نقوس المهدي
كاتب
قالت الجدة لأحفادها ذات مساء:
ـ والآن هيا يا أعزائي وليذهبْ كلّ منكم إلى فراشه، فقد حانت ساعة نومكم.
ونهض الأطفال الثلاثة، الصبيُّ والبنتان، فأقبلوا على جدتهم يقبلونها، وعلى الراهب الذي اعتاد زيارة القصر مساء كل يوم خميس، يُودّعونه، فجذب الطفلتين إليه واحتواهما بساعديه وضمّهما إلى صدره، وطبع قُبلة حانية على رأسيهما وتركهما برفق، فغادرت المخلوقات الصغيرة الغرفة، الصبي في المقدمة وخلفه سارت الأختان! قالت الجدة للراهب:
ـ إنك تُحب الأطفال أيها الأب!!
أجابها:
ـ أحبهم جدًا يا سيدتي.
نظرت إليه قائلة:
ـ أو لم تدرك أن من الصعب عليك أن تعيش وحيدًا؟
قال: بلى، أحيانًا!!
وأطرق صامتًا ثم قال بعد قليل:
ـ ولكني لم أخلق للحياة التي اعتاد الناس أن يحيوها!
ـ وهل تعرف عن هذه الحياة شيئًا؟!
ـ نعم.. أعرف عنها الكثير.. ولكني اخترت المهنة التي لا أصلح لغيرها!
وراحت المرأة العجوز تواصل النظر إليه قائلة:
ـ هيا وحدّثني عما تعرفه عنها.. أخبرني ما الذي جعلك تعزف عن طيبات الحياة التي أوجدها الله لنا عزاء وسلوى؟! ما الذي دعاك إلى الرغبة عن الزواج والحياة العائلية؟! إنك لست متصوفًا أو متعصبًا، كما أنك لست بالمتزمت أو المتشائم.. أم تُرى أن حادثًا جللاً حل بساحتك جعلك تترهّب؟!
ونهض الرجل وتوجه إلى حيث النار المتوهجة في الموقد الكبير وقد بدت على وجهه علائم التردد والإحجام عن الجواب!
كان فارع القامة أشيب الشعر، وقد أثقلت السنون كاهله. لقد أمضى قرابة عشرين عامًا راهبًا وجارًا للعائلة.. عرفه أهل القرية بالطيبة والعطف ورقة الحس ودماثة الخلق ولطف المعشر، وكان ممستعدًا لأن يضحك استعداده للبكاء مما أضر بمكانته قليلاً لدى بعض القرويين البسطاء!!
واستمرت سيدة القصر تحثه على الكلام قائلة:
ـ لقد آن لك أن تبوح بالسر الذي دفعك إلى الرهبنة.
ـ قلتُ لك يا سيدتي إنني لم أُخلق للحياة التي اعتادها الناس، ولقد أدركت هذا في الوقت المناسب، وكثيرًا ما كنت أجدُ الباعث الذي يُبرهن لي صواب ما ذهبت إليه.
كان والداي اللذان هما في سعة من الرزق وبسطة في العيش يعملان في التجارة منشغليْن بها ومنصرفين عني إليها، وفي الوقت نفسه ينظران إلى مستقبلي بتفاؤل وطموح، ولهذا فقد أرسلاني إلى مدرسة داخلية وأنا بعدُ صغير!! ليتهما أدركا مبلغ تعاسة الصغار وهم يجدون أنفسهم فجأة بعيدين عن بيوتهم وأترابهم ومراتع طفولتهم. إن الحياة الرتيبة التي يعيشونها وهم محرومون من العطف والحب قد تلائم البعض، ولكنها قد تصبح مدعاة للشقاء لدى البعض الآخر!! إن الطفل إنسان ذو حساسية مفرطة، فإن وجد نفسه بعيدًا عمن يُحب فإن هذه الحساسية قد تدمر أعصابه الغضة، وقد تتفاقم إلى ما هو أسوأ لتتحول إلى حالة مرضية تلازمه طوال حياته!! لم أكن أشارك أقراني في ألعابهم، كما لم يكن لي صديق من بينهم، كنت وحيدًا أعاني مرارة الحنين إلى البيت طول الوقت، وحين آوي إلى فراشي ليلاً كنت أطلق لدموعي العنان فأظل أبكي حتى يغلبني النوم، وغالبًا ما كنت أحاول العودة بخيالي إلى بيتي وأحداث طفولتي أستعيد ذكرياتها الحلوة، حتى استحوذت هذه الذكريات على نفسي، ولم أعد أستطيع إزاحتها عن ذهني فانهارت أعصابي، وصرت أرى في أي مشكلة مهما كانت تافهة مصدرًا لتعاسة لا حد لها!! والنتيجة أنني صرت ضيق الصدر عصبي المزاج منطويًا على نفسي ومكبوت العواطف. إن أعصاب الصغار سريعة التأثر. لذا ينبغي لنا أن نجنبهم أي تعكير لصفو حياتهم حتى يشتد عودهم. إن العقاب الذي يناله الصغير في المدرسة دون وجه حق، مثلاً، قد يسبب له من العذاب النفسي والعقلي ما يُسببه فقد عزيز عليه. إن أي سوء مهما صغر يلحق بالطفل قد يسبب لنفسه المرهفة وذهنه الغض اضطرابًا عاطفيًا قد ينتج عنه بعد فترة قصيرة داء عضال!!
هذا تمامًا ما كنت أعانيه وقتئذ. لم أخبر أحدًا بالأمر، ولم أبُح به لإنسان، وشيئًا فشيئًا ازدادت حساسيتي وتفاقمت حالتي وصارت نفسي مثل جرح غائر مفتوح!!
وهكذا حتى بلغت السادسة عشرة من عمري وأنا خجول خائف أشعر بالضعف، وأتجنب الاختلاط، وأعزف عن كل ما يدعو للتفوق والتقدم، ولم أكن أجرؤ على الكلام أمام الآخرين أو القيام بأي عمل في حضورهم، وتملكتني فكرة غريبة هي أن الحياة عندي ليست سوى معركة مريرة وصراع رهيب أنا فيها الطرف المغلوب على أمره!
وأنهيت دراستي وحصلت على إجازة طويلة ليتسنى لي في أثنائها التفكير في اختيار المهنة التي تناسبني! وفجأة وقع لي حادث بسيط مكنني من فهم نفسيتي وكشف لي الحالة غير السوية التي أعانيها، فأدركت الخطر الذي ينتظرني وصممت على تفاديه.
إن المدينة التي نعيش فيها صغيرة تقع على سهل واسع تحف به الأحراش من كل صوب، ويقع منزلنا في شارعها الرئيس، وكنت قد تعودتُ أن أقضي معظم وقتي متجولاً في أرجاء الريف الجميل الذي (من طول ابتعادي عنه) اشتقت إليه كثيرًا. أما أبي وأمي فلا يزالان منغمسيْن في عملهما، ولم ألمس منهما أي اهتمام بمشكلاتي وآلامي وآمالي!! صحيح أنهما يُحبانني ولكن بعقليهما لا بقلبيهما، شأنهما في ذلك شأن سائر الناس الواقعيين، فعشت حبيس أفكاري وأحلامي وأوهامي غير مستطيع تحرير نفسي من مخاوف القلق التي تساورني!!
أما الحادث الذي وقع لي، والذي أشرت إليه آنفًا، فخلاصته أنني حينما كنت عائدًا إلى بيتي ذات مساء، بعد جولة استغرقت النهار كله، شاهدت كلبًا صغيرًا يجري متجهًا نحوي، وما إن اقترب مني حتى توقف ثم صار يدنو شيئًا فشيئًا حتى جثا على الأرض يهز ذيله ويُحرك رأسه وهو ينظر إليّ، وحاولت إغراءه على الاقتراب مني وعدم الخوف، ومددت يدي أمسح بها على رأسه وجسمه مُلاطفًا حتى تشجع وانتصب واقفًا واضعًا يديه على كلتا كتفيّ، وبدأ يداعب وجهي بأنفه ولسانه. وما إن واصلت سيري حتى وجدته يتبعني كظلي. لقد أحببته وأحبني!! قد يبدو ذلك أمرًا مضحكًا، غير أن إحساسًا عجيبًا كان يساورني هو أنني وهذا المخلوق سيان في الضعف والعذاب والوحدة، وصار يلازمني في جولاتي اليومية وينام ليلاً عند قدمي سريري ويتناول طعامه بصحبتي!!
وفي يوم من أيام الصيف وفيما كنت أتمشى بمحاذاة الطريق الريفي، شاهدت عربة كبيرة تجرّها أربعة جياد وهي منطلقة بأقصى سرعتها والحوذي يلهب ظهورها بسياطه، وسحب الغبار ترتفع من تحت عجلاتها الثقيلة فتحملها الريح بعيدًا خلفها. ويبدو أن المركبة بضجيجها وعجيجها قد أفزعت الكلب الذي كان في الجانب الآخر من الطريق، فأقبل متجهًا ناحيتي، ولكنه مرّ من أمام العربة المسرعة فصدمته حوافر الجياد وقذفت به بعيدًا أمامها، وحاول أن ينهض قبل أن تصل إليه العربة ولكنه لم يستطع، بل وقع مرة ثانية وسط غابة من قوائم الخيل التي تقاذفته كالكرة ثم تركته يتلوى في التراب حتى لفظ أنفاسه.
كان لهذا الحادث أثر بالغ في نفسي حتى أنني لازمت غرفتي مدة طويلة لا أبرحها، ولما رآني والدي على هذه الحال قال لي: ماذا عساك أن تفعل لو نزلت بك مصيبة حقيقية في مستقبل حياتك كأن تفقد زوجة أو طفلاً؟!
وبدأت أدرك حقيقة نفسي، وتبين لي السبب الذي تبدو فيه متاعب الحياة اليومية كوارث لا تُطاق في نظري. لقد كنت راغبًا عن كل ما يساور الناس الأسوياء من رغائب جسدية طبيعية، كما كنت بلا طموح. لذا قررت أن أكرس حياتي لمواساة المعذبين من الناس.. كنت أقول لنفسي: ما دمت غير مستطيع معاناة الألم بنفسي فلا بأس من أن أجرب المعاناة في حياة الآخرين.. ورغم هذا فما زال الخوف الغامض اللاشعوري يتملكني حتى أن مجرد رؤيتي لساعي البريد مقبلاً عليّ يبعث في نفسي قشعريرة تجتاح كياني!!
وأطرق الراهب صامتًا وهو يحدق في نار الموقد المتأججة، كما لو كان يقرأ في ثناياها غوامض الحياة التي عاشها ويستكْنه أسرارها. وأخيرًا قال بصوت خفيض:
ـ لقد كنت على حق! فإنني لا أصلح لهذه الدنيا يا سيدتي!
أما العجوز فقد قالت بعد صمت طويل:
ـ أما أنا فإنني أدعو ربي ليمد في عمري كي أرعى أحفادي الذين حُرموا أمهم وأباهم والذين لولاهم ما كان هنالك من سبب يدعوني للحياة!!
ونهض الراهب دون أن يفوه بكلمة. وصحبته العجوز إلى باب القصر حيث غادر وسراجه في يده، ووقفت تراقب ظله وهو يتحرك ببطء حتى ابتلعه الظلام!!
ـ والآن هيا يا أعزائي وليذهبْ كلّ منكم إلى فراشه، فقد حانت ساعة نومكم.
ونهض الأطفال الثلاثة، الصبيُّ والبنتان، فأقبلوا على جدتهم يقبلونها، وعلى الراهب الذي اعتاد زيارة القصر مساء كل يوم خميس، يُودّعونه، فجذب الطفلتين إليه واحتواهما بساعديه وضمّهما إلى صدره، وطبع قُبلة حانية على رأسيهما وتركهما برفق، فغادرت المخلوقات الصغيرة الغرفة، الصبي في المقدمة وخلفه سارت الأختان! قالت الجدة للراهب:
ـ إنك تُحب الأطفال أيها الأب!!
أجابها:
ـ أحبهم جدًا يا سيدتي.
نظرت إليه قائلة:
ـ أو لم تدرك أن من الصعب عليك أن تعيش وحيدًا؟
قال: بلى، أحيانًا!!
وأطرق صامتًا ثم قال بعد قليل:
ـ ولكني لم أخلق للحياة التي اعتاد الناس أن يحيوها!
ـ وهل تعرف عن هذه الحياة شيئًا؟!
ـ نعم.. أعرف عنها الكثير.. ولكني اخترت المهنة التي لا أصلح لغيرها!
وراحت المرأة العجوز تواصل النظر إليه قائلة:
ـ هيا وحدّثني عما تعرفه عنها.. أخبرني ما الذي جعلك تعزف عن طيبات الحياة التي أوجدها الله لنا عزاء وسلوى؟! ما الذي دعاك إلى الرغبة عن الزواج والحياة العائلية؟! إنك لست متصوفًا أو متعصبًا، كما أنك لست بالمتزمت أو المتشائم.. أم تُرى أن حادثًا جللاً حل بساحتك جعلك تترهّب؟!
ونهض الرجل وتوجه إلى حيث النار المتوهجة في الموقد الكبير وقد بدت على وجهه علائم التردد والإحجام عن الجواب!
كان فارع القامة أشيب الشعر، وقد أثقلت السنون كاهله. لقد أمضى قرابة عشرين عامًا راهبًا وجارًا للعائلة.. عرفه أهل القرية بالطيبة والعطف ورقة الحس ودماثة الخلق ولطف المعشر، وكان ممستعدًا لأن يضحك استعداده للبكاء مما أضر بمكانته قليلاً لدى بعض القرويين البسطاء!!
واستمرت سيدة القصر تحثه على الكلام قائلة:
ـ لقد آن لك أن تبوح بالسر الذي دفعك إلى الرهبنة.
ـ قلتُ لك يا سيدتي إنني لم أُخلق للحياة التي اعتادها الناس، ولقد أدركت هذا في الوقت المناسب، وكثيرًا ما كنت أجدُ الباعث الذي يُبرهن لي صواب ما ذهبت إليه.
كان والداي اللذان هما في سعة من الرزق وبسطة في العيش يعملان في التجارة منشغليْن بها ومنصرفين عني إليها، وفي الوقت نفسه ينظران إلى مستقبلي بتفاؤل وطموح، ولهذا فقد أرسلاني إلى مدرسة داخلية وأنا بعدُ صغير!! ليتهما أدركا مبلغ تعاسة الصغار وهم يجدون أنفسهم فجأة بعيدين عن بيوتهم وأترابهم ومراتع طفولتهم. إن الحياة الرتيبة التي يعيشونها وهم محرومون من العطف والحب قد تلائم البعض، ولكنها قد تصبح مدعاة للشقاء لدى البعض الآخر!! إن الطفل إنسان ذو حساسية مفرطة، فإن وجد نفسه بعيدًا عمن يُحب فإن هذه الحساسية قد تدمر أعصابه الغضة، وقد تتفاقم إلى ما هو أسوأ لتتحول إلى حالة مرضية تلازمه طوال حياته!! لم أكن أشارك أقراني في ألعابهم، كما لم يكن لي صديق من بينهم، كنت وحيدًا أعاني مرارة الحنين إلى البيت طول الوقت، وحين آوي إلى فراشي ليلاً كنت أطلق لدموعي العنان فأظل أبكي حتى يغلبني النوم، وغالبًا ما كنت أحاول العودة بخيالي إلى بيتي وأحداث طفولتي أستعيد ذكرياتها الحلوة، حتى استحوذت هذه الذكريات على نفسي، ولم أعد أستطيع إزاحتها عن ذهني فانهارت أعصابي، وصرت أرى في أي مشكلة مهما كانت تافهة مصدرًا لتعاسة لا حد لها!! والنتيجة أنني صرت ضيق الصدر عصبي المزاج منطويًا على نفسي ومكبوت العواطف. إن أعصاب الصغار سريعة التأثر. لذا ينبغي لنا أن نجنبهم أي تعكير لصفو حياتهم حتى يشتد عودهم. إن العقاب الذي يناله الصغير في المدرسة دون وجه حق، مثلاً، قد يسبب له من العذاب النفسي والعقلي ما يُسببه فقد عزيز عليه. إن أي سوء مهما صغر يلحق بالطفل قد يسبب لنفسه المرهفة وذهنه الغض اضطرابًا عاطفيًا قد ينتج عنه بعد فترة قصيرة داء عضال!!
هذا تمامًا ما كنت أعانيه وقتئذ. لم أخبر أحدًا بالأمر، ولم أبُح به لإنسان، وشيئًا فشيئًا ازدادت حساسيتي وتفاقمت حالتي وصارت نفسي مثل جرح غائر مفتوح!!
وهكذا حتى بلغت السادسة عشرة من عمري وأنا خجول خائف أشعر بالضعف، وأتجنب الاختلاط، وأعزف عن كل ما يدعو للتفوق والتقدم، ولم أكن أجرؤ على الكلام أمام الآخرين أو القيام بأي عمل في حضورهم، وتملكتني فكرة غريبة هي أن الحياة عندي ليست سوى معركة مريرة وصراع رهيب أنا فيها الطرف المغلوب على أمره!
وأنهيت دراستي وحصلت على إجازة طويلة ليتسنى لي في أثنائها التفكير في اختيار المهنة التي تناسبني! وفجأة وقع لي حادث بسيط مكنني من فهم نفسيتي وكشف لي الحالة غير السوية التي أعانيها، فأدركت الخطر الذي ينتظرني وصممت على تفاديه.
إن المدينة التي نعيش فيها صغيرة تقع على سهل واسع تحف به الأحراش من كل صوب، ويقع منزلنا في شارعها الرئيس، وكنت قد تعودتُ أن أقضي معظم وقتي متجولاً في أرجاء الريف الجميل الذي (من طول ابتعادي عنه) اشتقت إليه كثيرًا. أما أبي وأمي فلا يزالان منغمسيْن في عملهما، ولم ألمس منهما أي اهتمام بمشكلاتي وآلامي وآمالي!! صحيح أنهما يُحبانني ولكن بعقليهما لا بقلبيهما، شأنهما في ذلك شأن سائر الناس الواقعيين، فعشت حبيس أفكاري وأحلامي وأوهامي غير مستطيع تحرير نفسي من مخاوف القلق التي تساورني!!
أما الحادث الذي وقع لي، والذي أشرت إليه آنفًا، فخلاصته أنني حينما كنت عائدًا إلى بيتي ذات مساء، بعد جولة استغرقت النهار كله، شاهدت كلبًا صغيرًا يجري متجهًا نحوي، وما إن اقترب مني حتى توقف ثم صار يدنو شيئًا فشيئًا حتى جثا على الأرض يهز ذيله ويُحرك رأسه وهو ينظر إليّ، وحاولت إغراءه على الاقتراب مني وعدم الخوف، ومددت يدي أمسح بها على رأسه وجسمه مُلاطفًا حتى تشجع وانتصب واقفًا واضعًا يديه على كلتا كتفيّ، وبدأ يداعب وجهي بأنفه ولسانه. وما إن واصلت سيري حتى وجدته يتبعني كظلي. لقد أحببته وأحبني!! قد يبدو ذلك أمرًا مضحكًا، غير أن إحساسًا عجيبًا كان يساورني هو أنني وهذا المخلوق سيان في الضعف والعذاب والوحدة، وصار يلازمني في جولاتي اليومية وينام ليلاً عند قدمي سريري ويتناول طعامه بصحبتي!!
وفي يوم من أيام الصيف وفيما كنت أتمشى بمحاذاة الطريق الريفي، شاهدت عربة كبيرة تجرّها أربعة جياد وهي منطلقة بأقصى سرعتها والحوذي يلهب ظهورها بسياطه، وسحب الغبار ترتفع من تحت عجلاتها الثقيلة فتحملها الريح بعيدًا خلفها. ويبدو أن المركبة بضجيجها وعجيجها قد أفزعت الكلب الذي كان في الجانب الآخر من الطريق، فأقبل متجهًا ناحيتي، ولكنه مرّ من أمام العربة المسرعة فصدمته حوافر الجياد وقذفت به بعيدًا أمامها، وحاول أن ينهض قبل أن تصل إليه العربة ولكنه لم يستطع، بل وقع مرة ثانية وسط غابة من قوائم الخيل التي تقاذفته كالكرة ثم تركته يتلوى في التراب حتى لفظ أنفاسه.
كان لهذا الحادث أثر بالغ في نفسي حتى أنني لازمت غرفتي مدة طويلة لا أبرحها، ولما رآني والدي على هذه الحال قال لي: ماذا عساك أن تفعل لو نزلت بك مصيبة حقيقية في مستقبل حياتك كأن تفقد زوجة أو طفلاً؟!
وبدأت أدرك حقيقة نفسي، وتبين لي السبب الذي تبدو فيه متاعب الحياة اليومية كوارث لا تُطاق في نظري. لقد كنت راغبًا عن كل ما يساور الناس الأسوياء من رغائب جسدية طبيعية، كما كنت بلا طموح. لذا قررت أن أكرس حياتي لمواساة المعذبين من الناس.. كنت أقول لنفسي: ما دمت غير مستطيع معاناة الألم بنفسي فلا بأس من أن أجرب المعاناة في حياة الآخرين.. ورغم هذا فما زال الخوف الغامض اللاشعوري يتملكني حتى أن مجرد رؤيتي لساعي البريد مقبلاً عليّ يبعث في نفسي قشعريرة تجتاح كياني!!
وأطرق الراهب صامتًا وهو يحدق في نار الموقد المتأججة، كما لو كان يقرأ في ثناياها غوامض الحياة التي عاشها ويستكْنه أسرارها. وأخيرًا قال بصوت خفيض:
ـ لقد كنت على حق! فإنني لا أصلح لهذه الدنيا يا سيدتي!
أما العجوز فقد قالت بعد صمت طويل:
ـ أما أنا فإنني أدعو ربي ليمد في عمري كي أرعى أحفادي الذين حُرموا أمهم وأباهم والذين لولاهم ما كان هنالك من سبب يدعوني للحياة!!
ونهض الراهب دون أن يفوه بكلمة. وصحبته العجوز إلى باب القصر حيث غادر وسراجه في يده، ووقفت تراقب ظله وهو يتحرك ببطء حتى ابتلعه الظلام!!