علي بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري - الكامل في التاريخ

[ذِكْرُ بَنِي تَمِيمٍ وَسَجَاحَ]
وَأَمَّا بَنُو تَمِيمٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ فِيهِمْ عُمَّالَهُ، فَكَانَ الزِّبْرِقَانُ مِنْهُمْ، وَسَهْلُ بْنُ مِنْجَابٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ صَفْوَانَ، وَسَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَوَكِيعُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ. فَلَمَّا وَقَعَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَارَ صَفْوَانُ بْنُ صَفْوَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِصَدَقَاتِ بَنِي عَمْرٍو، وَأَقَامَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ يَنْظُرُ مَا الزِّبْرِقَانُ صَانِعٌ لِيُخَالِفَهُ، فَقَالَ حِينَ أَبْطَأَ عَلَيْهِ الزِّبْرِقَانُ فِي عَمَلِهِ: وَاوَيْلَتَاهُ مِنِ ابْنِ الْعُكْلِيَّةِ! وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ، لَئِنْ أَنَا بَعَثْتُ بِالصَّدَقَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَبَايَعْتُهُ، لَيَنْحَرَنَّ مَا مَعَهُ فِي بَنِي سَعْدٍ، فَيُسَوِّدُنِي عِنْدَهُ، فَقَسَّمَهَا عَلَى الْمَقَاعِسِ وَالْبُطُونِ، وَوَافَى الزِّبْرِقَانُ فَاتَّبَعَ صَفْوَانَ بْنَ صَفْوَانَ بِصَدَقَاتِ عَوْفٍ وَالْأَبْنَاءِ، وَهَذِهِ بُطُونٌ مِنْ تَمِيمٍ. ثُمَّ نَدِمَ قَيْسٌ، فَلَمَّا أَظَلَّهُ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ أَخْرَجَ الصَّدَقَةَ فَتَلَقَّاهُ بِهَا، ثُمَّ خَرَجَ مَعَهُ وَتَشَاغَلَتْ تَمِيمٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.
وَكَانَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيُّ تَأْتِيهِ أَمْدَادُ تَمِيمٍ، فَلَمَّا حَدَثَ هَذَا الْحَدَثُ أَضَرَّ ذَلِكَ بِثُمَامَةَ، وَكَانَ مُقَاتِلًا لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ بِبِلَادِ تَمِيمٍ مُسْلِمِهِمْ بِإِزَاءِ مَنْ أَرَادَ الرِّدَّةَ وَارْتَابَ - إِذْ جَاءَتْهُمْ سَجَاحُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ عُقْفَانَ التَّمِيمِيَّةُ، قَدْ أَقْبَلَتْ مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَادَّعَتِ النُّبُوَّةَ، وَكَانَ وَرَهْطُهَا فِي أَخْوَالِهَا مِنْ تَغْلِبَ تَقُودُ أَفَنَاءَ رَبِيعَةَ، مَعَهَا الْهُذَيْلُ بْنُ عِمْرَانَ فِي بَنِي تَغْلِبَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَتَرَكَ دِينَهُ وَتَبِعَهَا، وَعَقَّةُ بْنُ هِلَالٍ فِي النَّمِرِ، وَتَادُ بْنُ فُلَانٍ فِي إِيَادٍ، وَالسَّلِيلُ بْنُ قَيْسٍ فِي شَيْبَانَ، فَأَتَاهُمْ أَمْرٌ أَعْظَمُ مِمَّا هُمْ فِيهِ لِاخْتِلَافِهِمْ.
وَكَانَتْ سَجَاحُ تُرِيدُ غَزْوَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ تَطْلُبُ الْمُوَادَعَةَ، فَأَجَابَهَا وَرَدَّهَا عَنْ غَزْوِهَا، وَحَمَلَهَا عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَجَابَتْهُ وَقَالَتْ: أَنَا امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ، فَإِنْ كَانَ مُلْكٌ فَهُوَ لَكُمْ. وَهَرَبَ مِنْهَا عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ، وَسَادَةُ بَنِي مَالِكٍ، وَحَنْظَلَةُ - إِلَى بَنِي الْعَنْبَرِ، وَكَرِهُوا مَا صَنَعَ وَكِيعٌ، وَكَانَ قَدْ وَادَعَهَا، وَهَرَبَ مِنْهَا أَشْبَاهُهُمْ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ، وَكَرِهُوا مَا صَنَعَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ، وَاجْتَمَعَ مَالِكٌ وَوَكِيعٌ وَسَجَاحُ فَسَجَعَتْ لَهُمْ سَجَاحُ وَقَالَتْ: " أَعِدُّوا الرِّكَابْ، وَاسْتَعِدُّوا لِلنِّهَابْ، ثُمَّ أَغِيرُوا عَلَى الرِّبَابْ، فَلَيْسَ دُونَهُمْ حِجَابْ ". فَسَارُوا إِلَيْهِمْ، فَلَقِيَهُمْ ضَبَّةُ وَعَبْدُ مَنَاةٍ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةٌ، وَأُسِرَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ تَصَالَحُوا، وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ شِعْرًا ظَهَرَ فِيهِ نَدَمُهُ عَلَى تَخَلُّفِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بِصَدَقَتِهِ.
ثُمَّ سَارَتْ سَجَاحُ فِي جُنُودِ الْجَزِيرَةِ حَتَّى بَلَغَتِ النِّبَاجَ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ أَوْسُ بْنُ خُزَيْمَةَ الْهُجَيْمِيُّ فِي بَنِي عَمْرٍو، فَأَسَرَ الْهُذَيْلَ وَعَقَّةَ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يُطْلِقَ أَسْرَى سَجَاحَ، وَلَا يَطَأَ أَرْضَ أَوْسٍ وَمَنْ مَعَهُ.
ثُمَّ خَرَجَتْ سَجَاحُ فِي الْجُنُودِ وَقَصَدَتِ الْيَمَامَةَ، وَقَالَتْ: عَلَيْكُمْ بِالْيَمَامَهْ، وَدُفُّوا دَفِيفَ الْحَمَامَهْ، فَإِنَّهَا غَزْوَةٌ صَرَّامَهْ، لَا يَلْحَقُكُمْ بَعْدَهَا مَلَامَهْ. فَقَصَدَتْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُسَيْلِمَةَ، فَخَافَ إِنْ هُوَ شُغِلَ بِهَا أَنْ يَغْلِبَ ثُمَامَةُ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَالْقَبَائِلُ التى حَوْلَهُمْ عَلَى حَجْرٍ، وَهِيَ الْيَمَامَةُ، فَأَهْدَى لَهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ يَسْتَأْمِنُهَا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَأْتِيَهَا، فَآمَنَتْهُ، فَجَاءَهَا فِي أَرْبَعِينَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ مُسَيْلِمَةُ: لَنَا نِصْفُ الْأَرْضِ، وَكَانَ لِقُرَيْشٍ نِصْفُهَا لَوْ عَدَلَتْ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكِ النِّصْفَ الَّذِي رَدَّتْ قُرَيْشٌ.
وَكَانَ مِمَّا شَرَعَ لَهُمْ أَنَّ مَنْ أَصَابَ وَلَدًا وَاحِدًا ذَكَرًا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ حَتَّى يَمُوتَ ذَلِكَ الْوَلَدُ، فَيَطْلُبُ الْوَلَدَ حَتَّى يُصِيبَ ابْنًا ثُمَّ يُمْسِكُ.
وَقِيلَ: بَلْ تَحَصَّنَ مِنْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: انْزِلْ، فَقَالَ لَهَا: أَبْعِدِي أَصْحَابَكِ. فَفَعَلَتْ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهَا قُبَّةً وَجَمَّرَهَا لِتَذْكُرَ بِطِيبِ الرِّيحِ الْجِمَاعَ، وَاجْتَمَعَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: مَا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ فَعَلَ بِالْحُبْلَى. أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى، بَيْنَ صِفَاقٍ وَحَشًى؟ قَالَتْ: وَمَاذَا أَيْضًا؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ النِّسَاءَ أَفَرَاجَا، وَجَعَلَ الرِّجَالَ لَهُنَّ أَزْوَاجًا، فَتُولِجُ فِيهِنَّ قُعْسًا إِيلَاجًا، ثُمَّ تُخْرِجُهَا إِذْ تَشَاءُ إِخْرَاجًا، فَيُنْتِجْنَ لَنَا سِخَالًا إِنْتَاجًا. قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ. قَالَ: هَلْ لَكِ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ وَآكُلَ بِقَوْمِي وَقَوْمِكِ الْعَرَبَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ:
أَلَا قُومِي إِلَى النَّيْكِ فَقَدْ هُيِّئَ لَكِ الْمَضْجَعْ فَإِنْ شِئْتِ فَفِي الْبَيْتِ وَإِنْ شِئْتِ فَفِي الْمَخْدَعْ وَإِنْ شِئْتِ سَلَقْنَاكِ وَإِنْ شِئْتِ عَلَى أَرْبَعْ وَإِنْ شِئْتِ بِثُلْثَيْهِ وَإِنْ شِئْتِ بِهِ أَجْمَعْ
قَالَتْ: بَلْ بِهِ أَجْمَعَ فَإِنَّهُ أَجْمَعُ لِلشَّمْلِ. قَالَ: بِذَلِكَ أُوحِيَ إِلَيَّ. فَأَقَامَتْ عِنْدَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ انْصَرَفَتْ إِلَى قَوْمِهَا، فَقَالُوا لَهَا: مَا عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: كَانَ عَلَى الْحَقِّ فَتَبِعْتُهُ وَتَزَوَّجْتُهُ. قَالُوا: هَلْ أَصْدَقَكِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: لَا. قَالُوا: فَارْجِعِي فَاطْلُبِي الصَّدَاقَ، فَرَجَعَتْ. فَلَمَّا رَآهَا أَغْلَقَ بَابَ الْحِصْنِ وَقَالَ: مَا لَكِ؟ قَالَتْ: أَصْدِقْنِي. قَالَ: مَنْ مُؤَذِّنُكِ؟ قَالَتْ: شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ الرِّيَاحِيُّ، فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: نَادِ فِي أَصْحَابِكَ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَضَعَ عَنْكُمْ صَلَاتَيْنِ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ: صَلَاةَ الْفَجْرِ وَصَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. فَانْصَرَفَتْ وَمَعَهَا أَصْحَابُهَا، مِنْهُمْ: عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، وَغَيْلَانُ بْنُ خَرَشَةَ، وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فَقَالَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ:
أَمْسَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نَطُوفُ بِهَا ... وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا
وَصَالَحَهَا مُسَيْلِمَةُ عَلَى غَلَّاتِ الْيَمَامَةِ، سَنَةً تَأْخُذُ النِّصْفَ وَتَتْرُكُ عِنْدَهُ مَنْ يَأْخُذُ النِّصْفَ، فَأَخَذَتِ النِّصْفَ وَانْصَرَفَتْ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَخَلَّفَتِ الْهُذَيْلَ وَعَقَّةَ وَزِيَادًا لِأَخْذِ النِّصْفِ الْبَاقِي، فَلَمْ يُفَاجِئْهُمْ إِلَّا دُنُوُّ خَالِدٍ إِلَيْهِمْ فَارْفَضُّوا.
فَلَمْ تَزَلْ سَجَاحُ فِي تَغْلِبَ حَتَّى نَقَلَهُمْ مُعَاوِيَةُ عَامَ الْجَمَاعَةِ، وَجَاءَتْ مَعَهُمْ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ وَإِسْلَامُهَا، وَانْتَقَلَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ وَمَاتَتْ بِهَا، وَصَلَّى عَلَيْهَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ وَهُوَ عَلَى الْبَصْرَةِ لِمُعَاوِيَةَ، قَبْلَ قُدُومِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ مِنْ خُرَاسَانَ وَوِلَايَتِهِ الْبَصْرَةَ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمَّا قُتِلَ مُسَيْلِمَةُ سَارَتْ إِلَى أَخْوَالِهَا تَغْلِبَ بِالْجَزِيرَةِ، فَمَاتَتْ عِنْدَهُمْ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهَا بِذِكْرٍ.

[ذِكْرُ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ]
لَمَّا رَجَعَتْ سَجَاحُ إِلَى الْجَزِيرَةِ ارْعَوَى مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ، وَنَدِمَ وَتَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَعَرَفَ وَكِيعٌ وَسَمَاعَةُ قُبْحَ مَا أَتَيَا، فَرَاجَعَا رُجُوعًا حَسَنًا وَلَمْ يَتَجَبَّرَا، وَأَخْرَجَا الصَّدَقَاتِ فَاسْتَقْبَلَا بِهَا خَالِدًا. وَسَارَ خَالِدٌ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ فَزَارَةَ وَغَطَفَانَ وَأَسَدٍ وَطَيِّئٍ يُرِيدُ الْبُطَاحَ، وَبِهَا مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ قَدْ تَرَدَّدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَتَخَلَّفَتِ الْأَنْصَارُ عَنْ خَالِدٍ وَقَالُوا: مَا هَذَا بِعَهْدِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْنَا، إِنْ نَحْنُ فَرَغْنَا مِنْ بُزَاخَةَ أَنْ نُقِيمَ حَتَّى يَكْتُبَ إِلَيْنَا. فَقَالَ خَالِدٌ: قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ أَمْضِيَ، وَأَنَا الْأَمِيرُ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ كِتَابٌ بِمَا رَأَيْتُهُ فُرْصَةً وَكُنْتُ إِنْ أَعْلَمْتُهُ فَاتَتْنِي - لَمْ أُعْلِمْهُ، وَكَذَلِكَ لَوِ ابْتُلِينَا بِأَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ عَهْدٌ؛ لَمْ نَدَعْ أَنْ نَرَى أَفْضَلَ مَا يَحْضُرُنَا، ثُمَّ نَعْمَلَ بِهِ، فَأَنَا قَاصِدٌ إِلَى مَالِكٍ وَمَنْ مَعِي، وَلَسْتُ أُكْرِهُهُمْ. وَمَضَى خَالِدٌ وَنَدِمَتِ الْأَنْصَارُ وَقَالُوا: إِنْ أَصَابَ الْقَوْمُ خَيْرًا حُرِمْتُمُوهُ، وَأَنْ أُصِيبُوا لَيَجْتَنِبَنَّكُمُ النَّاسُ. فَلَحِقُوهُ.
ثُمَّ سَارَ حَتَّى قَدِمَ الْبُطَاحَ، فَلَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا، وَكَانَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ قَدْ فَرَّقَهُمْ وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَقَالَ: يَا بَنِي يَرْبُوعٍ، إِنَّا دُعِينَا إِلَى هَذَا الْأَمْرِ فَأَبْطَأْنَا عَنْهُ فَلَمْ نُفْلِحْ، وَقَدْ نَظَرْتُ فِيهِ فَرَأَيْتُ الْأَمْرَ يَتَأَتَّى لَهُمْ بِغَيْرِ سِيَاسَةٍ، وَإِذَا الْأَمْرُ لَا يَسُوسُهُ النَّاسُ، فَإِيَّاكُمْ وَمُنَاوَأَةَ قَوْمٍ صُنِعَ لَهُمْ، فَتَفَرَّقُوا وَادْخُلُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ. فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ الْبُطَاحَ بَثَّ السَّرَايَا، وَأَمَرَهُمْ بِدَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَأْتُوهُ بِكُلِّ مَنْ لَمْ يُجِبْ، وَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَكَانَ قَدْ أَوْصَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُؤَذِّنُوا إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا، فَإِنَّ أَذَّنَ الْقَوْمُ فَكُفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤَذِّنُوا فَاقْتُلُوا وَانْهَبُوا، وَإِنْ أَجَابُوكُمْ إِلَى دَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ فَسَائِلُوهُمْ عَنِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ أَقَرُّوا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَقَاتِلُوهُمْ.
قَالَ: فَجَاءَتْهُ الْخَيْلُ بِمَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، فَاخْتَلَفَتِ السَّرِيَّةُ فِيهِمْ، وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَكَانَ فِيمَنْ شَهِدَ أَنَّهُمْ قَدْ أَذَّنُوا وَأَقَامُوا وَصَلَّوْا، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَمَرَ بِهِمْ فَحُبِسُوا فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، فَأَمَرَ خَالِدٌ مُنَادِيًا فَنَادَى: أَدْفِئُوا أَسْرَاكُمْ، وَهِيَ فِي لُغَةِ كِنَانَةَ الْقَتْلُ، فَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَتْلَ، وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الدِّفْءَ، فَقَتَلُوهُمْ، فَقَتَلَ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ مَالِكًا، وَسَمِعَ خَالِدٌ الْوَاعِيَةَ، فَخَرَجَ وَقَدْ فَرَغُوا مِنْهُمْ، فَقَالَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا أَصَابَهُ، وَتَزَوَّجَ خَالِدٌ أُمَّ تَمِيمٍ امْرَأَةَ مَالِكٍ. فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: إِنَّ سَيْفَ خَالِدٍ فِيهِ رَهَقٌ، وَأَكْثَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: هِيهِ يَا عُمَرُ! تَأَوَّلَ فَأَخْطَأَ، فَارْفَعْ لِسَانَكَ عَنْ خَالِدٍ، فَإِنِّي لَا أَشِيمُ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكَافِرِينَ.
وَوَدَى مَالِكًا، وَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ وَقَدْ غَرَزَ فِي عِمَامَتِهِ أَسْهُمًا، فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَنَزَعَهَا وَحَطَّمَهَا وَقَالَ لَهُ: قَتَلْتَ امْرَأً مُسْلِمًا، ثُمَّ نَزَوْتَ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَاللَّهِ لَأَرْجُمَنَّكَ بِأَحْجَارِكَ! وَخَالِدٌ لَا يُكَلِّمُهُ، يَظُنُّ أَنْ رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ مِثْلُهُ، وَدَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَعَذَرَهُ وَتَجَاوَزَ عَنْهُ، وَعَنَّفَهُ فِي التَّزْوِيجِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ كَرَاهَةِ أَيَّامِ الْحَرْبِ. فَخَرَجَ خَالِدٌ وَعُمَرُ جَالِسٌ فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَيَّ يَا ابْنَ أُمِّ سَلَمَةَ. فَعَرَفَ عُمَرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا غَشَوْا مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ لَيْلًا - أَخَذُوا السِّلَاحَ فَقَالُوا: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ. فَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ. قَالُوا لَهُمْ: ضَعُوا السِّلَاحَ، فَوَضَعُوهُ ثُمَّ صَلَّوْا، وَكَانَ يَعْتَذِرُ فِي قَتْلِهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا إِخَالُ صَاحِبَكُمْ إِلَّا قَالَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ لَهُ: أَوَمَا تَعُدُّهُ لَكَ صَاحِبًا؟ ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَقَدِمَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ يَطْلُبُ بِدَمِ أَخِيهِ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ بِرَدِّ السَّبْيِ، وَوَدَى مَالِكًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ قَالَ لَهُ: مَا بَلَغَ بِكَ الْوَجْدُ عَلَى أَخِيكَ؟ قَالَ: بَكَيْتُهُ حَوْلًا حَتَّى أَسْعَدَتْ عَيْنِي الذَّاهِبَةَ عَيْنِي الصَّحِيحَةُ، وَمَا رَأَيْتُ نَارًا قَطُّ إِلَّا كِدْتُ أَنْقَطِعُ أَسَفًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُوقِدُ نَارَهُ إِلَى الصُّبْحِ مَخَافَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ ضَيْفٌ وَلَا يَعْرِفَ مَكَانَهُ. قَالَ: فَصِفْهُ لِي. قَالَ: كَانَ يَرْكَبُ الْفَرَسَ الْحَرُونَ، وَيَقُودُ الْجَمَلَ الثِّقَالَ، وَهُوَ بَيْنَ الْمَزَادَتَيْنِ النَّضُوخَتَيْنِ فِي اللَّيْلَةِ الْقَرَّةِ، وَعَلَيْهِ شَمْلَةٌ فَلُوتٌ، مُعْتَقِلًا رُمْحًا خَطِلًا، فَيَسْرِي لَيْلَتَهُ ثُمَّ يُصْبِحُ وَكَأَنَّ وَجْهَهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ. قَالَ: أَنْشَدَنِي بَعْضَ مَا قُلْتَ فِيهِ، فَأَنْشَدَهُ مَرْثِيَّتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا
فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ كُنْتُ أَقُولُ الشِّعْرَ لَرَثَيْتُ أَخِي زَيْدًا. فَقَالَ مُتَمِّمٌ: وَلَا سَوَاءَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ كَانَ أَخِي صُرِعَ مَصْرَعَ أَخِيكَ لَمَا بَكَيْتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا عَزَّانِي أَحَدٌ بِأَحْسَنَ مِمَّا عَزَّيْتَنِي بِهِ.
وَفِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ قُتِلَ الْوَلِيدُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ ابْنَا عُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، وَهُمَا ابْنَا أَخِي خَالِدٍ، لَهُمَا صُحْبَةٌ.

[ذِكْرُ مُسَيْلِمَةَ وَأَهْلِ الْيَمَامَةِ]
قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَجِيءَ مُسَيْلِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ السَّرَايَا إِلَى الْمُرْتَدِّينَ، أَرْسَلَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي عَسْكَرٍ إِلَى مُسَيْلِمَةَ، وَأَتْبَعَهُ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ، فَعَجَّلَ عِكْرِمَةُ لِيَذْهَبَ بِصَوْتِهَا، فَوَاقَعَهُمْ فَنَكَبُوهُ، وَأَقَامَ شُرَحْبِيلُ بِالطَّرِيقِ حِينَ أَدْرَكَهُ الْخَبَرُ، وَكَتَبَ عِكْرِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْخَبَرِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: لَا أَرَيَنَّكَ وَلَا تَرَانِي، لَا تَرْجِعَنَّ فَتُوهِنَ النَّاسَ، امْضِ إِلَى حُذَيْفَةَ وَعَرْفَجَةَ فَقَاتِلْ أَهْلَ عُمَانَ وَمَهْرَةَ، ثُمَّ تَسِيرُ أَنْتَ وَجُنْدُكَ تَسْتَبْرُونَ النَّاسَ، حَتَّى تَلْقَى مُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بِالْيَمَنِ وَحَضْرَمَوْتَ. فَكَتَبَ إِلَى شُرَحْبِيلَ بِالْمُقَامِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ خَالِدٌ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ مُسَيْلِمَةَ تَلْحَقُ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ تُعِينُهُ عَلَى قُضَاعَةَ.
فَلَمَّا رَجَعَ خَالِدٌ مِنَ الْبُطَاحِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ - قَبِلَ عُذْرَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، وَوَجَّهَهُ إِلَى مُسَيْلِمَةَ، وَأَوْعَبَ مَعَهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَعَلَى الْأَنْصَارِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَعَلَى الْمُهَاجِرِينَ أَبُو حُذَيْفَةَ وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَقَامَ خَالِدٌ بِالْبُطَاحِ يَنْتَظِرُ وُصُولَ الْبَعْثِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ سَارَ إِلَى الْيَمَامَةِ، وَبَنُو حَنِيفَةَ يَوْمَئِذٍ كَثِيرُونَ، كَانَتْ عِدَّتُهُمْ أَرْبَعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَعَجَّلَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، وَبَادَرَ خَالِدًا بِقِتَالِ مُسَيْلِمَةَ، فَنُكِبَ، فَلَامَهُ خَالِدٌ، وَأَمَدَّ أَبُو بَكْرٍ خَالِدًا بِسَلِيطٍ؛ لِيَكُونَ رِدْءًا لَهُ، لِئَلَّا يُؤْتَى مِنْ خَلْفِهِ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: لَا أَسْتَعْمِلُ أَهْلَ بَدْرٍ، أَدَعُهُمْ حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِهِمْ وَبِالصَّالِحِينَ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْتَصِرُ بِهِمْ. وَكَانَ عُمَرُ يَرَى اسْتِعْمَالَهُمْ عَلَى الْجُنْدِ وَغَيْرِهِ.
وَكَانَ مَعَ مُسَيْلِمَةَ نَهَارٌ الرَّجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ، وَكَانَ قَدْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَفُقِّهَ فِي الدِّينِ، وَبَعَثَهُ مُعَلِّمًا لِأَهْلِ الْيَمَامَةِ، وَلْيَشْغَبْ عَلَى مُسَيْلِمَةَ، فَكَانَ أَعْظَمَ فِتْنَةً عَلَى بَنِي حَنِيفَةَ مِنْ مُسَيْلِمَةَ، شَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ مُسَيْلِمَةَ قَدْ أُشْرِكَ مَعَهُ، فَصَدَّقُوهُ وَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ يَنْتَهِي إِلَى أَمْرِهِ، وَكَانَ يُؤَذِّنُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ النَّوَّاحَةِ، وَالَّذِي يُقِيمُ لَهُ حُجَيْرُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَكَانَ حُجَيْرٌ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: أَفْصِحْ حُجَيْرُ، فَلَيْسَ فِي الْمُجَمْجَمَةِ خَيْرٌ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا.
وَكَانَ مِمَّا جَاءَ بِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ وَحْيٌّ: يَا ضُفْدَعُ بِنْتَ ضُفْدَعْ، نُقِّي مَا تُنَقِّينْ، أَعْلَاكِ فِي الْمَاءْ، وَأَسْفَلُكِ فِي الطِّينْ، لَا الشَّارِبَ تَمْنَعِينْ، وَلَا الْمَاءَ تُكَدِّرِينْ.
وَقَالَ أَيْضًا: وَالْمُبْدَيَاتِ زَرْعًا، وَالْحَاصِدَاتِ حَصْدًا، وَالذَّارِيَاتِ قَمْحًا، وَالطَّاحِنَاتِ طَحْنًا، وَالْخَابِزَاتِ خُبْزًا، وَالثَّارِدَاتِ ثَرْدًا، وَاللَّاقِمَاتِ لُقْمًا، إِهَالَةً وَسَمْنًا، لَقَدْ فُضِّلْتُمْ عَلَى أَهْلِ الْوَبَرِ، وَمَا سَبَقَكُمْ أَهْلُ الْمَدَرِ، رِيقُكُمْ فَامْنَعُوهُ، وَالْمُعْيِيَ فَأَوُّوهُ، وَالْبَاغِي فَنَاوِئُوهُ. وَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ نَخَلْنَا لَسَحِيقٌ، وَإِنَّ آبَارَنَا لِجُرُزٌ، فَادْعُ اللَّهَ لِمَائِنَا وَنَخْلِنَا كَمَا دَعَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ هَزْمَانَ. فَسَأَلَ نَهَارًا عَنْ ذَلِكَ، فَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَهُمْ وَأَخَذَ مِنْ مَاءِ آبَارِهِمْ فَتَمَضْمَضَ مِنْهُ وَمَجَّهُ فِي الْآبَارِ، فَفَاضَتْ مَاءً، وَأَنْجَبَتْ كُلُّ نَخْلَةٍ، وَأَطْلَعَتْ فَسِيلًا قَصِيرًا مُكَمَّمًا، فَفَعَلَ مُسَيْلِمَةُ ذَلِكَ، فَغَارَ مَاءُ الْآبَارِ وَيَبِسَ النَّخْلُ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَهْلِكِهِ.
وَقَالَ لَهُ نَهَارٌ: أَمِرَّ يَدَكَ عَلَى أَوْلَادِ بَنِي حَنِيفَةَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ، فَفَعَلَ وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَحَنَّكَهُمْ، فَقَرَعَ كُلُّ صَبِيٍّ مَسَحَ رَأْسَهُ، وَلَثِغَ كُلُّ صَبِيٍّ حَنَّكَهُ، وَإِنَّمَا اسْتَبَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَهْلِكِهِ.
وَقِيلَ: جَاءَهُ طَلْحَةُ النَّمِرِيُّ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ رَجُلٌ فِي ظُلْمَةٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الْكَاذِبُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ، وَلَكِنْ كَذَّابُ رَبِيعَةَ أَحَبُّ أَلْيَنَا مِنْ صَادِقِ مُضَرَ. فَقُتِلَ مَعَهُ يَوْمَ عُقْرَبَاءَ كَافِرًا.
وَلَمَّا بَلَغَ مُسَيْلِمَةَ دُنُوُّ خَالِدٍ ضَرَبَ عَسْكَرَهَ بِعُقْرَبَاءَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَخَرَجَ مُجَّاعَةُ بْنُ مُرَارَةَ فِي سَرِيَّةٍ يَطْلُبُ ثَأْرًا لَهُمْ فِي بَنِي عَامِرٍ، فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَصْحَابَهُ، فَقَتَلَهُمْ خَالِدٌ وَاسْتَبْقَاهُ؛ لِشَرَفِهِ فِي بَنِي حَنِيفَةَ، وَكَانُوا مَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ.
وَتَرَكَ مُسَيْلِمَةُ الْأَمْوَالَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسَيْلِمَةَ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، قَاتِلُوا؛ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ الْغَيْرَةِ، فَإِنِ انْهَزَمْتُمْ تُسْتَرْدَفُ النِّسَاءُ سَبِيَّاتٍ، وَيُنْكَحْنَ غَيْرَ خَطِيبَاتٍ، فَقَاتِلُوا عَنْ أَحِسَابِكُمْ، وَامْنَعُوا نِسَاءَكُمْ. فَاقْتَتَلُوا بِعُقْرَبَاءَ، وَكَانَتْ رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَفْصِ بْنِ غَانِمٍ، فَقُتِلَ، فَقَالُوا: تَخْشَى عَلَيْنَا مِنْ نَفْسِكَ شَيْئًا فَقَالَ: بِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنِ أَنَا إِذًا! وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ عَلَى رَايَاتِهِمْ، وَالْتَقَى النَّاسُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَ الْمُسْلِمِينَ نَهَارٌ الرَّجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ فَقُتِلَ، قَتَلَهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَلَمْ يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ حَرْبًا مِثْلَهَا قَطُّ، وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَخَلَصَ بَنُو حَنِيفَةَ إِلَى مَجَّاعَةَ وَإِلَى خَالِدٍ، فَزَالَ خَالِدٌ عَنِ الْفُسْطَاطِ، وَدَخَلُوا إِلَى مَجَّاعَةَ وَهُوَ عِنْدَ امْرَأَةِ خَالِدٍ، وَكَانَ سَلَّمَهُ إِلَيْهَا، فَأَرَادُوا قَتْلَهَا، فَنَهَاهُمْ مَجَّاعَةُ عَنْ قَتْلِهَا وَقَالَ: أَنَا لَهَا جَارٌ، فَتَرَكُوهَا، وَقَالَ لَهُمْ: عَلَيْكُمْ بِالرِّجَالِ، فَقَطَعُوا الْفُسْطَاطَ. ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ تَدَاعَوْا، فَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي أَهْلَ الْيَمَامَةِ، وَأَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا نَحُورُ بَعْدَ الرِّجَالِ، وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ حَتَّى نَهْزِمَهُمْ، أَوْ أُقْتَلَ فَأُكَلِّمَهُ بِحُجَّتِي. غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَعَضُّوا عَلَى أَضْرَاسِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَاضْرِبُوا فِي عَدُوِّكُمْ، وَامْضُوا قُدُمًا.
وَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِالْفِعَالِ. وَحَمَلَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ حَتَّى رَدُّوهُمْ إِلَى أَبْعَدَ مِمَّا كَانُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَتَذَامَرَتْ بَنُو حَنِيفَةَ، وَقَاتَلَتْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَتِ الْحَرْبُ يَوْمَئِذٍ تَارَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَتَارَةً لِلْكَافِرِينَ، وَقُتِلَ سَالِمٌ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ، وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أُولِي الْبَصَائِرِ. فَلَمَّا رَأَى خَالِدٌ مَا النَّاسُ فِيهِ قَالَ: امْتَازُوا أَيُّهَا النَّاسُ لِنَعْلَمَ بَلَاءَ كُلِّ حَيٍّ، وَلِنَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ نُؤْتَى. فَامْتَازُوا، وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي قَدْ جَنَّبُوا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَجَنَّبَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. فَلَمَّا امْتَازُوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: الْيَوْمَ يُسْتَحَى مِنَ الْفِرَارِ، فَمَا رُئِيَ يَوْمٌ كَانَ أَعْظَمَ نِكَايَةً مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَمْ يُدْرَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ أَعْظَمَ نِكَايَةً، غَيْرَ أَنَّ الْقَتْلَ كَانَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ الْقُرَى أَكْثَرَ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْبَوَادِي.
وَثَبَتَ مُسَيْلِمَةُ فَدَارَتْ رَحَاهُمْ عَلَيْهِ، فَعَرَفَ خَالِدٌ أَنَّهَا لَا تَرْكُدُ إِلَّا بِقَتْلِ مُسَيْلِمَةَ، وَلَمْ تَحْفَلْ بَنُو حَنِيفَةَ بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ. ثُمَّ بَرَزَ خَالِدٌ وَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ وَنَادَى بِشِعَارِهِمْ، وَكَانَ شِعَارُهُمْ: يَا مُحَمَّدَاهُ! فَلَمْ يَبْرُزْ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ.
وَدَارَتْ رَحَا الْمُسْلِمِينَ، وَدَعَا خَالِدٌ مُسَيْلِمَةَ فَأَجَابَهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ مِمَّا يَشْتَهِي مُسَيْلِمَةُ فَكَانَ إِذَا هَمَّ بِجَوَابِهِ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ لِيَسْتَشِيرَ شَيْطَانَهُ، فَيَنْهَاهُ أَنْ يَقْبَلَ. فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ مَرَّةً، وَرَكِبَهُ خَالِدٌ وَأَرْهَقَهُ، فَأَدْبَرَ وَزَالَ أَصْحَابُهُ، وَصَاحَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ فَرَكِبُوهُمْ، فَكَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ، وَقَالُوا لِمُسَيْلِمَةَ: أَيْنَ مَا كُنْتَ تَعِدُنَا؟ فَقَالَ: قَاتِلُوا عَنْ أَحْسَابِكُمْ. وَنَادَى الْمُحَكَّمُ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، الْحَدِيقَةَ الْحَدِيقَةَ! فَدَخَلُوهَا وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ بَابَهَا.




* الكتاب: الكامل في التاريخ
المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ)
تحقيق: عمر عبد السلام تدمري


n4hr_13404167573.jpg
 
أعلى