نقوس المهدي
كاتب
منذ حوالي عشرين ألف سنة مضت في بدايات العصر الحجري القديم، بدأ الإنسان عمليات التشكيل الفني، فترك لنا مجموعة من تماثيل بدائية بسيطة لكنها تحمل دلالات الرموز التي أراد إبرازها بعمله الفني، وهي تماثيل لإناث ضُخّمت فيها الأعضاء الجنسية للمرأة، كالثديين والأفخاذ والفرج، وتم العثور حول هذه التماثيل على ما يشير إلى كونها كانت آلهات تُقدم لها القرابين، فهناك بقايا نباتات كالحنطة و الزهور وما يشبه الأوعية الحجرية، وقد تناثرت مثل هذه التماثيل في أكثر من مكان وأطلق عليها الخبراء اسم فينوس أو أفروديت آلهات الجمال في الزمنين اليوناني والروماني، مضيفين إليها لقب (الولادة)، فهي ليست آلهات للجمال بمفهومة المتطور بقدر ما كانت قيمتها أنها تلد وتعطي حياة، ودوما كانت تلك الأنصاب تُمثلها وهي حُبلى ببطن منتفخ وعضو تناسلي ضخم . كانت قيمة الإلهة وسر ألوهيتها هي كونها فينوس الولادة أو الأنثى التي تلد.
في ذلك الزمن كان المجتمع يعيش المشاع البدائي كل النساء لكل الرجال، وهو ما كان السبب الأول في عدم معرفة الذكر لدوره في عملية الحبل والولادة، فكان الرجال يخرجون للقنص وجمع الثمار والصيد ليعودوا ويجدوا هذه حبلى وتلك قد ولدت وأخرى في عملية مخاض، فاعتقدوا أن عملية الحبل والولادة أمر خاص بالأنثى وحدها وأنها مخصبة ذاتيا، وكان هذا بحد ذاته كافيا للإبهار والاندهاش ومن ثم الرهبة والتقديس للقابضة على أسرار الحياة والتي تلد الحياة.
وزاد في غياب فهم الذكر لدوره في عملية الحبل والولادة واعتقاده أنه لا دور له فيها، هو الفترة الفاصلة الطويلة بين عملية الجماع وبين عملية الولادة، لذلك لم يدقق البدائي ليربط بين العمليتين، خاصة مع معيشة الأولاد و البنات سوية دون عائق قبل البلوغ ويمارسون الجماع الذي لا تنتج عنه ولادة، فلم يتمكن من الربط بين المضاجعة والولادة، بما انتهى إلى اعتبار الأنثى هي الكائن الوحيد المسؤول عن منح الحياة.
كان هذا البدائي قد عرف أن الدم هو سر الحياة المقدس عندما كان يرى الجرح النازف مؤديا للموت، ثم لاحظ أن توقف دم الحيض عند الأنثى معناه بداية صنع المولود الجديد، فاستنتج أن هذا الدم الذي يتوقف عن دورته الشهرية، إنما هو مختف بالداخل ليصنع الطفل الجديد في أحشاء المرأة.
ومن ثم أصبح دم الحيض الذي يميل لونه إلى الزرقة هو قدس الأقداس لأنه صانع الحياة، وبه وبسببه ومن أجله تم تقديس الأنثى وحيضها، وترافقت قدسية المرأة مع الدم الأزرق ليضعها المجتمع في الرتبة الأعلى والأسمى، فكانت هي الربة وهي الملكة السامية، ومن يومها أصبحت السمة التي تلازم السلالات الملكية هي صفة الدم الأزرق.
واستمر استقرار المرأة يزيد من رصيد كشوفها فقد تمكنت من اكتشاف الأوعية الطبيعية من الثمار الجافة كثمار جوز الهند وتقليدها للطبيعة بصنع أوعية مماثلة من الأحجار وحفرها لتشكل وعاء، وكلها كانت أوعية دائرية تشبه نصف ثمرة جوز الهند فكانت ثدياً يحفظ الغذاء والماء، يحفظ الحياة.
وعجنت المرأة وخبزت وتخمر العجين بالصدفة أكثر مما ينبغي، تذوقته فسكرت، ويعود الذكور لتفاجئهم الربات بالخمر ليعيشوا في جنات عالمها السحري، مما رفعها إلى المناصب العلى الرفيعة، بعد أن أصبحت قادرة على إدخالهم عالما من الخيال الخمري السعيد.
وكان لشكل المجتمع حينذاك دوره في زيادة رصيد ذوات الدم الأزرق من السيادة والملوكية و الربوبية، فبينما كان الرجال ينطلقون في بحثهم عن الثمار والطرائد، وكان النساء يستقررن إلى جوار أطفالهن لرعايتهم، ونتيجة هذا الاستقرار بدأت الملاحظة والتأمل، فكان أن لاحظت سقوط الحبوب و الثمار في التربة ثم عودتها للظهور نابتة في حياة جديدة، فقامت بتقليد الطبيعة بدفن الحبوب والثمار وريّها بالماء لتسجل في التاريخ أنها مكتشفة الزراعة، وهو الأمر الذي أصاب الرجال بمزيد من الرهبة فقد ارتبطت الأنثى بالأرض الأم منجبة كل شيء، وأن هناك علاقة بين الأنثى الولود والأرض الولود، بل إن الأنثى تمكّنت من ترويض ربة الحياة الكبرى الأرض لتجعلها تنجب حسب مشيئتها.
وكان اكتشاف المرأة للزرع بقدر نقلته العظيمة للبشرية نحو أفق أرقى بالاستقرار إلى جوار الزرع رجالا و نساء، دوره السلبي في مكانة الأنثى المجتمعية، بعد أن استقر الرجال، وبدأوا يلحظون دورهم في الإنجاب لتسقط أهم المخصصات القدسية للأنثى، تلاها احتياج عملية الزرع إلى تدجين حيوانات قوية للمساعدة في الحرث وهو ما أدته عضلات الرجل وليس فرج الأنثى، وبدأ دور الأنثى يتراجع سريعا في انهيار كارثي ليسيطر الذكور مع بداية الألف العاشرة قبل الميلاد وحتى الألف الخامسة ثم اكتشاف النار والفخار وقيام المشتركات المجتمعية الأولى المستقرة، ليصبح الرجل هو السيد المطلق. ويظهر الذكر في أفق العبادة كرب أعلى لكنه لم يستطع أن يزيح الأنثى تماما من أفق القدسية فظل للربّات الإناث دورهن إلى جوار الأرباب الذكور، واحتفظت لنفسها بمكان هام في أفق الأديان حتى اليوم، ومن بين الأديان الإبراهيمية تمكنت المسيحية من الاحتفاظ بالأم المخصبة ذاتيا الولود دون حاجة إلى ذكر يخصبها ممثلة في مريم العذراء.
وبينما أوغلت الديانات الذكورية في تبخيس الأنثى حتى سلبتها أعز ألوية ملكيتها السيادية وسر مجدها، فحولت الدم الأزرق من دم مقدس إلى حيض نجس به تتنجس المرأة كالمرض المعدي الذي لا تبرأ منه إلا بانقطاعه.
وهكذا تم استتباب السيادة الذكورية على الأرض، مع عدم خلوصها للذكر تماما في السماء، حيث كان للآلهات الإناث وجودهن الباقي وأعيادهن واحتفالاتهن في جميع حضارات العالم القديم بعد نشأة المدن والدول المستقرة خاصة في الشرق الأوسط.
ولم تتوار قدسية المرأة الولود تماما على الأرض، فبقيت في شكل طقوس تذكرة بقدسيتها الأولى واحتفاظا بخصوبتها لأنها لا زالت هي وحدها التي تستطيع أن تلد، وفي مختلف حضارات العالم القديم كان هناك عيد سنوي كبير يمارس فيه طقس هام و مثير تذكرة بالزمن والمشاع البدائي، عندما كان كل النساء لكل الرجال، هو طقس الجنس الجماعي في الحقول كواجب ديني يحض فيه الفعل الجنسي البشري الجماعي الأرض على الولادة وإنجاب الزرع، وكان العرف يقضي بأن على كل امرأة أن تضاجع غريبا عنها في ذلك اليوم، وهو الطقس المسمى في الأنثربولوجيا “sacred prostitution” بقصد تحريض القوى الإخصابية للأرض أمّ كل حي اعتمادا على مبدأ السحر التشاكلي حيث الشبيه ينتج الشبيه. وهو اليوم الذي نعرفه بالنيروز يوم الاعتدال الربيعي كرأس للسنة الجديدة. وبعد هذا الجماع النزوي الجماعي كان الرجال يمسحون قضبانهم بزرع الأرض بينما تزحف النساء على فروجهن فوق الزرع جالسات لإشباع الأرض بسوائلهن المنجبة.
* سيد القمني
الجديد
في ذلك الزمن كان المجتمع يعيش المشاع البدائي كل النساء لكل الرجال، وهو ما كان السبب الأول في عدم معرفة الذكر لدوره في عملية الحبل والولادة، فكان الرجال يخرجون للقنص وجمع الثمار والصيد ليعودوا ويجدوا هذه حبلى وتلك قد ولدت وأخرى في عملية مخاض، فاعتقدوا أن عملية الحبل والولادة أمر خاص بالأنثى وحدها وأنها مخصبة ذاتيا، وكان هذا بحد ذاته كافيا للإبهار والاندهاش ومن ثم الرهبة والتقديس للقابضة على أسرار الحياة والتي تلد الحياة.
وزاد في غياب فهم الذكر لدوره في عملية الحبل والولادة واعتقاده أنه لا دور له فيها، هو الفترة الفاصلة الطويلة بين عملية الجماع وبين عملية الولادة، لذلك لم يدقق البدائي ليربط بين العمليتين، خاصة مع معيشة الأولاد و البنات سوية دون عائق قبل البلوغ ويمارسون الجماع الذي لا تنتج عنه ولادة، فلم يتمكن من الربط بين المضاجعة والولادة، بما انتهى إلى اعتبار الأنثى هي الكائن الوحيد المسؤول عن منح الحياة.
كان هذا البدائي قد عرف أن الدم هو سر الحياة المقدس عندما كان يرى الجرح النازف مؤديا للموت، ثم لاحظ أن توقف دم الحيض عند الأنثى معناه بداية صنع المولود الجديد، فاستنتج أن هذا الدم الذي يتوقف عن دورته الشهرية، إنما هو مختف بالداخل ليصنع الطفل الجديد في أحشاء المرأة.
ومن ثم أصبح دم الحيض الذي يميل لونه إلى الزرقة هو قدس الأقداس لأنه صانع الحياة، وبه وبسببه ومن أجله تم تقديس الأنثى وحيضها، وترافقت قدسية المرأة مع الدم الأزرق ليضعها المجتمع في الرتبة الأعلى والأسمى، فكانت هي الربة وهي الملكة السامية، ومن يومها أصبحت السمة التي تلازم السلالات الملكية هي صفة الدم الأزرق.
واستمر استقرار المرأة يزيد من رصيد كشوفها فقد تمكنت من اكتشاف الأوعية الطبيعية من الثمار الجافة كثمار جوز الهند وتقليدها للطبيعة بصنع أوعية مماثلة من الأحجار وحفرها لتشكل وعاء، وكلها كانت أوعية دائرية تشبه نصف ثمرة جوز الهند فكانت ثدياً يحفظ الغذاء والماء، يحفظ الحياة.
وعجنت المرأة وخبزت وتخمر العجين بالصدفة أكثر مما ينبغي، تذوقته فسكرت، ويعود الذكور لتفاجئهم الربات بالخمر ليعيشوا في جنات عالمها السحري، مما رفعها إلى المناصب العلى الرفيعة، بعد أن أصبحت قادرة على إدخالهم عالما من الخيال الخمري السعيد.
وكان لشكل المجتمع حينذاك دوره في زيادة رصيد ذوات الدم الأزرق من السيادة والملوكية و الربوبية، فبينما كان الرجال ينطلقون في بحثهم عن الثمار والطرائد، وكان النساء يستقررن إلى جوار أطفالهن لرعايتهم، ونتيجة هذا الاستقرار بدأت الملاحظة والتأمل، فكان أن لاحظت سقوط الحبوب و الثمار في التربة ثم عودتها للظهور نابتة في حياة جديدة، فقامت بتقليد الطبيعة بدفن الحبوب والثمار وريّها بالماء لتسجل في التاريخ أنها مكتشفة الزراعة، وهو الأمر الذي أصاب الرجال بمزيد من الرهبة فقد ارتبطت الأنثى بالأرض الأم منجبة كل شيء، وأن هناك علاقة بين الأنثى الولود والأرض الولود، بل إن الأنثى تمكّنت من ترويض ربة الحياة الكبرى الأرض لتجعلها تنجب حسب مشيئتها.
وكان اكتشاف المرأة للزرع بقدر نقلته العظيمة للبشرية نحو أفق أرقى بالاستقرار إلى جوار الزرع رجالا و نساء، دوره السلبي في مكانة الأنثى المجتمعية، بعد أن استقر الرجال، وبدأوا يلحظون دورهم في الإنجاب لتسقط أهم المخصصات القدسية للأنثى، تلاها احتياج عملية الزرع إلى تدجين حيوانات قوية للمساعدة في الحرث وهو ما أدته عضلات الرجل وليس فرج الأنثى، وبدأ دور الأنثى يتراجع سريعا في انهيار كارثي ليسيطر الذكور مع بداية الألف العاشرة قبل الميلاد وحتى الألف الخامسة ثم اكتشاف النار والفخار وقيام المشتركات المجتمعية الأولى المستقرة، ليصبح الرجل هو السيد المطلق. ويظهر الذكر في أفق العبادة كرب أعلى لكنه لم يستطع أن يزيح الأنثى تماما من أفق القدسية فظل للربّات الإناث دورهن إلى جوار الأرباب الذكور، واحتفظت لنفسها بمكان هام في أفق الأديان حتى اليوم، ومن بين الأديان الإبراهيمية تمكنت المسيحية من الاحتفاظ بالأم المخصبة ذاتيا الولود دون حاجة إلى ذكر يخصبها ممثلة في مريم العذراء.
وبينما أوغلت الديانات الذكورية في تبخيس الأنثى حتى سلبتها أعز ألوية ملكيتها السيادية وسر مجدها، فحولت الدم الأزرق من دم مقدس إلى حيض نجس به تتنجس المرأة كالمرض المعدي الذي لا تبرأ منه إلا بانقطاعه.
وهكذا تم استتباب السيادة الذكورية على الأرض، مع عدم خلوصها للذكر تماما في السماء، حيث كان للآلهات الإناث وجودهن الباقي وأعيادهن واحتفالاتهن في جميع حضارات العالم القديم بعد نشأة المدن والدول المستقرة خاصة في الشرق الأوسط.
ولم تتوار قدسية المرأة الولود تماما على الأرض، فبقيت في شكل طقوس تذكرة بقدسيتها الأولى واحتفاظا بخصوبتها لأنها لا زالت هي وحدها التي تستطيع أن تلد، وفي مختلف حضارات العالم القديم كان هناك عيد سنوي كبير يمارس فيه طقس هام و مثير تذكرة بالزمن والمشاع البدائي، عندما كان كل النساء لكل الرجال، هو طقس الجنس الجماعي في الحقول كواجب ديني يحض فيه الفعل الجنسي البشري الجماعي الأرض على الولادة وإنجاب الزرع، وكان العرف يقضي بأن على كل امرأة أن تضاجع غريبا عنها في ذلك اليوم، وهو الطقس المسمى في الأنثربولوجيا “sacred prostitution” بقصد تحريض القوى الإخصابية للأرض أمّ كل حي اعتمادا على مبدأ السحر التشاكلي حيث الشبيه ينتج الشبيه. وهو اليوم الذي نعرفه بالنيروز يوم الاعتدال الربيعي كرأس للسنة الجديدة. وبعد هذا الجماع النزوي الجماعي كان الرجال يمسحون قضبانهم بزرع الأرض بينما تزحف النساء على فروجهن فوق الزرع جالسات لإشباع الأرض بسوائلهن المنجبة.
* سيد القمني
الجديد