكه فلم يزل يسعى له حتى ملكهما فسمي عبيد العاشقين
قال أبو الإصبع
فخرجنا نبتغي مؤاجرا فأتينا باب أبي عمرو بن العلاء فإذا نحن بغلام من أحسن الناس وجها وأحسنهم قدا وهو يتثنى قال فقلت له ما اسمك قال الحسن بن هانئ فقلنا له أبو من قال أبو نواس قال فشارطناه ثلاثة أيام بدينار في شارعة الصباح وهي على نهر بالابلة وأخذناه ومضينا وطبنا أطيب يوم وليلة حتى إذا كان اليوم الثاني وطبنا كانت حمالة في بني تميم فأعطى من أعطى وجاء أعرابي عليه عمامة كأنها فسطاط إلى صباح فظن أبو نواس أنه يحمل عليه فانحدر إلى البصرة هاربا وانحدر القوم بعده فجلسوا إلى باب أبي عمرو بن العلاء إذ أقبل أبو نواس فقالوا ويحك ما حسن ما صنعت بنا فقال رأيت عندكم من لم تسمح نفسي بمعاشرته ولا عيني بالنظر إليه ففررت منكم وقد قلت شعرا فيكم وما قلت قبل ذلك شعرا وأنتم علماء هذا الباب فقلنا له ما قلت فقال
( كنت في قرة عين ** مع عيسى بن غصين )
( وابن كهل وابن خاقان ** النجيب الأبوين )
( والفتى الأرقط يحيى ** وعبيد العاشقين )
( وابن ربعي الفتى السمح ** الجواد الراحتين )
( عندنا الصهباء صرفا ** في قوارير اللجين )
( وندامى سادة ** كلهم زين لزين )
( وحديث كان أشهى ** من إياب بعد بين )
( ونغني حين نلهو ** لغريض وحنين )
( إذ أتى الله بأحد ** أو كأحد مرتين )
( بفتى فظ غليظ ** ساقه الله لحيني )
( حال من شقوة جدي ** بين إخواني وبيني )
قال فاتخذناه صديقا لا نفارقه آراء الرواة في شعر أبي نواس
كان أبو عبيدة يقول
ذهبت اليمن بجد الشعر وهزله امرؤ القيس بجده وأبو نواس بهزله
وكان يقول
ذهبت اليمن بجيد الشعر في قديمه وحديثه امرؤ القيس في الأوائل وأبو نواس في المحدثين
وكان يقال
شعراء اليمن ثلاثة امرؤ القيس وحسان بن ثابت وأبو نواس
وقال أبو عبيدة أبو نواس في المحدثين مثل امرئ القيس في المتقدمين فتح لهم هذه الفطن ودلهم على المعاني وأرشدهم إلى الطريق والتصرف في فنونه
قال ميمون بن هارون
سألت يعقوب بن السكيت عما يختار لي روايته من أشعار الشعراء فقال إذا رويت من الجاهليين لإمرئ القيس والأعشى ومن الإسلاميين لجرير والفرزدق ومن المحدثين لأبي نواس فحسبك
قيل للعتبي من أشعر الناس قال أعند الناس أم عندي قال قلت عند الناس قال امرؤ القيس قال قلت فعندك قال أبو نواس
قال عبيد الله بن محمد بن عائشة من طلب الأدب فلم يرو شعر أبي نواس فليس بتام الأدب
قال إبراهيم بن العباس الصولي إذا رأيت الرجل يحفظ شعر أبي نواس علمت أن ذلك عنوان أدبه ورائد ظرفه
سئل حبيب بن أوس عن شعر أبي نواس كيف هو عنده فقال ابو نواس ومسلم اللات والعزى وأنا أعبدهما
وكان أبو نواس يقول عن نفسه سفلت عن طبقة من تقدمني من الشعراء وعلوت عن طبقة من معي ومن يجيء بعدي فأنا نسيج وحدي
حدث جماعة من الرواة ممن شاهد أبا نواس قالوا كان أقل ما في أبي نواس الشعر وكان فحلا راوية عالما
قال سليمان بن أبي سهل
قلت لأبي نواس ما الذي أستجيد من أجناس شعرك فقال أشعاري في الخمر لم يقل مثلها وأشعاري في الغزل فوق أشعار الناس وأجود شعري إن لم يزاحم غزلي ما قلته في الطرد
وكان أبو نواس يقول
ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنك بالرجال وإني لأروى سبعمائة أرجوزة ما تعرف
وكان قد أستأذن خلفا الأحمر في نظم الشعر فقال لا آذن لك في عمل الشعر إلى أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ومائة أرجوزة قصيد ومقطوع فغاب عنه مدة وحضر إليه فقال له قد حفظتها فقال أنشدها فانشده أكثرها في عدة أيام ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر فقال له لا آذن لك إلى أن تنسى هذه الألف أرجوزة كأنك لم تحفظها فقال له هذا أمر يصعب علي فإني قد أتقنت حفظها فقال لا آذن لك أو تنساها فذهب إلى بعض الديرة وخلا بنفسه وأقام مدة حتى نسيها ثم حضر إليه فقال قد نسيتها حتى كأن لم أكن حفظتها قط فقال الان فانظم الشعر حديثه عن نظمه للشعر
كان أبو نواس يقول
لا أكاد أقول شعرا جيدا حتى تكون نفسي طيبة وأكون في بستان مونق وعلى حال أرتضيها من صلة أوصل بها أو وعد بصلة وقد قلت وأنا على غير هذه الحال أشعارا لا أرضاها
وكان يعمل القصيدة ثم يتركها أياما ثم يعرضها على نفسه فيسقط كثيرا منها ويترك صافيها ولا يسره كل ما يقذف به خاطره وكان نهمه للشعر في الخمر فلا يعمله إلا في وقت نشاطه ولم يكن في الشعراء لا بالبطيء ولا بالسريع بل كان في منزلة وسطى
سئل ابن عائشة
من أشعر المحدثين فقال الذي يقول
( كأن ثيابه أطلعن ** من أزراره قمرا )
( يزيدك وجهه حسنا ** إذ ما زدته نظرا )
( بعين خالط التفتير ** من أجفانها الحورا )
( ووجه سابري لو ** تصوب ماؤه قطرا )
( وقد خطت حواضنه ** له من عنبر طررا )
كان الأصمعي يقول
يعجبني من شعر الشاطر بيت واحد قد أجاد قائله وهو
( ضعيفة كر الطرف تحسب أنها ** قريبة عهد بالإفاقة من سقم )
( وإني لآتي الأمر من حيث يتقى ** ويعلم سهمي حين أنزع من أرمي )
وهذا شعر أبي نواس
قال أبو ثابت حبيب بن النعمان بن حبيب الحميري
سمعت كلثوم بن عمرو العتابي يقول لرجل وتناظرا في شعر ابي نواس والله لو أدرك الخبيث الجاهلية ما فضل عليه أحد
وكان أبو عبيدة يقول
يعجبني من شعر ابي نواس قوله
( بنينا على كسرى سماء مدامة ** مكللة حافاتها بنجوم )
( فلورد في كسرى بن ساسان روحه ** إذا لاصطفاني دون كل نديم )
كان أبو عمرو الشيباني يقول
أشعر الناس في وصف الخمر ثلاثة الاعشى والاخطل وأبو نواس
قال بعضهم
كنت ألقى أبا عبد الله محمد بن زياد الأعرابي عند ولد سعيد بن مسلم وكانت مع ابن الأعرابي صحيفة لا تفارق كمه فكنا نحب أن نقف عليها فدخل يوما إلى المتهيأ وترك صحيفته تلك في مجلسه فنظرنا فيها فإذا فيها كثير من شعر ابي نواس في الخمر وقد كنا إذا ذكرنا أبا نواس استحفى به وبذكره فأعدنا عليه ذكره وعرف في وجوهنا وقوفنا على ما في الصحيفة فقال أو قد قرأتم الصحيفة قلنا اجل وعجبنا من ازدرائك بأبي نواس مع تدوينك شعره فقال انه لمن اشعر الناس وما يمنعنا من رواية شعره إلا تبذله وسخفه فكتبنا ما في الصحيفة لامرين أحدهما أن تكون رواية ابن الأعرابي والأخر لعلمنا أن ذلك من جيد شعره لأنه اختيار ابن الأعرابي لنفسه حسد شعراء عصره له
قال محمد بن عمر
لم يكن شاعر في عصر ابي نواس إلا وهو يحسده لميل الناس إليه وشهوتهم لمعاشرته ولبعد صوته وظرف لسانه
قال ابو حاتم السجستاني سئل أبو نواس عن شعره فقال إذا أردت أن أجد قلت مثل قصيدي
( أيها المنتاب عن عفره ** )
وإذا أردت العبث قلت مثل قصيدي
( طاب الهوى لعميده ** )
فأما الذي لعبي فيه وحدي جد فإذا وصفت الخمر
قال أبو ذكوان
كنا عند الثوري فذكرت عنده أبا نواس فوضع بعض الحاضرين منه فقال له الثوري أتقول هذا لرجل يقول
( تخافه الناس ويرجونه ** كأنه الجنة والنار )
والذي يقول
( فما فاته جود ولا حل دونه ** ولكن يصير الجود حيث يصير )
والذي يقول
( فتمشت في مفاصلهم ** كتمشي البرء في السقم )
إلى ما سوى ذلك والله لقد لحق من قبله وفات من بعده
قال ابن الأعرابي يوما لجلسائه ما اشعر ما قال أبو نواس في الخمر
فقال بعضهم قوله
( إذا عب فيها شارب القوم خلته ** يقبل في داج من الليل كوكبا )
وقال آخر بل قوله
( كأن كبرى وصغرى من فواقعها ** حصباء ذر على أرض من الذهب )
وقال آخر بل قوله
( ترى حيثما كانت من البيت مشرقا ** وما لم تكن فيه من البيت مغربا )
وقال آخر بل قوله
( فكأن الكؤوس فينا نجوم ** دائرات بروجها أيدينا )
وقال آخر بل قوله
( صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ** لو مسها حجر مسته سراء )
فقال ابن الأعرابي أن هذا كله لشاعر قد انفرد بالإحسان فيه وتقدم من سبقه ومن تأخر عنه ولكنه أشعر من هذا كله في قوله
( لا ينزل الليل حيث حلت ** فدهر شرابها نهار ) رأي ابي العتاهية في شعره
قال مسلمة بن مهزم
لقيت أبا العتاهية فقلت من أشعر الناس قال تريد جاهليا أو
إسلاميا أو مولدا قلت كلا أريد قال الذي يقول في المديح
( إذا نحن أثنينا عليك بصالح ** فأنت الذي نثني وفوق الذي نثني )
( وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة ** لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني )
والذي يقول في الهجاء
( وما أبقيت من عيلان إلا ** كما أبقت من البظر المواسي )
( وما حامت عن الأحساب إلا ** لترفع ذكرها بأبي نواس )
والذي يقول في الزهد
( وما الناس إلا هالك وابن هالك ** وذو نسب في الهالكين عريق )
فقلت هذا كله لأبى نواس قال هو هو ثم لقيت العتابي فسألته عن هذا السؤال فأجابني بهذا الجواب كأنهما كانا اتفقا عليه
قال الجاحظ سمعت النظام يقول وقد انشد شعرا لأبى نواس في الخمر كأن هذا الفتى جمع له الكلام فاختار أحسنه
وقال بعضهم كأن المعاني حبست عليه فأخذ منها حاجته وفض الباقي على الناس
كان أبو العتاهية يقول
سبقني أبو نواس إلى ثلاثة وددت أني سبقته إليها بكل ما قلته فإنه اشعر الناس فيها منها قوله
( يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر ** )
وقوله
( من لم يكن لله متهما ** لم يمس محتاجا إلى أحد )
وقوله
( إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ** له عن عدو في ثياب صديق )
ثم قال
قلت في الزهد ستة عشر ألف بيت وددت أن أبا نواس له ثلثها بهذه الأبيات وهذه الأبيات لأبي نواس وأولها
( ألا رب وجه في التراب عتيق ** ويا رب حسن في التراب رقيق )
( ويا رب حزم في التراب ونجدة ** ويا رب رأي في التراب وثيق )
( فقل للقريب اليوم إنك راحل ** إلى منزل داني المحل سحيق )
( وما الناس إلا هالك وابن هالك ** وذو نسب في الهالكين عريق )
( إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ** له عن عدو في ثياب صديق )
والمأمون يقول رأيه فيه
كان المأمون يقول
لو سئلت الدنيا عن نفسها فنطقت لما وصفت نفسها كما وصفها أبو نواس في قوله
( إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ** له عن عدو في ثياب صديق )
وكان أبو نواس يقول لو أن شعري يملأ الفم ما تقدمني أحد
قال أبو حاتم
كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس
وقال المكي
ما زالت المعاني مكنوزة في الأرض حتى جاء أبو نواس فاستخرجها
قال احمد بن يوسف الكاتب
كنت أنا وعبد الله بن طاهر عند المأمون وهو مستلق على قفاه فقال لعبد الله بن طاهر يا أبا العباس من اشعر الناس في خلافة بني هاشم فقال أمير المؤمنين أعلى عينا واعرف بهذا فقال على ذلك فقل وتكلم أنت أيضا يا احمد بن يوسف فقال عبد الله بن طاهر أشعرهم الذي يقول
( ويا قبر معن كنت أول حفرة ** من الأرض خطت للسماحة موضعا )
قال فقلت بل أشعرهم الذي يقول
( أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ** إذ كان حظي منك حظي منهم )
فقال المأمون يا احمد أبيت إلا غزلا أين انتم عن الذي يقول
( يا شفيق النفس من حكم ** نمت عن ليلى ولم أنم )
فقلنا صدقت يا أمير المؤمنين
ورد على العتابي بحلب عدة من الكتاب من أهل قنسرين فدخلوا وسلموا وكان في يده رقعة ينظر إليها فقال لهم لقد سلك صاحب هذه الرقعة واديا ما سلكه أحد قبله لله دره فنظروا فإذا هو شعر ابي نواس
( ربع الكرى بين الجفون محيل ** عفى عليه بكا عليك طويل )
( يا ناظرا ما أقلعت لحظاته ** حتى تشحط بينهن قتيل )
( أحللت من قلبي هواك محلة ** ما حلها المشروب والمأكول )
( بكمال صورتك التي من دونها ** يتحير التشبيه والتمثيل )
اجتمع أبو نواس وأبو العتاهية يوما عند إسحاق بن إبراهيم بن ميمون وكل واحد منهما لا يعرف صاحبه قال إسحاق فأخبرت أبا العتاهية بمكان أبي نواس فسلم عليه واستنشده وقال كنت أحب أن أراك فجعل أبو نواس ينشده من سفساف شعره فلما رأى ذلك أبو العتاهية اندفع فأنشده من غير أن يسأله فقال أبو نواس هذا والله المطمع الممتنع فقال أبو العتاهية هذا القول خير من كل ما أنشدت اليوم ثم قال كيف قلت في اعتذارك إلى الرشيد أو قال إلى الفضل بن الربيع قال فأنشده الشعر الذي يقول فيه
( ما من يد في الناس واحدة ** كيد أبو العباس مولاها )
( قد كنت خفتك ثم أمنني ** من أن أخافك خوفك الله )
فقال أبو العتاهية ما عليك ألا تقول بعد هذا شيئا قد كنت والله أحب أن أكون قد سبقتك إليه
قال عبد الله بن سلمة بن عياش
كنت أسير في طريق أصبهان فإذا أنا برجل عليه فرو جالس إلى عين في المنزل فقال لي ممن الرجل قلت من أهل البصرة قال أنشدني
____________________
(1/50)
* ملحق الأغاني (أخبار أبي نواس)
أبو الفرج الأصبهاني سنة الولادة 284هـ/ سنة الوفاة 356هـ
تحقيق علي مهنا وسمير جابر