جيمس بلدوين - الرحيل.. ت: خليل الشيخة

لَمْ يخالج فلورنس الشك بأن أمها أكبر النساء سناً في العالم، فقد كانت تروي لها ولأخيها جبرايل كثيراً عندما كانا طفلين عن عمرها المديد الذي لا يحصى بالسنوات، والذي تمتد جذوره إلى زمن العبودية الغابر. ولدت في مزرعة إحدى الولايات وترعرعت فيها، وعملت في الزراعة لكونها تتميز ببنية قوية. ومع مرور الأيام تزوجت وأنجبت أطفالاً انتزع معظمهم منها، أحدهم اختطفه المرض، وبيع اثنان في المزاد العلني، والأخير لم تقدر له السموات أن تحتضنه برعايتها وتربيتها، فقد نشأ في بيت السيد وتربى فيه. وعندما كانت في ريعان شبابها – في الثلاثين على الأغلب – اختطفت يد القدر زوجها فوهبها السيد لزوج آخر، في تلك الفترة اقتحمت جيوش من الشمال تلك المنطقة لينـزعوا نيـر العبودية عن رقاب العبيد الذين صلوا كثيراً من أجل الحرية، وها قد لبي النداء أخيراً، واستجابت السماء لدعواتهم.

* * *
انقضت سنوات عمرها على وتيرة واحدة، تستيقظ في الصباح
الباكر قبل أن تنشر الشمس جدائلها، فتندفع لتعمل في الحقول ما بين انحناء ووقوف، مادامت الشمس تحرق كبد السماء. وعندما يختفي ذلك القرص الذهبي خلف بوابات السماء، ويعلن المشرف بصفارته وبصوته الذي يتردد صداه عبر الحقول نهاية يوم شاق، تتجه عائدة إلى بيتها. وفي أيام الشتاء الثلجية عندما يتحول بيت السيد الكبير إلى شعلة من الأضواء وتذبح الخنازير والطيور، يرسل لها الطباخ (بات شيبا) بعضاً من تلك اللحوم وفوقها قطع من الحلوى، وما تستطيع أن تلتقطه يداه من بقايا مائدة السادة البيض.
وبالرغم من ذلك لم تكن أيامها تخلو من بعض اللحظات التي تبعث السرور في النفس، كلحظة تدخينها لغليونها كل مساء. ورؤيتها لزوجها في نهاية كل يوم منهك.. وإرضاعها لأطفالها وتعليمها إياهم الخطوات في السير، ولكن تلك اللحظات السعيدة لم تكن كفيلة بأن تطرد ذلك الإحساس الأليم الذي كان يتملكها ساعة الفراق، والموت وضرب السياط. لم تنس يوماً أن الخلاص الموعود آتٍ، فليس عليها إلاّ أن تتحلى بالصبر والثقة بالإله العادل. أدركت تمام الإدراك أن بيت الرياء والعجرفة الذي يسكنه الناس البيض لا بد أن ينهار يوماً. هذه هي شريعة السماء المعهودة، فالذين يتبخترون في الأرض تيهاً وضلالاً لا يملكون من الخير شيئاً لأنفسهم أو لذريتهم، فهم أشبه بأناس يسيرون على شفا وادٍ عميق مغمضي العيون، يقف الله لهم بالمرصاد ليبيد عجرفتهم ويسحقهم في بحر عميق، كما حدث ذات مرة مع قوم اليهود الخاسئين. يا لهم من بؤساء فنفوسهم الجوفاء ستتحطم يوماً لا ينفعهم غرورهم وعزهم الواهي، ولن يجدوا ما يدفع عنهم عاقبة الحساب الدنيوي. علاوة على ذلك، فقد أخبرت أولادها بأن الله عادل وحكيم لا يعاقب أناساً إلاّ بعد تحذيرهم لعدة مرات، حيث يمنحهم الله وقتاً لإعادة النظر في أعمالهم، وفي النهاية فإن كل شيء بيده. وسينبلج فجر ذلك اليوم الذي لن يكون هناك فيه مجال لعمل الخير أو الشر، فقط ستبقى زوبعة الموت تترصد أولئك الذين ألقوا الإله في غياهب النسيان.
طوال سنوات عمرها لم تخب تنبؤاتها، ولكن ما من أحد كان يعير انتباهاً لذلك، واليوم تحققت إحدى تنبؤاتها، حيث تسمع أصواتاً في الكوخ وأمام بوابة بيت السيد؛ تعلن أن العبيد قد هبوا للثورة، فأحرقوا في ولاية أخرى بيوت أسيادهم وحقولهم، كما أنهم رجموا أطفالهم بالحجارة حتى أردوهم قتلى، وقتل أحد العبيد سيده غير أنه لقي حتفه جراء فعلته هذه، وقد همس أحدهم، وكان واقفاً بجانبها في الحقل :
– لا أستطيع البقاء هنا أكثر من ذلك، علي الرحيل في الصباح إلى الشمال.
ملأت أخبار العبيد الرهيبة قلوب الناس قسوة ضد أسيادهم؛ الذين اعتقدوا أن السوط سيخمد النيران المشتعلة في قلوب العبيد، أو ربما ستكون الخناجر أو المشانق أو حتى البيع بالمزاد العلني في ساحة المدينة، سيكون كل ذلك رادعاً لنقمتهم الجامحة. خطر في ذهنهم أخيراً أن المعاملة اللطيفة من شأنها أن تحد من اندفاعهم، فما كان من السيد والسيدة إلاّ أن تخليا عن كبريائهما الزائف وقصدا الكوخ زائرين مبتسمين حاملين الهدايا معهما، تساءلت كثيراً عن ماهية الحياة السعيدة فيما إذا عاش البيض والسود حياة مشتركة، ولكن السعادة لا تدوم، فعندما تكتب المقادير في السماء فليس بوسع الأرض محوها، وها قد تحقق القدر الإلهي اليوم قبل أن تستيقظ الأم من سباتها، فمعظم الحكايات التي كانت ترويها الأم لم تكن تعني لفلورانس إلاّ شيئاً واحداً فقط، وهي أنها حكايات من امرأة عجوز سوداء تسردها على أبنائها لتطرد من أذهانهم شبح الجوع والبرد. لكن حكاية اليوم من نوع آخر تماماً، فهي حكاية لا يمكن أن يطويها النسيان، فقد بزغ فجر يوم طالما انتظرته وحلمت به، يوم شهد هروب الجبناء، ولعلعة الرصاص في الأجواء.
وما أن فتحت الأم عينيها حتى خيل إليها كأنه يوم الحساب العظيم، وبينما هي قابعة في مكانها مذهولة متسائلة عن سر هذا اليوم الغريب، دخل بات شيبا إلى الكوخ وقد اندفع وراءه عدد من الأولاد المضطربين وعمال الحقول وعبيد القصر، وصرخوا جميعاً بصوت واحد: انهضي.. انهضي يا أخت راشيل وشاهدي الخلاص الإلهي، لقد برّ الله بوعده لنا، وأصبحنا أحراراً.
أمسكها بات شيبا والدموع تنساب على خديها، لبست ثيابها واتجهت نحو الباب لتشهد اليوم العظيم الذي وهبه الله لهم. في ذلك اليوم رأت بيت الكبرياء يخر ذليلاً، وقد ألقيت من نوافذه ملابس الحرير الخضراء والمخملية، كما رأت العديد من الفرسان يسحقون الحديقة بأقدامهم ويشرعون البوابة الكبيرة على مصراعيها، كان في داخل ذلك القصر الكبير السيد والسيدة وأنسباؤهما وولدها؛ الذي انتزع منها وبقي في القصر حيث لم يسمح لها بالدخول إليه، والآن ليس هناك من سبب يمنعها من عبور البوابة الكبيرة. حزمت أشياءها في قطعة من القماش ووضعتها على رأسها وخرجت باتجاه البوابة الكبيرة وقد اتخذت قراراً بعدم العودة ثانية إلى هذه الولاية.
عندما أصبحت ابنتها فلورانس في ريعان شبابها أصبح حلمها المنشود هو الرحيل عن هذا الكوخ.
وفي عام 1900 عندما كانت فلورانس في سن السادسة والعشرين خرجت من الكوخ مقررة الرحيل، ولكن فكرت بأن تؤجل هذا الأمر إلى أن تختطف يد القدر والدتها التي تعاني من سكرات الموت على فراشها، أحست فجأة أن انتظارها لن يطول فالزمن المرتقب في طريقه إليها. كانت فلورانس تعمل خادمة عند إحدى العائلات البيض الكبيرة في المدينة، وفي اليوم الذي قرر فيه سيدها أن يتخذها خليلة له صممت على إنهاء خدمتها عند هؤلاء الناس ذوي النفوس الدنيئة، فغادرت البيت مخلفة وراءها مرارة قاسية، وبجزء من أتعابها الذي ادخرته عن طريق المعاناة والتضحية لعدة سنوات ابتاعت بطاقة سفر بالقطار إلى نيويورك، وعند حصولها على البطاقة انتابها شعور من الغيظ ذو معنى خاص، فأمسكت بالبطاقة وكأنها تعويذة بين يديها وفكرت:
” بإمكاني إعادتها أو بيعها، فالحصول عليها لا يعني أنني قررت الرحيل ” وكانت تدرك في قرارة نفسها تماماً أن لا أحد بإمكانه منعها من تنفيذ قرارها، ربما سيتأخر سفرها لبعض الوقت نظراً لعدم حصولها على إذن بالرحيل، ورأفة بوالدتها التي تلتقط أنفاسها الأخيرة على فراش الموت، ومن نافذة الكوخ رأت فلورانس الغيوم الرمادية وقد حجبت ضوء الشمس الوهاج، ومازالت الأرض مفروشة ببساط ضبابي، وتنبهت من شرودها على صوت والدتها المستلقية على السرير؛ وهي توبخ جبرايل الذي أتى إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل يترنح من الخمرة غير مدرك لما حوله، وحتى الآن وهو في حالة لا تسمح له بالذهاب إلى العمل. كان جبرايل مضطرباً شاحباً يشعر بمرارة ذنبه، فهو يزيد حالة أمه سوءاً بتصرفاته الهوجاء، وقف أمام المرأة منحني الرأس يزرزر قميصه، أحست فلورنس أنه ليس بإمكانه أن يتلفظ بكلمة واحدة، قالت الأم:
ولدي الحبيب! لا تدعني أرحل عن هذه الدنيا قبل أن تعدني بأنك ستصبح إنساناً صالحاً.. هل تسمعني يا بني؟
نظرت فلورنس إليه بازدراء فرأت الدموع قد ملأت عينيه، فقالت في نفسها: ” عليه أن يعدها بأن يكون إنساناً صالحاً، فلقد وعد بذلك منذ اليوم الذي عّمِد فيه. أحضرت فلورنس حقائبها إلى وسط الغرفة، تلك الغرفة الكريهة وقالت:
– والدتي.. أنا راحلة.. راحلة هذا الصباح. رددت تلك العبارة وهي غاضبة من نفسها لعدم التصريح بها في الليلة الماضية؛ لترتاح من رؤية دموعها وسماع نقاشها العقيم؛ ربما لم تكن تملك الشجاعة الكافية ولكن اليوم ليس هناك وقت تضيعه، فالساعة البيضاء الكبيرة المثبتة على جدار المحطة؛ راسخة في ذهنها، تحثها على الإسراع قبل فوات الأوان، سألتها والدتها بنبرة حادة :
– إلى أين أنت ذاهبة ؟
كانت تعلم أن والدتها على معرفة تامة بقرار رحيلها الذي سيتم تنفيذه ذات يوم، فالرحيل لم يكن وليد تلك اللحظة بل هو حلم قديم ينتظر لحظة الشروق، وها قد بزغت شمس اليوم المنتظر، نظرت الأم إلى حقائب فلورنس نظرة روع وحذر، فالخطر الوهمي أصبح واقعاً حقيقياً، وعبثاً حاولت أن تجد طريقة تثني بها ابنتها عن السفر، ولكن كل محاولة كانت تزيد فلورنس إصراراً. أحس جبرايل بنغمة أمه الحزينة، ولم يكن يعلم شيئاً عن رحيل أخته، لكنه شعر بالغبطة لحدوث أمر صرف انتباه والدته عنه، أخفض عينيه ورأى حقيبة فلورنس السفرية، فردد سؤال والدته بلهجة غاضبة:
– إلى أين تنوين الذهاب أيتها الفتاة؟ فأجابته :
– أنا ذاهبة إلى نيويورك وقد حجزت تذكرة.
حدقت والدتها فيها دون أن تنطق بكلمة واحدة، أما جبرايل فقد سألها بنبرة مخيفة :
– ومتى قررت الرحيل ؟
لم تنظر إليه ولم ترد على سؤاله، واستمرت في النظر إلى والدتها ثم قالت :
– لقد حصلت على تذكرتي وأنا راحلة في قطار الصباح.
– تمهلي يا ابنتي، هل أنت مدركة تماماً ما تنوين القيام به ؟
لمحت فلورنس في عيني والدتها نظرة شفقة ساخرة، مما شجعها على القول :
– أنا امرأة واعية وأدرك تماماً ما أفعل.
عندئذ صرخ جبرايل قائلاً:
– كيف ذلك وقد قررتِ أن ترحلي في الصباح، وتتركي والدتك على هذه الحالة.
التفتت فلورانس للمرة الأولى إلى جبرايل موجهة الحديث إليه :
– اصمت أنت، لقد اعتنت بك أيضاً، أليس كذلك ؟
أرخى جبرايل عينيه فأدركت فلورنس مدى المرارة العالقة في نفسه، وعمق المشكلة التي سيقع فيها. فهو لا يحتمل فكرة بقائه وحيداً بجانب أمه المريضة، وليس بوسعه القيام بشيء وهو على هذا الحال السيئ، وبرحيل فلورنس سيبتلع الزمن آخر ما تبقى من أولاد أمه ما عداه، إذ سيتحتم عليه عندئذ أن يعوضها عن الآلام التي تكابدها، وينقذها من شبح المعاناة وذلك بزرع الطمأنينة في نفسها خلال أيامها الأخيرة. وهذا لن يحدث إلا بابتعاده عن الخطيئة، وبرحيل فلورنس لن يكون هناك مجال للهو والعبث، وعليه أن يصبح رجلاً صالحاً قادراً على إثبات وجوده واتخاذ موقف في حياته.
ابتسمت فلورانس بسخرية وهي تراقب توتره واضطرابه، ثم نظرت إلى والدتها قائلة :
– لقد قامت بتربيتك والاعتناء بك فهي لا تحتاجني.
سألتها والدتها :
– إذن أنت ذاهبة إلى الشمال، ومتى تنوين العودة ؟
فردت فلورنس :
– لا أعتقد أنني سأعود ثانية إلى هذه البلدة.
توجه جبرايل بأنظاره إلى والدته وصرخ بحنق :
– لقد ذرفت من الدموع ما يكفي، ما بك تبكين وكأنك تجلدين بالسوط !
فنظرت إليه فلورنس للمرة الثانية وقالت :
– أليس بوسعك أن تبتلع أنفاسك وتصمت.
فتساءلت الأم :
هل تعنين من تصرفك هذا أنك تنوين التصريح بأن الشيطان قد جعل قلبك قاسياً؛ إلى درجة تودين فيها مغادرة والدتك وهي على فراش الموت، ولا يهمك رؤيتها في هذه الحياة مرة أخرى، ليس بإمكانك إقناعي بأنك شريرة إلى هذا الحد.
أحست فلورنس أن جبرايل يتفحص معالم وجهها ليتبين ردة فعلها على هذا السؤال، السؤال الذي كانت تخشى سماعه برغم إصرارها على الرحيل، أشاحت بنظرها عنهما إلى تلك النافذة المتصدعة، وسرح تفكيرها إلى ما وراء ذلك الضباب المرتفع في المكان الذي لا تستطيع عيناها رؤيته حيث تنتظرها حياة جديدة، فكرت فلورانس ” إن المرأة الراقدة على السرير عجوز مسنة قضت سنوات حياتها هباءً منثوراً، وسيضمها القبر عما قريب، أما أنا فلن أدع حياتي رهينة بين أيدي الموت “.
التفتت إلى والدتها وأعلنت :
– أنا راحلة يا أماه.. لابد من الرحيل.
اتكأت الأم على السرير ونظرت عالياً إلى الضوء وبدأت تبكي، اندفع جبرايل إلى جانب فلورانس وأمسك بيدها، نظرت إلى وجهه فرأت دموعاً في عينيه، قال لها :
– ليس بإمكانك الذهاب.. لا تستطيعين الرحيل ووالدتك على هذه الحالة، فهي تحتاج للعناية، ماذا بوسعها أن تفعل هنا وهي وحيدة معي ؟
دفعته عنها واقتربت من سرير والدتها قائلة :
– أمي..كفي عن هذا فلست الإنسانة المباركة التي تستحق دموعك، أليس ما سيحدث لي في الشمال ممكن أن يحدث هنا، الله موجود في كل مكان فلا مبرر إذن للقلق.
أدركت فلورنس أن الكلمات التي تنطق بها لا تعير لها الأم انتباهاً، بل تثير الاستخفاف في نفسها، يا لهذه الأم المسكينة! لقد منحت ابنتها حافزاً للحياة فهل أخطأت في ذلك؟ من المؤكد أنها لا تبكي على مستقبل ابنتها، وإنما على ماضٍ ولى ورحل، وعلى آلام لم يشاركها بها أحد. أحست فلورنس بحزن أمها فألم بها خوف مريع سرعان ما تحول إلى غضب؛ ترجمته بلهجة حاقدة إلى كلمات وجهتها لأخيها :
– سيعتني بك جبرايل، لن يتخلى عنك.. أليس كذلك ؟
وقف جبرايل قريباً من سرير أمه مرتبكاً حزيناً وقال :
– ولكن.. أنا
فقاطعته فلورنس :
– عليّ الذهاب الآن.
سارت إلى وسط الغرفة وتناولت حقيبتها، همس جبرايل في أذنها :
– ألا ينتابك أي إحساس بالذنب حيال أمك ؟
صرخت الأم، فاقترب الولدان من سريرها وحدقا في وجهها وهي تقول :
– يا إلهي شيئاً من رحمتك لابنتي الخاطئة، ساعدها وانتشلها من بحيرة الشر التي تكاد تغرق نفسها بها.. يا الهي أرجوك..
توقف صوتها وانقطع وبدأت الدموع تسيل على خديها ثم تابعت:
– لقد فعلت أقصى ما بوسعي لتربية أولادي، فارحمهم وارحم أحفادي.
قال جبرايل متأثراً بدموع أمه :
– أرجوك لا تذهبي يا فلورانس..لا يمكن أن تكوني جادة في رحيلك وتتركي والدتك على هذه الحال التعيسة.
امتلأت عيناها بالدموع، وعبثاً حاولت أن تجد بضع كلمات تتفوه بها عدا كلمة واحدة قالتها وهي تبكي:
– دعني..
حملت حقيبتها ثم فتحت باب الكوخ الذي تسلل منه هواء الصباح المنعش وقالت :
– وداعاً.. بلغ سلامي إلى والدتي.
خرجت تسير عبر الممر ووصلت إلى الساحة المغطاة بالثلج، كان جبرايل يراقبها مذهولاً وصوت بكاء والدته يتردد إلى مسامعه. عندما وصلت فلورانس إلى البوابة وهمت بفتحها، انطلق جبرايل مسرعاً إليها محاولا إيقافها :
– إلى أين أنت راحلة أيتها الفتاة.. ما الذي تنوين القيام به.. هل تعتقدين أن حظك الجيد سيجعلك تلتقين بالرجال في الشمال الذين سيقدمون لك الجواهر واللآلئ.
فتحت البوابة بعنف غير مكترثة به وتابعت طريقها، ووقف مشدوها ينظر إليها حتى حجبها الضباب.


—————————————————————————–
– جيمس بلدوين : هو كاتب أمريكي أسود ، ولد عام 1924 ومارس كتابة الوان أدبية مختلفة من المقالة والشعر والمسرحية والقصة. عرفت كتاباته بقوة الاسلوب ونقائه وكما تميز بأمانته وصدقه الأدبي. أهم كتاباته هي (مذكرات أبن البلد) والتي كانت مفتاحا لشهرته في الستينات من القرن العشرين. حيث كرس فيه خبرته ككاتب قصة.
تمثل قصة الرحيل وضع العائلة السوداء في الولايات المتحدة في مطلع القرن الماضي والفرقة التي اصابتها نتيجة اضطهاد البيض والعنصرية. فهي ترسم لنا لوحة انسانية مفعمة بالصور الادبية الخلابة .
 
أعلى