نقوس المهدي
كاتب
"إِنَّها كنبتة لاجونتي؛ إِنْ لمستها انكمشت"
حدث التَّقسيم، ونهض العديد من المجروحين ينفضون الدماء عن أبدانهم، ثُمَّ اجتمعوا وتوجَّهوا ناحية أولئك الَّذين كانت أجسادهم سليمةً، ولكنَّ قلوبهم مجروحةٌ.
تكوَّنت لجان "إعادة التَّعمير" في كُلِّ حارةٍ وحيٍّ، وفي البداية، وبسرعةٍ كبيرةٍ، بدأت برامج "إصلاح التِّجارة"، و"تمليك الأراضي"، و"إعادة إسكان المنازل" في العمل. لكنْ كان هناك برنامجٌ لَمْ يهتمُّ به أحدٌ. وهو ذلك البرنامج الَّذي يهتمُّ بالنِّساء المخطوفات، كان شعاره "إعادة تعمير القلوب". وكان السُّكَّان بالقرب من معبد "نارائن باوا" من الطَّبقة الرَّجعيَّة يخالفون هذا البرنامج بشدَّةٍ.
لتنشيط هذا البرنامج شُكِّلت لجنةٌ في حيِّ مُلَّا شكور بالقرب من المعبد، وانتخب سندرلال بابو سكرتيرًا لها بأغلبيَّة أحد عشر صوتًا. كان كبير المحامين ومحرِّر منطقة چوكي كلان المخضرم، والثُّقاة الآخرون في الحيِّ يعتقدون أَنَّ أَيَّ شخصٍ لَنْ يستطيع أَنْ يؤدِّي هذا العمل بإخلاصٍ أكثر من سندرلال. رُبَّما لأَنَّ زوجة سندرلال نفسه تَمَّ اختطافها. كان اسمها لاجو، لاجونتي.
عندما كان سندرلال بابو ورفيقاه رسالو ونيكي رام، وغيرهم، يجتمعون ويخرجون في جولاتٍ مبكِّرةٍ يغنون معًا: "إِنَّها كنبتة لاجونتي؛ إِنْ لمستها انكمشت"، كان صوت سندرلال يحتبس مرَّةً واحدةً، ويفكر في لاجونتي وهو يسير صامتًا. تري أين هي الآن؟ وكيف حالها؟ ماذا تظنُّ بنا؟ هل ستعود مرَّةً أخري أَمْ لا؟ وتترنَّح قدماه وهو يسير فوق أرضيَّة الشَّارع المغطاة بالحجارة.
الآن، وصلت به الحال إلي أَنْ ترك التَّفكير في لاجونتي وصار حزنه علي لاجونتي حزنًا علي الدُّنيا كلَّها. ولكي ينجو من آلامه، أغرق نفسه في الخدمة العامَّة. وعلي الرَّغم من هذا، عندما كان يضمُّ صوته إلي أصوات رفاقه، كان يدور بخلده "كَمْ هو رقيقٌ قلب الإنسان؛ يتأثَّر بأقلِّ شيءٍ. إِنَّه مثل نبتة لاجونتي، إِنْ مددت إليها يدك انكمشت." ومع ذلك، فهو لَمْ يتوان عن الإساءة لـ لاجونتي، زوجته، قبل ذلك، فكان يضربها لأسبابٍ تافهةٍ، كأَنْ تجلس في مكانٍ أو في آخر، أَوْ لا تهتمَّ بالطعام.
كانت لاجو فتاةً ريفيَّةً رقيقةً كغصنٍ رقيقٍ من شجرة التُّوت. وبسبب تعرُّضها الدَّائم لحرارة الشَّمس استحال لونها إلي اللَّون الأسمر. كانت تتَّسم بتقلبٍ في المزاج. وكان تقلُّبها مثل قطرة النَّدي الَّتي تتدحرج علي ورقةٍ كبيرةٍ من شجرة پاره كراس أحيانًا هنا وأحيانًا هناك. لَمْ تكن نحافتها دليلًا علي ضعف صحَّتها، بل كانت دليلًا علي نوعٍ ما من الصِّحَّة لديها. لقَدْ اضطرب سندرلال الضَّخم لرؤيتها لأوَّل مرَّةٍ، ولكنْ عندما رأي أَنَّ لاجو تستطيع تحمُّل أَيَّ عبءٍ، وتحتمل أَيَّ صدمةٍ، بَلْ وتتحمَّل حتَّي الضرب، زاد في سلوكه السَّيِّئ معها، ولَمْ يراع تلك الحدود الَّتي ينتهي صبر أَيُّ إنسانٍ إذا وصل إليها. ولقَدْ ساعدت لاجونتي أيضًا في عدم وضوح هذه الحدود أمامه. لأَنَّ لاجونتي لَمْ تكن تستطيع أَنْ تجلس حزينةً لفترةٍ طويلةٍ، لهذا بعد أَيَّ شجارٍ بينهما لَمْ تكن تستطيع أَنْ تخفي سعادتها إذا ابتسم لها سندرلال مرَّةً واحدةً، وكانت تهرول إليه مسرعةً، وتتعلَّق بعنقه، وتبادره: "لَوْ ضربتني ثانيةً، لَنْ أتحدَّث معك." كان يبدو واضحًا أَنَّها نسيت الضَّرب والإهانة تمامًا، فقَدْ كانت مثل فتيات القرية الأخريات تعلم أَنَّ الرِّجال يفعلون هذا. ولَوْ تمرَّدت امرأةٌ منهنَّ، فإِنَّ البنات أنفسهنَّ كُنَّ يضعن أصابعهن علي أنوفهن ويقلن: "أَيُّ رجلٍ هذا الَّذي لا يستطيع أَنْ يتحكَّم في المرأة؟!" وصار هذا الضَّرب جزءًا من أغانيهن.
كانت لاجو نفسها تغنِّي في صغرها: "لَنْ أتزوَّج بابن المدينة، فهو يلبس الحذاء ووَسْطي نحيفٌ"، ولكنْ في أوَّل فرصةٍ ارتبطت لاجو بفتيً من المدينة ارتباطًا وثيقًا. كان اسمه سندرلال، جاء مع موكب زفافٍ إلي قرية لاجو ذات مرَّةٍ، وهمس إلي العريس: "أخت زوجتك مليحةٌ جدًّا، يا أخي، لا بُدَّ أَنَّ زوجتك أيضًا جميلة." سمعت لاجونتي ما قاله سندرلال، ولكنَّها لَمْ تلحظ أَنَّ سندرلال يرتدي حذاءً كبيرًا، وقبيحًا، وأَنَّ وَسْطها نحيفٌ للغـاية!!
كان سندرلال يتذكَّر مثل هذه الأشياء وقت الجولات الصباحيَّة، ويفكِّر: "ليتني أعثر علي لاجو، ليتني أجدها. عندئذٍ سوف أسكنها في أعماق قلبي، وسأقول للنَّاس: ليس لهؤلاء النِّساء ذنبٌ في اختطافهنَّ. ولا خطأ لهنَّ في وقوعهنَّ فرائس لمثيري الشغب. هذا المجتمع الَّذي لا يتقبَّل هؤلاء النِّساء البريئات اللَّائي لا ذنب لهنَّ، ولا يعترف بهنَّ، مجتمعٌ عفنٌ وينبغي القضاء عليه. مثل هذا المجتمع الَّذي يلقِّن النِّساء تعمير البيوت، ولا يضمن لهنَّ تلك المكانة الَّتي تكون لأَيِّ امرأةٍ في البيت، سواءً أكانت أُمًّا أو زوجةً أو أختًا أو ابنةً."
كان يقول: "لا ينبغي تذكيرهنَّ، لا تلميحًا ولا تصريحًا، بما حدث لهنَّ، لأَنَّ قلوبهنَّ جريحةٌ، لأَنَّهنَّ رقيقاتٌ، مثل نبتة لاجونتي. إذا لمستها انكمشت."
ولتفعيل برنامج "أسكنوهنَّ القلب" كانت لجنة حيِّ مُلَّا شكور تخرج في جولاتٍ صباحيةٍ كثيرةٍ. وكان أنسب وقت لها في الصَّباح في السَّاعة الرَّابعة أو الخامسة، حيث لا صخب للبشر ولا ضجَّة للمرور، حتَّي كلاب الحراسة كانت تضع رؤوسها في الأفران المطفأة طيلة اللَّيل، وحتَّي أولئك النَّاس الَّذين ظلُّوا في فراشهم وقت الصَّباح، كانوا عندما يسمعون أصوات هذه اللَّجنة المتجوِّلة ويقولون فقط: "أوه! نفس الفرقة!" وكانوا يستمعون إلي ما يقوله سندرلال بصبرٍ أحيانًا، وأحيانًا أخري في ضجرٍ. وأولئك النساء اللَّائي وصلن بالسَّلامة من الجانب الآخر مترهِّلاتٍ مثل ثمرة القرنبيط، وأزواجهنَّ الملتصقون بهنَّ كجذوع القرنبيط في زهوٍ وكبرياءٍ، فكانوا يتمتمون بأشياءٍ احتجاجًا علي صخب اللَّجنة، ويواصلون سيرهم. بينما كان بعض الأطفال يستيقظون من نومهم علي صراخ "أسكنوهنَّ القلب"، والهتافات الحزينة كأَنَّها أغنيةٌ، ثُمَّ يعودون إلي النوم.
لكنَّ أحاديث الصَّباح تلك لَمْ تذهب سُديً. كانت تدور باستمرارٍ في الأذهان، وإِنْ كان المرء لا يستطيع أَنْ يفهمها في بعض الأحيان. ولكنَّه يظلُّ يتمتم بها. وبسبب تكرار هذه الأحاديث، عندما كانت السيدة مردولا سارا بهائي تتناقش لتبادل النساء المختطفات بين الهند وباكستان، صار بعض سكَّان حيِّ مُلَّا شكور مستعدِّين في دواخلهم لتقبُّل هؤلاء النِّساء. وذهب أهلهنَّ لاستقبالهنَّ خارج المدينة في ميدان كلان، كانت النِّساء المخطوفات وأهلهنَّ ينظرون إلي بعضهم حانيي الرُّؤوس لبرهةٍ، ثم تعود النِّساء للعمل في تعمير بيوتهنَّ ثانيةً.
كان رسالو ونيكي رام وسندرلال بابو يهتفون أحيانًا "يحيا مهندر سنج"، وأحيانًا "يحيا سوهن لال"، ويستمرُّون في الهتاف حتَّي تجفَّ حلوقهم.
لكنْ كانت هناك نساءٌ تَمَّ اختطافهنَّ ولَمْ يتقبلهُنَّ أزواجهنَّ وآباؤهنَّ وأمهاتهنَّ وأخواتهنَّ وإخوانهنَّ.
"لماذا لَمْ يمتن؟"
"لماذا لَمْ يجرعن سمًّا لإنقاذ شرفهن؟"
"لماذا لَمْ يقفزن في آبار المياه؟"
"كان جبنًا منهنَّ، لتعلقهنَّ بالحياة. المئات، بل الآلاف من النِّساء قتلن أنفسهنَّ قبل أَنْ يسلب شرفهنَّ."
ولكن ما أدراهم بمدي معاناة اللَّائي بقين علي قيد الحياة. كيف يحدِّقن في الموت بأعينٍ متحجِّرةٍ في عالمٍ لا يعترف بهنَّ، حتَّي أزواجهن! ومنهنَّ مَنْ كانت تردِّد اسمها في نفسها: الطَّاهرة. العفيفة. وتنظر إلي أخيها في هذا الجمع الغفير وتقول لآخر مرَّةٍ: "وأنت! ألا تعرفني أيضًا يا بهاري؟ لقد حملتك في حجري."
"آه،" يريد بهاري أَنْ يصرخ. ثُمَّ ينظر ناحية أُمِّه وأبيه، وكان الأب والأم يضعان أيديهما علي قلبيهما وينظران تجاه "نارائن بابا"، وينظر"نارائن بابا" في عجزٍ إلي السَّماء الَّتي لا حقيقة في الواقع لها، وإِنَّما هي مجرَّد حدٍّ لا تتخطَّاه عيوننا.
لكنَّ النِّساء اللَّائي أتت بهن مس سارا بهائي في الشَّاحنة العسكريَّة لَمْ تكن فيهن لاجو. بين الخوف والرَّجاء نظر سندرلال إلي آخر فتاةٍ تنزل من الشَّاحنة، ثُمَّ استغرق بعدها في صمتٍ رهيبٍ وعزمٍ فولاذيٍّ في أعمال الجمعيَّة. لَمْ يعد يكتفي الآن بالجولات الصَّباحيَّة، بَلْ بدأ يخرج في مسيراتٍ في المساء. وفي بعض الأحيان كان يعقد بعض الجلسات المصغَّرة، والَّتي كان يخطب فيها، بارتجالٍ وبنبرةٍ مجلجلةٍ، رئيس الجمعيَّة المحامي المسنِّ كالكا برشاد. وكان عمل رسالو أَنْ يقف دائمًا بجانبه بالمبصقة، كانت هناك أصوات عجيبة تخرج من الميكروفون، وأحيانًا كان نيكي رام والمحرِّر يقفان ليلقيا بعض الكلمات أيضًا.
وبقدر ما كانوا يتحدثون ويستشهدون بشواهد من الـ شاسترون و الـ پرانون، بقدر ما كانوا يتحدَّثون ضدَّ أهدافهم. وعندما يري سندرلال أَنَّ الزِّمام بدأ يفلت من اليد، يقف ليقول شيئًا، ولكنَّه لا يستطيع أَنْ يزيد علي فقرتين. ويحتبس صوته وتذرف عيناه الدُّموع، ولا يتمكَّن من إكمال كلمته بسبب البكاء، وفي النِّهاية يجلس. ويسود الحضور صمتٌ عجيبٌ، فهذه الكلمات الَّتي يقولها سندرلال من أعماق قلبه تفوق فصاحة المحامي كالكا برشاد المليئة بالنُّصح. لكنَّ النَّاس كانوا ينفجرون بالبكاء وينفِّثون عن عواطفهم، ثُمَّ يعودون إلي بيوتهم بذهن خالٍ.
ذات يومٍ خرج أعضاء اللَّجنة وهم يهتفون وقت المساء بأصواتٍ عاليةٍ. وشيئًا فشيئًا وصلوا إلي حيِّ المتعصِّبين. كان بعض المريدين يجلسون علي مصطبةٍ حول شجرة پيپل خارج المعبد ويستمعون إلي قصَّةٍ من كتاب الـ راماين وكان نارائن باوا يقصُّ عليهم جزءًا من قصص الـ رامائن، عن الغسَّال الذي طرد زوجته قائلًا: "أنا لست راجا رام چندر الَّذي عاش مع سيتا، رغم أَنَّها عاشت مع راون لمدَّةٍ طويلة! وقَدْ طرد رام چندر سيتا العظيمة من المنزل، كانت حاملًا!! وهل هناك دليلٌ أكبر من هذا علي حكمة رام؟!" قال نراين باوا. "هذا هو حكم رام! ومنه ينظر أيضًا إلي حديث الغسّال بنظرة التَّقدير والاحترام."
وصلت مسيرة اللَّجنة حتَّي المعبد وتوقَّفت، وانتظر النَّاس سماع شلوك كا ورنن وقصة رامائن.
قال سندرلال بعد أَنْ سمع الفقرة الأخيرة: "لسنا في حاجةٍ إلي مثل حكم رام هذا، يا سيدي!"
"اصمت. مَنْ تكون أنت؟ اصمت." صاح فيه الحضور. فتقدَّم سندرلال قائلًا: "لَنْ يستطيع أحدٌ أَنْ يمنعني من الحديث."
تعالت الصَّيحات من هنا وهناك: "اصمت! لَنْ نسمح لك بالحديث،" وجاء صوتٌ من أحد الأركان: "سنقتلك."
قال نراين باوا بصوتٍ رقيقٍ للغاية: "أنت لا تفهم معاني الكتب المقدَّسة، يا سندرلال!"
قال سندرلال: "أنا أفهم شيئًا واحدًا، يا سيدي؛ يمكن أَنْ نسمع صوت الغسَّال لدي قصَّة حكم رام، ولكن ليس عند سندرلال."
أزاح نفس هؤلاء الناس الذين كانوا علي استعداد لضربه الآن من تحتهم ثمار الـ پيپل وجلسوا وهم يقولون: "اسمعوا، اسمعوا، اسمعوا."
دفع رسالو، ونيكي رام، سندرلال. وقال سندرلال: "كان السَّيِّد القائد رام معلِّمنا، ولكن ما معني أَنَّه يعتبر كلام الغسَّال صحيحًا، ولا يصدِّق كلام الملكة العظيمة سيتا؟!"
كان نراين باوا يخلِّل أصابعه في لحيته قائلًا: "لأَنَّ سيتا كانت زوجته، يا سندرلال! أنت لا تعرف مدلول هذا الكلام."
"نعم، يا سيِّدي." قال سندرلال: "أنا لا أفهم العديد من الأمور في هذه الدُّنيا، ولكنَّني أعتبر أَنَّ الحكم الصحيح هو ذلك الَّذي لا يظلم الإنسان فيه حتَّي نفسه، لأَنَّ ظلم النفس ذنبٌ يعادل ظلم الآخرين. اليوم أيضًا طرد رام سيتا من البيت لأَنَّها عاشت عند راون لفترةٍ، ولكنْ ما ذنب سيتا في هذا؟! أَلَمْ تقع هي الأخري فريسةً للمكر والخداع مثل الكثير من أُمَّهاتنا وأخواتنا؟ وهذا الذنب هَلْ هو ضعف سيتا أَمْ بربرية راون!! الَّذي له عشرة رؤوسٍ آدميَّةٍ، ولكنَّ أكبر رأسٍ رأسُ حمار! اليوم طردت سيتا البريئة من البيت. سيتا، لاجونتي..." وانخرط سندرلال في البكاء. ورفع رسالو ونيكي رام الرَّايات الحمراء الَّتي ألصق عليها تلاميذ المدرسة اليوم الشِّعارات بعنايةٍ. وبدأوا في المغادرة وهم يهتفون: "يحيا سندرلال بابو." قال واحد من المشاركين في المسيرة: "تحيا سيتا الخالدة." وجاء صوتٌ من ناحيةٍ أخري: "رام چندر."
وبعدها توالت الأصوات الكثيرة: "الصمت! الصمت!" وذهبت قصَّة نراين باوا التي استمرَّت شهورًا هباءً. وانضمَّ الكثير من النَّاس إلي المسيرة الَّتي كانت يتقدَّمها المحامي كالكا برشاد وحكم سنج، محرِّر "چوكي كلان"، وهمايضربان بالعصي علي الأرض ويطلقان أصواتٍ تنبيهيةً. وفي مكانٍ ما، بينهما، كان يمشي سندرلال. وكانت عيناه لا تزالان تدمعان، لقَدْ صدم قلبه اليوم صدمةً قاسيةً، بينما كان الآخرون يرفعون أصواتهم بالغناء في حماسٍ شديدٍ: "إنَّها كنبتة لاجونتي؛ إِنْ لمستها انكمشت."
كانت أصوات الغناء لا تزال تصل إلي أسماع النَّاس، ولَمْ يكن الصَّباح قَدْ أشرق بعد. وكانت العجوز الَّتي تسكن المنزل رقم (414) في حيِّ مُلَّا شكور مازالت تتململ في فراشها بألمٍ. إلي أَنْ جاء لال چند صديق سندرلال، والَّذي ساعده سندرلال وكالكا برشاد بعلاقاتهما في الحصول علي دكان التَّموين، مهرولًا يشير بردائه السميك في يده ويقول: "فليسعد سندرلال."
قال سندرلال، وهو يضع كوز العسل في حجر النَّرجيلة: "علامَ تهنِّئني يا لال چند؟"
"رأيت لاجو زوجتك."
سقط حجر النَّرجيلة من يد سندرلال، وسقط التمباكو المعسِّل علي الأرض، وأمسك سندرلال لال چند من كتفيه وهو يهزُّه و يسأله: "أين رأيتها؟"
"علي حدود واگه."
ترك سندرلال لال چند ولَمْ يقل سوي: "لابد أَنَّها واحدةٌ أخري."
قال لال چند، مؤكِّدًا: "لا، يا أخي، إِنَّها هي، لاجو."
سأله سندرلال وهو يتناول الدُّخان المعسِّل من علي الأرض، ويفركه في راحة يده: "وهل تعرفها؟" تناول حجر نرجيلة رسالو في نفس الوقت، وقال: "وما هي العلامة المميِّزة لها؟"
"خالٌ موجودٌ علي الذِّقن، وآخر علي الخَدِّ."
"نعم. نعم. نعم." وتابع سندرلال: "والثالث علي جبينها."
أراد أَلَّا يكون هناك أَيُّ شكٍّ، وبدأ يتذكَّر كُلَّ الشَّامات التي يعرفها علي جسدها جيدًا، والتي وشمت جسمها بها في الطُّفولة، وكانت تبدو كحبَّاتٍ ذات لونٍ أخضر خفيفٍ يشبه سيقان "ستِّ الحسن"، التي تنكمش عندما تمتد اليد إليها. بنفس الطَّريقة الَّتي كانت تستحي لاجونتي بها عندما تمتد يده شاماتها، ويشرد ذهنها، وتنكمش علي نفسها، وكأَنَّ كُلَّ أسرارها باتت معروفةً، وكأَنَّها أفلست بعد أَنْ سلب منها كنزها المكنون.
كأَنَّ سندرلال ألقي في نارٍ مقدَّسة لمحبَّةٍ مجهولةٍ وخوف غير معروفٍ. أمسك بـ لال چند مرَّة أخري وسأله: "كيف وصلت لاجو إلي واگه؟"
قال لال چند: "أَلَمْ يكن هناك تبادلٌ للنِّساء بين الهند وباكستان!"
"وماذا حدث بعدها؟" قال سندرلال وهو يجلس القرفصاء: "وماذا، وماذا بعد؟"
قال رسالو وهو يجلس علي سريره ويسعل كعادة مدخِّني النَّرجيلة: "هل جاءت لاجونتي حقيقةً؟"
واصل لال چند كلامه: "سلَّمت باكستان ستَّ عشرة امرأةً واستلمت بدلًا منهنَّ نفس العدد. ولكن حدث اختلافٌ حادٌّ. فقَدْ كان متطوِّعون منَّا يعترضون بأَنَّ النِّساء اللَّائي سلمونا إياهنَّ فيهنَّ العجوز، ومتوسِّطة العمر، والتي لا فائدة منها. وتجمَّع النَّاس علي هذا الخلاف. عندئذ عرض المتطوِّعون من الجانب الآخر لاجو قائلين: أتسمِّي هذه عجوزًا؟ انظروا، انظروا؛ هل بين النِّساء اللَّائي سلمتمونا مَنْ تعادل هذه؟ وكانت لاجو تخفي علامات الخال عن أنظار الجميع. ثُمَّ اشتدَّ الخلاف. وقرَّر كُلَّ طرفٍ استعادة بضاعته. فصرخت وبصوتٍ مرتفعٍ: يا لاجو. يا لاجو ، إِلَّا أَنَّ جنودنا ضربونا، وأخلوا المكان." وأظهر لال چند كوعه حيث أصابته عصا.
ظلَّ رسالو ونيكي رام جالسَين في صمتٍ، أَمَّا سندرلال فقَدْ بدأ ينظر بعيدًا، رُبَّما كان يفكِّر أجاءت لاجو أم لا؟ كان سندرلال يبدو كما لَوْ ضلّ في صحراء بيكانير، وعاد وجلس في ظلِّ شجرةٍ يلهث من العطش، ولا يستطيع حتَّي أَنْ يقول: "أعطوني ماءً."
لقَدْ شعر بأَنَّ التَّشدُّد والعنف الَّذي كان قبل التَّقسيم لا زال هو بعد التَّقسيم. فقط تغيرت الطَّريقة! الآن لَمْ يبق في النَّاس هذا التَّردُّد. عندما تسأل أحدٌ عن أَنَّ لهنا سنج وزوجة أخيه بنتو كانا يعيشان هنا، فسوف يجيب علي الفور: "ماتا." ثُمَّ يواصل سيره وكأَنَّه لا يعرف معني الموت. والأدهي من ذلك أَنَّ التُّجَّار بدأوا يتاجرون في الإنسان؛ لحمه ودمه، بكُلِّ اطمئنان. لقَدْ كان مَنْ يشتري البهائم يرفع فَكَّ الجاموسة أَو البقرة ليعرف عمرها من أسنانها. الآن بدأوا يعرضون النِّساء الشَّابَّات وجمالهنَّ وحسنهنَّ وأسرارهنَّ وعلاماتِ الخال لديهنَّ علي الملأ! لقَدْ سري التَّشدُّد والعنف إلي أوصال كُلِّ التُّجَّار. في البداية كانت البضائع تباع في السُّوق، وكان البائع والمشتري يضع كُلٌّ منهما يده في يد الآخر، ويضعان فوقها منديلًا ويتَّفقان بهذه الطريقة. وكأَنَّ الاتِّفاق علي السِّعر يتمُّ بإشارات الأصابع من تحت المنديل. ولأَنَّ هذا المنديل تمَّت إزاحته، ولأَنَّ البيع والشراء يتم علي الملأ، نسي النَّاس أصول التِّجارة. كُلُّ هذه التَّعاملات التِّجاريَّة والبيع والشِّراء تبدو من قصص الماضي، والتي كانت تباع النساء فيها بحريَّةٍ، عندما يأتي الثَّري ليقف أمام عددٍ كبيرٍ من النِّساء العرايا ويتحسَّس أجسادهنَّ، وعندما يضع إصبعه علي جسد امرأةٍ منهنَّ فإِنَّ إصبعه يترك أثرًا عميقًا ورديَّ اللَّون حوله حلقةٌ صفراء، ثُمَّ تسارع الحلقات الحمراء لتحلَّ محلَّ الحلقات الصَّفراء ويواصل الثريُّ تقدَّمه. والمرأة غير المقبولة تمسك رباط الإزار في حالةٍ من الانفعال والخزي، وتنخرط في البكاء، وهي تخفي وجهها عن النَّاس.
كان سندرلال يستعدُّ للذِّهاب إلي امرتسر الحدود عندما جاءه خبر وصول لاجو فجأةً، فارتبك. تقدَّم خطوةً علي الفور باتِّجاه الباب، ولكنَّه عاد للوراء مرَّةً ثانيةً. كان من قبل يودُّ أَنْ يغضب، وأَنْ يفرش كُلَّ أعلام اللَّجنة ومنشوراتها، ويجلس عليها ثُمَّ يبكي، ولكنْ لَمْ يكن يمكنه إظهار عواطفه بهذا الشَّكل. واجه هذا الصِّراع الدَّاخليَّ برجولةٍ، ثُمَّ اتَّخذ طريقة إلي "چوكي كلان" بخطيً متثاقلةٍ، حيث مكان تسليم النِّساء المخطوفات.
الآن كانت لاجو تقف أمامه، كانت ترتعد من خوفٍ ما بداخلها، إِنَّها تعرف سندرلال، ولَمْ يكن أحدٌ سواه يعرفها. في البداية كان يتعامل معها بتلك الطَّريقة السَّيِّئة. والآن بعد أَنْ قضت أَيَّامًا من حياتها مع رجلٍ آخر، تري ماذا سيفعل معها؟
نظر سندرلال إلي لاجو، كانت ملتحفةً بطرحةٍ ذات طرازٍ إسلاميٍّ خالصٍ، وقد ألقت بأحد طرفيها علي النَّاحية اليُسري ،علي سبيل العادة. كمجرد محاولةٍ للاندماج مع السيِّدات الأخريات والهرب من شبكة صيَّادها. كانت تفكِّر بشدَّةٍ في سندرلال، حتَّي أَنَّها لَمْ يخطر ببالها أَنْ تصلح من وضع الطَّرحة أَوْ تغيِّر ملابسها. كانت لا تعرف الفرق بين حضارة الهندوس وحضارة المسلمين، الفرق الأساسيَّ في وضع طرف الطَّرحة علي اليمين وعلي اليسار، وها هي تقف الآن أمام سندرلال ترتعد مفعمة بالأمل والخوف.
أصيب سندرلال بصدمةٍ. ورأي أَنَّ لون لاجونتي صار أجمل، وبدت له أكثر صحَّةٍ من قبل. لا، لقد امتلأ جسدها. لقَدْ كان كل ما ظنَّه عنها خاطئًا. ظنَّ أَنَّها أصبحت نحيفةً للغاية بسبب انغماسها في الحزن، وأَنَّها لَنْ تستطيع لضعفها الكلام وإِنْ أرادت. ولكنَّه صدم كثيرًا من فكرة أَنَّها كانت سعيدةً جدًّا في باكستان. ظلَّ صامتًا لأَنَّه أقسم أَنَّه سيظلُّ صامتًا. ولكنَّه لَمْ يستطع أَنْ يعرف، لو كانت سعيدةً إلي هذا الحدِّ، ما الذي جاء بها؟ وظَنَّ أَنَّها جاءت رغمًا عنها هنا، بضغطٍ من الحكومة الهنديَّة. ولكنَّه لَمْ يفهم شيئًا واحدًا؛ أَنَّ وجهها القمحيَّ كان يميل للاصفرار بسبب الحزن، وبسبب الحزن كان اللَّحم يفارق عظامها، وصارت أكثر بدانةٍ بسبب الحزن وإِنْ بدت بصحَّةٍ جيِّدةٍ. ولكنَّها تلك الصِّحَّة الَّتي تجعل أنفاسها تتسارع بشدَّةٍ لمجرَّد مشيها خطوتين.
لقَدْ كان أثر النَّظرة الأولي لوجه هذه المخطوفة عجيبًا. لكنَّه واجه هذه الأفكار كُلَّها برجولةٍ كبيرةٍ وإيجابيةٍ. كان هناك أناس كثيرون. قال أحدهم: "نحن لا نقبل من استعملها مسلمران."
ولكنَّ هذا الصَّوت غطَّت عليه هتافات رسالو، ونيكي رام، ومحرِّر "چوكي كلان" العجوز.
كان صوت كالكا برشاد الجهوريُّ المرتفع واضحًا من بين هذه الأصوات كُلِّها. كان يسعل ويتكلَّم أيضًا في نفس الوقت. لقد كان مقتنعًا بشدَّةٍ بحقيقة التَّطهُّر الجديدة. بدا وكأنه قرأ اليوم فيدا جديدًا وبران وشاستر أخري غير كتبهم. ويريد أَنْ يشرك الآخرين في معرفته الجديدة هذه.
كان سندرلال ولاجو متَّجهين إلي مقر إقامتهما، محاطين بأصوات كُلِّ هؤلاء النَّاس. بدا الأمر وكأن رام چندر وسيتا القدامي منذ آلاف السنين يتَّجهان إلي مقر إقامتهما في بعدٍ أخلاقيٍّ كبيرٍ. وبعض النَّاس يعبِّرون عن سعادتهم بحمل المشاعل، وآخرون يأسفون لإيذائهما هذه الفترة الطَّويلة.
واصل سندرلال بابو حماسه لبرنامج "أسكنوهن القلب" بعد وصول لاجونتي. وأثبت ذلك قولًا وفعلًا. واقتنع به أولئك الذين كانوا يرون في حديثه مجرَّد انفعالٍ وعاطفةٍ فقط. كانت هناك سعادة غامرة في قلوب كثير من النَّاس وأسفٌ في قلوب آخرين. كانت هناك كثير من النساء بالإضافة إلي الأرملة الَّتي تعيش في المنزل رقم (414) يتخوَّفن من الذِّهاب إلي بيت سندرلال رجل الخير. لكنَّ سندرلال لَمْ يكن يبالي باهتمام الآخرين أو عدم اهتمامهم. فقد عادت مالكة قلبه. وامتلأ الفراغ الذي أصاب هذا القلب. وقد نصب لها تمثالًا ذهبيًا في معبد قلبه. وكان هو نفسه يجلس علي باب هذا المعبد ليحميها. أَمَّا لاجو التي ظلَّت صامتةً منزويةً من الخوف، فقَدْ بدأت تتفتَّح وتتحدَّث تدريجيًّا عندما رأت هذا السُّلوك اللَّين غير المتوقع من "سندرلال".
والآن، لَمْ يعد سندرلال يناديها باسم لاجو، كان يناديها بـ القدِّيسة! كانت لاجو تشعر بسعادةٍ خفيَّةٍ غامرةٍ من ذلك، وكانت تتمنَّي أَنْ تقصَّ علي سندرلال كُلَّ ما حدث معها وتقصَّ حتَي تبكي بكاءً شديدًا يغسل كل أوجاعها، ولكنَّ سندرلال كان يتجنَّب سماع مثل هذه الأمور من لاجو.
وظلَّت لاجو منكمشةً إلي حدٍّ ما علي الرغم من انفتاحها هذا. وعندما ينام سندرلال كانت تنظر إليه، وعندما يكتشف ويسألها تجيبه: "هكذا، لا شيء." ثُمَّ يغلب سندرلال المتعب طوال النَّهار النُّعاس مرَّةً أخري. إلَّا أَنَّ سندرلال سأل لاجونتي ذات مرَّةٍ عن أَيَّامها السَّوداء، قائلًا: "مَنْ كان ذلك الشَّخص؟"
قالت لاجونتي وهي تنظر للأسفل: "جمَّان." ثُمَّ حدَّقت في وجه سندرلال وأرادت أَنْ تقول شيئًا، ولكنَّ سندرلال كان ينظر إلي وجه لاجونتي نظراتٍ عجيبةً، وهو يمرِّر يديه علي شعرها. فنظرت لاجونتي إلي أسفلٍ مرَّةً أخري، وسألها سندرلال: "هَلْ كان يعاملك معاملةً حسنةً؟"
"نعم."
"أَلَمْ يكنْ يضربك؟"
قالت لاجونتي وهي تضع رأسها علي صدر سندرلال: "لا. لَمْ يكن يضربني، ولكنِّي كنت أخاف منه كثيرًا. أنت كنت تضربني، ولكنِّي لَمْ أكن أخاف منك. أَلَنْ تضربني بعد الآن؟!"
اغرورقت عينا سندرلال بالدُّموع، وقال بندمٍ وأسفٍ: "كلَّا، يا قدِّيسةٌ. لَنْ يحدث أبدًا. لَنْ أضربك."
فكَّرت لاجونتي في كلمة "قدِّيسة"، وانخرطت في البكاء. ثُمَّ أرادت لاجونتي أَنْ تقصَّ عليه كُلَّ شيءٍ، ولكنَّ سندرلال قال: "دعك من هذا الماضي! ما ذنبك في هذا؟ الذَّنب ذنب مجتمعنا الَّذي لا يعطي القدِّيسات أمثالك مكانةً التَّكريم، إِنَّه لا يؤذيك، بَلْ يؤذي نفسه."
وبقي ما في قلب لاجونتي كما هو. فلَمْ تستطع أَنْ تقول كُلَّ شيءٍ، وظلَّت صامتةً منزويةً. تنظر إلي جسمها الَّذي صار بعد التَّقسيم جسم قدَّيسة! لَمْ يعد بدن لاجونتي. كانت سعيدةً للغاية، غارقةً في سعادةٍ فيها مسحةٌ من الشكِّ والرِّيبة. وكانت تنتفض فجأةً من نومها وتجلس، وكأَنَّها، وهي في ذروة سعادتها، تناهي إلي سمعها صوت أقدامٍ تقترب.
عندما مضت أيَّام كثيرةٌ علي ذلك حلَّ الشَّكُّ التَّامُّ مكان السَّعادة، ليس لأَنَّ سندرلال بدأ يعاملها معاملةً سيِّئةً مرَّةً أخري، بل لأَنَّه بدأ يتعامل معها معاملةً طيِّبة لسلغاية وسلوكًا لَمْ تتوقَّعه منه. كانت تريد أَنْ تصبح لاجو القديمة مرَّةً أخري، التي كانت تتشاجر بسبب جزَرة، وتتصالح بفِجلة. لكن الآن لا يحدث شجارٌ أبدًا. لقَدْ أشعرها سندرلال وكأَنَّها شيءٌ مصنوع من الخزف بمجرَّد أَنْ تلمسه سينكسر.
أَمَّا لاجو، فكانت تنظر إلي نفسها في المرآة، وتصل في النِّهاية إلي نتيجةٍ أَنَّها يمكن أَنْ تكون أَيَّ شيءٍ ولكنَّها ليست لاجو!! لقَدْ سكنت عُشَّها، لكنَّها تحطَّمت. لَمْ تكن لدي سندرلال أعينٌ لتري دموعها ولا آذانٌ لتسمع أنّاتها! وظلَّت مسيرات الصَّباح تخرج كما كانت، وظلَّ مُصلح حيِّ مُلَّا شكور يغنِّي بنفس الصَّوت مع رسالوو نيكي رام: "إنَّها كنبتة لاجونتي، إذا لمستها انكمشت!"
حدث التَّقسيم، ونهض العديد من المجروحين ينفضون الدماء عن أبدانهم، ثُمَّ اجتمعوا وتوجَّهوا ناحية أولئك الَّذين كانت أجسادهم سليمةً، ولكنَّ قلوبهم مجروحةٌ.
تكوَّنت لجان "إعادة التَّعمير" في كُلِّ حارةٍ وحيٍّ، وفي البداية، وبسرعةٍ كبيرةٍ، بدأت برامج "إصلاح التِّجارة"، و"تمليك الأراضي"، و"إعادة إسكان المنازل" في العمل. لكنْ كان هناك برنامجٌ لَمْ يهتمُّ به أحدٌ. وهو ذلك البرنامج الَّذي يهتمُّ بالنِّساء المخطوفات، كان شعاره "إعادة تعمير القلوب". وكان السُّكَّان بالقرب من معبد "نارائن باوا" من الطَّبقة الرَّجعيَّة يخالفون هذا البرنامج بشدَّةٍ.
لتنشيط هذا البرنامج شُكِّلت لجنةٌ في حيِّ مُلَّا شكور بالقرب من المعبد، وانتخب سندرلال بابو سكرتيرًا لها بأغلبيَّة أحد عشر صوتًا. كان كبير المحامين ومحرِّر منطقة چوكي كلان المخضرم، والثُّقاة الآخرون في الحيِّ يعتقدون أَنَّ أَيَّ شخصٍ لَنْ يستطيع أَنْ يؤدِّي هذا العمل بإخلاصٍ أكثر من سندرلال. رُبَّما لأَنَّ زوجة سندرلال نفسه تَمَّ اختطافها. كان اسمها لاجو، لاجونتي.
عندما كان سندرلال بابو ورفيقاه رسالو ونيكي رام، وغيرهم، يجتمعون ويخرجون في جولاتٍ مبكِّرةٍ يغنون معًا: "إِنَّها كنبتة لاجونتي؛ إِنْ لمستها انكمشت"، كان صوت سندرلال يحتبس مرَّةً واحدةً، ويفكر في لاجونتي وهو يسير صامتًا. تري أين هي الآن؟ وكيف حالها؟ ماذا تظنُّ بنا؟ هل ستعود مرَّةً أخري أَمْ لا؟ وتترنَّح قدماه وهو يسير فوق أرضيَّة الشَّارع المغطاة بالحجارة.
الآن، وصلت به الحال إلي أَنْ ترك التَّفكير في لاجونتي وصار حزنه علي لاجونتي حزنًا علي الدُّنيا كلَّها. ولكي ينجو من آلامه، أغرق نفسه في الخدمة العامَّة. وعلي الرَّغم من هذا، عندما كان يضمُّ صوته إلي أصوات رفاقه، كان يدور بخلده "كَمْ هو رقيقٌ قلب الإنسان؛ يتأثَّر بأقلِّ شيءٍ. إِنَّه مثل نبتة لاجونتي، إِنْ مددت إليها يدك انكمشت." ومع ذلك، فهو لَمْ يتوان عن الإساءة لـ لاجونتي، زوجته، قبل ذلك، فكان يضربها لأسبابٍ تافهةٍ، كأَنْ تجلس في مكانٍ أو في آخر، أَوْ لا تهتمَّ بالطعام.
كانت لاجو فتاةً ريفيَّةً رقيقةً كغصنٍ رقيقٍ من شجرة التُّوت. وبسبب تعرُّضها الدَّائم لحرارة الشَّمس استحال لونها إلي اللَّون الأسمر. كانت تتَّسم بتقلبٍ في المزاج. وكان تقلُّبها مثل قطرة النَّدي الَّتي تتدحرج علي ورقةٍ كبيرةٍ من شجرة پاره كراس أحيانًا هنا وأحيانًا هناك. لَمْ تكن نحافتها دليلًا علي ضعف صحَّتها، بل كانت دليلًا علي نوعٍ ما من الصِّحَّة لديها. لقَدْ اضطرب سندرلال الضَّخم لرؤيتها لأوَّل مرَّةٍ، ولكنْ عندما رأي أَنَّ لاجو تستطيع تحمُّل أَيَّ عبءٍ، وتحتمل أَيَّ صدمةٍ، بَلْ وتتحمَّل حتَّي الضرب، زاد في سلوكه السَّيِّئ معها، ولَمْ يراع تلك الحدود الَّتي ينتهي صبر أَيُّ إنسانٍ إذا وصل إليها. ولقَدْ ساعدت لاجونتي أيضًا في عدم وضوح هذه الحدود أمامه. لأَنَّ لاجونتي لَمْ تكن تستطيع أَنْ تجلس حزينةً لفترةٍ طويلةٍ، لهذا بعد أَيَّ شجارٍ بينهما لَمْ تكن تستطيع أَنْ تخفي سعادتها إذا ابتسم لها سندرلال مرَّةً واحدةً، وكانت تهرول إليه مسرعةً، وتتعلَّق بعنقه، وتبادره: "لَوْ ضربتني ثانيةً، لَنْ أتحدَّث معك." كان يبدو واضحًا أَنَّها نسيت الضَّرب والإهانة تمامًا، فقَدْ كانت مثل فتيات القرية الأخريات تعلم أَنَّ الرِّجال يفعلون هذا. ولَوْ تمرَّدت امرأةٌ منهنَّ، فإِنَّ البنات أنفسهنَّ كُنَّ يضعن أصابعهن علي أنوفهن ويقلن: "أَيُّ رجلٍ هذا الَّذي لا يستطيع أَنْ يتحكَّم في المرأة؟!" وصار هذا الضَّرب جزءًا من أغانيهن.
كانت لاجو نفسها تغنِّي في صغرها: "لَنْ أتزوَّج بابن المدينة، فهو يلبس الحذاء ووَسْطي نحيفٌ"، ولكنْ في أوَّل فرصةٍ ارتبطت لاجو بفتيً من المدينة ارتباطًا وثيقًا. كان اسمه سندرلال، جاء مع موكب زفافٍ إلي قرية لاجو ذات مرَّةٍ، وهمس إلي العريس: "أخت زوجتك مليحةٌ جدًّا، يا أخي، لا بُدَّ أَنَّ زوجتك أيضًا جميلة." سمعت لاجونتي ما قاله سندرلال، ولكنَّها لَمْ تلحظ أَنَّ سندرلال يرتدي حذاءً كبيرًا، وقبيحًا، وأَنَّ وَسْطها نحيفٌ للغـاية!!
كان سندرلال يتذكَّر مثل هذه الأشياء وقت الجولات الصباحيَّة، ويفكِّر: "ليتني أعثر علي لاجو، ليتني أجدها. عندئذٍ سوف أسكنها في أعماق قلبي، وسأقول للنَّاس: ليس لهؤلاء النِّساء ذنبٌ في اختطافهنَّ. ولا خطأ لهنَّ في وقوعهنَّ فرائس لمثيري الشغب. هذا المجتمع الَّذي لا يتقبَّل هؤلاء النِّساء البريئات اللَّائي لا ذنب لهنَّ، ولا يعترف بهنَّ، مجتمعٌ عفنٌ وينبغي القضاء عليه. مثل هذا المجتمع الَّذي يلقِّن النِّساء تعمير البيوت، ولا يضمن لهنَّ تلك المكانة الَّتي تكون لأَيِّ امرأةٍ في البيت، سواءً أكانت أُمًّا أو زوجةً أو أختًا أو ابنةً."
كان يقول: "لا ينبغي تذكيرهنَّ، لا تلميحًا ولا تصريحًا، بما حدث لهنَّ، لأَنَّ قلوبهنَّ جريحةٌ، لأَنَّهنَّ رقيقاتٌ، مثل نبتة لاجونتي. إذا لمستها انكمشت."
ولتفعيل برنامج "أسكنوهنَّ القلب" كانت لجنة حيِّ مُلَّا شكور تخرج في جولاتٍ صباحيةٍ كثيرةٍ. وكان أنسب وقت لها في الصَّباح في السَّاعة الرَّابعة أو الخامسة، حيث لا صخب للبشر ولا ضجَّة للمرور، حتَّي كلاب الحراسة كانت تضع رؤوسها في الأفران المطفأة طيلة اللَّيل، وحتَّي أولئك النَّاس الَّذين ظلُّوا في فراشهم وقت الصَّباح، كانوا عندما يسمعون أصوات هذه اللَّجنة المتجوِّلة ويقولون فقط: "أوه! نفس الفرقة!" وكانوا يستمعون إلي ما يقوله سندرلال بصبرٍ أحيانًا، وأحيانًا أخري في ضجرٍ. وأولئك النساء اللَّائي وصلن بالسَّلامة من الجانب الآخر مترهِّلاتٍ مثل ثمرة القرنبيط، وأزواجهنَّ الملتصقون بهنَّ كجذوع القرنبيط في زهوٍ وكبرياءٍ، فكانوا يتمتمون بأشياءٍ احتجاجًا علي صخب اللَّجنة، ويواصلون سيرهم. بينما كان بعض الأطفال يستيقظون من نومهم علي صراخ "أسكنوهنَّ القلب"، والهتافات الحزينة كأَنَّها أغنيةٌ، ثُمَّ يعودون إلي النوم.
لكنَّ أحاديث الصَّباح تلك لَمْ تذهب سُديً. كانت تدور باستمرارٍ في الأذهان، وإِنْ كان المرء لا يستطيع أَنْ يفهمها في بعض الأحيان. ولكنَّه يظلُّ يتمتم بها. وبسبب تكرار هذه الأحاديث، عندما كانت السيدة مردولا سارا بهائي تتناقش لتبادل النساء المختطفات بين الهند وباكستان، صار بعض سكَّان حيِّ مُلَّا شكور مستعدِّين في دواخلهم لتقبُّل هؤلاء النِّساء. وذهب أهلهنَّ لاستقبالهنَّ خارج المدينة في ميدان كلان، كانت النِّساء المخطوفات وأهلهنَّ ينظرون إلي بعضهم حانيي الرُّؤوس لبرهةٍ، ثم تعود النِّساء للعمل في تعمير بيوتهنَّ ثانيةً.
كان رسالو ونيكي رام وسندرلال بابو يهتفون أحيانًا "يحيا مهندر سنج"، وأحيانًا "يحيا سوهن لال"، ويستمرُّون في الهتاف حتَّي تجفَّ حلوقهم.
لكنْ كانت هناك نساءٌ تَمَّ اختطافهنَّ ولَمْ يتقبلهُنَّ أزواجهنَّ وآباؤهنَّ وأمهاتهنَّ وأخواتهنَّ وإخوانهنَّ.
"لماذا لَمْ يمتن؟"
"لماذا لَمْ يجرعن سمًّا لإنقاذ شرفهن؟"
"لماذا لَمْ يقفزن في آبار المياه؟"
"كان جبنًا منهنَّ، لتعلقهنَّ بالحياة. المئات، بل الآلاف من النِّساء قتلن أنفسهنَّ قبل أَنْ يسلب شرفهنَّ."
ولكن ما أدراهم بمدي معاناة اللَّائي بقين علي قيد الحياة. كيف يحدِّقن في الموت بأعينٍ متحجِّرةٍ في عالمٍ لا يعترف بهنَّ، حتَّي أزواجهن! ومنهنَّ مَنْ كانت تردِّد اسمها في نفسها: الطَّاهرة. العفيفة. وتنظر إلي أخيها في هذا الجمع الغفير وتقول لآخر مرَّةٍ: "وأنت! ألا تعرفني أيضًا يا بهاري؟ لقد حملتك في حجري."
"آه،" يريد بهاري أَنْ يصرخ. ثُمَّ ينظر ناحية أُمِّه وأبيه، وكان الأب والأم يضعان أيديهما علي قلبيهما وينظران تجاه "نارائن بابا"، وينظر"نارائن بابا" في عجزٍ إلي السَّماء الَّتي لا حقيقة في الواقع لها، وإِنَّما هي مجرَّد حدٍّ لا تتخطَّاه عيوننا.
لكنَّ النِّساء اللَّائي أتت بهن مس سارا بهائي في الشَّاحنة العسكريَّة لَمْ تكن فيهن لاجو. بين الخوف والرَّجاء نظر سندرلال إلي آخر فتاةٍ تنزل من الشَّاحنة، ثُمَّ استغرق بعدها في صمتٍ رهيبٍ وعزمٍ فولاذيٍّ في أعمال الجمعيَّة. لَمْ يعد يكتفي الآن بالجولات الصَّباحيَّة، بَلْ بدأ يخرج في مسيراتٍ في المساء. وفي بعض الأحيان كان يعقد بعض الجلسات المصغَّرة، والَّتي كان يخطب فيها، بارتجالٍ وبنبرةٍ مجلجلةٍ، رئيس الجمعيَّة المحامي المسنِّ كالكا برشاد. وكان عمل رسالو أَنْ يقف دائمًا بجانبه بالمبصقة، كانت هناك أصوات عجيبة تخرج من الميكروفون، وأحيانًا كان نيكي رام والمحرِّر يقفان ليلقيا بعض الكلمات أيضًا.
وبقدر ما كانوا يتحدثون ويستشهدون بشواهد من الـ شاسترون و الـ پرانون، بقدر ما كانوا يتحدَّثون ضدَّ أهدافهم. وعندما يري سندرلال أَنَّ الزِّمام بدأ يفلت من اليد، يقف ليقول شيئًا، ولكنَّه لا يستطيع أَنْ يزيد علي فقرتين. ويحتبس صوته وتذرف عيناه الدُّموع، ولا يتمكَّن من إكمال كلمته بسبب البكاء، وفي النِّهاية يجلس. ويسود الحضور صمتٌ عجيبٌ، فهذه الكلمات الَّتي يقولها سندرلال من أعماق قلبه تفوق فصاحة المحامي كالكا برشاد المليئة بالنُّصح. لكنَّ النَّاس كانوا ينفجرون بالبكاء وينفِّثون عن عواطفهم، ثُمَّ يعودون إلي بيوتهم بذهن خالٍ.
ذات يومٍ خرج أعضاء اللَّجنة وهم يهتفون وقت المساء بأصواتٍ عاليةٍ. وشيئًا فشيئًا وصلوا إلي حيِّ المتعصِّبين. كان بعض المريدين يجلسون علي مصطبةٍ حول شجرة پيپل خارج المعبد ويستمعون إلي قصَّةٍ من كتاب الـ راماين وكان نارائن باوا يقصُّ عليهم جزءًا من قصص الـ رامائن، عن الغسَّال الذي طرد زوجته قائلًا: "أنا لست راجا رام چندر الَّذي عاش مع سيتا، رغم أَنَّها عاشت مع راون لمدَّةٍ طويلة! وقَدْ طرد رام چندر سيتا العظيمة من المنزل، كانت حاملًا!! وهل هناك دليلٌ أكبر من هذا علي حكمة رام؟!" قال نراين باوا. "هذا هو حكم رام! ومنه ينظر أيضًا إلي حديث الغسّال بنظرة التَّقدير والاحترام."
وصلت مسيرة اللَّجنة حتَّي المعبد وتوقَّفت، وانتظر النَّاس سماع شلوك كا ورنن وقصة رامائن.
قال سندرلال بعد أَنْ سمع الفقرة الأخيرة: "لسنا في حاجةٍ إلي مثل حكم رام هذا، يا سيدي!"
"اصمت. مَنْ تكون أنت؟ اصمت." صاح فيه الحضور. فتقدَّم سندرلال قائلًا: "لَنْ يستطيع أحدٌ أَنْ يمنعني من الحديث."
تعالت الصَّيحات من هنا وهناك: "اصمت! لَنْ نسمح لك بالحديث،" وجاء صوتٌ من أحد الأركان: "سنقتلك."
قال نراين باوا بصوتٍ رقيقٍ للغاية: "أنت لا تفهم معاني الكتب المقدَّسة، يا سندرلال!"
قال سندرلال: "أنا أفهم شيئًا واحدًا، يا سيدي؛ يمكن أَنْ نسمع صوت الغسَّال لدي قصَّة حكم رام، ولكن ليس عند سندرلال."
أزاح نفس هؤلاء الناس الذين كانوا علي استعداد لضربه الآن من تحتهم ثمار الـ پيپل وجلسوا وهم يقولون: "اسمعوا، اسمعوا، اسمعوا."
دفع رسالو، ونيكي رام، سندرلال. وقال سندرلال: "كان السَّيِّد القائد رام معلِّمنا، ولكن ما معني أَنَّه يعتبر كلام الغسَّال صحيحًا، ولا يصدِّق كلام الملكة العظيمة سيتا؟!"
كان نراين باوا يخلِّل أصابعه في لحيته قائلًا: "لأَنَّ سيتا كانت زوجته، يا سندرلال! أنت لا تعرف مدلول هذا الكلام."
"نعم، يا سيِّدي." قال سندرلال: "أنا لا أفهم العديد من الأمور في هذه الدُّنيا، ولكنَّني أعتبر أَنَّ الحكم الصحيح هو ذلك الَّذي لا يظلم الإنسان فيه حتَّي نفسه، لأَنَّ ظلم النفس ذنبٌ يعادل ظلم الآخرين. اليوم أيضًا طرد رام سيتا من البيت لأَنَّها عاشت عند راون لفترةٍ، ولكنْ ما ذنب سيتا في هذا؟! أَلَمْ تقع هي الأخري فريسةً للمكر والخداع مثل الكثير من أُمَّهاتنا وأخواتنا؟ وهذا الذنب هَلْ هو ضعف سيتا أَمْ بربرية راون!! الَّذي له عشرة رؤوسٍ آدميَّةٍ، ولكنَّ أكبر رأسٍ رأسُ حمار! اليوم طردت سيتا البريئة من البيت. سيتا، لاجونتي..." وانخرط سندرلال في البكاء. ورفع رسالو ونيكي رام الرَّايات الحمراء الَّتي ألصق عليها تلاميذ المدرسة اليوم الشِّعارات بعنايةٍ. وبدأوا في المغادرة وهم يهتفون: "يحيا سندرلال بابو." قال واحد من المشاركين في المسيرة: "تحيا سيتا الخالدة." وجاء صوتٌ من ناحيةٍ أخري: "رام چندر."
وبعدها توالت الأصوات الكثيرة: "الصمت! الصمت!" وذهبت قصَّة نراين باوا التي استمرَّت شهورًا هباءً. وانضمَّ الكثير من النَّاس إلي المسيرة الَّتي كانت يتقدَّمها المحامي كالكا برشاد وحكم سنج، محرِّر "چوكي كلان"، وهمايضربان بالعصي علي الأرض ويطلقان أصواتٍ تنبيهيةً. وفي مكانٍ ما، بينهما، كان يمشي سندرلال. وكانت عيناه لا تزالان تدمعان، لقَدْ صدم قلبه اليوم صدمةً قاسيةً، بينما كان الآخرون يرفعون أصواتهم بالغناء في حماسٍ شديدٍ: "إنَّها كنبتة لاجونتي؛ إِنْ لمستها انكمشت."
كانت أصوات الغناء لا تزال تصل إلي أسماع النَّاس، ولَمْ يكن الصَّباح قَدْ أشرق بعد. وكانت العجوز الَّتي تسكن المنزل رقم (414) في حيِّ مُلَّا شكور مازالت تتململ في فراشها بألمٍ. إلي أَنْ جاء لال چند صديق سندرلال، والَّذي ساعده سندرلال وكالكا برشاد بعلاقاتهما في الحصول علي دكان التَّموين، مهرولًا يشير بردائه السميك في يده ويقول: "فليسعد سندرلال."
قال سندرلال، وهو يضع كوز العسل في حجر النَّرجيلة: "علامَ تهنِّئني يا لال چند؟"
"رأيت لاجو زوجتك."
سقط حجر النَّرجيلة من يد سندرلال، وسقط التمباكو المعسِّل علي الأرض، وأمسك سندرلال لال چند من كتفيه وهو يهزُّه و يسأله: "أين رأيتها؟"
"علي حدود واگه."
ترك سندرلال لال چند ولَمْ يقل سوي: "لابد أَنَّها واحدةٌ أخري."
قال لال چند، مؤكِّدًا: "لا، يا أخي، إِنَّها هي، لاجو."
سأله سندرلال وهو يتناول الدُّخان المعسِّل من علي الأرض، ويفركه في راحة يده: "وهل تعرفها؟" تناول حجر نرجيلة رسالو في نفس الوقت، وقال: "وما هي العلامة المميِّزة لها؟"
"خالٌ موجودٌ علي الذِّقن، وآخر علي الخَدِّ."
"نعم. نعم. نعم." وتابع سندرلال: "والثالث علي جبينها."
أراد أَلَّا يكون هناك أَيُّ شكٍّ، وبدأ يتذكَّر كُلَّ الشَّامات التي يعرفها علي جسدها جيدًا، والتي وشمت جسمها بها في الطُّفولة، وكانت تبدو كحبَّاتٍ ذات لونٍ أخضر خفيفٍ يشبه سيقان "ستِّ الحسن"، التي تنكمش عندما تمتد اليد إليها. بنفس الطَّريقة الَّتي كانت تستحي لاجونتي بها عندما تمتد يده شاماتها، ويشرد ذهنها، وتنكمش علي نفسها، وكأَنَّ كُلَّ أسرارها باتت معروفةً، وكأَنَّها أفلست بعد أَنْ سلب منها كنزها المكنون.
كأَنَّ سندرلال ألقي في نارٍ مقدَّسة لمحبَّةٍ مجهولةٍ وخوف غير معروفٍ. أمسك بـ لال چند مرَّة أخري وسأله: "كيف وصلت لاجو إلي واگه؟"
قال لال چند: "أَلَمْ يكن هناك تبادلٌ للنِّساء بين الهند وباكستان!"
"وماذا حدث بعدها؟" قال سندرلال وهو يجلس القرفصاء: "وماذا، وماذا بعد؟"
قال رسالو وهو يجلس علي سريره ويسعل كعادة مدخِّني النَّرجيلة: "هل جاءت لاجونتي حقيقةً؟"
واصل لال چند كلامه: "سلَّمت باكستان ستَّ عشرة امرأةً واستلمت بدلًا منهنَّ نفس العدد. ولكن حدث اختلافٌ حادٌّ. فقَدْ كان متطوِّعون منَّا يعترضون بأَنَّ النِّساء اللَّائي سلمونا إياهنَّ فيهنَّ العجوز، ومتوسِّطة العمر، والتي لا فائدة منها. وتجمَّع النَّاس علي هذا الخلاف. عندئذ عرض المتطوِّعون من الجانب الآخر لاجو قائلين: أتسمِّي هذه عجوزًا؟ انظروا، انظروا؛ هل بين النِّساء اللَّائي سلمتمونا مَنْ تعادل هذه؟ وكانت لاجو تخفي علامات الخال عن أنظار الجميع. ثُمَّ اشتدَّ الخلاف. وقرَّر كُلَّ طرفٍ استعادة بضاعته. فصرخت وبصوتٍ مرتفعٍ: يا لاجو. يا لاجو ، إِلَّا أَنَّ جنودنا ضربونا، وأخلوا المكان." وأظهر لال چند كوعه حيث أصابته عصا.
ظلَّ رسالو ونيكي رام جالسَين في صمتٍ، أَمَّا سندرلال فقَدْ بدأ ينظر بعيدًا، رُبَّما كان يفكِّر أجاءت لاجو أم لا؟ كان سندرلال يبدو كما لَوْ ضلّ في صحراء بيكانير، وعاد وجلس في ظلِّ شجرةٍ يلهث من العطش، ولا يستطيع حتَّي أَنْ يقول: "أعطوني ماءً."
لقَدْ شعر بأَنَّ التَّشدُّد والعنف الَّذي كان قبل التَّقسيم لا زال هو بعد التَّقسيم. فقط تغيرت الطَّريقة! الآن لَمْ يبق في النَّاس هذا التَّردُّد. عندما تسأل أحدٌ عن أَنَّ لهنا سنج وزوجة أخيه بنتو كانا يعيشان هنا، فسوف يجيب علي الفور: "ماتا." ثُمَّ يواصل سيره وكأَنَّه لا يعرف معني الموت. والأدهي من ذلك أَنَّ التُّجَّار بدأوا يتاجرون في الإنسان؛ لحمه ودمه، بكُلِّ اطمئنان. لقَدْ كان مَنْ يشتري البهائم يرفع فَكَّ الجاموسة أَو البقرة ليعرف عمرها من أسنانها. الآن بدأوا يعرضون النِّساء الشَّابَّات وجمالهنَّ وحسنهنَّ وأسرارهنَّ وعلاماتِ الخال لديهنَّ علي الملأ! لقَدْ سري التَّشدُّد والعنف إلي أوصال كُلِّ التُّجَّار. في البداية كانت البضائع تباع في السُّوق، وكان البائع والمشتري يضع كُلٌّ منهما يده في يد الآخر، ويضعان فوقها منديلًا ويتَّفقان بهذه الطريقة. وكأَنَّ الاتِّفاق علي السِّعر يتمُّ بإشارات الأصابع من تحت المنديل. ولأَنَّ هذا المنديل تمَّت إزاحته، ولأَنَّ البيع والشراء يتم علي الملأ، نسي النَّاس أصول التِّجارة. كُلُّ هذه التَّعاملات التِّجاريَّة والبيع والشِّراء تبدو من قصص الماضي، والتي كانت تباع النساء فيها بحريَّةٍ، عندما يأتي الثَّري ليقف أمام عددٍ كبيرٍ من النِّساء العرايا ويتحسَّس أجسادهنَّ، وعندما يضع إصبعه علي جسد امرأةٍ منهنَّ فإِنَّ إصبعه يترك أثرًا عميقًا ورديَّ اللَّون حوله حلقةٌ صفراء، ثُمَّ تسارع الحلقات الحمراء لتحلَّ محلَّ الحلقات الصَّفراء ويواصل الثريُّ تقدَّمه. والمرأة غير المقبولة تمسك رباط الإزار في حالةٍ من الانفعال والخزي، وتنخرط في البكاء، وهي تخفي وجهها عن النَّاس.
كان سندرلال يستعدُّ للذِّهاب إلي امرتسر الحدود عندما جاءه خبر وصول لاجو فجأةً، فارتبك. تقدَّم خطوةً علي الفور باتِّجاه الباب، ولكنَّه عاد للوراء مرَّةً ثانيةً. كان من قبل يودُّ أَنْ يغضب، وأَنْ يفرش كُلَّ أعلام اللَّجنة ومنشوراتها، ويجلس عليها ثُمَّ يبكي، ولكنْ لَمْ يكن يمكنه إظهار عواطفه بهذا الشَّكل. واجه هذا الصِّراع الدَّاخليَّ برجولةٍ، ثُمَّ اتَّخذ طريقة إلي "چوكي كلان" بخطيً متثاقلةٍ، حيث مكان تسليم النِّساء المخطوفات.
الآن كانت لاجو تقف أمامه، كانت ترتعد من خوفٍ ما بداخلها، إِنَّها تعرف سندرلال، ولَمْ يكن أحدٌ سواه يعرفها. في البداية كان يتعامل معها بتلك الطَّريقة السَّيِّئة. والآن بعد أَنْ قضت أَيَّامًا من حياتها مع رجلٍ آخر، تري ماذا سيفعل معها؟
نظر سندرلال إلي لاجو، كانت ملتحفةً بطرحةٍ ذات طرازٍ إسلاميٍّ خالصٍ، وقد ألقت بأحد طرفيها علي النَّاحية اليُسري ،علي سبيل العادة. كمجرد محاولةٍ للاندماج مع السيِّدات الأخريات والهرب من شبكة صيَّادها. كانت تفكِّر بشدَّةٍ في سندرلال، حتَّي أَنَّها لَمْ يخطر ببالها أَنْ تصلح من وضع الطَّرحة أَوْ تغيِّر ملابسها. كانت لا تعرف الفرق بين حضارة الهندوس وحضارة المسلمين، الفرق الأساسيَّ في وضع طرف الطَّرحة علي اليمين وعلي اليسار، وها هي تقف الآن أمام سندرلال ترتعد مفعمة بالأمل والخوف.
أصيب سندرلال بصدمةٍ. ورأي أَنَّ لون لاجونتي صار أجمل، وبدت له أكثر صحَّةٍ من قبل. لا، لقد امتلأ جسدها. لقَدْ كان كل ما ظنَّه عنها خاطئًا. ظنَّ أَنَّها أصبحت نحيفةً للغاية بسبب انغماسها في الحزن، وأَنَّها لَنْ تستطيع لضعفها الكلام وإِنْ أرادت. ولكنَّه صدم كثيرًا من فكرة أَنَّها كانت سعيدةً جدًّا في باكستان. ظلَّ صامتًا لأَنَّه أقسم أَنَّه سيظلُّ صامتًا. ولكنَّه لَمْ يستطع أَنْ يعرف، لو كانت سعيدةً إلي هذا الحدِّ، ما الذي جاء بها؟ وظَنَّ أَنَّها جاءت رغمًا عنها هنا، بضغطٍ من الحكومة الهنديَّة. ولكنَّه لَمْ يفهم شيئًا واحدًا؛ أَنَّ وجهها القمحيَّ كان يميل للاصفرار بسبب الحزن، وبسبب الحزن كان اللَّحم يفارق عظامها، وصارت أكثر بدانةٍ بسبب الحزن وإِنْ بدت بصحَّةٍ جيِّدةٍ. ولكنَّها تلك الصِّحَّة الَّتي تجعل أنفاسها تتسارع بشدَّةٍ لمجرَّد مشيها خطوتين.
لقَدْ كان أثر النَّظرة الأولي لوجه هذه المخطوفة عجيبًا. لكنَّه واجه هذه الأفكار كُلَّها برجولةٍ كبيرةٍ وإيجابيةٍ. كان هناك أناس كثيرون. قال أحدهم: "نحن لا نقبل من استعملها مسلمران."
ولكنَّ هذا الصَّوت غطَّت عليه هتافات رسالو، ونيكي رام، ومحرِّر "چوكي كلان" العجوز.
كان صوت كالكا برشاد الجهوريُّ المرتفع واضحًا من بين هذه الأصوات كُلِّها. كان يسعل ويتكلَّم أيضًا في نفس الوقت. لقد كان مقتنعًا بشدَّةٍ بحقيقة التَّطهُّر الجديدة. بدا وكأنه قرأ اليوم فيدا جديدًا وبران وشاستر أخري غير كتبهم. ويريد أَنْ يشرك الآخرين في معرفته الجديدة هذه.
كان سندرلال ولاجو متَّجهين إلي مقر إقامتهما، محاطين بأصوات كُلِّ هؤلاء النَّاس. بدا الأمر وكأن رام چندر وسيتا القدامي منذ آلاف السنين يتَّجهان إلي مقر إقامتهما في بعدٍ أخلاقيٍّ كبيرٍ. وبعض النَّاس يعبِّرون عن سعادتهم بحمل المشاعل، وآخرون يأسفون لإيذائهما هذه الفترة الطَّويلة.
واصل سندرلال بابو حماسه لبرنامج "أسكنوهن القلب" بعد وصول لاجونتي. وأثبت ذلك قولًا وفعلًا. واقتنع به أولئك الذين كانوا يرون في حديثه مجرَّد انفعالٍ وعاطفةٍ فقط. كانت هناك سعادة غامرة في قلوب كثير من النَّاس وأسفٌ في قلوب آخرين. كانت هناك كثير من النساء بالإضافة إلي الأرملة الَّتي تعيش في المنزل رقم (414) يتخوَّفن من الذِّهاب إلي بيت سندرلال رجل الخير. لكنَّ سندرلال لَمْ يكن يبالي باهتمام الآخرين أو عدم اهتمامهم. فقد عادت مالكة قلبه. وامتلأ الفراغ الذي أصاب هذا القلب. وقد نصب لها تمثالًا ذهبيًا في معبد قلبه. وكان هو نفسه يجلس علي باب هذا المعبد ليحميها. أَمَّا لاجو التي ظلَّت صامتةً منزويةً من الخوف، فقَدْ بدأت تتفتَّح وتتحدَّث تدريجيًّا عندما رأت هذا السُّلوك اللَّين غير المتوقع من "سندرلال".
والآن، لَمْ يعد سندرلال يناديها باسم لاجو، كان يناديها بـ القدِّيسة! كانت لاجو تشعر بسعادةٍ خفيَّةٍ غامرةٍ من ذلك، وكانت تتمنَّي أَنْ تقصَّ علي سندرلال كُلَّ ما حدث معها وتقصَّ حتَي تبكي بكاءً شديدًا يغسل كل أوجاعها، ولكنَّ سندرلال كان يتجنَّب سماع مثل هذه الأمور من لاجو.
وظلَّت لاجو منكمشةً إلي حدٍّ ما علي الرغم من انفتاحها هذا. وعندما ينام سندرلال كانت تنظر إليه، وعندما يكتشف ويسألها تجيبه: "هكذا، لا شيء." ثُمَّ يغلب سندرلال المتعب طوال النَّهار النُّعاس مرَّةً أخري. إلَّا أَنَّ سندرلال سأل لاجونتي ذات مرَّةٍ عن أَيَّامها السَّوداء، قائلًا: "مَنْ كان ذلك الشَّخص؟"
قالت لاجونتي وهي تنظر للأسفل: "جمَّان." ثُمَّ حدَّقت في وجه سندرلال وأرادت أَنْ تقول شيئًا، ولكنَّ سندرلال كان ينظر إلي وجه لاجونتي نظراتٍ عجيبةً، وهو يمرِّر يديه علي شعرها. فنظرت لاجونتي إلي أسفلٍ مرَّةً أخري، وسألها سندرلال: "هَلْ كان يعاملك معاملةً حسنةً؟"
"نعم."
"أَلَمْ يكنْ يضربك؟"
قالت لاجونتي وهي تضع رأسها علي صدر سندرلال: "لا. لَمْ يكن يضربني، ولكنِّي كنت أخاف منه كثيرًا. أنت كنت تضربني، ولكنِّي لَمْ أكن أخاف منك. أَلَنْ تضربني بعد الآن؟!"
اغرورقت عينا سندرلال بالدُّموع، وقال بندمٍ وأسفٍ: "كلَّا، يا قدِّيسةٌ. لَنْ يحدث أبدًا. لَنْ أضربك."
فكَّرت لاجونتي في كلمة "قدِّيسة"، وانخرطت في البكاء. ثُمَّ أرادت لاجونتي أَنْ تقصَّ عليه كُلَّ شيءٍ، ولكنَّ سندرلال قال: "دعك من هذا الماضي! ما ذنبك في هذا؟ الذَّنب ذنب مجتمعنا الَّذي لا يعطي القدِّيسات أمثالك مكانةً التَّكريم، إِنَّه لا يؤذيك، بَلْ يؤذي نفسه."
وبقي ما في قلب لاجونتي كما هو. فلَمْ تستطع أَنْ تقول كُلَّ شيءٍ، وظلَّت صامتةً منزويةً. تنظر إلي جسمها الَّذي صار بعد التَّقسيم جسم قدَّيسة! لَمْ يعد بدن لاجونتي. كانت سعيدةً للغاية، غارقةً في سعادةٍ فيها مسحةٌ من الشكِّ والرِّيبة. وكانت تنتفض فجأةً من نومها وتجلس، وكأَنَّها، وهي في ذروة سعادتها، تناهي إلي سمعها صوت أقدامٍ تقترب.
عندما مضت أيَّام كثيرةٌ علي ذلك حلَّ الشَّكُّ التَّامُّ مكان السَّعادة، ليس لأَنَّ سندرلال بدأ يعاملها معاملةً سيِّئةً مرَّةً أخري، بل لأَنَّه بدأ يتعامل معها معاملةً طيِّبة لسلغاية وسلوكًا لَمْ تتوقَّعه منه. كانت تريد أَنْ تصبح لاجو القديمة مرَّةً أخري، التي كانت تتشاجر بسبب جزَرة، وتتصالح بفِجلة. لكن الآن لا يحدث شجارٌ أبدًا. لقَدْ أشعرها سندرلال وكأَنَّها شيءٌ مصنوع من الخزف بمجرَّد أَنْ تلمسه سينكسر.
أَمَّا لاجو، فكانت تنظر إلي نفسها في المرآة، وتصل في النِّهاية إلي نتيجةٍ أَنَّها يمكن أَنْ تكون أَيَّ شيءٍ ولكنَّها ليست لاجو!! لقَدْ سكنت عُشَّها، لكنَّها تحطَّمت. لَمْ تكن لدي سندرلال أعينٌ لتري دموعها ولا آذانٌ لتسمع أنّاتها! وظلَّت مسيرات الصَّباح تخرج كما كانت، وظلَّ مُصلح حيِّ مُلَّا شكور يغنِّي بنفس الصَّوت مع رسالوو نيكي رام: "إنَّها كنبتة لاجونتي، إذا لمستها انكمشت!"