نقوس المهدي
كاتب
قصه تاجوج و المحلق من اشهر قصص الحب في السودان التي كتبها المؤرخ السوداني محمد صالح ضرار والتي طاف من أجلها بوادي منطقة قبيلة الحمران بحثاً عن تفاصيل ذلك الحب , وما قاله المحلق من أشعار ( بلغة عصره ) تخليداً لحبه الجارف , وتنفيساً عن نفسه المنهوكة . وقد قام هذا المؤرخ بجمع هذه المعلومات وطرائق الاشعـار ووضعها في كتابه مع توضيح أصل القبيلة وهجرتها من حضرموت الى سواكن , وأستيطانها في ارض التاكة ( التاكا ) بالقرب من مدينة كسلا بشرق السودان. ساورد القصه بالنص الحرفي للكاتب واتمني ان تنال إعجابكم,في انتظار مداخلاتكم فلا تبخلوا بابداء الرآي و التعليق .
في قرية عنـاتر بين سفوح التاكا ورباه وعلى ضفة نهر سيتيت الشرقية وفي ادغال واحراش السنط والسدر والأندراب واللالوب واشجار البان التي تغنى با الشعراء في اعتدال القوام وبين قبائل الضباينة وبني عامر والشكرية والأحباش عاشت قبيلة الحمران ردحاً من الزمن هادئة البال مرتاحة بمقرها الحديث بعد ان فارقت أرض وطنها في ميناء سواكن ملتقى البر والبحر والسحاب والجبال وكانت قبيلة الحمران لا تخشى مطامع جيرانها حتى الأحباش لانها قد أعدت لهم رباط الخيل وصمدت لنزالهم إلى اليوم بشجاعة فتيانا وشيوخها الذين اقتنوا الخيول لصد كل غاز وقد ذكر المؤلف السوداني ود ضيف الله واوضح قيمة الخيل عند الحمران .
في أواسط القرن الثامن عشر للميلاد تقريباً أنجبت قبيلة الحمران عدة شبان بزّوا غيرهم في ضروب البسالة والشهامة وأختصهم الله بحب الطبيعة وجمالها فأوحت إليهم بالشعر فنظموا أعمالهم وما أوتوه من مفاخرة . فمن بين هؤلاء الشبان الذين سمعنا بشعرهم على بن محمد شقيق تاجوج والمحلّق بن علي زوجها وغيرهما من شباب وشيوخ .
ونشأت في القبيلة أيضاً فتاة بزت أترابها في الجمال والجاه , ناهيك بمن تنشأ في بيت العز والترف ونعيم الحياة وسعدها : لها والد هو عميد القوم وأخ نال نصيبه من الشجاعة ووالدة من ام بني عامرية فتانة القوام عريضة بيت الملك إذ يمتد ملك أهلها من أقصى نهر سيتيت حتى سواحل البحر الاحمر .
وما هذه الفتاة إلا تاجوج بنت الشيخ محمد بن علي بن محلق بن محمد
بن علي التي دوت أخبارها في أكثر الافاق وتناقل الناس حديث جمالها وسارت الركبان تتغنى بما أختصت به من أدب وذكاء , وتسامر الفتيان بشهي حديثها ولذيذ خطابها . فتقدم المحلق إلى والدته يطلب منها أن تخطبها له من خاله . فأمتثلت الأم وطلبت من أخيها ابنته " تاجوج " لأبنها المحلق , فرضي الخال ولكن بعد أن طلب مهراً غالياً من أبن أخيه فأستعان المحلق بوالده وأوجده لأصهاره , وكل عاشق لا يعوقه غلاء المهر وتم القِِِران بين الزغاريد والدفوف والرقص .
عاشت تاجوج تحت سقف الزوجية يرفرف فوقهما ملاك الحب المتبادل وكانا أسعد زوجين عرفتهما أرض القبيلة .
ولم يكن المحلق معصوماً من الاتصال ببعض الفتيات حبيبات الى نفسه قبل قرانه بتاجوج كدأب أغلب الفتيان في البوادي والمدن وخاصة أولئك الذين يتبعون الكلأ بمواشيهم , فمن ذلك ما بلغنا من رواة ثقات حادثة جرت لهذين الزوجين كانت فاتحة الشر بينهما .ولا بأس من أن نذكرها هنا بحذافيرها لأن حياتهم لم تهنأ بعدها.
قيل أن المحلق خرج من خبائه في ليلة شديدة المطر وقد اكتنفها الرعد والبرق وحملق ببصره ليرى اتجاه المطر والأنحاء التي ستحظى بأغزرها . فكان وميض البرق على سهول قوز رجب . ثم هبت عليه رياح الأمطار من تلك الديار . فتذكر اياماص لذيذة قضاها مع صديقة له نائية الخباء بعيدة الديار ماله من يبعث اليه بشوقه وذكرياته الحلوة وأحلامه اللذيذة إلا لمعان البرق وقصف الرعد وهطول المطر وهبوب الريح وجالت في مخيلته هواجس الاحبة فملكت عليه مشاعره وأنسته موقفه الذي فيه فأنشد :
بَشِِدْ واركبْ على الياخُذ لُـه عَنّـه
فِريـوْةَ الرّيـفْ مَـعَ الّـتـوبْ المِتِـنّـى
يَتِـبْ عجـلانْ قِبُـل مـا نْلـمْ رَسَـنّـا
بيوتْ نُورَة أمْ شِليْخ وين من أَهَلْنَ
فلاح له إيماض البرق ثانية من نفس الجهة فودّ لو أستطاع أن يرب جمله البشاري السريف الذي يثب قبل ان تتمكن أفخاذ المحلق من السطيرة عليه , فقال يصف حالته تلك :
بشد وأركب على ودّ البشـارى
فريوة الريف من المحزم تجارى
يتبْ عجلان قبُل ما لم حكـارى
بلِيدْ نُورَة أم شِلِْيخ اللّيِلة طاري
ثم قال :
بَشِدْ واركبْ على أب زرداَ مدانَةْ
مِـتِـل وَدّ الأرايــلْ فــي البـطـانَـةْ
نَِضوهـو مـن كريكـر الـيـوم تـرانـا
نساري الليل على الخدّيرْ فلانة
وبينما هو ساهم في تأملاته وأسفاره الوجدانية ناسياً كل ما حوله وينشد ذلك بصوته المرتفع , إذ سمعت تاجوج تلك النفثة الشعرية التي اوحت بها ذكرى الصبا إلى روح الشاعر الحساسة فخرجت من الخباء لترى ما أعترى هذا العاشق المتيم الولهان الذي حرك البرق ولمعانه هذه الذكريات , فأنبعثت الأشعار من صميم فؤاده . فوجدت نفسها أمام بعلها وجهاً لوجه فأخذت تحرق الأرم من الغيظ والغيرة , وأنقلبت أسارير ذلك الوجه النضير إلى الكآبة والعبوس , وكاد يقضي عليها من الحسرة والأسى لولا بقية تعلة وتصبّر . وما أهاج ثورة غضبها إلا الخوف والجزع على من وهبت قلبها له وأحبت الحياة لأجله , فلن تسمح لقلبه أن يميل مع الهوى أو ترضى أن تنزعه من إحدى بنات حواء فتنغّص عليها عيشها وتجعل حياتها كلها نكداً وبؤسا. فقالت له : أعدْ الابيات التي قلتها الأن .
فأجابها , قلــت :
أمـــكْ دَبَــاسَــة وفُــــوقْ الــفُــروعْ
وأنــتِ بتشبـهـي المُـقْـد الـفُــروعْ
سخلة مصنة الطيب ما فيك ضلوع
لـيـلـة فَـــرِدْ يـــوم تـــازن ســبــوع
فقالت له : أعدْ الأبيات التي قلتها الأن . فأجابها قلت :
أمــك دبـاسـة وفـــوق الـشَــدر
وانـتِ بتشبهـي المـقـد الكـجَـرْ
سخلة مصنة الطيب مافيك فِقَرْ
ليـلـة فَِــردْ يـــوم تـــازنْ شـهــرْ
فقالت : ما هكذا قلت . فأجابها , قلت :
أمــــك دبــاســة وفـــــوق الـقــنــا
وانتِ بتشبهي المقد اللي انحنى
سخلة مصنة الطيب ما فيك جَنى
لـيـلـة فـــرد يــــوم تــــازن ســنــة
فقالت بغضب : والله ما هكذا قلت . نسيبتك تعيد لي ما قلت ... فحار المسكين في أمره , وعلم أن كل ثناء سكبه لأستدرار عطفها لم يجد نفعاً , ولم يخفف من غضبها وشدة أنفعالها فخضع أمام الحلف العظيم وجلاله , وهو قسم لا يمكنه أن يتريث في تنفيذه والتغاضي عنه والاستهتار به . فقال له وأنفه راغم قلت " بشد واكرب .. الخ ..."
ولكن قال ذلك في صوت كسير يشوبه الخجل والحرج الشديد .
فأنفجرت تاجوج صاخبة باكية , وذهبت الى منزل أبيها لا تلوى على شئ تشكو حليلها الذي لم يخص لها وحدها وده وحبه بل ما زال شرك معا في قلبه صويحباته أيام طيشة ونزقه.
ولكن كم كان ابوها الشيخ محمد حكيماً ويعلم من طبائع الجنس اللطيف ما ليس بالقليل . فردها الى بعلها بعد أن أقنعها بنبالة زوجها وطهره وعفافه فعلمت تاجوج أن عطف أبيها وحنانه شملا أبن أخته . فقالت : لن أعود الى منزل المحلق مالم يقصرشعَره عليَ دون أن يشرك معي خليلة أخرى . فرضي المحلق بالشرط مسرورا , وعاهدها على ذلك ثم تدفقت قريحته وتمكن منه الحب والكلف بها , فملاً البوادي كلها بمنظوم شعره يتغزل في تاجوج ويتعز بحبه لها .
ومما قاله فيها متغزلاً :
فصّْ المـاظ مركـب فـوق مجمّـرْ
فصّْ عينيك يا أم خشماً مجمّـرْ
فوقْ بستان تحت سالك مضمّرْ
جليـدك طاقـة الكـيـدي المنـمّـرْ
وقا ل ايضاً :
ما بِتْجيكْ تَمشِي وتخبْ
وما دنقرت حلبت شخبْ
وريقاتـك الفـوق الصـلـبْ
جَرّحَـنّـي داخــل القـلـبْ
هذا هو المحلق الذي نظم عقود اللآلئ الشعرية وتوج بها رأس تاجوج الحمرانية وحلى بها عنقها وجيدها , أضحى صريع غرامها ومريض هيامها كمن سبقوه من العشاق الذين أودى بهم شعرهم وغناؤهم الذي كانوا يتوددون به لحبيباتهم , ويتوجهون به على سائر أترابهن لكي يحظوا ببعض الجزء الجميل منهن وبالتشجيع من الأقران ولكي ينال العاشق وعشيقته لشهرة بين القبائل التي يرى بعضها أن الشعر يسئ إلى السمعة كما حدث لصاحبنا المحلق , فقد التقى ذات يوم بأحد أبناء عمومته الذي يقال له النور بن اللمم الذي عنف المحلق أشد التعنيف على إشهار حبه لتاجوج التي ذكرها في شعره حتى صار غناء الفرد والجماعة في البوادي والحضر وأصبحت هي مضغة لأفواه تلوكها الألسن وعرف أسمها ووصفها القاصي والداني.
فاجابه المحلق " والله يا أبن اللمم لو رأيتها لعذرتني والتمست لي المبررات , ولو كنت بعلها مكاني لما فارقتها لحظة , ولبقيت أسير جحيلها".
فقال النور " أنا لم أرها , ولكن يجمل بمن في منزلتك أن يخفف من غرامه وأشعاره ".
فأجابه المحلق " أنني حاولت ذلك ولكنني لم أطق , فتعال معي إلى الخباء كي أريك إياها في غفلة منها ".
وكانت هذه الدعوة كافية لأن تظهر اللوثة التي أصابت المحلق من جنون حبه وأنه أصبح لا يعرف ما يصح وما لا يصح , لقد اضحى مجنونا ما في ذلك شك . فسارا معاً . ثم ثقب المحلق الخباء خلفه واوقف النور أبن اللمم , ودخل داره ظناً منه أن تاجوج حقيقة غافلة لما ثقب خباءها . فأخذ قسطه من الراحة , ثم طلب منها أن تقف أمامه وترقص .
فتعجبت من طلبه ولكنها صبرت وتجلدت وقالت سمعاً وطاعة ولكني أشترط عليك أن تجيب طلبي بعد تنفيذي لرغبتك . وأن تقسم بالطلاق مقدماً على تنفيذه . فرضي المحلق ظناً منه أنا مهما طلبت فلن تتعدى مطالبها مراحات الإبل والبقر .
فلما ضمنت منه تنفيذ طلبها رضيت بما أئتمر عليه مع النور فطلب منها أن ترقص أمامه على ضوء النار إذ كان الوقت ليلاً ورجاها أن تتمايل في رقصتها يمنة ويسرة . ووتثّثنى وتتوسد شعرها . وأن تشبك أصابع يديها ثم تردهما إلى الخلف عن طريق رأسها . وكان هو يغني لها عدة أغاني ثم قال لها : كيف ترقصين إذا مت . فأجابت رغبته دون أي أمتعاض أو تذمر وتمنطقت بثيابها كما تفعل النساء في ساعات النواح , وفعلت أشياء أخرى أعتادت النساء في ذلك العصر الإتيان بها في العويل والبكاء .. ولما أنتهت من رقصاتها على أصوات العرضة والنقارة كان الفرح قد تملكه والهيام اسكره فشكرها وطلب منها أن تذكر مطالبها .
فنظرت إليه طويلاً وجسمها يرتجف وقالت له بصوت فيه صرامة وألم وجراح : طلبي واحد وهو الطلاق والفراق الأبدي . فصعق حين سمع طلبها وأنزعج أبن اللمم وولى هارباً من وراء الخباء بعد أن دمر عامراً حلالاً . وشتت قلوباً وأجساماً طالما عاشت في حياة هنيئة . وأخذت تاجوج ما كان بيدها من دثار وخرجت الى الى بيت أبيها والمحلق يتوسل إليها بكل عزيز لديها , ويتشبث بأطراف ثوبها راجياً مستجدياً بدون جدوى وخجل النور عما بدر منه وتجنب المجالس والاجتماعات وقيل إنه رحل من القرية إلى قرية أخرى بعيدة عن قرية آل المحلق ...
بلغ كلف المحلق بتاجوج مبلغ عظيما حتى إن والد تاجوج أخذته الرحمة وأدركه الحنان على ابن أخته فرثى لحال العاشق الوامق وما آل اليه من شحوب وأصفرار وهزال وتدهور في الصحة اشتركت فيه أم المحلق بالبكاء والنحيب على ما أصاب وحيدها من آلام بسبب هجر تاجوج له .
فأشترط الوالد علي المحلق ان يترك الشعر والغناء نهائياً وهو يتكفل برد زوجته المحبوبة اليه . فقال المحلق يستحيل علي أن أترك الشعر لأنه أصبح حديثي وكلامي , بل شـرابي وطعامي . فأشفق عليه الخال وقال له : لو أمتنعت عن ألإنشاد ليلة واحدة رددتها اليك . فرضى وهو في غاية الفرح . فأقام عليه الخال الرقباء والشهود في الليلة الموعودة . وأظهر المحلق قدرة على أمتلاك شعوره حتى أنتصف الليل فصار يتقلب يمنة ويسرة كأن حية لسعته حتى مل مضجعه . فنهض وسار جيئة وذهاباً وقد عقد ذراعيه حول صدره وكان يشد عليه بهما خوفاً من أن ينفجر . ثم بدأ يقعد أحياناً ويقف أحياناً اخرى وقد تملكه ضيق شديد ولكنه كان يغالب نفسه ويشدد عليها الخناق . وكانت ليلة طويلة ساكنة هادئة إذ قعد حوله الشهود وهم يصغون لكل آهة خرجت من صدره وكل أنة رنت من اضلاعه
وكاد الصبح أن يلوح واستيقظ ديك مبكراً قبل الديوك الأخرى فصفق جناحيه ومد صوته طويلاً نافذا في الافق فاخترق مسامع الجميع ووقع على اذني المحلق وقع عارمة . وحرك صياح الديك شجون المحلق فلم يشعر إلا ولسانه يتحرك وينطق مغنياً :
كَرْ ياديك مالك تصيـحْ
عارف حشاك مبرود جوفك نصيحْ
هدفت علي بالليل عنز الشليـخ
ضاق المنام ما لايْ كلب النبيح
ثم أنشد ثانية :
كر ياديك تصيح مَاكَ الْبَراَكْ تعبانْ
ما شفت القبيل قامت من الدخان
الصادق يقول أَرْيَلْ مع الغزلان
والكاضِب يقول خلقت بلا مصران
واستمر في إنشاده ذلك دون وعي منه , وهو يغني المقطع بعد المقطع حتى أنتهى ما لديه من حديث مكتوم , ثم صمت عن الأنشاد ٍ
فلما لاح الصباح أدى الرقباء شهادتهم وهي أن المحلق لم يقدر أن يمسك نفسه عن الانشاد حسب اتفاقه مع خاله .
خرج المحلق وهام على وجهه في البادية ونيران الحب تأكل قلبه وتدنيه من القبر . ومنذ ذلك اليوم كان بدء تعاسته وسوء منقلبه في الحياة التي إذا صفت للمرء زمناً لابد يوما أن يعقبها كدر ونكد وصار كالمجنون يتنقل في أحياء القبائل من دار إلى دار ينشد أشعاره وأغانيه الشجية عن تاجوج ونسى لياليه مع نورة أم شليخ وصويحباتها ومثيلاتها .
وبينما المحلق في شجونه وبلواه تهافت الخطاب على تاجوج بعد طلاقها منه ووفد عليها الوادون من كل جهة وقبيلة بسبب ما أذاعه عنها المحلق من الجمال الفائق ولكنها ردتهم جميعاً ما عدا واحد هو النور بن اللمم لأنه كما قالت : رأى منها أثناء رقصها شيئاً ما كان يجب أن يراه لولا جنون المحلق فقبلت به فتزوجها
أستاء المحلق لما سمع هذا النبأ وكظم غيظه خاصة وأنه كان يتمنى ألا يستطيع النور دفع مهرها الذي كان عبارة عن مائة بقرة صفرا ء فيها غرة بيضاء . ولكن الحظ ساعد النور فوجدها عند أحد أقاربه . ودبت الغيرة في صدر المحلق إذ لم يكن يطرأ على باله أنه هو الذي سيخلفه على مطلقته , ناسياً ما بينهما من إخاء وصداقة . وقال المحلق عند ذاك يظهر عدم أهتمامه بالامر وهو يكذب على نفسه .
كَمْ سَوّيتكْ رفيق ماخْدَ المرة وتلاّلها
كسِب لومي أنا والثانية ودّرْ مالها
كم شلّبتها وقلبتها قباله
التّمشِي ام خدود الدنيا مِي دايماله
وبينما كان يسير في الحي شاهد تاجوج ذات يوم من بعيد وهي خارجة من منزل جارتها قاصدة خباءها , فأنشد :
سَدُرْ , أكتاف علا وضامر فؤاده
كفل , أوراك مُلُسْ متل الوسادة
وقضى ليلته تلك خلف خباء تاجوج آملا في أن يراها وأنقضت الليلة دون أن يحظى بمشاهدتها وهي التي هواها يافعا ومراهقاً وفارقها عندما أكتملت رجولته وكان عليه أن يحافظ عليها ويعض عليها بالنواجذ .
وعرض عليه أهله أن يتزوج غيرها ليسلاها . ولكنه أعتبر الزواج بغيرها كمن يركب على سرج فيكف يرضى ان يركب " حوية " وهي السرج الذي توضع عليه الأحمال فوق سنام الجمل , وهي عبارة عن قطع من الأخشاب يصعب الجلوس عليها على ظهر الجمل . والعائلات البجاوية الرفيعة تركب إلا المخلوفة أو الكور وهي من وسائل الرفاهية في ركوب الإبل . وقال المحلق في ذلك :
وَلّفْ حَكِيّة
دخول البيت على الأجواد خطية
إنْتِ يا بقّة العسل الرويةٍ
بعد الكور كيف أركب حوية
وَلّف ولايف
شنْ لمّ الَرّكَبْ للقام هو زايفْ
تكَسّر في نهيدنْ ماهو زايفْ
وتبرد حُمّة الصيف المصايف أستمر المحلق في طوافه ببادية الحمران مؤملا أن يعثر يوما ما على النور بن اللمم الذي لم يحسن ضيافته ليلة مبيته خلف خبائه حتى عثر عليه وكلاهما على ظهر فرسه . فطلب المحلق من النور أن يصارعه , فرفض النور , فهجم عليه المحلق ونزعه من سرجه على الأرض وتصارعا فسقط النور على الأرض وقام من وقعته مستاء , وأستانف المصارعة فسقط ثانيا بعد عدة جولات وملاحمات ثم هوى بعدها النور الى الارض فخجل من نفسه , ونفض عن ملابسه العفار , وقام ليركب فرسه . ولكن المحلق قص ذيل الفرس , وقطع أذنيه وهذا دأب كل من ينتصر على خصمه من فرسان بادية البجة , وقال له : يا نور هل تحمل مني رسالة الى أبنة العم تاجوج . فأجاب نعم . فقال له :
قل لصافية العــلامة
بين قوزين طارت حمامة
الضنب والإضنين كرامة
فلما وصل النور داره أخبر تاجوج بالرسالة . فأجابته : ويحك هل صارعت المحلق فصرعك ؟ "فقال " نعم , وكيف عرفت ذلك . " قالت " أخزاك الله . أما تخجل يا هذا من نقل فضيحتك إلي . والله لن أرتضيك بعلاً لي بعد اليوم . " ورحلت عن منزل الزوجية الثاني إلى غير رجعة
في قرية عنـاتر بين سفوح التاكا ورباه وعلى ضفة نهر سيتيت الشرقية وفي ادغال واحراش السنط والسدر والأندراب واللالوب واشجار البان التي تغنى با الشعراء في اعتدال القوام وبين قبائل الضباينة وبني عامر والشكرية والأحباش عاشت قبيلة الحمران ردحاً من الزمن هادئة البال مرتاحة بمقرها الحديث بعد ان فارقت أرض وطنها في ميناء سواكن ملتقى البر والبحر والسحاب والجبال وكانت قبيلة الحمران لا تخشى مطامع جيرانها حتى الأحباش لانها قد أعدت لهم رباط الخيل وصمدت لنزالهم إلى اليوم بشجاعة فتيانا وشيوخها الذين اقتنوا الخيول لصد كل غاز وقد ذكر المؤلف السوداني ود ضيف الله واوضح قيمة الخيل عند الحمران .
في أواسط القرن الثامن عشر للميلاد تقريباً أنجبت قبيلة الحمران عدة شبان بزّوا غيرهم في ضروب البسالة والشهامة وأختصهم الله بحب الطبيعة وجمالها فأوحت إليهم بالشعر فنظموا أعمالهم وما أوتوه من مفاخرة . فمن بين هؤلاء الشبان الذين سمعنا بشعرهم على بن محمد شقيق تاجوج والمحلّق بن علي زوجها وغيرهما من شباب وشيوخ .
ونشأت في القبيلة أيضاً فتاة بزت أترابها في الجمال والجاه , ناهيك بمن تنشأ في بيت العز والترف ونعيم الحياة وسعدها : لها والد هو عميد القوم وأخ نال نصيبه من الشجاعة ووالدة من ام بني عامرية فتانة القوام عريضة بيت الملك إذ يمتد ملك أهلها من أقصى نهر سيتيت حتى سواحل البحر الاحمر .
وما هذه الفتاة إلا تاجوج بنت الشيخ محمد بن علي بن محلق بن محمد
بن علي التي دوت أخبارها في أكثر الافاق وتناقل الناس حديث جمالها وسارت الركبان تتغنى بما أختصت به من أدب وذكاء , وتسامر الفتيان بشهي حديثها ولذيذ خطابها . فتقدم المحلق إلى والدته يطلب منها أن تخطبها له من خاله . فأمتثلت الأم وطلبت من أخيها ابنته " تاجوج " لأبنها المحلق , فرضي الخال ولكن بعد أن طلب مهراً غالياً من أبن أخيه فأستعان المحلق بوالده وأوجده لأصهاره , وكل عاشق لا يعوقه غلاء المهر وتم القِِِران بين الزغاريد والدفوف والرقص .
عاشت تاجوج تحت سقف الزوجية يرفرف فوقهما ملاك الحب المتبادل وكانا أسعد زوجين عرفتهما أرض القبيلة .
ولم يكن المحلق معصوماً من الاتصال ببعض الفتيات حبيبات الى نفسه قبل قرانه بتاجوج كدأب أغلب الفتيان في البوادي والمدن وخاصة أولئك الذين يتبعون الكلأ بمواشيهم , فمن ذلك ما بلغنا من رواة ثقات حادثة جرت لهذين الزوجين كانت فاتحة الشر بينهما .ولا بأس من أن نذكرها هنا بحذافيرها لأن حياتهم لم تهنأ بعدها.
قيل أن المحلق خرج من خبائه في ليلة شديدة المطر وقد اكتنفها الرعد والبرق وحملق ببصره ليرى اتجاه المطر والأنحاء التي ستحظى بأغزرها . فكان وميض البرق على سهول قوز رجب . ثم هبت عليه رياح الأمطار من تلك الديار . فتذكر اياماص لذيذة قضاها مع صديقة له نائية الخباء بعيدة الديار ماله من يبعث اليه بشوقه وذكرياته الحلوة وأحلامه اللذيذة إلا لمعان البرق وقصف الرعد وهطول المطر وهبوب الريح وجالت في مخيلته هواجس الاحبة فملكت عليه مشاعره وأنسته موقفه الذي فيه فأنشد :
بَشِِدْ واركبْ على الياخُذ لُـه عَنّـه
فِريـوْةَ الرّيـفْ مَـعَ الّـتـوبْ المِتِـنّـى
يَتِـبْ عجـلانْ قِبُـل مـا نْلـمْ رَسَـنّـا
بيوتْ نُورَة أمْ شِليْخ وين من أَهَلْنَ
فلاح له إيماض البرق ثانية من نفس الجهة فودّ لو أستطاع أن يرب جمله البشاري السريف الذي يثب قبل ان تتمكن أفخاذ المحلق من السطيرة عليه , فقال يصف حالته تلك :
بشد وأركب على ودّ البشـارى
فريوة الريف من المحزم تجارى
يتبْ عجلان قبُل ما لم حكـارى
بلِيدْ نُورَة أم شِلِْيخ اللّيِلة طاري
ثم قال :
بَشِدْ واركبْ على أب زرداَ مدانَةْ
مِـتِـل وَدّ الأرايــلْ فــي البـطـانَـةْ
نَِضوهـو مـن كريكـر الـيـوم تـرانـا
نساري الليل على الخدّيرْ فلانة
وبينما هو ساهم في تأملاته وأسفاره الوجدانية ناسياً كل ما حوله وينشد ذلك بصوته المرتفع , إذ سمعت تاجوج تلك النفثة الشعرية التي اوحت بها ذكرى الصبا إلى روح الشاعر الحساسة فخرجت من الخباء لترى ما أعترى هذا العاشق المتيم الولهان الذي حرك البرق ولمعانه هذه الذكريات , فأنبعثت الأشعار من صميم فؤاده . فوجدت نفسها أمام بعلها وجهاً لوجه فأخذت تحرق الأرم من الغيظ والغيرة , وأنقلبت أسارير ذلك الوجه النضير إلى الكآبة والعبوس , وكاد يقضي عليها من الحسرة والأسى لولا بقية تعلة وتصبّر . وما أهاج ثورة غضبها إلا الخوف والجزع على من وهبت قلبها له وأحبت الحياة لأجله , فلن تسمح لقلبه أن يميل مع الهوى أو ترضى أن تنزعه من إحدى بنات حواء فتنغّص عليها عيشها وتجعل حياتها كلها نكداً وبؤسا. فقالت له : أعدْ الابيات التي قلتها الأن .
فأجابها , قلــت :
أمـــكْ دَبَــاسَــة وفُــــوقْ الــفُــروعْ
وأنــتِ بتشبـهـي المُـقْـد الـفُــروعْ
سخلة مصنة الطيب ما فيك ضلوع
لـيـلـة فَـــرِدْ يـــوم تـــازن ســبــوع
فقالت له : أعدْ الأبيات التي قلتها الأن . فأجابها قلت :
أمــك دبـاسـة وفـــوق الـشَــدر
وانـتِ بتشبهـي المـقـد الكـجَـرْ
سخلة مصنة الطيب مافيك فِقَرْ
ليـلـة فَِــردْ يـــوم تـــازنْ شـهــرْ
فقالت : ما هكذا قلت . فأجابها , قلت :
أمــــك دبــاســة وفـــــوق الـقــنــا
وانتِ بتشبهي المقد اللي انحنى
سخلة مصنة الطيب ما فيك جَنى
لـيـلـة فـــرد يــــوم تــــازن ســنــة
فقالت بغضب : والله ما هكذا قلت . نسيبتك تعيد لي ما قلت ... فحار المسكين في أمره , وعلم أن كل ثناء سكبه لأستدرار عطفها لم يجد نفعاً , ولم يخفف من غضبها وشدة أنفعالها فخضع أمام الحلف العظيم وجلاله , وهو قسم لا يمكنه أن يتريث في تنفيذه والتغاضي عنه والاستهتار به . فقال له وأنفه راغم قلت " بشد واكرب .. الخ ..."
ولكن قال ذلك في صوت كسير يشوبه الخجل والحرج الشديد .
فأنفجرت تاجوج صاخبة باكية , وذهبت الى منزل أبيها لا تلوى على شئ تشكو حليلها الذي لم يخص لها وحدها وده وحبه بل ما زال شرك معا في قلبه صويحباته أيام طيشة ونزقه.
ولكن كم كان ابوها الشيخ محمد حكيماً ويعلم من طبائع الجنس اللطيف ما ليس بالقليل . فردها الى بعلها بعد أن أقنعها بنبالة زوجها وطهره وعفافه فعلمت تاجوج أن عطف أبيها وحنانه شملا أبن أخته . فقالت : لن أعود الى منزل المحلق مالم يقصرشعَره عليَ دون أن يشرك معي خليلة أخرى . فرضي المحلق بالشرط مسرورا , وعاهدها على ذلك ثم تدفقت قريحته وتمكن منه الحب والكلف بها , فملاً البوادي كلها بمنظوم شعره يتغزل في تاجوج ويتعز بحبه لها .
ومما قاله فيها متغزلاً :
فصّْ المـاظ مركـب فـوق مجمّـرْ
فصّْ عينيك يا أم خشماً مجمّـرْ
فوقْ بستان تحت سالك مضمّرْ
جليـدك طاقـة الكـيـدي المنـمّـرْ
وقا ل ايضاً :
ما بِتْجيكْ تَمشِي وتخبْ
وما دنقرت حلبت شخبْ
وريقاتـك الفـوق الصـلـبْ
جَرّحَـنّـي داخــل القـلـبْ
هذا هو المحلق الذي نظم عقود اللآلئ الشعرية وتوج بها رأس تاجوج الحمرانية وحلى بها عنقها وجيدها , أضحى صريع غرامها ومريض هيامها كمن سبقوه من العشاق الذين أودى بهم شعرهم وغناؤهم الذي كانوا يتوددون به لحبيباتهم , ويتوجهون به على سائر أترابهن لكي يحظوا ببعض الجزء الجميل منهن وبالتشجيع من الأقران ولكي ينال العاشق وعشيقته لشهرة بين القبائل التي يرى بعضها أن الشعر يسئ إلى السمعة كما حدث لصاحبنا المحلق , فقد التقى ذات يوم بأحد أبناء عمومته الذي يقال له النور بن اللمم الذي عنف المحلق أشد التعنيف على إشهار حبه لتاجوج التي ذكرها في شعره حتى صار غناء الفرد والجماعة في البوادي والحضر وأصبحت هي مضغة لأفواه تلوكها الألسن وعرف أسمها ووصفها القاصي والداني.
فاجابه المحلق " والله يا أبن اللمم لو رأيتها لعذرتني والتمست لي المبررات , ولو كنت بعلها مكاني لما فارقتها لحظة , ولبقيت أسير جحيلها".
فقال النور " أنا لم أرها , ولكن يجمل بمن في منزلتك أن يخفف من غرامه وأشعاره ".
فأجابه المحلق " أنني حاولت ذلك ولكنني لم أطق , فتعال معي إلى الخباء كي أريك إياها في غفلة منها ".
وكانت هذه الدعوة كافية لأن تظهر اللوثة التي أصابت المحلق من جنون حبه وأنه أصبح لا يعرف ما يصح وما لا يصح , لقد اضحى مجنونا ما في ذلك شك . فسارا معاً . ثم ثقب المحلق الخباء خلفه واوقف النور أبن اللمم , ودخل داره ظناً منه أن تاجوج حقيقة غافلة لما ثقب خباءها . فأخذ قسطه من الراحة , ثم طلب منها أن تقف أمامه وترقص .
فتعجبت من طلبه ولكنها صبرت وتجلدت وقالت سمعاً وطاعة ولكني أشترط عليك أن تجيب طلبي بعد تنفيذي لرغبتك . وأن تقسم بالطلاق مقدماً على تنفيذه . فرضي المحلق ظناً منه أنا مهما طلبت فلن تتعدى مطالبها مراحات الإبل والبقر .
فلما ضمنت منه تنفيذ طلبها رضيت بما أئتمر عليه مع النور فطلب منها أن ترقص أمامه على ضوء النار إذ كان الوقت ليلاً ورجاها أن تتمايل في رقصتها يمنة ويسرة . ووتثّثنى وتتوسد شعرها . وأن تشبك أصابع يديها ثم تردهما إلى الخلف عن طريق رأسها . وكان هو يغني لها عدة أغاني ثم قال لها : كيف ترقصين إذا مت . فأجابت رغبته دون أي أمتعاض أو تذمر وتمنطقت بثيابها كما تفعل النساء في ساعات النواح , وفعلت أشياء أخرى أعتادت النساء في ذلك العصر الإتيان بها في العويل والبكاء .. ولما أنتهت من رقصاتها على أصوات العرضة والنقارة كان الفرح قد تملكه والهيام اسكره فشكرها وطلب منها أن تذكر مطالبها .
فنظرت إليه طويلاً وجسمها يرتجف وقالت له بصوت فيه صرامة وألم وجراح : طلبي واحد وهو الطلاق والفراق الأبدي . فصعق حين سمع طلبها وأنزعج أبن اللمم وولى هارباً من وراء الخباء بعد أن دمر عامراً حلالاً . وشتت قلوباً وأجساماً طالما عاشت في حياة هنيئة . وأخذت تاجوج ما كان بيدها من دثار وخرجت الى الى بيت أبيها والمحلق يتوسل إليها بكل عزيز لديها , ويتشبث بأطراف ثوبها راجياً مستجدياً بدون جدوى وخجل النور عما بدر منه وتجنب المجالس والاجتماعات وقيل إنه رحل من القرية إلى قرية أخرى بعيدة عن قرية آل المحلق ...
بلغ كلف المحلق بتاجوج مبلغ عظيما حتى إن والد تاجوج أخذته الرحمة وأدركه الحنان على ابن أخته فرثى لحال العاشق الوامق وما آل اليه من شحوب وأصفرار وهزال وتدهور في الصحة اشتركت فيه أم المحلق بالبكاء والنحيب على ما أصاب وحيدها من آلام بسبب هجر تاجوج له .
فأشترط الوالد علي المحلق ان يترك الشعر والغناء نهائياً وهو يتكفل برد زوجته المحبوبة اليه . فقال المحلق يستحيل علي أن أترك الشعر لأنه أصبح حديثي وكلامي , بل شـرابي وطعامي . فأشفق عليه الخال وقال له : لو أمتنعت عن ألإنشاد ليلة واحدة رددتها اليك . فرضى وهو في غاية الفرح . فأقام عليه الخال الرقباء والشهود في الليلة الموعودة . وأظهر المحلق قدرة على أمتلاك شعوره حتى أنتصف الليل فصار يتقلب يمنة ويسرة كأن حية لسعته حتى مل مضجعه . فنهض وسار جيئة وذهاباً وقد عقد ذراعيه حول صدره وكان يشد عليه بهما خوفاً من أن ينفجر . ثم بدأ يقعد أحياناً ويقف أحياناً اخرى وقد تملكه ضيق شديد ولكنه كان يغالب نفسه ويشدد عليها الخناق . وكانت ليلة طويلة ساكنة هادئة إذ قعد حوله الشهود وهم يصغون لكل آهة خرجت من صدره وكل أنة رنت من اضلاعه
وكاد الصبح أن يلوح واستيقظ ديك مبكراً قبل الديوك الأخرى فصفق جناحيه ومد صوته طويلاً نافذا في الافق فاخترق مسامع الجميع ووقع على اذني المحلق وقع عارمة . وحرك صياح الديك شجون المحلق فلم يشعر إلا ولسانه يتحرك وينطق مغنياً :
كَرْ ياديك مالك تصيـحْ
عارف حشاك مبرود جوفك نصيحْ
هدفت علي بالليل عنز الشليـخ
ضاق المنام ما لايْ كلب النبيح
ثم أنشد ثانية :
كر ياديك تصيح مَاكَ الْبَراَكْ تعبانْ
ما شفت القبيل قامت من الدخان
الصادق يقول أَرْيَلْ مع الغزلان
والكاضِب يقول خلقت بلا مصران
واستمر في إنشاده ذلك دون وعي منه , وهو يغني المقطع بعد المقطع حتى أنتهى ما لديه من حديث مكتوم , ثم صمت عن الأنشاد ٍ
فلما لاح الصباح أدى الرقباء شهادتهم وهي أن المحلق لم يقدر أن يمسك نفسه عن الانشاد حسب اتفاقه مع خاله .
خرج المحلق وهام على وجهه في البادية ونيران الحب تأكل قلبه وتدنيه من القبر . ومنذ ذلك اليوم كان بدء تعاسته وسوء منقلبه في الحياة التي إذا صفت للمرء زمناً لابد يوما أن يعقبها كدر ونكد وصار كالمجنون يتنقل في أحياء القبائل من دار إلى دار ينشد أشعاره وأغانيه الشجية عن تاجوج ونسى لياليه مع نورة أم شليخ وصويحباتها ومثيلاتها .
وبينما المحلق في شجونه وبلواه تهافت الخطاب على تاجوج بعد طلاقها منه ووفد عليها الوادون من كل جهة وقبيلة بسبب ما أذاعه عنها المحلق من الجمال الفائق ولكنها ردتهم جميعاً ما عدا واحد هو النور بن اللمم لأنه كما قالت : رأى منها أثناء رقصها شيئاً ما كان يجب أن يراه لولا جنون المحلق فقبلت به فتزوجها
أستاء المحلق لما سمع هذا النبأ وكظم غيظه خاصة وأنه كان يتمنى ألا يستطيع النور دفع مهرها الذي كان عبارة عن مائة بقرة صفرا ء فيها غرة بيضاء . ولكن الحظ ساعد النور فوجدها عند أحد أقاربه . ودبت الغيرة في صدر المحلق إذ لم يكن يطرأ على باله أنه هو الذي سيخلفه على مطلقته , ناسياً ما بينهما من إخاء وصداقة . وقال المحلق عند ذاك يظهر عدم أهتمامه بالامر وهو يكذب على نفسه .
كَمْ سَوّيتكْ رفيق ماخْدَ المرة وتلاّلها
كسِب لومي أنا والثانية ودّرْ مالها
كم شلّبتها وقلبتها قباله
التّمشِي ام خدود الدنيا مِي دايماله
وبينما كان يسير في الحي شاهد تاجوج ذات يوم من بعيد وهي خارجة من منزل جارتها قاصدة خباءها , فأنشد :
سَدُرْ , أكتاف علا وضامر فؤاده
كفل , أوراك مُلُسْ متل الوسادة
وقضى ليلته تلك خلف خباء تاجوج آملا في أن يراها وأنقضت الليلة دون أن يحظى بمشاهدتها وهي التي هواها يافعا ومراهقاً وفارقها عندما أكتملت رجولته وكان عليه أن يحافظ عليها ويعض عليها بالنواجذ .
وعرض عليه أهله أن يتزوج غيرها ليسلاها . ولكنه أعتبر الزواج بغيرها كمن يركب على سرج فيكف يرضى ان يركب " حوية " وهي السرج الذي توضع عليه الأحمال فوق سنام الجمل , وهي عبارة عن قطع من الأخشاب يصعب الجلوس عليها على ظهر الجمل . والعائلات البجاوية الرفيعة تركب إلا المخلوفة أو الكور وهي من وسائل الرفاهية في ركوب الإبل . وقال المحلق في ذلك :
وَلّفْ حَكِيّة
دخول البيت على الأجواد خطية
إنْتِ يا بقّة العسل الرويةٍ
بعد الكور كيف أركب حوية
وَلّف ولايف
شنْ لمّ الَرّكَبْ للقام هو زايفْ
تكَسّر في نهيدنْ ماهو زايفْ
وتبرد حُمّة الصيف المصايف أستمر المحلق في طوافه ببادية الحمران مؤملا أن يعثر يوما ما على النور بن اللمم الذي لم يحسن ضيافته ليلة مبيته خلف خبائه حتى عثر عليه وكلاهما على ظهر فرسه . فطلب المحلق من النور أن يصارعه , فرفض النور , فهجم عليه المحلق ونزعه من سرجه على الأرض وتصارعا فسقط النور على الأرض وقام من وقعته مستاء , وأستانف المصارعة فسقط ثانيا بعد عدة جولات وملاحمات ثم هوى بعدها النور الى الارض فخجل من نفسه , ونفض عن ملابسه العفار , وقام ليركب فرسه . ولكن المحلق قص ذيل الفرس , وقطع أذنيه وهذا دأب كل من ينتصر على خصمه من فرسان بادية البجة , وقال له : يا نور هل تحمل مني رسالة الى أبنة العم تاجوج . فأجاب نعم . فقال له :
قل لصافية العــلامة
بين قوزين طارت حمامة
الضنب والإضنين كرامة
فلما وصل النور داره أخبر تاجوج بالرسالة . فأجابته : ويحك هل صارعت المحلق فصرعك ؟ "فقال " نعم , وكيف عرفت ذلك . " قالت " أخزاك الله . أما تخجل يا هذا من نقل فضيحتك إلي . والله لن أرتضيك بعلاً لي بعد اليوم . " ورحلت عن منزل الزوجية الثاني إلى غير رجعة