راجندر سنج بيدي - لاجونتي

"‬إِنَّها كنبتة لاجونتي؛ إِنْ‮ ‬لمستها انكمشت‮"‬
حدث التَّقسيم،‮ ‬ونهض العديد من المجروحين ينفضون الدماء عن أبدانهم،‮ ‬ثُمَّ‮ ‬اجتمعوا وتوجَّهوا ناحية أولئك الَّذين كانت أجسادهم سليمةً،‮ ‬ولكنَّ‮ ‬قلوبهم مجروحةٌ‮.‬
تكوَّنت لجان‮ "‬إعادة التَّعمير‮" ‬في كُلِّ‮ ‬حارةٍ‮ ‬وحيٍّ،‮ ‬وفي البداية،‮ ‬وبسرعةٍ‮ ‬كبيرةٍ،‮ ‬بدأت برامج‮ "‬إصلاح التِّجارة‮"‬،‮ ‬و"تمليك الأراضي‮"‬،‮ ‬و"إعادة إسكان المنازل‮" ‬في العمل‮. ‬لكنْ‮ ‬كان هناك برنامجٌ‮ ‬لَمْ‮ ‬يهتمُّ‮ ‬به أحدٌ‮. ‬وهو ذلك البرنامج الَّذي يهتمُّ‮ ‬بالنِّساء المخطوفات،‮ ‬كان شعاره‮ "‬إعادة تعمير القلوب‮". ‬وكان السُّكَّان بالقرب من معبد‮ "‬نارائن باوا‮" ‬من الطَّبقة الرَّجعيَّة يخالفون هذا البرنامج بشدَّةٍ‮.‬
لتنشيط هذا البرنامج شُكِّلت لجنةٌ‮ ‬في حيِّ‮ ‬مُلَّا شكور بالقرب من المعبد،‮ ‬وانتخب سندرلال بابو سكرتيرًا لها بأغلبيَّة أحد عشر صوتًا‮. ‬كان كبير المحامين ومحرِّر منطقة چوكي كلان المخضرم،‮ ‬والثُّقاة الآخرون في الحيِّ‮ ‬يعتقدون أَنَّ‮ ‬أَيَّ‮ ‬شخصٍ‮ ‬لَنْ‮ ‬يستطيع أَنْ‮ ‬يؤدِّي هذا العمل بإخلاصٍ‮ ‬أكثر من سندرلال‮. ‬رُبَّما لأَنَّ‮ ‬زوجة سندرلال نفسه تَمَّ‮ ‬اختطافها‮. ‬كان اسمها لاجو،‮ ‬لاجونتي‮.‬
عندما كان سندرلال بابو ورفيقاه رسالو ونيكي رام،‮ ‬وغيرهم،‮ ‬يجتمعون ويخرجون في جولاتٍ‮ ‬مبكِّرةٍ‮ ‬يغنون معًا‮: "‬إِنَّها كنبتة لاجونتي؛ إِنْ‮ ‬لمستها انكمشت‮"‬،‮ ‬كان صوت سندرلال يحتبس مرَّةً‮ ‬واحدةً،‮ ‬ويفكر في لاجونتي وهو يسير صامتًا‮. ‬تري أين هي الآن؟ وكيف حالها؟ ماذا تظنُّ‮ ‬بنا؟ هل ستعود مرَّةً‮ ‬أخري أَمْ‮ ‬لا؟ وتترنَّح قدماه وهو يسير فوق أرضيَّة الشَّارع المغطاة بالحجارة‮.‬
الآن،‮ ‬وصلت به الحال إلي أَنْ‮ ‬ترك التَّفكير في لاجونتي وصار حزنه علي لاجونتي حزنًا علي الدُّنيا كلَّها‮. ‬ولكي ينجو من آلامه،‮ ‬أغرق نفسه في الخدمة العامَّة‮. ‬وعلي الرَّغم من هذا،‮ ‬عندما كان يضمُّ‮ ‬صوته إلي أصوات رفاقه،‮ ‬كان يدور بخلده‮ "‬كَمْ‮ ‬هو رقيقٌ‮ ‬قلب الإنسان؛ يتأثَّر بأقلِّ‮ ‬شيءٍ‮. ‬إِنَّه مثل نبتة لاجونتي،‮ ‬إِنْ‮ ‬مددت إليها يدك انكمشت‮." ‬ومع ذلك،‮ ‬فهو لَمْ‮ ‬يتوان عن الإساءة لـ لاجونتي،‮ ‬زوجته،‮ ‬قبل ذلك،‮ ‬فكان يضربها لأسبابٍ‮ ‬تافهةٍ،‮ ‬كأَنْ‮ ‬تجلس في مكانٍ‮ ‬أو في آخر،‮ ‬أَوْ‮ ‬لا تهتمَّ‮ ‬بالطعام‮.‬
كانت لاجو فتاةً‮ ‬ريفيَّةً‮ ‬رقيقةً‮ ‬كغصنٍ‮ ‬رقيقٍ‮ ‬من شجرة التُّوت‮. ‬وبسبب تعرُّضها الدَّائم لحرارة الشَّمس استحال لونها إلي اللَّون الأسمر‮. ‬كانت تتَّسم بتقلبٍ‮ ‬في المزاج‮. ‬وكان تقلُّبها مثل قطرة النَّدي الَّتي تتدحرج علي ورقةٍ‮ ‬كبيرةٍ‮ ‬من شجرة پاره كراس أحيانًا هنا وأحيانًا هناك‮. ‬لَمْ‮ ‬تكن نحافتها دليلًا علي ضعف صحَّتها،‮ ‬بل كانت دليلًا علي نوعٍ‮ ‬ما من الصِّحَّة لديها‮. ‬لقَدْ‮ ‬اضطرب سندرلال الضَّخم لرؤيتها لأوَّل مرَّةٍ،‮ ‬ولكنْ‮ ‬عندما رأي أَنَّ‮ ‬لاجو تستطيع تحمُّل أَيَّ‮ ‬عبءٍ،‮ ‬وتحتمل أَيَّ‮ ‬صدمةٍ،‮ ‬بَلْ‮ ‬وتتحمَّل حتَّي الضرب،‮ ‬زاد في سلوكه السَّيِّئ معها،‮ ‬ولَمْ‮ ‬يراع تلك الحدود الَّتي ينتهي صبر أَيُّ‮ ‬إنسانٍ‮ ‬إذا وصل إليها‮. ‬ولقَدْ‮ ‬ساعدت لاجونتي أيضًا في عدم وضوح هذه الحدود أمامه‮. ‬لأَنَّ‮ ‬لاجونتي لَمْ‮ ‬تكن تستطيع أَنْ‮ ‬تجلس حزينةً‮ ‬لفترةٍ‮ ‬طويلةٍ،‮ ‬لهذا بعد أَيَّ‮ ‬شجارٍ‮ ‬بينهما لَمْ‮ ‬تكن تستطيع أَنْ‮ ‬تخفي سعادتها إذا ابتسم لها سندرلال مرَّةً‮ ‬واحدةً،‮ ‬وكانت تهرول إليه مسرعةً،‮ ‬وتتعلَّق بعنقه،‮ ‬وتبادره‮: "‬لَوْ‮ ‬ضربتني ثانيةً،‮ ‬لَنْ‮ ‬أتحدَّث معك‮." ‬كان يبدو واضحًا أَنَّها نسيت الضَّرب والإهانة تمامًا،‮ ‬فقَدْ‮ ‬كانت مثل فتيات القرية الأخريات تعلم أَنَّ‮ ‬الرِّجال يفعلون هذا‮. ‬ولَوْ‮ ‬تمرَّدت امرأةٌ‮ ‬منهنَّ،‮ ‬فإِنَّ‮ ‬البنات أنفسهنَّ‮ ‬كُنَّ‮ ‬يضعن أصابعهن علي أنوفهن ويقلن‮: "‬أَيُّ‮ ‬رجلٍ‮ ‬هذا الَّذي لا يستطيع أَنْ‮ ‬يتحكَّم في المرأة؟‮!" ‬وصار هذا الضَّرب جزءًا من أغانيهن‮.‬
كانت لاجو نفسها تغنِّي في صغرها‮: "‬لَنْ‮ ‬أتزوَّج بابن المدينة،‮ ‬فهو يلبس الحذاء ووَسْطي نحيفٌ‮"‬،‮ ‬ولكنْ‮ ‬في أوَّل فرصةٍ‮ ‬ارتبطت لاجو بفتيً‮ ‬من المدينة ارتباطًا وثيقًا‮. ‬كان اسمه سندرلال،‮ ‬جاء مع موكب زفافٍ‮ ‬إلي قرية لاجو ذات مرَّةٍ،‮ ‬وهمس إلي العريس‮: "‬أخت زوجتك مليحةٌ‮ ‬جدًّا،‮ ‬يا أخي،‮ ‬لا بُدَّ‮ ‬أَنَّ‮ ‬زوجتك أيضًا جميلة‮." ‬سمعت لاجونتي ما قاله سندرلال،‮ ‬ولكنَّها لَمْ‮ ‬تلحظ أَنَّ‮ ‬سندرلال يرتدي حذاءً‮ ‬كبيرًا،‮ ‬وقبيحًا،‮ ‬وأَنَّ‮ ‬وَسْطها نحيفٌ‮ ‬للغـاية‮!!‬
كان سندرلال يتذكَّر مثل هذه الأشياء وقت الجولات الصباحيَّة،‮ ‬ويفكِّر‮: "‬ليتني أعثر علي لاجو،‮ ‬ليتني أجدها‮. ‬عندئذٍ‮ ‬سوف أسكنها في أعماق قلبي،‮ ‬وسأقول للنَّاس‮: ‬ليس لهؤلاء النِّساء ذنبٌ‮ ‬في اختطافهنَّ‮. ‬ولا خطأ لهنَّ‮ ‬في وقوعهنَّ‮ ‬فرائس لمثيري الشغب‮. ‬هذا المجتمع الَّذي لا يتقبَّل هؤلاء النِّساء البريئات اللَّائي لا ذنب لهنَّ،‮ ‬ولا يعترف بهنَّ،‮ ‬مجتمعٌ‮ ‬عفنٌ‮ ‬وينبغي القضاء عليه‮. ‬مثل هذا المجتمع الَّذي يلقِّن النِّساء تعمير البيوت،‮ ‬ولا يضمن لهنَّ‮ ‬تلك المكانة الَّتي تكون لأَيِّ‮ ‬امرأةٍ‮ ‬في البيت،‮ ‬سواءً‮ ‬أكانت أُمًّا أو زوجةً‮ ‬أو أختًا أو ابنةً‮."‬
كان يقول‮: "‬لا ينبغي تذكيرهنَّ،‮ ‬لا تلميحًا ولا تصريحًا،‮ ‬بما حدث لهنَّ،‮ ‬لأَنَّ‮ ‬قلوبهنَّ‮ ‬جريحةٌ،‮ ‬لأَنَّهنَّ‮ ‬رقيقاتٌ،‮ ‬مثل نبتة لاجونتي‮. ‬إذا لمستها انكمشت‮." ‬
ولتفعيل برنامج‮ "‬أسكنوهنَّ‮ ‬القلب‮" ‬كانت لجنة حيِّ‮ ‬مُلَّا شكور تخرج في جولاتٍ‮ ‬صباحيةٍ‮ ‬كثيرةٍ‮. ‬وكان أنسب وقت لها في الصَّباح في السَّاعة الرَّابعة أو الخامسة،‮ ‬حيث لا صخب للبشر ولا ضجَّة للمرور،‮ ‬حتَّي كلاب الحراسة كانت تضع رؤوسها في الأفران المطفأة طيلة اللَّيل،‮ ‬وحتَّي أولئك النَّاس الَّذين ظلُّوا في فراشهم وقت الصَّباح،‮ ‬كانوا عندما يسمعون أصوات هذه اللَّجنة المتجوِّلة ويقولون فقط‮: "‬أوه‮! ‬نفس الفرقة‮!" ‬وكانوا يستمعون إلي ما يقوله سندرلال بصبرٍ‮ ‬أحيانًا،‮ ‬وأحيانًا أخري في ضجرٍ‮. ‬وأولئك النساء اللَّائي وصلن بالسَّلامة من الجانب الآخر مترهِّلاتٍ‮ ‬مثل ثمرة القرنبيط،‮ ‬وأزواجهنَّ‮ ‬الملتصقون بهنَّ‮ ‬كجذوع القرنبيط في زهوٍ‮ ‬وكبرياءٍ،‮ ‬فكانوا يتمتمون بأشياءٍ‮ ‬احتجاجًا علي صخب اللَّجنة،‮ ‬ويواصلون سيرهم‮. ‬بينما كان بعض الأطفال يستيقظون من نومهم علي صراخ‮ "‬أسكنوهنَّ‮ ‬القلب‮"‬،‮ ‬والهتافات الحزينة كأَنَّها أغنيةٌ،‮ ‬ثُمَّ‮ ‬يعودون إلي النوم‮.‬
لكنَّ‮ ‬أحاديث الصَّباح تلك لَمْ‮ ‬تذهب سُديً‮. ‬كانت تدور باستمرارٍ‮ ‬في الأذهان،‮ ‬وإِنْ‮ ‬كان المرء لا يستطيع أَنْ‮ ‬يفهمها في بعض الأحيان‮. ‬ولكنَّه يظلُّ‮ ‬يتمتم بها‮. ‬وبسبب تكرار هذه الأحاديث،‮ ‬عندما كانت السيدة مردولا سارا بهائي تتناقش لتبادل النساء المختطفات بين الهند وباكستان،‮ ‬صار بعض سكَّان حيِّ‮ ‬مُلَّا شكور مستعدِّين في دواخلهم لتقبُّل هؤلاء النِّساء‮. ‬وذهب أهلهنَّ‮ ‬لاستقبالهنَّ‮ ‬خارج المدينة في ميدان كلان،‮ ‬كانت النِّساء المخطوفات وأهلهنَّ‮ ‬ينظرون إلي بعضهم حانيي الرُّؤوس لبرهةٍ،‮ ‬ثم تعود النِّساء للعمل في تعمير بيوتهنَّ‮ ‬ثانيةً‮.‬
كان رسالو ونيكي رام وسندرلال بابو يهتفون أحيانًا‮ "‬يحيا مهندر سنج‮"‬،‮ ‬وأحيانًا‮ "‬يحيا سوهن لال‮"‬،‮ ‬ويستمرُّون في الهتاف حتَّي تجفَّ‮ ‬حلوقهم‮.‬
لكنْ‮ ‬كانت هناك نساءٌ‮ ‬تَمَّ‮ ‬اختطافهنَّ‮ ‬ولَمْ‮ ‬يتقبلهُنَّ‮ ‬أزواجهنَّ‮ ‬وآباؤهنَّ‮ ‬وأمهاتهنَّ‮ ‬وأخواتهنَّ‮ ‬وإخوانهنَّ‮.‬
‮"‬لماذا لَمْ‮ ‬يمتن؟‮" ‬
‮"‬لماذا لَمْ‮ ‬يجرعن سمًّا لإنقاذ شرفهن؟‮"‬
‮"‬لماذا لَمْ‮ ‬يقفزن في آبار المياه؟‮" ‬
‮"‬كان جبنًا منهنَّ،‮ ‬لتعلقهنَّ‮ ‬بالحياة‮. ‬المئات،‮ ‬بل الآلاف من النِّساء قتلن أنفسهنَّ‮ ‬قبل أَنْ‮ ‬يسلب شرفهنَّ‮."‬
ولكن ما أدراهم بمدي معاناة اللَّائي بقين علي قيد الحياة‮. ‬كيف يحدِّقن في الموت بأعينٍ‮ ‬متحجِّرةٍ‮ ‬في عالمٍ‮ ‬لا يعترف بهنَّ،‮ ‬حتَّي أزواجهن‮! ‬ومنهنَّ‮ ‬مَنْ‮ ‬كانت تردِّد اسمها في نفسها‮: ‬الطَّاهرة‮. ‬العفيفة‮. ‬وتنظر إلي أخيها في هذا الجمع الغفير وتقول لآخر مرَّةٍ‮: "‬وأنت‮! ‬ألا تعرفني أيضًا يا بهاري؟ لقد حملتك في حجري‮."‬
‮"‬آه،‮" ‬يريد بهاري أَنْ‮ ‬يصرخ‮. ‬ثُمَّ‮ ‬ينظر ناحية أُمِّه وأبيه،‮ ‬وكان الأب والأم يضعان أيديهما علي قلبيهما وينظران تجاه‮ "‬نارائن بابا‮"‬،‮ ‬وينظر"نارائن بابا‮" ‬في عجزٍ‮ ‬إلي السَّماء الَّتي لا حقيقة في الواقع لها،‮ ‬وإِنَّما هي مجرَّد حدٍّ‮ ‬لا تتخطَّاه عيوننا‮. ‬
لكنَّ‮ ‬النِّساء اللَّائي أتت بهن مس سارا بهائي في الشَّاحنة العسكريَّة لَمْ‮ ‬تكن فيهن لاجو‮. ‬بين الخوف والرَّجاء نظر سندرلال إلي آخر فتاةٍ‮ ‬تنزل من الشَّاحنة،‮ ‬ثُمَّ‮ ‬استغرق بعدها في صمتٍ‮ ‬رهيبٍ‮ ‬وعزمٍ‮ ‬فولاذيٍّ‮ ‬في أعمال الجمعيَّة‮. ‬لَمْ‮ ‬يعد يكتفي الآن بالجولات الصَّباحيَّة،‮ ‬بَلْ‮ ‬بدأ يخرج في مسيراتٍ‮ ‬في المساء‮. ‬وفي بعض الأحيان كان يعقد بعض الجلسات المصغَّرة،‮ ‬والَّتي كان يخطب فيها،‮ ‬بارتجالٍ‮ ‬وبنبرةٍ‮ ‬مجلجلةٍ،‮ ‬رئيس الجمعيَّة المحامي المسنِّ‮ ‬كالكا برشاد‮. ‬وكان عمل رسالو أَنْ‮ ‬يقف دائمًا بجانبه بالمبصقة،‮ ‬كانت هناك أصوات عجيبة تخرج من الميكروفون،‮ ‬وأحيانًا كان نيكي رام والمحرِّر يقفان ليلقيا بعض الكلمات أيضًا‮.‬
وبقدر ما كانوا يتحدثون ويستشهدون بشواهد من الـ شاسترون و الـ پرانون،‮ ‬بقدر ما كانوا يتحدَّثون ضدَّ‮ ‬أهدافهم‮. ‬وعندما يري سندرلال أَنَّ‮ ‬الزِّمام بدأ يفلت من اليد،‮ ‬يقف ليقول شيئًا،‮ ‬ولكنَّه لا يستطيع أَنْ‮ ‬يزيد علي فقرتين‮. ‬ويحتبس صوته وتذرف عيناه الدُّموع،‮ ‬ولا يتمكَّن من إكمال كلمته بسبب البكاء،‮ ‬وفي النِّهاية يجلس‮. ‬ويسود الحضور صمتٌ‮ ‬عجيبٌ،‮ ‬فهذه الكلمات الَّتي يقولها سندرلال من أعماق قلبه تفوق فصاحة المحامي كالكا برشاد المليئة بالنُّصح‮. ‬لكنَّ‮ ‬النَّاس كانوا ينفجرون بالبكاء وينفِّثون عن عواطفهم،‮ ‬ثُمَّ‮ ‬يعودون إلي بيوتهم بذهن خالٍ‮. ‬
ذات يومٍ‮ ‬خرج أعضاء اللَّجنة وهم يهتفون وقت المساء بأصواتٍ‮ ‬عاليةٍ‮. ‬وشيئًا فشيئًا وصلوا إلي حيِّ‮ ‬المتعصِّبين‮. ‬كان بعض المريدين يجلسون علي مصطبةٍ‮ ‬حول شجرة پيپل خارج المعبد ويستمعون إلي قصَّةٍ‮ ‬من كتاب الـ راماين وكان نارائن باوا يقصُّ‮ ‬عليهم جزءًا من قصص الـ رامائن،‮ ‬عن الغسَّال الذي طرد زوجته قائلًا‮: "‬أنا لست راجا رام چندر الَّذي عاش مع سيتا،‮ ‬رغم أَنَّها عاشت مع راون لمدَّةٍ‮ ‬طويلة‮! ‬وقَدْ‮ ‬طرد رام چندر سيتا العظيمة من المنزل،‮ ‬كانت حاملًا‮!! ‬وهل هناك دليلٌ‮ ‬أكبر من هذا علي حكمة رام؟‮!" ‬قال نراين باوا‮. "‬هذا هو حكم رام‮! ‬ومنه ينظر أيضًا إلي حديث الغسّال بنظرة التَّقدير والاحترام‮."‬
وصلت مسيرة اللَّجنة حتَّي المعبد وتوقَّفت،‮ ‬وانتظر النَّاس سماع شلوك كا ورنن وقصة رامائن‮.‬
قال سندرلال بعد أَنْ‮ ‬سمع الفقرة الأخيرة‮: "‬لسنا في حاجةٍ‮ ‬إلي مثل حكم رام هذا،‮ ‬يا سيدي‮!"‬
‮"‬اصمت‮. ‬مَنْ‮ ‬تكون أنت؟ اصمت‮." ‬صاح فيه الحضور‮. ‬فتقدَّم سندرلال قائلًا‮: "‬لَنْ‮ ‬يستطيع أحدٌ‮ ‬أَنْ‮ ‬يمنعني من الحديث‮." ‬
تعالت الصَّيحات من هنا وهناك‮: "‬اصمت‮! ‬لَنْ‮ ‬نسمح لك بالحديث،‮" ‬وجاء صوتٌ‮ ‬من أحد الأركان‮: "‬سنقتلك‮." ‬
قال نراين باوا بصوتٍ‮ ‬رقيقٍ‮ ‬للغاية‮: "‬أنت لا تفهم معاني الكتب المقدَّسة،‮ ‬يا سندرلال‮!" ‬
قال سندرلال‮: "‬أنا أفهم شيئًا واحدًا،‮ ‬يا سيدي؛ يمكن أَنْ‮ ‬نسمع صوت الغسَّال لدي قصَّة حكم رام،‮ ‬ولكن ليس عند سندرلال‮."‬
أزاح نفس هؤلاء الناس الذين كانوا علي استعداد لضربه الآن من تحتهم ثمار الـ پيپل وجلسوا وهم يقولون‮: "‬اسمعوا،‮ ‬اسمعوا،‮ ‬اسمعوا‮."‬
دفع رسالو،‮ ‬ونيكي رام،‮ ‬سندرلال‮. ‬وقال سندرلال‮: "‬كان السَّيِّد القائد رام معلِّمنا،‮ ‬ولكن ما معني أَنَّه يعتبر كلام الغسَّال صحيحًا،‮ ‬ولا يصدِّق كلام الملكة العظيمة سيتا؟‮!"‬
كان نراين باوا يخلِّل أصابعه في لحيته قائلًا‮: "‬لأَنَّ‮ ‬سيتا كانت زوجته،‮ ‬يا سندرلال‮! ‬أنت لا تعرف مدلول هذا الكلام‮." ‬
‮"‬نعم،‮ ‬يا سيِّدي‮." ‬قال سندرلال‮: "‬أنا لا أفهم العديد من الأمور في هذه الدُّنيا،‮ ‬ولكنَّني أعتبر أَنَّ‮ ‬الحكم الصحيح هو ذلك الَّذي لا يظلم الإنسان فيه حتَّي نفسه،‮ ‬لأَنَّ‮ ‬ظلم النفس ذنبٌ‮ ‬يعادل ظلم الآخرين‮. ‬اليوم أيضًا طرد رام سيتا من البيت لأَنَّها عاشت عند راون لفترةٍ،‮ ‬ولكنْ‮ ‬ما ذنب سيتا في هذا؟‮! ‬أَلَمْ‮ ‬تقع هي الأخري فريسةً‮ ‬للمكر والخداع مثل الكثير من أُمَّهاتنا وأخواتنا؟ وهذا الذنب هَلْ‮ ‬هو ضعف سيتا أَمْ‮ ‬بربرية راون‮!! ‬الَّذي له عشرة رؤوسٍ‮ ‬آدميَّةٍ،‮ ‬ولكنَّ‮ ‬أكبر رأسٍ‮ ‬رأسُ‮ ‬حمار‮! ‬اليوم طردت سيتا البريئة من البيت‮. ‬سيتا،‮ ‬لاجونتي‮..." ‬وانخرط سندرلال في البكاء‮. ‬ورفع رسالو ونيكي رام الرَّايات الحمراء الَّتي ألصق عليها تلاميذ المدرسة اليوم الشِّعارات بعنايةٍ‮. ‬وبدأوا في المغادرة وهم يهتفون‮: "‬يحيا سندرلال بابو‮." ‬قال واحد من المشاركين في المسيرة‮: "‬تحيا سيتا الخالدة‮." ‬وجاء صوتٌ‮ ‬من ناحيةٍ‮ ‬أخري‮: "‬رام چندر‮." ‬
وبعدها توالت الأصوات الكثيرة‮: "‬الصمت‮! ‬الصمت‮!" ‬وذهبت قصَّة نراين باوا التي استمرَّت شهورًا هباءً‮. ‬وانضمَّ‮ ‬الكثير من النَّاس إلي المسيرة الَّتي كانت يتقدَّمها المحامي كالكا برشاد وحكم سنج،‮ ‬محرِّر‮ "‬چوكي كلان‮"‬،‮ ‬وهمايضربان بالعصي علي الأرض ويطلقان أصواتٍ‮ ‬تنبيهيةً‮. ‬وفي مكانٍ‮ ‬ما،‮ ‬بينهما،‮ ‬كان يمشي سندرلال‮. ‬وكانت عيناه لا تزالان تدمعان،‮ ‬لقَدْ‮ ‬صدم قلبه اليوم صدمةً‮ ‬قاسيةً،‮ ‬بينما كان الآخرون يرفعون أصواتهم بالغناء في حماسٍ‮ ‬شديدٍ‮: "‬إنَّها كنبتة لاجونتي؛ إِنْ‮ ‬لمستها انكمشت‮."‬
كانت أصوات الغناء لا تزال تصل إلي أسماع النَّاس،‮ ‬ولَمْ‮ ‬يكن الصَّباح قَدْ‮ ‬أشرق بعد‮. ‬وكانت العجوز الَّتي تسكن المنزل رقم‮ (‬414‮) ‬في حيِّ‮ ‬مُلَّا شكور مازالت تتململ في فراشها بألمٍ‮. ‬إلي أَنْ‮ ‬جاء لال چند صديق سندرلال،‮ ‬والَّذي ساعده سندرلال وكالكا برشاد بعلاقاتهما في الحصول علي دكان التَّموين،‮ ‬مهرولًا يشير بردائه السميك في يده ويقول‮: "‬فليسعد سندرلال‮." ‬
قال سندرلال،‮ ‬وهو يضع كوز العسل في حجر النَّرجيلة‮: "‬علامَ‮ ‬تهنِّئني يا لال چند؟‮" ‬
‮"‬رأيت لاجو زوجتك‮."‬
سقط حجر النَّرجيلة من يد سندرلال،‮ ‬وسقط التمباكو المعسِّل علي الأرض،‮ ‬وأمسك سندرلال لال چند من كتفيه وهو يهزُّه و يسأله‮: "‬أين رأيتها؟‮"‬
‮"‬علي حدود واگه‮."‬
ترك سندرلال لال چند ولَمْ‮ ‬يقل سوي‮: "‬لابد أَنَّها واحدةٌ‮ ‬أخري‮."‬
قال لال چند،‮ ‬مؤكِّدًا‮: "‬لا،‮ ‬يا أخي،‮ ‬إِنَّها هي،‮ ‬لاجو‮."‬
سأله سندرلال وهو يتناول الدُّخان المعسِّل من علي الأرض،‮ ‬ويفركه في راحة يده‮: "‬وهل تعرفها؟‮" ‬تناول حجر نرجيلة رسالو في نفس الوقت،‮ ‬وقال‮: "‬وما هي العلامة المميِّزة لها؟‮"‬
‮"‬خالٌ‮ ‬موجودٌ‮ ‬علي الذِّقن،‮ ‬وآخر علي الخَدِّ‮."‬
‮"‬نعم‮. ‬نعم‮. ‬نعم‮." ‬وتابع سندرلال‮: "‬والثالث علي جبينها‮."‬
أراد أَلَّا يكون هناك أَيُّ‮ ‬شكٍّ،‮ ‬وبدأ يتذكَّر كُلَّ‮ ‬الشَّامات التي يعرفها علي جسدها جيدًا،‮ ‬والتي وشمت جسمها بها في الطُّفولة،‮ ‬وكانت تبدو كحبَّاتٍ‮ ‬ذات لونٍ‮ ‬أخضر خفيفٍ‮ ‬يشبه سيقان‮ "‬ستِّ‮ ‬الحسن‮"‬،‮ ‬التي تنكمش عندما تمتد اليد إليها‮. ‬بنفس الطَّريقة الَّتي كانت تستحي لاجونتي بها عندما تمتد يده شاماتها،‮ ‬ويشرد ذهنها،‮ ‬وتنكمش علي نفسها،‮ ‬وكأَنَّ‮ ‬كُلَّ‮ ‬أسرارها باتت معروفةً،‮ ‬وكأَنَّها أفلست بعد أَنْ‮ ‬سلب منها كنزها المكنون‮. ‬
كأَنَّ‮ ‬سندرلال ألقي في نارٍ‮ ‬مقدَّسة لمحبَّةٍ‮ ‬مجهولةٍ‮ ‬وخوف‮ ‬غير معروفٍ‮. ‬أمسك بـ لال چند مرَّة أخري وسأله‮: "‬كيف وصلت لاجو إلي واگه؟‮"‬
قال لال چند‮: "‬أَلَمْ‮ ‬يكن هناك تبادلٌ‮ ‬للنِّساء بين الهند وباكستان‮!"‬
‮"‬وماذا حدث بعدها؟‮" ‬قال سندرلال وهو يجلس القرفصاء‮: "‬وماذا،‮ ‬وماذا بعد؟‮"‬
قال رسالو وهو يجلس علي سريره ويسعل كعادة مدخِّني النَّرجيلة‮: "‬هل جاءت لاجونتي حقيقةً؟‮"‬
واصل لال چند كلامه‮: "‬سلَّمت باكستان ستَّ‮ ‬عشرة امرأةً‮ ‬واستلمت بدلًا منهنَّ‮ ‬نفس العدد‮. ‬ولكن حدث اختلافٌ‮ ‬حادٌّ‮. ‬فقَدْ‮ ‬كان متطوِّعون منَّا يعترضون بأَنَّ‮ ‬النِّساء اللَّائي سلمونا إياهنَّ‮ ‬فيهنَّ‮ ‬العجوز،‮ ‬ومتوسِّطة العمر،‮ ‬والتي لا فائدة منها‮. ‬وتجمَّع النَّاس علي هذا الخلاف‮. ‬عندئذ عرض المتطوِّعون من الجانب الآخر لاجو قائلين‮: ‬أتسمِّي هذه عجوزًا؟ انظروا،‮ ‬انظروا؛ هل بين النِّساء اللَّائي سلمتمونا مَنْ‮ ‬تعادل هذه؟ وكانت لاجو تخفي علامات الخال عن أنظار الجميع‮. ‬ثُمَّ‮ ‬اشتدَّ‮ ‬الخلاف‮. ‬وقرَّر كُلَّ‮ ‬طرفٍ‮ ‬استعادة بضاعته‮. ‬فصرخت وبصوتٍ‮ ‬مرتفعٍ‮: ‬يا لاجو‮. ‬يا لاجو‮ ‬،‮ ‬إِلَّا أَنَّ‮ ‬جنودنا ضربونا،‮ ‬وأخلوا المكان‮." ‬وأظهر لال چند كوعه حيث أصابته عصا‮. ‬
ظلَّ‮ ‬رسالو ونيكي رام جالسَين في صمتٍ،‮ ‬أَمَّا سندرلال فقَدْ‮ ‬بدأ ينظر بعيدًا،‮ ‬رُبَّما كان يفكِّر أجاءت لاجو أم لا؟‮ ‬كان سندرلال يبدو كما لَوْ‮ ‬ضلّ‮ ‬في صحراء بيكانير،‮ ‬وعاد وجلس في ظلِّ‮ ‬شجرةٍ‮ ‬يلهث من العطش،‮ ‬ولا يستطيع حتَّي أَنْ‮ ‬يقول‮: "‬أعطوني ماءً‮."‬
لقَدْ‮ ‬شعر بأَنَّ‮ ‬التَّشدُّد والعنف الَّذي كان قبل التَّقسيم لا زال هو بعد التَّقسيم‮. ‬فقط تغيرت الطَّريقة‮! ‬الآن لَمْ‮ ‬يبق في النَّاس هذا التَّردُّد‮. ‬عندما تسأل أحدٌ‮ ‬عن أَنَّ‮ ‬لهنا سنج وزوجة أخيه بنتو كانا يعيشان هنا،‮ ‬فسوف يجيب علي الفور‮: "‬ماتا‮." ‬ثُمَّ‮ ‬يواصل سيره وكأَنَّه لا يعرف معني الموت‮. ‬والأدهي من ذلك أَنَّ‮ ‬التُّجَّار بدأوا يتاجرون في الإنسان؛ لحمه ودمه،‮ ‬بكُلِّ‮ ‬اطمئنان‮. ‬لقَدْ‮ ‬كان مَنْ‮ ‬يشتري البهائم يرفع فَكَّ‮ ‬الجاموسة أَو البقرة ليعرف عمرها من أسنانها‮. ‬الآن بدأوا يعرضون النِّساء الشَّابَّات وجمالهنَّ‮ ‬وحسنهنَّ‮ ‬وأسرارهنَّ‮ ‬وعلاماتِ‮ ‬الخال لديهنَّ‮ ‬علي الملأ‮! ‬لقَدْ‮ ‬سري التَّشدُّد والعنف إلي أوصال كُلِّ‮ ‬التُّجَّار‮. ‬في البداية كانت البضائع تباع في السُّوق،‮ ‬وكان البائع والمشتري يضع كُلٌّ‮ ‬منهما يده في يد الآخر،‮ ‬ويضعان فوقها منديلًا ويتَّفقان بهذه الطريقة‮. ‬وكأَنَّ‮ ‬الاتِّفاق علي السِّعر يتمُّ‮ ‬بإشارات الأصابع من تحت المنديل‮. ‬ولأَنَّ‮ ‬هذا المنديل تمَّت إزاحته،‮ ‬ولأَنَّ‮ ‬البيع والشراء يتم علي الملأ،‮ ‬نسي النَّاس أصول التِّجارة‮. ‬كُلُّ‮ ‬هذه التَّعاملات التِّجاريَّة والبيع والشِّراء تبدو من قصص الماضي،‮ ‬والتي كانت تباع النساء فيها بحريَّةٍ،‮ ‬عندما يأتي الثَّري ليقف أمام عددٍ‮ ‬كبيرٍ‮ ‬من النِّساء العرايا ويتحسَّس أجسادهنَّ،‮ ‬وعندما يضع إصبعه علي جسد امرأةٍ‮ ‬منهنَّ‮ ‬فإِنَّ‮ ‬إصبعه يترك أثرًا عميقًا ورديَّ‮ ‬اللَّون حوله حلقةٌ‮ ‬صفراء،‮ ‬ثُمَّ‮ ‬تسارع الحلقات الحمراء لتحلَّ‮ ‬محلَّ‮ ‬الحلقات الصَّفراء ويواصل الثريُّ‮ ‬تقدَّمه‮. ‬والمرأة‮ ‬غير المقبولة تمسك رباط الإزار في حالةٍ‮ ‬من الانفعال والخزي،‮ ‬وتنخرط في البكاء،‮ ‬وهي تخفي وجهها عن النَّاس‮. ‬
كان سندرلال يستعدُّ‮ ‬للذِّهاب إلي امرتسر الحدود عندما جاءه خبر وصول لاجو فجأةً،‮ ‬فارتبك‮. ‬تقدَّم خطوةً‮ ‬علي الفور باتِّجاه الباب،‮ ‬ولكنَّه عاد للوراء مرَّةً‮ ‬ثانيةً‮. ‬كان من قبل يودُّ‮ ‬أَنْ‮ ‬يغضب،‮ ‬وأَنْ‮ ‬يفرش كُلَّ‮ ‬أعلام اللَّجنة ومنشوراتها،‮ ‬ويجلس عليها ثُمَّ‮ ‬يبكي،‮ ‬ولكنْ‮ ‬لَمْ‮ ‬يكن يمكنه إظهار عواطفه بهذا الشَّكل‮. ‬واجه هذا الصِّراع الدَّاخليَّ‮ ‬برجولةٍ،‮ ‬ثُمَّ‮ ‬اتَّخذ طريقة إلي‮ "‬چوكي كلان‮" ‬بخطيً‮ ‬متثاقلةٍ،‮ ‬حيث مكان تسليم النِّساء المخطوفات‮.‬
الآن كانت لاجو تقف أمامه،‮ ‬كانت ترتعد من خوفٍ‮ ‬ما بداخلها،‮ ‬إِنَّها تعرف سندرلال،‮ ‬ولَمْ‮ ‬يكن أحدٌ‮ ‬سواه يعرفها‮. ‬في البداية كان يتعامل معها بتلك الطَّريقة السَّيِّئة‮. ‬والآن بعد أَنْ‮ ‬قضت أَيَّامًا من حياتها مع رجلٍ‮ ‬آخر،‮ ‬تري ماذا سيفعل معها؟‮ ‬
نظر سندرلال إلي لاجو،‮ ‬كانت ملتحفةً‮ ‬بطرحةٍ‮ ‬ذات طرازٍ‮ ‬إسلاميٍّ‮ ‬خالصٍ،‮ ‬وقد ألقت بأحد طرفيها علي النَّاحية اليُسري‮ ‬،علي سبيل العادة‮. ‬كمجرد محاولةٍ‮ ‬للاندماج مع السيِّدات الأخريات والهرب من شبكة صيَّادها‮. ‬كانت تفكِّر بشدَّةٍ‮ ‬في سندرلال،‮ ‬حتَّي أَنَّها لَمْ‮ ‬يخطر ببالها أَنْ‮ ‬تصلح من وضع الطَّرحة أَوْ‮ ‬تغيِّر ملابسها‮. ‬كانت لا تعرف الفرق بين حضارة الهندوس وحضارة المسلمين،‮ ‬الفرق الأساسيَّ‮ ‬في وضع طرف الطَّرحة علي اليمين وعلي اليسار،‮ ‬وها هي تقف الآن أمام سندرلال ترتعد مفعمة بالأمل والخوف‮. ‬
أصيب سندرلال بصدمةٍ‮. ‬ورأي أَنَّ‮ ‬لون لاجونتي صار أجمل،‮ ‬وبدت له أكثر صحَّةٍ‮ ‬من قبل‮. ‬لا،‮ ‬لقد امتلأ جسدها‮. ‬لقَدْ‮ ‬كان كل ما ظنَّه عنها خاطئًا‮. ‬ظنَّ‮ ‬أَنَّها أصبحت نحيفةً‮ ‬للغاية بسبب انغماسها في الحزن،‮ ‬وأَنَّها لَنْ‮ ‬تستطيع‮ ‬لضعفها‮ ‬الكلام وإِنْ‮ ‬أرادت‮. ‬ولكنَّه صدم كثيرًا من فكرة أَنَّها كانت سعيدةً‮ ‬جدًّا في باكستان‮. ‬ظلَّ‮ ‬صامتًا لأَنَّه أقسم أَنَّه سيظلُّ‮ ‬صامتًا‮. ‬ولكنَّه لَمْ‮ ‬يستطع أَنْ‮ ‬يعرف،‮ ‬لو كانت سعيدةً‮ ‬إلي هذا الحدِّ،‮ ‬ما الذي جاء بها؟ وظَنَّ‮ ‬أَنَّها جاءت رغمًا عنها هنا،‮ ‬بضغطٍ‮ ‬من الحكومة الهنديَّة‮. ‬ولكنَّه لَمْ‮ ‬يفهم شيئًا واحدًا؛ أَنَّ‮ ‬وجهها القمحيَّ‮ ‬كان يميل للاصفرار بسبب الحزن،‮ ‬وبسبب الحزن كان اللَّحم يفارق عظامها،‮ ‬وصارت أكثر بدانةٍ‮ ‬بسبب الحزن وإِنْ‮ ‬بدت بصحَّةٍ‮ ‬جيِّدةٍ‮. ‬ولكنَّها تلك الصِّحَّة الَّتي تجعل أنفاسها تتسارع بشدَّةٍ‮ ‬لمجرَّد مشيها خطوتين‮.‬
لقَدْ‮ ‬كان أثر النَّظرة الأولي لوجه هذه المخطوفة عجيبًا‮. ‬لكنَّه واجه هذه الأفكار كُلَّها برجولةٍ‮ ‬كبيرةٍ‮ ‬وإيجابيةٍ‮. ‬كان هناك أناس كثيرون‮. ‬قال أحدهم‮: "‬نحن لا نقبل من استعملها مسلمران‮."‬
ولكنَّ‮ ‬هذا الصَّوت‮ ‬غطَّت عليه هتافات رسالو،‮ ‬ونيكي رام،‮ ‬ومحرِّر‮ "‬چوكي كلان‮" ‬العجوز‮.‬
كان صوت كالكا برشاد الجهوريُّ‮ ‬المرتفع واضحًا من بين هذه الأصوات كُلِّها‮. ‬كان يسعل ويتكلَّم أيضًا في نفس الوقت‮. ‬لقد كان مقتنعًا بشدَّةٍ‮ ‬بحقيقة التَّطهُّر الجديدة‮. ‬بدا وكأنه قرأ اليوم فيدا جديدًا وبران وشاستر أخري‮ ‬غير كتبهم‮. ‬ويريد أَنْ‮ ‬يشرك الآخرين في معرفته الجديدة هذه‮. ‬
كان سندرلال ولاجو متَّجهين إلي مقر إقامتهما،‮ ‬محاطين بأصوات كُلِّ‮ ‬هؤلاء النَّاس‮. ‬بدا الأمر وكأن رام چندر وسيتا القدامي منذ آلاف السنين يتَّجهان إلي مقر إقامتهما في بعدٍ‮ ‬أخلاقيٍّ‮ ‬كبيرٍ‮. ‬وبعض النَّاس يعبِّرون عن سعادتهم بحمل المشاعل،‮ ‬وآخرون يأسفون لإيذائهما هذه الفترة الطَّويلة‮.‬
واصل سندرلال بابو حماسه لبرنامج‮ "‬أسكنوهن القلب‮" ‬بعد وصول لاجونتي‮. ‬وأثبت ذلك قولًا وفعلًا‮. ‬واقتنع به أولئك الذين كانوا يرون في حديثه مجرَّد انفعالٍ‮ ‬وعاطفةٍ‮ ‬فقط‮. ‬كانت هناك سعادة‮ ‬غامرة في قلوب كثير من النَّاس وأسفٌ‮ ‬في قلوب آخرين‮. ‬كانت هناك كثير من النساء بالإضافة إلي الأرملة الَّتي تعيش في المنزل رقم‮ (‬414‮) ‬يتخوَّفن من الذِّهاب إلي بيت سندرلال رجل الخير‮. ‬لكنَّ‮ ‬سندرلال لَمْ‮ ‬يكن يبالي باهتمام الآخرين أو عدم اهتمامهم‮. ‬فقد عادت مالكة قلبه‮. ‬وامتلأ الفراغ‮ ‬الذي أصاب هذا القلب‮. ‬وقد نصب لها تمثالًا ذهبيًا في معبد قلبه‮. ‬وكان هو نفسه يجلس علي باب هذا المعبد ليحميها‮. ‬أَمَّا لاجو التي ظلَّت صامتةً‮ ‬منزويةً‮ ‬من الخوف،‮ ‬فقَدْ‮ ‬بدأت تتفتَّح وتتحدَّث تدريجيًّا عندما رأت هذا السُّلوك اللَّين‮ ‬غير المتوقع من‮ "‬سندرلال‮".‬
والآن،‮ ‬لَمْ‮ ‬يعد سندرلال يناديها باسم لاجو،‮ ‬كان يناديها بـ القدِّيسة‮! ‬كانت لاجو تشعر بسعادةٍ‮ ‬خفيَّةٍ‮ ‬غامرةٍ‮ ‬من ذلك،‮ ‬وكانت تتمنَّي أَنْ‮ ‬تقصَّ‮ ‬علي سندرلال كُلَّ‮ ‬ما حدث معها وتقصَّ‮ ‬حتَي تبكي بكاءً‮ ‬شديدًا يغسل كل أوجاعها،‮ ‬ولكنَّ‮ ‬سندرلال كان يتجنَّب سماع مثل هذه الأمور من لاجو‮.‬
وظلَّت لاجو منكمشةً‮ ‬إلي حدٍّ‮ ‬ما علي الرغم من انفتاحها هذا‮. ‬وعندما ينام سندرلال كانت تنظر إليه،‮ ‬وعندما يكتشف ويسألها تجيبه‮: "‬هكذا،‮ ‬لا شيء‮." ‬ثُمَّ‮ ‬يغلب سندرلال المتعب طوال النَّهار النُّعاس مرَّةً‮ ‬أخري‮. ‬إلَّا أَنَّ‮ ‬سندرلال سأل لاجونتي ذات مرَّةٍ‮ ‬عن أَيَّامها السَّوداء،‮ ‬قائلًا‮: "‬مَنْ‮ ‬كان ذلك الشَّخص؟‮"‬
قالت لاجونتي وهي تنظر للأسفل‮: "‬جمَّان‮." ‬ثُمَّ‮ ‬حدَّقت في وجه سندرلال وأرادت أَنْ‮ ‬تقول شيئًا،‮ ‬ولكنَّ‮ ‬سندرلال كان ينظر إلي وجه لاجونتي نظراتٍ‮ ‬عجيبةً،‮ ‬وهو يمرِّر يديه علي شعرها‮. ‬فنظرت لاجونتي إلي أسفلٍ‮ ‬مرَّةً‮ ‬أخري،‮ ‬وسألها سندرلال‮: "‬هَلْ‮ ‬كان يعاملك معاملةً‮ ‬حسنةً؟‮"‬
‮"‬نعم‮."‬
‮"‬أَلَمْ‮ ‬يكنْ‮ ‬يضربك؟‮"‬
قالت لاجونتي وهي تضع رأسها علي صدر سندرلال‮: "‬لا‮. ‬لَمْ‮ ‬يكن يضربني،‮ ‬ولكنِّي كنت أخاف منه كثيرًا‮. ‬أنت كنت تضربني،‮ ‬ولكنِّي لَمْ‮ ‬أكن أخاف منك‮. ‬أَلَنْ‮ ‬تضربني بعد الآن؟‮!"‬
اغرورقت عينا سندرلال بالدُّموع،‮ ‬وقال بندمٍ‮ ‬وأسفٍ‮: "‬كلَّا،‮ ‬يا قدِّيسةٌ‮. ‬لَنْ‮ ‬يحدث أبدًا‮. ‬لَنْ‮ ‬أضربك‮."‬
فكَّرت لاجونتي في كلمة‮ "‬قدِّيسة‮"‬،‮ ‬وانخرطت في البكاء‮. ‬ثُمَّ‮ ‬أرادت لاجونتي أَنْ‮ ‬تقصَّ‮ ‬عليه كُلَّ‮ ‬شيءٍ،‮ ‬ولكنَّ‮ ‬سندرلال قال‮: "‬دعك من هذا الماضي‮! ‬ما ذنبك في هذا؟ الذَّنب ذنب مجتمعنا الَّذي لا يعطي القدِّيسات أمثالك مكانةً‮ ‬التَّكريم،‮ ‬إِنَّه لا يؤذيك،‮ ‬بَلْ‮ ‬يؤذي نفسه‮." ‬
وبقي ما في قلب لاجونتي كما هو‮. ‬فلَمْ‮ ‬تستطع أَنْ‮ ‬تقول كُلَّ‮ ‬شيءٍ،‮ ‬وظلَّت صامتةً‮ ‬منزويةً‮. ‬تنظر إلي جسمها الَّذي صار بعد التَّقسيم جسم قدَّيسة‮! ‬لَمْ‮ ‬يعد بدن لاجونتي‮. ‬كانت سعيدةً‮ ‬للغاية،‮ ‬غارقةً‮ ‬في سعادةٍ‮ ‬فيها مسحةٌ‮ ‬من الشكِّ‮ ‬والرِّيبة‮. ‬وكانت تنتفض فجأةً‮ ‬من نومها وتجلس،‮ ‬وكأَنَّها،‮ ‬وهي في ذروة سعادتها،‮ ‬تناهي إلي سمعها صوت أقدامٍ‮ ‬تقترب‮.‬
عندما مضت أيَّام كثيرةٌ‮ ‬علي ذلك حلَّ‮ ‬الشَّكُّ‮ ‬التَّامُّ‮ ‬مكان السَّعادة،‮ ‬ليس لأَنَّ‮ ‬سندرلال بدأ يعاملها معاملةً‮ ‬سيِّئةً‮ ‬مرَّةً‮ ‬أخري،‮ ‬بل لأَنَّه بدأ يتعامل معها معاملةً‮ ‬طيِّبة لسلغاية وسلوكًا لَمْ‮ ‬تتوقَّعه منه‮. ‬كانت تريد أَنْ‮ ‬تصبح لاجو القديمة مرَّةً‮ ‬أخري،‮ ‬التي كانت تتشاجر بسبب جزَرة،‮ ‬وتتصالح بفِجلة‮. ‬لكن الآن لا يحدث شجارٌ‮ ‬أبدًا‮. ‬لقَدْ‮ ‬أشعرها سندرلال وكأَنَّها شيءٌ‮ ‬مصنوع من الخزف بمجرَّد أَنْ‮ ‬تلمسه سينكسر‮.‬
أَمَّا لاجو،‮ ‬فكانت تنظر إلي نفسها في المرآة،‮ ‬وتصل في النِّهاية إلي نتيجةٍ‮ ‬أَنَّها يمكن أَنْ‮ ‬تكون أَيَّ‮ ‬شيءٍ‮ ‬ولكنَّها ليست لاجو‮!! ‬لقَدْ‮ ‬سكنت عُشَّها،‮ ‬لكنَّها تحطَّمت‮. ‬لَمْ‮ ‬تكن لدي سندرلال أعينٌ‮ ‬لتري دموعها ولا آذانٌ‮ ‬لتسمع أنّاتها‮! ‬وظلَّت مسيرات الصَّباح تخرج كما كانت،‮ ‬وظلَّ‮ ‬مُصلح حيِّ‮ ‬مُلَّا شكور يغنِّي بنفس الصَّوت مع رسالوو نيكي رام‮: "‬إنَّها كنبتة لاجونتي،‮ ‬إذا لمستها انكمشت‮!"‬
 
أعلى