نقوس المهدي
كاتب
من كتاب عن العجائز يا بت أنا مش هاغيب.. تاخدي بالك من سيدك الكبير.. أنا هاخطف رجلي لحد بيت سيدك. علاء.. وهارجعلك علي طول.. يابت ما طلعيش روحي.
البنت الزهقانة تقف بالقرب من فتحة الباب, بيدها منفضة الريش, تشد رأسها بمنديل أحمر, تنفر من تحته خصلات من شعرها السرح, منسدلة حتي وسطها النحيل, وراءها الشمس تفرش أرض الحديقة في عز الربيع, وثلاث شجرات مانجو مزهرة وشجرة برتقال, وأحواض منورة بالزهر.
رفعت البنت رأسها وردت علي أمها ساخرة:
آخذ بالي منه ازاي؟!.. أرضعه يعني؟!
اخرسي يا بنت الوسخ وصوني أدبك.
ما هي حاجة تزهق يا امه!!.. آهو قاعد لا بيهش ولا بينش.. ساعات أفتكره مات.. ده حتي معتش بيسمع, يتنبح حسي علي ما يرفع راسه ويبص لي.
يابت اهدي.. لازم نراعيه ونشوف طلباته.. فاتحين بيتنا هو وأولاده.
يعني يا امه لازم أولاده يسكنوا كل واحد في حتة ويسيبوه متعلق في رقبتنا؟!
يا بنتي طلبه كده.. عايز يعيش لوحده.. يابت ده كان لوا كبير في الجيش.. كانت الدنيا تتهز لمقامه.. أصلك بنت كلب ما تعرفيش حاجة.
تقترب البنت من أمها وتهمس:
عارفه يا امه.. عارفة.. كل يوم تقولي لي الموال ده.. والله يا امه أنا ساعات أقرب منه أشم ريحة ميتين.
وأنت كنت شميتي ريحة الميتين فين يا بنت الوسخ؟!.. وهيأت كفها بصفعة.. ثم قالت: اتعدلي لعدلك.. امسحي الصالة, ولمعي الموبيليا ونضفي البلكونة ولمي الرتش من الجنينة وساعدي سيدك.. تحميه وتفطريه وتساعديه علشان يقعد في الجنينة.. فاهمه؟!.. وسيبك من ألاعيب شيحه بتاعتك دي.. فاهمه؟
حاضر.. حاضر يا امه.
انصرفت أمها لحال سبيلها.. نظرت لسيدها الجالس, ويضع رأسه علي كفه معتمدا ركبته, ساهما, ويبدو غارقا في تفكير مثلما ينبغي علي المسنين أن يمارسوا وقتهم الطويل.
قالت لنفسها: هو ولا هنا.. ده مش معانا خالص.. استندت للحائط بظهرها تحتضن رجلها اليمين رجلها الشمال. كانت تتأمل صالة البيت الكبيرة.. تحادث نفسها.. تدور عيناها في المكان وتهمس لروحها بصوت خفيض, وتمصمص بشفتيها من عجب ما تراه.. ناس لها بخت وناس لها, وعملت بإصبعها الحركة القبيحة.. فكت الرجل اليمين حضن الرجل الشمال.. راجل رجله والقبر عايش في بيت سلاطين وأنا وأمي واخواتي يادوب علي سطح دار.. والسماء والطارق وهيء
.. اخص عليك دنيا.
كل يوم نفس الكلام, وتغل البنت في روحها عندما تجد نفسها عائمة في وسع البيت, وألوان القماش والصور.
كانت الشمس صاعدة علي الحي الراقي, وكعوب الكتب المذهبة تبرز من خلف زجاج المكتبة الاستيل, وتضوي الثريا بنورها علي الصالة التي لم تفتح نوافذها بعد.. صور لغزلان تعدو علي أرض موشومة بزرع مثمر علي ورق الحيطان.. علي الجنبات المزخرفة بالمينا والقيشاني تنسدل قطع القطيفة المشغولة بنمنمات الزخرف والحروف, وستائر الأرجوان تحجز ضوء النهار وتترك للظلال فسحة لزخرفة الأركان.
كانت تتأمل صور سيدها علي الجدران.. شابا كان, وأشكال الصور تعكس حياة اللواء القديم.. وسط جنوده يقف, تحف به العظمة وسطوة الرئاسة, وجلال المنصب.. تتأمل وتهمس.. راجل ولا كل الرجالة, ثم تنقل عينها إلي حيث يجلس.. كومة من سنوات.. ييجوا يشوفوا دي الوقت.. يا حسرة!!.. زي ما يكون ميت.
قالت لنفسها:
استعنا علي الشقا بالله
توجهت نحو سيدها وهزته برفق فانتبه:
سيدي.. نقوم بقي.. ناخد الدش التمام ونغير هدومنا.
لحظات ويفتح عينيه, ويحدق في المكان, ويحوله لصور, يثبتها ويتأملها قابضا عليها بالقليل من الوعي الذي بدأ يستيقظ لديه.
ينظر مستغربا وجه البنت الجالسة عند قدميه...
مالك يا سيدي أنا نرجس.. شايفني؟.. نرجش الشغالة.
همس:
الحمام
تساند عليها ونهض.. يضع ذراعه علي كتفها ويمضي ناحية الحمام.. تركته حتي قضي حاجته.. دخلت عليه, وخلعت هدومه.. ساعدته حتي تجاوز حافة البانيو.. كان عاريا تحت الدش.. كل يوم علي هذا الحال.. وهي بسبب العادة لم تعد تعرف الخجل منه, فقط يضنيها هذه الأيام نحوله وضلوعه البارزة, وثدياه المتهدلان وجلده الأصفر مثل ورق التواليت.. لم يتخلف أبدا عن حمامه مهما كانت الظروف.. كان يعتبره طهارة لروحه ولجسده معا.
فتحت المحبس فانصب الماء باردا أول الأمر.. وحوح العجوز مثل طفل يتيم,, قالت له:
معلهش يا سيدي هايسخن
وهو ينظر إليها غاضبا
غسلته بالصابون المعطر والشامبو, ودعكت جسمه بالليفة حتي ضوي مثل الزجاج.. عطرته بعطره.. ما يؤلمها أن كل تلك النظافة لم تقدر علي أن تمحو تلك الرائحة التي تنفرها والتي تفوح من جسده.
شمت رائحة العطر في الحمام, ورأت البنت خيطا من ضوء الشمس ينسل من النافذة المفتوحة.. رأته يحدق في الصور الغريبة علي بلاط السيراميك والتي لم تفهم أبدا لماذا يحدق فيها دائما؟.. كانت لامرأة عارية تتدثر عجيزتها بلباس أبيض شفاف, وحول رسغي قدميها عقد من الكارم الأصفر, وعلي رأسها تاج من الشعر.
ساعدته في ارتداء ملابسه.. خرجا معا من الحمام.. قالت له:
أحضر الفطار.. مش كده يا سيدي؟.. تفطر بقي؟
أجلسته في مكانه المعتاد, ومرقت ناحية المطبخ.. فتحت الثلاجة الكبيرة فنورت النعم علي الرفوف داخل المخزن الكبير.. قالت: أكل يكفي بلد.. عيني علينا.. ومدت يدها وفتحت علبة اللحم البارد.. حشت فمها ثم سحبت من الرف السفلي برطمان العسل ودلقت في فمها بعضا منه, وأخذت تلوك اللحم بالعسل وتهمهم بأغنية شائعة.. قلت بيضتين, وجهزت الزيتون والعسل والجبن الأبيض خالي الدسم, وصبت كوب اللبن الكبير البارد, ووضعت شرائح الخبز والبيض المقلي علي الصينية وخرجت من المطبخ.
كان سيدها الآن يعدو علي البحر حيث تلوح علي البعد سلسلة الجبال, ويسمع مع ذلك الطنين في أذنيه صلصلة أجراس تأتي من دير قديم.. يعتقد أنه الآن في سيناء.. يطارد الغلام الذي يعدو هو أيضا تحت السماء صافية الزرقة.
وصوت استغاثة يأتي عبر الصحراء مخترقا فضاءها غير المنتهي, وصف من جنود يعبرون من هناك حيث هاوية بلا قرار.. أصوات ملتاثة وهو يبحث عن الغلام.. والتراتيل تدفق في وعيه.. لا يعرف, هل هي تراتيل في جنازة, أم أغنيات تنبع من سرايا الاغوات عند رأس الطريق بين الماء والرمل.. ثمة ريح هناك وبكاء لذلك الغلام الذي لم يتوقف عن العدو.. ما هي تلك المشاهد التي تأتيه في أحلامه وتدفعه للبكاء؟.. دائما أحلامه ناقصة, ودائما ما تنتهي بالبكاء.
سيدي كنت بتحلم.. كنت برده بتعيط.
وضعت صينية الافطار أمامه علي الترابيزة, وبدأ العجوز يتناول طعامه.
جلست البنت علي الأرض بجانب الكرسي.
إلا قلي ياسيدي هو أنت بتحب الأحلام؟.. دايما أسمعك تتكلم مع ناس والآخر تعيط.. بتصعب علي وأبقي عاوزه أصحيك.. لكن أنا بخاف أقلقك.
كان يود أن يقول لها إنه كثيرا ما يري نفسه في الحلم وهو شاب, وإن الحلم عادة يذهب به للأماكن وللناس الذين ضاعوا من ذاكرته, والذين لا يعثر عليهم الا في الحلم.
صمت في الصالة ولا أحد هناك, والضوء خلف ستارة الأرجوان العتيقة في لون حبة البرقوق.
مرة أخري يسقط رأسه علي صدره.. توقظه نرجس.
كمل فطارك ياسيدي.
لا يعي ما حوله.. هو هناك.. في تلك المنطقة من العدو.. والصوت في رأسه ممتد وعويل جارح والغلام الذي كأنه يقف عند الماء وحيدا.. هل كان يحلم ثانية؟ يخاف من أن يموت وحيدا.. يفزعه أن يموت وحده.. وكان يعشق امتلاك التحف.. اللوحات علي الجدران والتي تلمع بالورنيش.. فازات البورسلين الراقي بزخرفته الصينية.. وأثاث البيت من أول القرن.. وأرضية من رخام أحمر عليها سجادة فارسية من اصفهان.
حملت نرجس صينية الافطار.. باشرت عملها.. كنست, ومسحت ولمعت, خارجة من حجرة لحجرة.. وكلما رأت سيدها في غفوته الطويلة هزت رأسها في استنكار.
استيقظ من غفوته.. رأي البنت تقف وسط الصالة مثل شبح, رآها بفستانها المبلول, الملتصق بجسدها.. نبهه شكل البنت.. بربش بعينيه.. خطت نرجس تجاهه تفوح منها رائحة صابون الحمام.. استغرب وجودها لحظة افاقته.. كان يفكر صامتا وهو يتأمل حركة البنت في البيت.
رفع رأسه ونادي عليها:
يابنت.. هو أنت مين؟
همست, تاني.. أنا نرجس الشغالة ياسيدي.. هو أنا كل يوم أقولك اسمي؟ وتضحك.
يقول..
هو إنت يابت مش فلاحة؟!
أمي كانت فلاحة.. أنا أتولدت هناك.. عند المقطم.. في الأبجية.. من يومها وإحنا بنعيش هناك.
نهضت من أمامه, وخطت ناحية ترابيزة الركن الصغيرة, بجانب مرآة الصالة.. شغلت مسجلا قديما متوسط الحجم.. وضعت فيه شريطا فانفجر الغناء مصحوبا بموسيقي راقصة, وبتلك الكلمات الشعبية الشائعة. شعت بالمكان بهجة مفاجئة, والموسيقي بنغم أفراح أولاد البلد تسعد بها البنت وتحسن وفادتها.. أرادت أن تقول له إنها تحب الغناء جدا, وانها بتموت في صوت حكيم.. حكيم دهوت واد يجنن.. بدأت تهتز قليلا علي ايقاع الموسيقي.. غادرتها رائحة الصابون, وحلت مكانها رائحة المانجو.. لم يفقد حاسة شمه بعد.. كلما اقتربت منه شم رائحة المانجو.. ورفع رأسه والبنت تحدقه بعينيها اللوزيتين, وتنظر ناحيته وهي تباشر الرقص.
أرقص ياسيدي؟ أصل حكيم دهوت يرقص الحجر.
وبدأت تدور حول نفسها.. كانت تنظر إليه.. وحين لمحت الرضي علي وجهه والبسمة الخفيفة علي شفتيه أخذت تطرقع بأصابعها مع اللحن الشائع.
يتردد الغناء بصوت المطرب, والجو قد سخن.. يهب الهواء من الباب علي وجهه.. والبيت قليل الاضاءة تسطع فيه الموسيقي.. والعجوز تزداد ايماءاته وتبدو علي وجهه استثارة.. البنت تتدفق في صالة البيت مثل تيار الماء الجاري.. يفيض جسدها الصبي تحت الظلال المبرقشة بألق نور النهار الذي يسطع مع هبة الهواء من بين فرجات ستائر المخمل.. تميل, ثم تميل.. تدور نشوانة وحالمة فردت يدها فقبضت علي البراح حولها.. والكهل ينتبه لفيض نور الجسد الذي يسعي لاكتماله عبر اعضائه, وعلي صخب الموسيقي, ورائحة الياسمين.. وانبثق من قلب الموسيقي موال شجاه بفتح السكك علي البلاد الغريبة, يناجي الأحبة البعاد في دنيا بلا شطآن, لا تعرف الرحمة.. تدور وكأنها تغيب عن وعيها.. تستحضر الحي الذي تسكنه هناك في بطن الجبل وكهوفه.. بين المقطم ومقابر المجاورين.. جحيم الحياة بمطلق النظر.. بتأمل الصعب.. خنازير وبشر.. وعربات زبالة تجرها بالليل والنهار حمير ضامرة, يسوقها عيال ملوثون بالسخام.. زحمة واختلاط اللحم باللحم.. وللفسق رائحة مثل رائحة الترب المجاورة.. تدلق المنطقة لحمها كل نهار ناحية الشرق, مدينة نصر ومصر الجديدة.. وناحية الغرب المهندسين والزمالك حيث القادرين علي شراء العبيد والدفع لهم.. ينزلون من الجبل مجتازين أزقة مثل شقوق الثعابين.. وخلق الله من حيوان ومن آدمي يمارسون العيش في زحمة النهار, وكبسة الليل, والغرز والمقاهي غاصة بأهلها من أصحاب اليد النجسة والعاطلين.. هنا يعيش الموتي
مع الأحياء.. المكان الوحيد في دنيا ربنا المعبود الذي يضم رفات الذين ماتوا والذين سوف يموتون مقابر الموتي سكن ابن آدم الحي, ومثوي لرقاد المتعجبين.. مدد يا حسين يا ابن بنت النبي عليه السلام.. ونرجس من أعلي الجبل تصرخ كل يوم حين هبوطها للدنيا, قادمة من علو الهضبة فتزلزل صرختها. الجن والانس, وقلعة القائد, ومقام ست المقام, وقبر مولانا ولي النعم, والمآذن التي بلا اسم ومقامة علي مقابر تحتوي علي رمم أغوات ومماليك وأغراب من أرازل البشر.
بعد انتهاء مشوارها في بيوت الأسياد تعود..
تدور بالرقص وتستحضر فصل الجحيم, وتسمع صوت الآذان, وتري الجنازات تتعثر في زحمة الطريق.
وحيدة تعود نرجس تكون مرت علي القعدات في الغرز.. تري بشرا من خيالات تحت نور الغرز المخنوق بدخان المعسل والحشيش المصنع بالسطل الثقيلة مثل الكوابيس.. تتأمل الوجوه الكالحة, وتصك سمعتها الأصوات, وبذيء الكلام.. تصعد السلالم, كأنها سلالم مئذنة مخلعة, وخربة, ثم تصعد الهضبة وتندس في الأزقة المتربة, الوسخة حيث تنفتح أبواب البيوت والشقق في عرض نسمة هواء تطري الأجساد المرمية نساء ورجال وعيال علي الأرض الناشعة بالرطوبة, وعرق الآدمي.
تدور مع شريط المغني وقد ذهلت, يقودها جسد البنية ذات العشرين, الفائر, المعذب, والنغم أبواب تتفتح علي ضوء سري ينبع من الجبل.
تفزع عندما تمتد كفوف المساطيل الخفية تهرس ما حرم الله, وتدغدع بفحش أعضاءها.. تحاول التملص من هجمة العدوان عليها, فيما يصك سمعها نهاية الأمر ضحك فاجر في الليل.
تلتهب البنت العائدة بالليل وقد سخن دمعها.. يبدو لها الأمر كل يوم مثل المقدر والمكتوب علي الجبين.. مثل صور التليفزيون.. وكلام الجرائد تلملم نفسها حتي اذا ما وصلت حجرة شعبان المنجد جاءها كلامه الليلي مع حرمه التخينة, القادمة من الصعيد الجواني, الفاجرة بنت الزواني.. مثل كل ليلة.. نفس الكلام.. نفس الايقاع.. ونفس النهاية.. فيلم ممتد مع عمرها.
تصرخ زوجة شعبان في بعلها الرذل.
هو انت يا راجل موراكش حاجة تعملها غير الهباب ده ؟!
يا بنت ديك الكلب هو في البلد دي حاجة تتعمل.. أهو أحنا من الدكان للغرزة ومن الغرزة للزنزانة دي وما فيش حاجة الواحد يفش غله فيها الا الهباب ده اللي بعمله معاكي كل ليلة.
تغضب ست الحسن والجمال وترد علي راجلها.
هباب يا ابن المرة الناقصة.. برده ؟! مش تحسن ملافظك.
وسمعت البنت ضربة كف خفيفة علي لحم شعبان العريان.
أسرع شعبان بالاعتذار, وخاف المنجد من ضياع فرصة الليلة المواتية:
انت زعلت يا جميل ؟! حقك علي.. فداك روحي يا قمر.
بدا صوت شعبان لنرجس يفيض بالرضا والتزجي, مساوما زوجته بأعز ما يملك فارشا علي ملاية السرير النظيفة وعوده حتي يتم القبول
.. يرتخي صوت المرأة, عابرا الشباك حيث تقف نرجس منكسرا, حنونا, يرشح بالقبول والرضا في صحبته ضحكة حنينه مثيرة للبدن.. مثل كل يوم, ولفحلها الذي يتهيأ الآن شالحا فانلته ولباسه..
يوه جتك إيه يا شعبان.. دا إنت عريان يا راجل.
نتف الكلمات المرحرحة, وأنصاف الضحكات المثيرة تترقرق علي الجبل, وتخترق عروق نرجس مثل سيخ محمي
ترد المرأة ضلفة الشباك في عنف.. تختلط الأصوات اللاهثه, فيما تكون نرجس قد سروخت روحها وهي مستلقية علي ظهرها نصف عارية علي سطح الدار.. وهي تسمع.. مثل كل يوم.. في حضرة القيامة والفعل الحرام..
مثل كل يوم.. تشتعل بها النار.. تلتهب, وقد بللت نفسها.. تتمدد علي السطح كأنها مخبوطة في بدنها كله.. خارجه من زمن لزمن.. مثل كل يوم... ساعة طلعة الجبل المعمم بصخور واكواخ ونتف من بيوت. مثل كل يوم والسماء بعيدة بعد عرش صاحب الخيمة الزرقا. وهناك عند القمة اعلان منور بالنيون الأخضر في حجم بلد بحاله يعلن بصورة لطفل عن مدينة جديدة.
والطفل يطير حتي السحاب.. والمدينة تطير فيها الطيور بلا أجنحة, لها مناقير من ذهب, تغني بكل اللغات.. والبشر يسيرون عرايا, ويسبحون في بحيرة من حليب الأبل المستورد في صحراء الجاز العربية. والنسوة لهن في خضرة البساتين بدلا من الرجل الف, ومن النساء ألوفات.. والشمس في أحيان كثيرة تنشق عن الوان عديدة بإذن ربها ساكن السموات, تنير الأرض للأغراب القادمين, فرحين وسعداء بالخراب العظيم لمدينة كانت يوما عاصمة الدنيا وبستان العالم.
انتبهت نرجس واستعادت توازنها.. توقفت عن الرقص, وجرت ناحية العجوز الذي كان يبتسم لها.. قالت له: قوم يا سيدي نروح الجنينة..
طاوعها وهم. وحين تأمل وجهها وأحس بسخونة بدنها سألها: هو النهار ده إيه ؟.. إجابته ضاحكة: النهاردة الخميس وبكرة الجمعة هانصلي في الحسين.. ضحك العجوز, وفرقعت نرجس ضحكة من بتوع الجبل فشع من خلف الزجاج النور, وهبت من المنزل المجاور رائحة ورد جعلت نرجس تصيح: الله يا سيدي ريحة ورد هبطت ببدنها حتي العجوز الجالس ولقفت ذراعه علي كتفها, ولفت ذراعها حول خصره الهضيم وهمت به واقفة.
وسط صالة البيت دائرة من رخام مزخرف بالنجوم والنبات الزهري, ما ان وصلا دائرة الرخام المزهرة حتي عفق العجوز الفص اليمين لمؤخرة فخذ البنت.. جفلت نرجس وانفلتت من تحت ابط الكهل وهي تضحك بشقاوة وبإحساس بالمفاجأة راسمة بيدها حركة تحذير تجاه سيدها.
الله.. الله.. هو احنا فينا من الشقاوة دي.. لا سيدي من غير شقاوة.
كركرت بالضحك مندهشة, والرجل يقف مكانه يحدقها بعين اتسعت وقد فارقتها الغيوم.. أحست بكرم النهار.. انسحبت بظهرها متأملة الشيخ غير مصدقة, الا انها كانت سعيدة ببداية لعبة لا تعرف كيف ستنتهي؟
كان يخطو وحده وقد بربش بعينيه يتأمل جسد البنت وقد التصق به ثوبها المبلول كاشفا عن كنوزه البكر, وصباها المشتهي.
يلملم سنينه ويمضي نحو لحظته العارمة.
ما الذي تريده ايها الكهل؟ انتظر.. لا تهوي في فخ الخواتيم, لحظته العارمة حيث افاق من حلمه عليها منتظرة عند باب يقظته,, كأنها لحظة من الماضي.. هبة من افق بعيد مشتهي.. وركض المهرة في الخلاء وهم في حلم.. وانت في منتصف السبعين, منتصف السبعين مرعب.. وانت من قديم نسيت مثل هذه الأمور حيث تمشي به ميتا بين فخذيك ولا أمل هناك حتي ولا في الاحلام... انتبه كي لا تتعثر.. والبنت فاجرة ولا تعرف الرحمة.
اعطته ظهرها, وأخذت تعد علي اصابعها ثم استدارت نحوه مبتسمة وأخذت تحدق في عينيه.
شوف ياسيدي.. ان كان ولابد يبقي البوسة بميتين جنيه والحضن بتلتماية.. ثم صمتت لحظة وأكملت كلامها:
أما اذا كنت عاوز اللي بالي بالك يبقي بخمسمية.
جلجلت ضحكتها وقلبت الشريط ورفعت صوت المسجل فانفجر حكيم بالغناء, اهتزت من جديد, وسمعته في ضجيج اللحن يغمغم بالموافقة, وحتي تتأكد قالت له وهي ترقص:
هيه ياسيدي.. قلت ايه؟
وافق بهز رأسه, فتقدمت منه وأخرجت رأس لسانها ومسحت به شفة العجوز, وقالت:
وادي العربون..
ضحكت, ولكي تهدئ باله قالت له اعمل لك شاي, ثانية واحدة واجيب الشاي.
ولما كانت غير قادرة علي تحمل رائحة الميتين, لذا اندفعت نحو غرفة نوم سيدها واحضرت زجاجة عطره, وبخت عليه من العطر الذي طرد رائحة الميتين.
وفيما كان المسجل يصدح بالموسيقي كان زمن العجوز يرتد به الي هناك.. كان دائما في لحظة الحاضر يعود الي ماضيه, الي زمنه الخاص, ذلك الزمن الذي دائما له حضوره, ويقاوم من خلاله انطفاء ذاكرته باستحضار مشهد من زمن يضيع.. هو الان قابل للادراك.. يوقظ ذاكرته, ويلقي نظرة علي الضوء ممسكا بكثير من حكايا قديمة.. مشاهد من زمن ولي... شمس تنير مدينة علي نهر نيفا, وغابة من صنوبر تحيط بمدينة تزينها القباب الخضراء, ويصدح فيها قرع الاجراس, ولافتات علي المباني ياعمال العالم اتحدوا واجناس من كل نوع... مغول وأناضوليون وروس بيض, وأفارقه موسكو الستينيات وهو يعبر الشارع, كان يقضي بعثة اركان الحرب يسير مرتديا طاقمه العسكري متوجها ناحية مدخل البيت.. مفتوحة حواسه, وصدره ممتلئ بالهواء.. تأتيه اللغة الروسية بجرسها الرومانطيقي فيما يجلس الروس والأغراب علي كراسي المقاهي يتأملون لون أيامهم.
يدخل من باب البيت عتيق الطراز, بيده صحبة الورد وحقيبة من الورق مثقلة بالأغراض, تقابله سيدة علي الدرج, جميلة في الخمسين تسأله بالروسية: الي اين؟.. لا يجيب,,, لا يرد عليها بالانجليزية.. تسأله عن جنسه.. يخبرها بأنه مصري.. يفيض وجه المرأة بالحنان والرضا, ويكاد يلمح في عينيها الدموع, ودهشة تتسع علي وجه العجوز الجميلة النظيفة.. تجيبه بالعربية: مصري.. مصري.. يؤكد لها ذلك, وبين فرحته بلغتها العربية السليمة, وحسن استقبالها, يسألها تتكلمين عربي؟!.. تخبره انها قضت في مصر خمس سنين, وانها كانت تعمل في السفارة بشارع الجيزة, وانها كانت تقيم بالدقي,, اغرقت عينيها الدموع عندما قبل خدها..
قالت له: ان مصر اجمل بلد في الدنيا, وانها لم تكن أبدا ترغب في العودة الي موسكو لكن زوجها لم يوافق علي اقامتها في مصر.. سألته: الي اين؟... اجابها: ان معه موعدا مع الانسة.. انا بتروفيتش!!
زاطت العجوز, واخبرته, ان انا ابنتها هي الان فوق وانها تنتظره, استأذن منها ومضي.. صعد السلم سعيدا بمحاسن الصدف.. قبل اخر الدرج لمح انا كانت تنتظره بوجه يشع بالنور, وابتسامة مثل الورد, قال في نفسه ربنا يعز الجمال ومضي يصعد وكلما اقترب نورت الانسة
بتروفيتش بنور ربها.. كان علي وشك أن يفقد الرشد.. حين احتضنها وعرف انها عارية تحت الروب.. قرص ثديها.. تنبع تلك القرصة الآن من بئر النسيان.. تخايله.. تسيح الجليد من علي دمه.. يتذكر أنه قبل أن يحضر لآنا ذهب إلي السوق, ودخل أرقي المحلات, واشتري الجمبري, وثلاث برتقالات لأن آنا تحبه, كما اشتري دستة جاتوه من محل نور الشرق وربع كيلو كافيار من بطارخ الفولجا, وحين دخل محل الخمور ليشتري زجاجة الفودكا القيمة لمح علي الحائط صورة في اطار لزوجة تشايكوفسكي فاشتراها هي أيضا.. قال لنفسه: انه بعد وقته مع آنا سوف يصحبها لأوبرا موسكو ليشاهدا بحيرة البجع.
خمسون عاما مضت وكأن ما حدث حدث بالأمس.
للزمن حكايته.. وأنت تستأنس بالسنين.. والسنون كما تري, وكما فعلت. حاول.. هي لحظة مشروعة.. وأنت توقظ النار في الرماد.
نحن دمه, وخاف من التوهان وأحلام اليقظة.
كان قد انشغل بما يجري, والبنت سحبته من يده ليطل علي ثمار البستان فيما هي تبرجس في الشقة مثل مهرته القديمة, وهو كهل يودع زمانه.
فكر, لقد وصلت عمرا من الارتياب.. محبوسا مثل سجين ولا عزاء للمسنين خرجت نرجس بالشاي.. ارتشفه ببطء.. كانت تجلس بجانب ساقه التي تتحسسها بكفها, ولا تكف عن الكلام.
قبض العجوز علي ثدي البنت.. نهضت واقفة, مشوحة في وجهه: لا ياسيدي.. الحساب الأول.
أشار ناحية حجرة المكتب وطلب منها أن تحضر محفظته.. نهضت في سرعة البرق وأعطته المحفظة التي فتحها وأعطاها المبلغ.. كان الخمسمائة جنيه.. اندهشت حين فهمت الرسالة.. ضحكت وهمست لنفسها: سيدي عاوز اللي بالي بالك..
لم تكن تصدق.. ولم تفهم.. كما إنها حين قبضت علي المبلغ لم يكن يهمها أي أمر بعد ذلك.
كانت الصبية تسحبه حتي حجرة النوم.. كان سهلا ميسرا, يترك لها قياده ويمشي, متفهما يعي الأمر ويدرك ما هو فيه.
تمتد حجرة النوم أمامه مثل أبدية.. كأنه يدخلها أول مرة.. تحيطه الصور.. تعيش لحظة وجوده المختلف.. من زمان لم يحدث هذا.. وأنت لا تعرف كيف سينتهي الأمر؟.. سنون لم تختبر شجن قلبك.. والأرض عارية الا من عشب كالهشيم.. توقف قليلا أمام الباب.. وضعت البنت يدها علي صدره فأمسكت بنبضه.. كان قلبه يعدو بالشوط وأحست به خائفا فضمت العجوز لصدرها.
تعال.. ادخل يا سيدي.. متخافش.. فيه فيه.. مافيش مافيش.
رأي نفسه في مرآة الدولاب.. لم يخطر علي باله أنه قد أصبح هرما هكذا.. والمرآة لا تكذب.. كأنه لم يعرف من يطل عليه..بدا لنفسه غير نفسه.. رأي علي الحائط صورة له يمتطي مهرة الأيام الخوالي ويرمح في البراح.. شد اللواء بدنه وأخذ البنت في حضنه.. كان يقبلها بشغف, والبنت تنظر في عينيه التي تشع علي غير العادة.. والمهرة تقفز الحواجز وتثير عفرة التراب علي أرض السبق, وعصاه الصغيرة مشرعة تحت سماء ضحوية في نهار الربيع.
جاءت.. آنا بتروفنا تشد من أزره بجسدها المنور وعين البحر وبسمة النهار الوسيع.. ليالي امرأته الراحلة أيام الشباب, في الاجازات الصاخبة في شقة المدينة الساحلية.. ونرجس تنضج النار في الرماد.
من بعيد.. من آخر مكان في البدن.. من الكهف الغويط السري.. من مكمن الهواجس والغيوم.. من لطشة كهرباء الظهر أحس باللسعة في دمه.. والبنت معه.. والعجوز يندهش بما يجري مثل بهلول عثر علي أحواله الخفية.. من أين تأتي الريح؟.. هو لا يعرف.. شيخ آخر العمر.. لم يكن يصدق.. هل فارقه ورعه؟.. كأنه يقف علي الحبل وقد عادت الحيوية لأطرافه.
اكتمل بغرابة
ونرجس لا تصدق
كأنما جمع كل عمره في ذلك المشهد الأخير.. كان يدرك أنه الاخير. وجسد البنت يغزو روحه, وهو يعيش معني حياته كلها.
فجأة أجهش الشيخ بالبكاء.
ما الذي كان يبكيه؟!.. هو يعرف وهي لا تعرف.. واللحظات النادرة من وجود راحل تعز علي القلب.
ينشج بصوت, ونرجس تستعطفه, مالك يا سيدي.. فيه ايه؟.. لم ينقطع بكاؤه, والبنت تنظر اليه ولا تقدر عذابه.
خرجت من الباب وأغلقته عليه.. كانت تقبض علي الأكرة, يأتيها صوته حين همست لنفسها.
والله ما أنا فاهمه بيعيط ليه؟!.. ما كان زي الفل.. حكم؟.
البنت الزهقانة تقف بالقرب من فتحة الباب, بيدها منفضة الريش, تشد رأسها بمنديل أحمر, تنفر من تحته خصلات من شعرها السرح, منسدلة حتي وسطها النحيل, وراءها الشمس تفرش أرض الحديقة في عز الربيع, وثلاث شجرات مانجو مزهرة وشجرة برتقال, وأحواض منورة بالزهر.
رفعت البنت رأسها وردت علي أمها ساخرة:
آخذ بالي منه ازاي؟!.. أرضعه يعني؟!
اخرسي يا بنت الوسخ وصوني أدبك.
ما هي حاجة تزهق يا امه!!.. آهو قاعد لا بيهش ولا بينش.. ساعات أفتكره مات.. ده حتي معتش بيسمع, يتنبح حسي علي ما يرفع راسه ويبص لي.
يابت اهدي.. لازم نراعيه ونشوف طلباته.. فاتحين بيتنا هو وأولاده.
يعني يا امه لازم أولاده يسكنوا كل واحد في حتة ويسيبوه متعلق في رقبتنا؟!
يا بنتي طلبه كده.. عايز يعيش لوحده.. يابت ده كان لوا كبير في الجيش.. كانت الدنيا تتهز لمقامه.. أصلك بنت كلب ما تعرفيش حاجة.
تقترب البنت من أمها وتهمس:
عارفه يا امه.. عارفة.. كل يوم تقولي لي الموال ده.. والله يا امه أنا ساعات أقرب منه أشم ريحة ميتين.
وأنت كنت شميتي ريحة الميتين فين يا بنت الوسخ؟!.. وهيأت كفها بصفعة.. ثم قالت: اتعدلي لعدلك.. امسحي الصالة, ولمعي الموبيليا ونضفي البلكونة ولمي الرتش من الجنينة وساعدي سيدك.. تحميه وتفطريه وتساعديه علشان يقعد في الجنينة.. فاهمه؟!.. وسيبك من ألاعيب شيحه بتاعتك دي.. فاهمه؟
حاضر.. حاضر يا امه.
انصرفت أمها لحال سبيلها.. نظرت لسيدها الجالس, ويضع رأسه علي كفه معتمدا ركبته, ساهما, ويبدو غارقا في تفكير مثلما ينبغي علي المسنين أن يمارسوا وقتهم الطويل.
قالت لنفسها: هو ولا هنا.. ده مش معانا خالص.. استندت للحائط بظهرها تحتضن رجلها اليمين رجلها الشمال. كانت تتأمل صالة البيت الكبيرة.. تحادث نفسها.. تدور عيناها في المكان وتهمس لروحها بصوت خفيض, وتمصمص بشفتيها من عجب ما تراه.. ناس لها بخت وناس لها, وعملت بإصبعها الحركة القبيحة.. فكت الرجل اليمين حضن الرجل الشمال.. راجل رجله والقبر عايش في بيت سلاطين وأنا وأمي واخواتي يادوب علي سطح دار.. والسماء والطارق وهيء
.. اخص عليك دنيا.
كل يوم نفس الكلام, وتغل البنت في روحها عندما تجد نفسها عائمة في وسع البيت, وألوان القماش والصور.
كانت الشمس صاعدة علي الحي الراقي, وكعوب الكتب المذهبة تبرز من خلف زجاج المكتبة الاستيل, وتضوي الثريا بنورها علي الصالة التي لم تفتح نوافذها بعد.. صور لغزلان تعدو علي أرض موشومة بزرع مثمر علي ورق الحيطان.. علي الجنبات المزخرفة بالمينا والقيشاني تنسدل قطع القطيفة المشغولة بنمنمات الزخرف والحروف, وستائر الأرجوان تحجز ضوء النهار وتترك للظلال فسحة لزخرفة الأركان.
كانت تتأمل صور سيدها علي الجدران.. شابا كان, وأشكال الصور تعكس حياة اللواء القديم.. وسط جنوده يقف, تحف به العظمة وسطوة الرئاسة, وجلال المنصب.. تتأمل وتهمس.. راجل ولا كل الرجالة, ثم تنقل عينها إلي حيث يجلس.. كومة من سنوات.. ييجوا يشوفوا دي الوقت.. يا حسرة!!.. زي ما يكون ميت.
قالت لنفسها:
استعنا علي الشقا بالله
توجهت نحو سيدها وهزته برفق فانتبه:
سيدي.. نقوم بقي.. ناخد الدش التمام ونغير هدومنا.
لحظات ويفتح عينيه, ويحدق في المكان, ويحوله لصور, يثبتها ويتأملها قابضا عليها بالقليل من الوعي الذي بدأ يستيقظ لديه.
ينظر مستغربا وجه البنت الجالسة عند قدميه...
مالك يا سيدي أنا نرجس.. شايفني؟.. نرجش الشغالة.
همس:
الحمام
تساند عليها ونهض.. يضع ذراعه علي كتفها ويمضي ناحية الحمام.. تركته حتي قضي حاجته.. دخلت عليه, وخلعت هدومه.. ساعدته حتي تجاوز حافة البانيو.. كان عاريا تحت الدش.. كل يوم علي هذا الحال.. وهي بسبب العادة لم تعد تعرف الخجل منه, فقط يضنيها هذه الأيام نحوله وضلوعه البارزة, وثدياه المتهدلان وجلده الأصفر مثل ورق التواليت.. لم يتخلف أبدا عن حمامه مهما كانت الظروف.. كان يعتبره طهارة لروحه ولجسده معا.
فتحت المحبس فانصب الماء باردا أول الأمر.. وحوح العجوز مثل طفل يتيم,, قالت له:
معلهش يا سيدي هايسخن
وهو ينظر إليها غاضبا
غسلته بالصابون المعطر والشامبو, ودعكت جسمه بالليفة حتي ضوي مثل الزجاج.. عطرته بعطره.. ما يؤلمها أن كل تلك النظافة لم تقدر علي أن تمحو تلك الرائحة التي تنفرها والتي تفوح من جسده.
شمت رائحة العطر في الحمام, ورأت البنت خيطا من ضوء الشمس ينسل من النافذة المفتوحة.. رأته يحدق في الصور الغريبة علي بلاط السيراميك والتي لم تفهم أبدا لماذا يحدق فيها دائما؟.. كانت لامرأة عارية تتدثر عجيزتها بلباس أبيض شفاف, وحول رسغي قدميها عقد من الكارم الأصفر, وعلي رأسها تاج من الشعر.
ساعدته في ارتداء ملابسه.. خرجا معا من الحمام.. قالت له:
أحضر الفطار.. مش كده يا سيدي؟.. تفطر بقي؟
أجلسته في مكانه المعتاد, ومرقت ناحية المطبخ.. فتحت الثلاجة الكبيرة فنورت النعم علي الرفوف داخل المخزن الكبير.. قالت: أكل يكفي بلد.. عيني علينا.. ومدت يدها وفتحت علبة اللحم البارد.. حشت فمها ثم سحبت من الرف السفلي برطمان العسل ودلقت في فمها بعضا منه, وأخذت تلوك اللحم بالعسل وتهمهم بأغنية شائعة.. قلت بيضتين, وجهزت الزيتون والعسل والجبن الأبيض خالي الدسم, وصبت كوب اللبن الكبير البارد, ووضعت شرائح الخبز والبيض المقلي علي الصينية وخرجت من المطبخ.
كان سيدها الآن يعدو علي البحر حيث تلوح علي البعد سلسلة الجبال, ويسمع مع ذلك الطنين في أذنيه صلصلة أجراس تأتي من دير قديم.. يعتقد أنه الآن في سيناء.. يطارد الغلام الذي يعدو هو أيضا تحت السماء صافية الزرقة.
وصوت استغاثة يأتي عبر الصحراء مخترقا فضاءها غير المنتهي, وصف من جنود يعبرون من هناك حيث هاوية بلا قرار.. أصوات ملتاثة وهو يبحث عن الغلام.. والتراتيل تدفق في وعيه.. لا يعرف, هل هي تراتيل في جنازة, أم أغنيات تنبع من سرايا الاغوات عند رأس الطريق بين الماء والرمل.. ثمة ريح هناك وبكاء لذلك الغلام الذي لم يتوقف عن العدو.. ما هي تلك المشاهد التي تأتيه في أحلامه وتدفعه للبكاء؟.. دائما أحلامه ناقصة, ودائما ما تنتهي بالبكاء.
سيدي كنت بتحلم.. كنت برده بتعيط.
وضعت صينية الافطار أمامه علي الترابيزة, وبدأ العجوز يتناول طعامه.
جلست البنت علي الأرض بجانب الكرسي.
إلا قلي ياسيدي هو أنت بتحب الأحلام؟.. دايما أسمعك تتكلم مع ناس والآخر تعيط.. بتصعب علي وأبقي عاوزه أصحيك.. لكن أنا بخاف أقلقك.
كان يود أن يقول لها إنه كثيرا ما يري نفسه في الحلم وهو شاب, وإن الحلم عادة يذهب به للأماكن وللناس الذين ضاعوا من ذاكرته, والذين لا يعثر عليهم الا في الحلم.
صمت في الصالة ولا أحد هناك, والضوء خلف ستارة الأرجوان العتيقة في لون حبة البرقوق.
مرة أخري يسقط رأسه علي صدره.. توقظه نرجس.
كمل فطارك ياسيدي.
لا يعي ما حوله.. هو هناك.. في تلك المنطقة من العدو.. والصوت في رأسه ممتد وعويل جارح والغلام الذي كأنه يقف عند الماء وحيدا.. هل كان يحلم ثانية؟ يخاف من أن يموت وحيدا.. يفزعه أن يموت وحده.. وكان يعشق امتلاك التحف.. اللوحات علي الجدران والتي تلمع بالورنيش.. فازات البورسلين الراقي بزخرفته الصينية.. وأثاث البيت من أول القرن.. وأرضية من رخام أحمر عليها سجادة فارسية من اصفهان.
حملت نرجس صينية الافطار.. باشرت عملها.. كنست, ومسحت ولمعت, خارجة من حجرة لحجرة.. وكلما رأت سيدها في غفوته الطويلة هزت رأسها في استنكار.
استيقظ من غفوته.. رأي البنت تقف وسط الصالة مثل شبح, رآها بفستانها المبلول, الملتصق بجسدها.. نبهه شكل البنت.. بربش بعينيه.. خطت نرجس تجاهه تفوح منها رائحة صابون الحمام.. استغرب وجودها لحظة افاقته.. كان يفكر صامتا وهو يتأمل حركة البنت في البيت.
رفع رأسه ونادي عليها:
يابنت.. هو أنت مين؟
همست, تاني.. أنا نرجس الشغالة ياسيدي.. هو أنا كل يوم أقولك اسمي؟ وتضحك.
يقول..
هو إنت يابت مش فلاحة؟!
أمي كانت فلاحة.. أنا أتولدت هناك.. عند المقطم.. في الأبجية.. من يومها وإحنا بنعيش هناك.
نهضت من أمامه, وخطت ناحية ترابيزة الركن الصغيرة, بجانب مرآة الصالة.. شغلت مسجلا قديما متوسط الحجم.. وضعت فيه شريطا فانفجر الغناء مصحوبا بموسيقي راقصة, وبتلك الكلمات الشعبية الشائعة. شعت بالمكان بهجة مفاجئة, والموسيقي بنغم أفراح أولاد البلد تسعد بها البنت وتحسن وفادتها.. أرادت أن تقول له إنها تحب الغناء جدا, وانها بتموت في صوت حكيم.. حكيم دهوت واد يجنن.. بدأت تهتز قليلا علي ايقاع الموسيقي.. غادرتها رائحة الصابون, وحلت مكانها رائحة المانجو.. لم يفقد حاسة شمه بعد.. كلما اقتربت منه شم رائحة المانجو.. ورفع رأسه والبنت تحدقه بعينيها اللوزيتين, وتنظر ناحيته وهي تباشر الرقص.
أرقص ياسيدي؟ أصل حكيم دهوت يرقص الحجر.
وبدأت تدور حول نفسها.. كانت تنظر إليه.. وحين لمحت الرضي علي وجهه والبسمة الخفيفة علي شفتيه أخذت تطرقع بأصابعها مع اللحن الشائع.
يتردد الغناء بصوت المطرب, والجو قد سخن.. يهب الهواء من الباب علي وجهه.. والبيت قليل الاضاءة تسطع فيه الموسيقي.. والعجوز تزداد ايماءاته وتبدو علي وجهه استثارة.. البنت تتدفق في صالة البيت مثل تيار الماء الجاري.. يفيض جسدها الصبي تحت الظلال المبرقشة بألق نور النهار الذي يسطع مع هبة الهواء من بين فرجات ستائر المخمل.. تميل, ثم تميل.. تدور نشوانة وحالمة فردت يدها فقبضت علي البراح حولها.. والكهل ينتبه لفيض نور الجسد الذي يسعي لاكتماله عبر اعضائه, وعلي صخب الموسيقي, ورائحة الياسمين.. وانبثق من قلب الموسيقي موال شجاه بفتح السكك علي البلاد الغريبة, يناجي الأحبة البعاد في دنيا بلا شطآن, لا تعرف الرحمة.. تدور وكأنها تغيب عن وعيها.. تستحضر الحي الذي تسكنه هناك في بطن الجبل وكهوفه.. بين المقطم ومقابر المجاورين.. جحيم الحياة بمطلق النظر.. بتأمل الصعب.. خنازير وبشر.. وعربات زبالة تجرها بالليل والنهار حمير ضامرة, يسوقها عيال ملوثون بالسخام.. زحمة واختلاط اللحم باللحم.. وللفسق رائحة مثل رائحة الترب المجاورة.. تدلق المنطقة لحمها كل نهار ناحية الشرق, مدينة نصر ومصر الجديدة.. وناحية الغرب المهندسين والزمالك حيث القادرين علي شراء العبيد والدفع لهم.. ينزلون من الجبل مجتازين أزقة مثل شقوق الثعابين.. وخلق الله من حيوان ومن آدمي يمارسون العيش في زحمة النهار, وكبسة الليل, والغرز والمقاهي غاصة بأهلها من أصحاب اليد النجسة والعاطلين.. هنا يعيش الموتي
مع الأحياء.. المكان الوحيد في دنيا ربنا المعبود الذي يضم رفات الذين ماتوا والذين سوف يموتون مقابر الموتي سكن ابن آدم الحي, ومثوي لرقاد المتعجبين.. مدد يا حسين يا ابن بنت النبي عليه السلام.. ونرجس من أعلي الجبل تصرخ كل يوم حين هبوطها للدنيا, قادمة من علو الهضبة فتزلزل صرختها. الجن والانس, وقلعة القائد, ومقام ست المقام, وقبر مولانا ولي النعم, والمآذن التي بلا اسم ومقامة علي مقابر تحتوي علي رمم أغوات ومماليك وأغراب من أرازل البشر.
بعد انتهاء مشوارها في بيوت الأسياد تعود..
تدور بالرقص وتستحضر فصل الجحيم, وتسمع صوت الآذان, وتري الجنازات تتعثر في زحمة الطريق.
وحيدة تعود نرجس تكون مرت علي القعدات في الغرز.. تري بشرا من خيالات تحت نور الغرز المخنوق بدخان المعسل والحشيش المصنع بالسطل الثقيلة مثل الكوابيس.. تتأمل الوجوه الكالحة, وتصك سمعتها الأصوات, وبذيء الكلام.. تصعد السلالم, كأنها سلالم مئذنة مخلعة, وخربة, ثم تصعد الهضبة وتندس في الأزقة المتربة, الوسخة حيث تنفتح أبواب البيوت والشقق في عرض نسمة هواء تطري الأجساد المرمية نساء ورجال وعيال علي الأرض الناشعة بالرطوبة, وعرق الآدمي.
تدور مع شريط المغني وقد ذهلت, يقودها جسد البنية ذات العشرين, الفائر, المعذب, والنغم أبواب تتفتح علي ضوء سري ينبع من الجبل.
تفزع عندما تمتد كفوف المساطيل الخفية تهرس ما حرم الله, وتدغدع بفحش أعضاءها.. تحاول التملص من هجمة العدوان عليها, فيما يصك سمعها نهاية الأمر ضحك فاجر في الليل.
تلتهب البنت العائدة بالليل وقد سخن دمعها.. يبدو لها الأمر كل يوم مثل المقدر والمكتوب علي الجبين.. مثل صور التليفزيون.. وكلام الجرائد تلملم نفسها حتي اذا ما وصلت حجرة شعبان المنجد جاءها كلامه الليلي مع حرمه التخينة, القادمة من الصعيد الجواني, الفاجرة بنت الزواني.. مثل كل ليلة.. نفس الكلام.. نفس الايقاع.. ونفس النهاية.. فيلم ممتد مع عمرها.
تصرخ زوجة شعبان في بعلها الرذل.
هو انت يا راجل موراكش حاجة تعملها غير الهباب ده ؟!
يا بنت ديك الكلب هو في البلد دي حاجة تتعمل.. أهو أحنا من الدكان للغرزة ومن الغرزة للزنزانة دي وما فيش حاجة الواحد يفش غله فيها الا الهباب ده اللي بعمله معاكي كل ليلة.
تغضب ست الحسن والجمال وترد علي راجلها.
هباب يا ابن المرة الناقصة.. برده ؟! مش تحسن ملافظك.
وسمعت البنت ضربة كف خفيفة علي لحم شعبان العريان.
أسرع شعبان بالاعتذار, وخاف المنجد من ضياع فرصة الليلة المواتية:
انت زعلت يا جميل ؟! حقك علي.. فداك روحي يا قمر.
بدا صوت شعبان لنرجس يفيض بالرضا والتزجي, مساوما زوجته بأعز ما يملك فارشا علي ملاية السرير النظيفة وعوده حتي يتم القبول
.. يرتخي صوت المرأة, عابرا الشباك حيث تقف نرجس منكسرا, حنونا, يرشح بالقبول والرضا في صحبته ضحكة حنينه مثيرة للبدن.. مثل كل يوم, ولفحلها الذي يتهيأ الآن شالحا فانلته ولباسه..
يوه جتك إيه يا شعبان.. دا إنت عريان يا راجل.
نتف الكلمات المرحرحة, وأنصاف الضحكات المثيرة تترقرق علي الجبل, وتخترق عروق نرجس مثل سيخ محمي
ترد المرأة ضلفة الشباك في عنف.. تختلط الأصوات اللاهثه, فيما تكون نرجس قد سروخت روحها وهي مستلقية علي ظهرها نصف عارية علي سطح الدار.. وهي تسمع.. مثل كل يوم.. في حضرة القيامة والفعل الحرام..
مثل كل يوم.. تشتعل بها النار.. تلتهب, وقد بللت نفسها.. تتمدد علي السطح كأنها مخبوطة في بدنها كله.. خارجه من زمن لزمن.. مثل كل يوم... ساعة طلعة الجبل المعمم بصخور واكواخ ونتف من بيوت. مثل كل يوم والسماء بعيدة بعد عرش صاحب الخيمة الزرقا. وهناك عند القمة اعلان منور بالنيون الأخضر في حجم بلد بحاله يعلن بصورة لطفل عن مدينة جديدة.
والطفل يطير حتي السحاب.. والمدينة تطير فيها الطيور بلا أجنحة, لها مناقير من ذهب, تغني بكل اللغات.. والبشر يسيرون عرايا, ويسبحون في بحيرة من حليب الأبل المستورد في صحراء الجاز العربية. والنسوة لهن في خضرة البساتين بدلا من الرجل الف, ومن النساء ألوفات.. والشمس في أحيان كثيرة تنشق عن الوان عديدة بإذن ربها ساكن السموات, تنير الأرض للأغراب القادمين, فرحين وسعداء بالخراب العظيم لمدينة كانت يوما عاصمة الدنيا وبستان العالم.
انتبهت نرجس واستعادت توازنها.. توقفت عن الرقص, وجرت ناحية العجوز الذي كان يبتسم لها.. قالت له: قوم يا سيدي نروح الجنينة..
طاوعها وهم. وحين تأمل وجهها وأحس بسخونة بدنها سألها: هو النهار ده إيه ؟.. إجابته ضاحكة: النهاردة الخميس وبكرة الجمعة هانصلي في الحسين.. ضحك العجوز, وفرقعت نرجس ضحكة من بتوع الجبل فشع من خلف الزجاج النور, وهبت من المنزل المجاور رائحة ورد جعلت نرجس تصيح: الله يا سيدي ريحة ورد هبطت ببدنها حتي العجوز الجالس ولقفت ذراعه علي كتفها, ولفت ذراعها حول خصره الهضيم وهمت به واقفة.
وسط صالة البيت دائرة من رخام مزخرف بالنجوم والنبات الزهري, ما ان وصلا دائرة الرخام المزهرة حتي عفق العجوز الفص اليمين لمؤخرة فخذ البنت.. جفلت نرجس وانفلتت من تحت ابط الكهل وهي تضحك بشقاوة وبإحساس بالمفاجأة راسمة بيدها حركة تحذير تجاه سيدها.
الله.. الله.. هو احنا فينا من الشقاوة دي.. لا سيدي من غير شقاوة.
كركرت بالضحك مندهشة, والرجل يقف مكانه يحدقها بعين اتسعت وقد فارقتها الغيوم.. أحست بكرم النهار.. انسحبت بظهرها متأملة الشيخ غير مصدقة, الا انها كانت سعيدة ببداية لعبة لا تعرف كيف ستنتهي؟
كان يخطو وحده وقد بربش بعينيه يتأمل جسد البنت وقد التصق به ثوبها المبلول كاشفا عن كنوزه البكر, وصباها المشتهي.
يلملم سنينه ويمضي نحو لحظته العارمة.
ما الذي تريده ايها الكهل؟ انتظر.. لا تهوي في فخ الخواتيم, لحظته العارمة حيث افاق من حلمه عليها منتظرة عند باب يقظته,, كأنها لحظة من الماضي.. هبة من افق بعيد مشتهي.. وركض المهرة في الخلاء وهم في حلم.. وانت في منتصف السبعين, منتصف السبعين مرعب.. وانت من قديم نسيت مثل هذه الأمور حيث تمشي به ميتا بين فخذيك ولا أمل هناك حتي ولا في الاحلام... انتبه كي لا تتعثر.. والبنت فاجرة ولا تعرف الرحمة.
اعطته ظهرها, وأخذت تعد علي اصابعها ثم استدارت نحوه مبتسمة وأخذت تحدق في عينيه.
شوف ياسيدي.. ان كان ولابد يبقي البوسة بميتين جنيه والحضن بتلتماية.. ثم صمتت لحظة وأكملت كلامها:
أما اذا كنت عاوز اللي بالي بالك يبقي بخمسمية.
جلجلت ضحكتها وقلبت الشريط ورفعت صوت المسجل فانفجر حكيم بالغناء, اهتزت من جديد, وسمعته في ضجيج اللحن يغمغم بالموافقة, وحتي تتأكد قالت له وهي ترقص:
هيه ياسيدي.. قلت ايه؟
وافق بهز رأسه, فتقدمت منه وأخرجت رأس لسانها ومسحت به شفة العجوز, وقالت:
وادي العربون..
ضحكت, ولكي تهدئ باله قالت له اعمل لك شاي, ثانية واحدة واجيب الشاي.
ولما كانت غير قادرة علي تحمل رائحة الميتين, لذا اندفعت نحو غرفة نوم سيدها واحضرت زجاجة عطره, وبخت عليه من العطر الذي طرد رائحة الميتين.
وفيما كان المسجل يصدح بالموسيقي كان زمن العجوز يرتد به الي هناك.. كان دائما في لحظة الحاضر يعود الي ماضيه, الي زمنه الخاص, ذلك الزمن الذي دائما له حضوره, ويقاوم من خلاله انطفاء ذاكرته باستحضار مشهد من زمن يضيع.. هو الان قابل للادراك.. يوقظ ذاكرته, ويلقي نظرة علي الضوء ممسكا بكثير من حكايا قديمة.. مشاهد من زمن ولي... شمس تنير مدينة علي نهر نيفا, وغابة من صنوبر تحيط بمدينة تزينها القباب الخضراء, ويصدح فيها قرع الاجراس, ولافتات علي المباني ياعمال العالم اتحدوا واجناس من كل نوع... مغول وأناضوليون وروس بيض, وأفارقه موسكو الستينيات وهو يعبر الشارع, كان يقضي بعثة اركان الحرب يسير مرتديا طاقمه العسكري متوجها ناحية مدخل البيت.. مفتوحة حواسه, وصدره ممتلئ بالهواء.. تأتيه اللغة الروسية بجرسها الرومانطيقي فيما يجلس الروس والأغراب علي كراسي المقاهي يتأملون لون أيامهم.
يدخل من باب البيت عتيق الطراز, بيده صحبة الورد وحقيبة من الورق مثقلة بالأغراض, تقابله سيدة علي الدرج, جميلة في الخمسين تسأله بالروسية: الي اين؟.. لا يجيب,,, لا يرد عليها بالانجليزية.. تسأله عن جنسه.. يخبرها بأنه مصري.. يفيض وجه المرأة بالحنان والرضا, ويكاد يلمح في عينيها الدموع, ودهشة تتسع علي وجه العجوز الجميلة النظيفة.. تجيبه بالعربية: مصري.. مصري.. يؤكد لها ذلك, وبين فرحته بلغتها العربية السليمة, وحسن استقبالها, يسألها تتكلمين عربي؟!.. تخبره انها قضت في مصر خمس سنين, وانها كانت تعمل في السفارة بشارع الجيزة, وانها كانت تقيم بالدقي,, اغرقت عينيها الدموع عندما قبل خدها..
قالت له: ان مصر اجمل بلد في الدنيا, وانها لم تكن أبدا ترغب في العودة الي موسكو لكن زوجها لم يوافق علي اقامتها في مصر.. سألته: الي اين؟... اجابها: ان معه موعدا مع الانسة.. انا بتروفيتش!!
زاطت العجوز, واخبرته, ان انا ابنتها هي الان فوق وانها تنتظره, استأذن منها ومضي.. صعد السلم سعيدا بمحاسن الصدف.. قبل اخر الدرج لمح انا كانت تنتظره بوجه يشع بالنور, وابتسامة مثل الورد, قال في نفسه ربنا يعز الجمال ومضي يصعد وكلما اقترب نورت الانسة
بتروفيتش بنور ربها.. كان علي وشك أن يفقد الرشد.. حين احتضنها وعرف انها عارية تحت الروب.. قرص ثديها.. تنبع تلك القرصة الآن من بئر النسيان.. تخايله.. تسيح الجليد من علي دمه.. يتذكر أنه قبل أن يحضر لآنا ذهب إلي السوق, ودخل أرقي المحلات, واشتري الجمبري, وثلاث برتقالات لأن آنا تحبه, كما اشتري دستة جاتوه من محل نور الشرق وربع كيلو كافيار من بطارخ الفولجا, وحين دخل محل الخمور ليشتري زجاجة الفودكا القيمة لمح علي الحائط صورة في اطار لزوجة تشايكوفسكي فاشتراها هي أيضا.. قال لنفسه: انه بعد وقته مع آنا سوف يصحبها لأوبرا موسكو ليشاهدا بحيرة البجع.
خمسون عاما مضت وكأن ما حدث حدث بالأمس.
للزمن حكايته.. وأنت تستأنس بالسنين.. والسنون كما تري, وكما فعلت. حاول.. هي لحظة مشروعة.. وأنت توقظ النار في الرماد.
نحن دمه, وخاف من التوهان وأحلام اليقظة.
كان قد انشغل بما يجري, والبنت سحبته من يده ليطل علي ثمار البستان فيما هي تبرجس في الشقة مثل مهرته القديمة, وهو كهل يودع زمانه.
فكر, لقد وصلت عمرا من الارتياب.. محبوسا مثل سجين ولا عزاء للمسنين خرجت نرجس بالشاي.. ارتشفه ببطء.. كانت تجلس بجانب ساقه التي تتحسسها بكفها, ولا تكف عن الكلام.
قبض العجوز علي ثدي البنت.. نهضت واقفة, مشوحة في وجهه: لا ياسيدي.. الحساب الأول.
أشار ناحية حجرة المكتب وطلب منها أن تحضر محفظته.. نهضت في سرعة البرق وأعطته المحفظة التي فتحها وأعطاها المبلغ.. كان الخمسمائة جنيه.. اندهشت حين فهمت الرسالة.. ضحكت وهمست لنفسها: سيدي عاوز اللي بالي بالك..
لم تكن تصدق.. ولم تفهم.. كما إنها حين قبضت علي المبلغ لم يكن يهمها أي أمر بعد ذلك.
كانت الصبية تسحبه حتي حجرة النوم.. كان سهلا ميسرا, يترك لها قياده ويمشي, متفهما يعي الأمر ويدرك ما هو فيه.
تمتد حجرة النوم أمامه مثل أبدية.. كأنه يدخلها أول مرة.. تحيطه الصور.. تعيش لحظة وجوده المختلف.. من زمان لم يحدث هذا.. وأنت لا تعرف كيف سينتهي الأمر؟.. سنون لم تختبر شجن قلبك.. والأرض عارية الا من عشب كالهشيم.. توقف قليلا أمام الباب.. وضعت البنت يدها علي صدره فأمسكت بنبضه.. كان قلبه يعدو بالشوط وأحست به خائفا فضمت العجوز لصدرها.
تعال.. ادخل يا سيدي.. متخافش.. فيه فيه.. مافيش مافيش.
رأي نفسه في مرآة الدولاب.. لم يخطر علي باله أنه قد أصبح هرما هكذا.. والمرآة لا تكذب.. كأنه لم يعرف من يطل عليه..بدا لنفسه غير نفسه.. رأي علي الحائط صورة له يمتطي مهرة الأيام الخوالي ويرمح في البراح.. شد اللواء بدنه وأخذ البنت في حضنه.. كان يقبلها بشغف, والبنت تنظر في عينيه التي تشع علي غير العادة.. والمهرة تقفز الحواجز وتثير عفرة التراب علي أرض السبق, وعصاه الصغيرة مشرعة تحت سماء ضحوية في نهار الربيع.
جاءت.. آنا بتروفنا تشد من أزره بجسدها المنور وعين البحر وبسمة النهار الوسيع.. ليالي امرأته الراحلة أيام الشباب, في الاجازات الصاخبة في شقة المدينة الساحلية.. ونرجس تنضج النار في الرماد.
من بعيد.. من آخر مكان في البدن.. من الكهف الغويط السري.. من مكمن الهواجس والغيوم.. من لطشة كهرباء الظهر أحس باللسعة في دمه.. والبنت معه.. والعجوز يندهش بما يجري مثل بهلول عثر علي أحواله الخفية.. من أين تأتي الريح؟.. هو لا يعرف.. شيخ آخر العمر.. لم يكن يصدق.. هل فارقه ورعه؟.. كأنه يقف علي الحبل وقد عادت الحيوية لأطرافه.
اكتمل بغرابة
ونرجس لا تصدق
كأنما جمع كل عمره في ذلك المشهد الأخير.. كان يدرك أنه الاخير. وجسد البنت يغزو روحه, وهو يعيش معني حياته كلها.
فجأة أجهش الشيخ بالبكاء.
ما الذي كان يبكيه؟!.. هو يعرف وهي لا تعرف.. واللحظات النادرة من وجود راحل تعز علي القلب.
ينشج بصوت, ونرجس تستعطفه, مالك يا سيدي.. فيه ايه؟.. لم ينقطع بكاؤه, والبنت تنظر اليه ولا تقدر عذابه.
خرجت من الباب وأغلقته عليه.. كانت تقبض علي الأكرة, يأتيها صوته حين همست لنفسها.
والله ما أنا فاهمه بيعيط ليه؟!.. ما كان زي الفل.. حكم؟.
صورة مفقودة