نقوس المهدي
كاتب
إن الحرب شبيهة بالحُب.. فتنحوا أيها الكسالى!
1
ما الحُب ؟ يتساءل شكسبير في مسرحيته الشهيرة، خاب سعي العشاق ، لم يكن الشاعر الكبير أول مَن تساءل ، فقبله بألف وخمسمئة عام خرج علينا شاعر روماني " اوفيد " بثلاثية شعرية مكرسة بالكامل لمفهوم الحب : " مراثي الحب وعلم الحب ودواء الحب " ، وقد جمعها المترجم الراحل ثروت عكاشة في مجلد واحد اسماه " فـن الهوى " ، ونجد الحب عند اوفيد ليس مجرد زينة الحياة كما كتب الفيلسوف ابيقور ، بل هو الحياة كلها ، فبالنسبة له ، ليس هناك حياة كاملة من دون حب ومن دون معاناة الحب الدائمة.
ونجد هذا الدفاع عن الحب في قصيدته " مراثي الحب " حيث تحوي القصيدة على أوصاف اللقاءات الغرامية ومسرات الحب المتبادل والخلافات والخيانات وانتصارات الحب وهزائمه . الحب بالنسبة لأوفيد ليس مجرد لعبة ، بل وفي الوقت نفسه موضوع هموم وجهود كبيرة ، وليس من قبيل المصادفة ان يقارن اوفيد الحب بالخدمة العسكرية والمحب بالمحارب : " ان كل محب هو جندي " ويعالج اوفيد بالتفصيل هذه المقارنة . فكلاهما الجندي والعاشق يتحملان فريضة قاسية ، كلاهما ساهر تحت الحراسة – الاول في المعسكر والثاني على ابواب محبوبته ، ينامان على الارض وكلاهما على سير ويقومان بالحصار ،إن الحب هو فريضة قاسية ، لا يضمن الفوز فيه إلا مَن يخدمه بمثابرة وصبر، ونجد في فن الهوى الاستراتيجية التي يضعها اوفيد لممارسة الحب ، وهي استراتيجية معقدة وتتطلب معرفة وجهداً ، فالجمال وحده غير كافٍ للحب المتبادل . فالعاشق او المحب عليه ان يكون لبقاً راقيا لطيفا متساهلا ومهيئا لجميع الصعوبات التي يجلبها الحب ، وهنا يستخدم اوفيد ثانية تشبيه الحب بفن الحرب :" ان الخدمة العسكرية شبيه بالحب ..فتنحوا ايها الكسالى ! " فالنصر هو وحده المهم في الحب ، ومن اجل تحقيقه يمكن استخدام جميع الوسائل: كالتملق والمداراة والخداع الكاذب.
ان اوفيبد يبحث في الحب عن الرضا المتبادل بين الرجل والمرأة ، وهو يحاول في كتبه ان يعطينا وصفا اكثر جدية وربما اكثر درامية لقصص الحب المختلفة ، ولهذا دخل اوفيد تاريخ الادب العالمي ، ليس باعتباره واعظا في الاخلاق ، بل باعتباره منشد الحب الحسي ، وقد جذبت لغته الرقيقة والساخرة الكاتب الروسي ليف تولستوي الذي اطلع في اثناء اقامته في باريس على نسخة من الترجمة الفرنسية لكتاب اوفيد عن الحب ، وقد اصبح فيما بعد من أشد المعجبين به ، بل أنه كتب في يومياته : " ياللهجته الساخرة ، المفعمة بالمشاعر ، اوفيد ليس واعظا ، وانما حكيم بأحاسيس البشر " .
************
انواع الحب
كان في التاسعة عشرة من عمره حين كتب في دفتر يومياته :" ان صحبة النساء ضرورة كريهة من ضرورات الحياة ، لهذا اتمنى ان ابتعد عنهن ما امكنني ذلك ، من يجعلنا نفقد مزايانا الطبيعية ، الشجاعة ، والحزم ، والعقل غير النساء " ، بعد ان ينتهى من كتابة هذه الكلمات يشعر بخيبة أمل تتمكن منه ، كان قد صمم ان يعيش في يسنايا بولينا مع عمته ، يقرأ ويتأمل ، لكنه لم يستطع ان يبعد تفكيره في النساء ، فقد أسرته فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها " زينا مولوستفوف " دون ان يجرؤ بان يبوح لها بحبه وقد كتب في يومياته :" أمن الممكن ألا اعود فأراها ابداً ؟ أمن الممكن ان اسمع في يوم ما انها تزوجت ، ام هل اراها ثانية وذلك اكثر مدعاة الى الحزن بقبعتها سعيدة ، بنفس عينيها المفتوحتين المرحتين و العاشقتين ؟ " .
بعدها بعام ، سنة 1848 يكتب تولستوي رسالة الى شقيقه الاكبر :" كانت زينا ، كما علمت فيما بعد احدى اولئك الفتيات النادرات ، وان كنَّ قد ولدن للحياة العائلية ، ونتيجة لذلك يصممن على اغداق كل كنز الحب الذي يختزنّه في قلوبهن على أحبائهن المختارين ، والمحزن انني لم اكن يوما من بين جميع الناس الذين أثاروا إهتمامها "
بعدها يقرر ان ينشر مقالة ادبية يضع فيها مفهومه للحب فيكتب : " هناك ثلاثة انواع من الحب :
1- حب الجمال و حب التضحية بالذات والحب الذاتي ، ولا اتحدث عن حب شاب لفتاة أو حبها له ، فأنا اخاف هذه العواطف ، وقد كنت سيء الحظ للغاية في هذه الحياة من حيث اني فشلت في ان اشهد شرارة واحدة من الصدق في هذا النوع من الحب ، انني اتحدث عن الحب الموجه للجنس البشري الذي يتركز وفقا لقوة الروح شدة وضعفا على شخص واحد او على اشخاص عديدين ، او ينهمر على الكثيرين ، وينطوي حب الجمال على حب العاطفة نفسها والافصاح عنها ، لأن الناس الذين يحبون على هذا الوجه يكون هدفهم اثارة محبوبهم ، ذلك الشعور السار في الوجدان الذي يلذ لهم التعبير عنه ، والناس الذين يحبون مع حب الجمال لا يهتمون الا قليلا جدا بالمبادلة الا بوصفها شيئا لا اثر له ، وكثيرا ما يغيرون اهداف حبهم ، اذا ان غرضهم الاساسي ليس الا استثارة شعورهم السار بالحب . للمحافظة على هذا الاحساس السار في نفوسهم يتحدثون دون انقطاع عن عاطفتهم بألطف العبارات ، وعن الشخص المقصود بهذا الحب " .
في تلك الفترة يتفرغ تولستوي للقراءة ونجده في يومياته يدوّن الملاحظات حول المواضيع التي اثارت اعجابه : اعترافات جان جاك روسو ، اوجين اونغين لبوشكين ، اللصوص لشيلر ومعطف غوغول وحكايات صياد لتورجنيف ، ودايفيد كوبر فيلد لديكنز والتي كتب عنها انها اثارت لديه انطباعات عظيمة .وتبين اليوميات التي كتبها اثناء هذه الفترة ، انه أبدى اهتماما خاصاً بالادب الرومانسي وبخاصة الادب الفرنسي واشعار اوفيد وقد كان هذا الادب بالنسبة له يعني التحرر من المحظورات الاجتماعية وطريقا الى الحرية الادبية ، ولهذا نجده يبدأ منذ كتابة قصص الاولى القوزاق باضفاء هالة من القداسة على الحب ، وكانت اكثر مواضيع ابداعه تختلط باستمرار بوصف مفاتن المراة : " ان حب الجمال هو حب الحرية " ، ونجده بعد سنوات يكتب تحليلا نقديا مفصلا لنظريات الحب التي كانت منتشرة في الغرب انذاك ، فتولستوي يرى ان الحب ذو طابع فريد بصورة استثنائية .والحب هو القوة الوحيدة القادرة حسب راي تولستوي على لجم الانانية المفرطة ، دون ان يحذف السمات الفردية ، بل على العكس ينميها ويتفهمها ولهذا فان مغزى الحب البشري حسب رأي تولستوي هو تبرير وحماية النزعة الفردية من خلال التضحية بالانانية وهذا يحدث لانه عن طريق الحب نخن نؤكد الاهمية المطلقة للفرد ، والحب هو الغاء كامل للانانية ، انه نقل اهتمامنا من الذات الى الآخر ومن هنا تاتي قوة الحب الكبرى التي تلغي الانانية وتبعث الفرد وتسمو به نحو روحية جديدة .
************
الوقوع في الحُب
من المألوف ان يقال ان فلاناً وقع في الحب ، لان معظم العشاق يرتسم على وجوههم الذهول والحيرة والارتباك .
كم من الرجال والنساء أحبوا بععضهم البعض في كل الحقب والعصور التي سبقت تولستوي وسبقتنا ، كم من احلامهم تحققت وما قدر ما أهدر من عواطفهم وهواهم ، عادة ونحن نقرأ مؤلفات تولستوي او بلزاك او موباسان او تورجنيف ، نتساءل عن كل علاقات الحب الممزقة للقلوب تلك التي طرحها هؤلاء الكتّاب ، وهم يتركون لنا كل هذا الكم الهائل من الادلة التي تشير الى حياتهم العاطفية .
في 13 ايلول عام 1862 ، كتب تولستوي في يومياته :" انا احب حباً ، لم احبه في حياتي من قبل ، انا مجنون وسأطلق الرصاص على نفسي اذا سارت الامور على ما هي عليه ، لا يمكن وقف عواطفي نحوها " ، وفي اليوم التالي كتب " كل يوم يمر اعتقد فيه اني لن احتمل المزيد من شعوري بالسعادة ، سأذهب في الغـد اليهم وسأصارح لهم بكل شيء وإلا فإني أنتحر ؟ " .
كانت هي الابنة الثانية لعائلة يعرفها ويتردد عليهم دوما ونراها تكتب في يومياتها في 23 آب 1862 :" اني خائفة لو دلت تلك التجربة على رغبة خاطفة في الحب وليست حباً دائماً " .
كان هو حذراً في مسألة الحب والزواج وكان يعتقد ان الارتباط بامرأة مدى العمر شيء رهيب ، كانت علاقاته الاولى مع نساء كثيرات لا تتعدى اياما وتنتهي باستثناء علاقته بامرأة ريفية تدعى " اكسينيا " اثرت عليه تأثيرا كبيرا دامت علاقاته بها مدة طويلة ، وقد كتب عنها فيما بعد قصة الشيطان التي يروي فيها حكاية انسان يخضع لعبودية جسده ، لكنه وجد نفسه في أشد الحاجة الى امرأة ، وجعل يفكر في زوجته المستقبلية وقد اشترط فيها شروطا خاصة الى ان وقع في حب سونيا ونراه يكتب في يومياته 23 آب 1863 :" اني خائف ، ماذا لو دلت تلك التجربة على رغبة خاطفة في الحياة ، وليست حباً حقيقياً دائماً " لكنه عاد ليكتب في ايلول من نفس العام : لا اعتقد ان مستقبل حياتي مع زوحة يضارع ما يبدو لي الان مع سونيا .. المستقبل السعيد الهادىء الخالي من المخاوف " .
كانت سونيا الابنه الوسط لطبيب الماني الاصل " بيرز " يعمل في بلاط القيصر ، تزوج من الانسة ليوبونوف ابنة احد ملاك الاراضي ، كانت اول زيارة لتولستوي لعائلة الطبيب الالماني سنة 1856 ، في تلك الفترة كان قد انتهى من كتابة قصص من سيبستول وكانت سونيا واخواتها يشعرن بسعادة حين يقوم تولستوي بقراءة الاجزاء الاولى من قصة عهد الطفولة ، ونراه يعجب بالفتيات ويقول لاخته انه لو تزوج يوما فستكون عروسه من عائلة الدكتور بيرز ، وكانت الاخت تعتقد ان الابنة الكبرى ليزا خير من تصلح عروس لشقيقها الكاتب ، لكنه يخبر شقيقته انه لايحبها ونراه يكتب في يومياته :" ليزا تغريني ، لكني لن ادع ذلك يحدث ، فان مجرد الإغراء الذي لا يصحبه اي شعور ما غير مجدٍ " .فقد احسّ ان سونيا الأقرب الى قلبه ن وذات يوم تقترب منه على استحياء لتطلب منه ان يرقص معها فيجيبها بابتسامة :" اني اليوم اكبر سناً من ان افعل ذلك " . ونراها تكتب في مذكراتها ان الكونت تولستوي رفض الرقص لكنه طلب منها طلبا غريبا " ان أغني ولما كان ذلك آخر ما كنت ارغب فيه فقد هربت الى غرفتي " . يكتب في يومياته : لقد بقيت يومين افكر على انفراد في امر سونيا .. وقلت لنفسي لا تدفع نفسك حيث الشباب والجمال والشعر والحب ، فان لهذه ايها الشيخ من هم اصغر منك ، ان موضوعك في صومعة من صومعات العمل ، لقد عشت في هذه الصومعة وسأعود اليها " .
ويكتب بعد ايام " : لقد سطّرت خطاباً سوف أرسله اليها في الغد ، ياإلهي أمنحني القوة ، أخاف ان أموت ، فان مثل هذه السعادة تبدو مستحيلة "
وذهب في مساء اليوم التالي وفي جيبه الخطاب الذي أعدّه ووجد سونيا جالسة مع شقيقاتها ، انتظر ساعات حتى انسحبت الشقيقتان فمد يده الى سونيا بالخطاب قائلا : انه ينتظر ردّها ، فذهبت مسرعة الى غرفتها لتقرأ : " اي سونيا أصبح الأمر لا يُطاق ، لقد ظللت أقول لنفسي طيلة الاسابيع الماضية انني سأبوح الان ، ومع ذلك كنت اشعر بالحرج ، وكنت اخرج من البيت حزينا ساخطا على نفسي أسأل ما عساي ان اقول لو انني تكلمت ..لكن اذا كنتِ تحسين نحوي بأي عاطفة فأرجوكِ ان توافقي على ان تكوني زوجة لي ، ولكن اذا كنت تحسين ادنى شك فقولي لا ، ناشدتك الله ان تفكري ملياً في الأمر " .
وقفت سونيا جامدة وفي يدها الخطاب ، وعندما شاهدتها شقيقتها الكبرى على هذه الحال صرخت :" اخبريني ماذا بك ؟ فقالت بهدوء : ان الكونت طلب يدي ، فصرخت الاخت قائلة : ارفضيه ، كان تولستوي خلال هذه الفترة ينتظر والقلق قد سيطر عليه يحاول ان يسترق السمع على ما يجري داخل الغرفة الى ان سمع وقع أقدام حيث خرجت سونيا لتقول له جملة واحدة :" نعم .. ثم دخلت مسرعة الى غرفتها .
************
الغيرة القاتلة
كانت اول كلمة كتبها تولستوي في يومياته بعد الزواج قوله :" حظ من السعادة لا يُصدَّق " ، لكن هذه السعادة لم تدم طويلا اذ سرعان ما كدّر صفوها الغيرة ، فنجد سونيا تكتب في مذكراتها ": ان ماضي زوجي كله مخيف حتى انني لا اعتقد اني سوف أقبله " ثم تكتب بعد ايام :" إن زوجي مريض ، معتل المزاج وليس يحبني ، إنه يفترُ يوما في حين اني ازداد له حباً وانه يعتقد اني لا أحبه " .، وفي يومياتها هناك غيرة واضحة من بطلات رواياته فتكتب لتصف شعورها :" لقد قرأت اوائل بعض كتبه ، وكنت اشمئز واضيق كلما قرأت له شيئا عن الحب والنساء "
كانت سونيا تتنقل في قراءة أعمال زوجها ، ولم يكن يخامرها ألشك بأنه كان يحاول ان يرسم صورة للمرأة الحقيقية التي في مخيلته ، كان تولستوي من جانبه قد وجد مفهوما جديدا للحب عند الالماني شوبنهور ففي تلك السنوات تفرغ لقراءة الفلسفة وأُعجب اعجاباً شديداً بكتاب شوبنهور " العالم ارادة وتمثلا " والذي يفند فيه شوبنهور جميع مبادىء الحب الرومانسي ، وهو يعتقد ان جميع الشعراء والكتّاب الرومانسيين قد أخطأوا في سعيهم الى امثلة الحب من حيث هو الشهوة الانسانية ، فمثل هذا الرأي يُعد وهماً مطلقاً ، اما الحقبقة فهي ان الحب هو انعكاس لإرادة عمياء في الحياة وغريزة لاعقلانية لاستمرار النوع البشري.
ونجد تولستوي يعلق على ما كتبه شوبنهور فيكتب في يومياته :" لقد ايقنت ان جميع الاحلام والآلام الغرامية للعاشقين ليست سوى رقاقة رومانسية تخفي شيئا واحدا هو الغريزة الجنسية القاهرة " .
ويحاول ان يطبق نظرية شوبنهور في عمله الملحمي الكبير الحرب والسلام فيضع على لسان اندريه هذه الكلمات :" لا تتزوج ياصديقي العزيز ، هذه نصيحتي لك ، لا تتزوج الى ان تقنع نفسك بانك قمت بكل ما تقوى عليه ، وحتى تكون قد هدأت ثورة حبك للمرأة ، فيمكنك رؤيتها على حقيقتها " .
يكتب شوبنهور في العالم ارادة وتمثلا :" الانسان يخدع نفسه لاعتقاده بانه في الحب يخدم عواطفه وشهواته السامية ، انما يخدع نفسه بنفسه ، لان الحب ليس عاطفة فردية ، بل عاطفة جنسية بشرية ، انه نداء مجهول وقاهر ، علينا ان نتريث قبل ان نلبي نداءه " .
************
الحب نقمة ونعمة
في 1873 بدأ تولستوي روايته الشهيرة " آنا كارنينا "، عزل نفسه في مكتبه في ياسنايا بوليانا، يقرأ وبدأ يدوِّن الملاحظات ، من جانبها تكتب زوجته سونيا في يومياتها : "قال لي البارحة مساء أن قد ظهر له نموذج امرأة متزوجة، من الطبقة الارستقراطية. ضلّت سبيلها ، إن مهمته تنحصر في عَرض هذه المرأة على أنها جديرة بالعطف وليست مذنبة "
كان قد تذكر حادثة اثرت فيه كثيرا ، حكاية جاره بيبيكوف الذي يعيش مع امرأة أسمها آنا ستيبانوفنا ، امرأة في اوج شبابها ، لكنه اهملها بعد ذلك من اجل مربية اولاده الالمانية. وكان يفكر بالزواج من الشقراء فريولين. فهمت خيانته، غيرة ستيبانوفنا فاقت كل الحدود ، قررت الهرب ، عاشت بجنون وكآبة. ثم القت بنفسها تحت قطار لنقل البضائع . قبل ان تموت ارسلت رسالة الى بيبيكوف : " انت من قتلني، كن سعيداً, ، أذا كان يمكن لقاتل ان يكون سعيداً، أن احببت, تستطيع ان ترى جثتي على القضبان" ، في اليوم التالي ذهب تولستوي الى المحطة كمتفرج ، تخيل وجود تلك المرأة المسكينة التي اعطت كل شيء من اجل الحب ، فقط لتلتقي بهذه الميتة المبتذلة والحقيرة.
يكتب تولستوي ان " الحب نقمة ونعمة. الحب قوة متطرفة في الانسان, مثل العبقرية , الغضب الصلابة أو الثروة. وبالنسبة لــ آنا كان من الافضل لو لم تقع في حب فرونسكي. " . لانها اعطت كل شيء ، من اجل فرصة في الحب.
ينتهي من مسودة الرواية عام 1875 ليرسلها إلى صديقه ستراكوف: "إنها رواية حية، مثيرة، تامة، أنا راضٍ عنها، وستكون جاهزة قريبا". وطلب إلى ستراكوف أن يتولى تصحيح التجارب المطبعية!. وظهر الكتاب عام 1878 ، في نحو ألف صفحة.
************
فات الآوان
كان تولستوي قد قرأ من قبل مدام بوفاري لفلوبير وقد نشرت متسلسلة ، ونتعرف من يومياته ان موضوع الخيانة قد شغل باله منذ زمن طويل ، لكنه يجد ان الكاتب الفرنسي كان قاسيا مع بطلته فقد طاردها بمشاعر متجمدة ومتواصلة بلا رحمة ، ويتساءل تولستوي لماذا أصر فلوبير على ان تحيا مدام بوفاري حياة خالية وهمية ، ونجد تولستوي برغم اعجابه الشديد بالرواية فانه ياخذ على المؤلف ان حاول ان يعكس الكثير من طباعه على " ايما بوفاري " .
يتحدث دستويفسكي عن انا كارنينا باعجاب شديد :" لقد دشن تولستوي مفهموما جديدا لادانة الظلم في آنا كارنينا " . وفي رسالة بعثها فلوبير الى تورجنيف عام 1880 يتحدث عن تولستوي وروايته الجديدة :" ياله من فنان ، وياله من نفساني " .
في الرواية نجد تصمم آنا على هجر زوجها وابنها لتقيم مع عشيقها بعد صراع نفسي طويل. إنها أعظم صدقاً واستقامة من أن تقبل بوضعها الملتبس، وأعظم حساسية من أن تكبت شعورها الفاجع بدورها كامرأة ينبذها المجتمع لأنها تصرّفت بصراحة، هذا المجتمع الراقي الذي تنتمي إليه والذي يغْتفر أشد المواقف زيفاً إذا ظلّت مخبّأة، وإذا راعت القاعدة الاجتماعية. إن آنا التي لا تطيق الرياء، تكره الكذب وتتحدّى المجتمع. بيد أن المجتمع لا يغفر لها، ففي المساء الذي قصدت فيه المسرح، أشعرها معارُفها بذلك على نحوٍ قاس. وهكذا فإنها ترى نفسها مَدينة، دانَها عالم ليس أهلاً "للحكم عليها". العدل الإلهي وحده، يستطيع في عرف تولستوي، أن يُنزل بها عقابه لأنها هجرت زوجها وابنها. وبهذا المعنى ينبغي أن نفهم تلك العبارة المعمّاة التي صدّر بها روايته." لي النقمة انا أجازي".
ولقد قرأها تولستوي في نص لشوبنهاور بالألمانية.
************
في الخامس من شباط 1893، تذهب سونيا مع وزوجها إلى رحلة صيد فتكتب في يومياتها : " كان يقف خلف إحدى الأشجار.. وسألته لماذا لم يعد يكتب. طأطأ رأسه وتطلّع حوله بطريقة أقرب إلى الكوميديّا وقال: لا أحد يستطيع سماعنا عدا هذه الأشجار، كما أعتقد يا عزيزتي - كان ينادي كل شخص يا عزيزي حينما تقدّم به العمر -، لذا سأخبرك بأنني قبل أن أكتب أي شيء جديد، أحتاج أن التهب بالحب، وهذا ما انتهى الآن. ( يا للعيب ) قلت مضيفة بروح النكتة، يمكنك أن تقع في حبي، إن أحببت لكي تستطيع أن تكتب شيئا ما. قال: (كلا، لقد فات الأوان )".
1
ما الحُب ؟ يتساءل شكسبير في مسرحيته الشهيرة، خاب سعي العشاق ، لم يكن الشاعر الكبير أول مَن تساءل ، فقبله بألف وخمسمئة عام خرج علينا شاعر روماني " اوفيد " بثلاثية شعرية مكرسة بالكامل لمفهوم الحب : " مراثي الحب وعلم الحب ودواء الحب " ، وقد جمعها المترجم الراحل ثروت عكاشة في مجلد واحد اسماه " فـن الهوى " ، ونجد الحب عند اوفيد ليس مجرد زينة الحياة كما كتب الفيلسوف ابيقور ، بل هو الحياة كلها ، فبالنسبة له ، ليس هناك حياة كاملة من دون حب ومن دون معاناة الحب الدائمة.
ونجد هذا الدفاع عن الحب في قصيدته " مراثي الحب " حيث تحوي القصيدة على أوصاف اللقاءات الغرامية ومسرات الحب المتبادل والخلافات والخيانات وانتصارات الحب وهزائمه . الحب بالنسبة لأوفيد ليس مجرد لعبة ، بل وفي الوقت نفسه موضوع هموم وجهود كبيرة ، وليس من قبيل المصادفة ان يقارن اوفيد الحب بالخدمة العسكرية والمحب بالمحارب : " ان كل محب هو جندي " ويعالج اوفيد بالتفصيل هذه المقارنة . فكلاهما الجندي والعاشق يتحملان فريضة قاسية ، كلاهما ساهر تحت الحراسة – الاول في المعسكر والثاني على ابواب محبوبته ، ينامان على الارض وكلاهما على سير ويقومان بالحصار ،إن الحب هو فريضة قاسية ، لا يضمن الفوز فيه إلا مَن يخدمه بمثابرة وصبر، ونجد في فن الهوى الاستراتيجية التي يضعها اوفيد لممارسة الحب ، وهي استراتيجية معقدة وتتطلب معرفة وجهداً ، فالجمال وحده غير كافٍ للحب المتبادل . فالعاشق او المحب عليه ان يكون لبقاً راقيا لطيفا متساهلا ومهيئا لجميع الصعوبات التي يجلبها الحب ، وهنا يستخدم اوفيد ثانية تشبيه الحب بفن الحرب :" ان الخدمة العسكرية شبيه بالحب ..فتنحوا ايها الكسالى ! " فالنصر هو وحده المهم في الحب ، ومن اجل تحقيقه يمكن استخدام جميع الوسائل: كالتملق والمداراة والخداع الكاذب.
ان اوفيبد يبحث في الحب عن الرضا المتبادل بين الرجل والمرأة ، وهو يحاول في كتبه ان يعطينا وصفا اكثر جدية وربما اكثر درامية لقصص الحب المختلفة ، ولهذا دخل اوفيد تاريخ الادب العالمي ، ليس باعتباره واعظا في الاخلاق ، بل باعتباره منشد الحب الحسي ، وقد جذبت لغته الرقيقة والساخرة الكاتب الروسي ليف تولستوي الذي اطلع في اثناء اقامته في باريس على نسخة من الترجمة الفرنسية لكتاب اوفيد عن الحب ، وقد اصبح فيما بعد من أشد المعجبين به ، بل أنه كتب في يومياته : " ياللهجته الساخرة ، المفعمة بالمشاعر ، اوفيد ليس واعظا ، وانما حكيم بأحاسيس البشر " .
************
انواع الحب
كان في التاسعة عشرة من عمره حين كتب في دفتر يومياته :" ان صحبة النساء ضرورة كريهة من ضرورات الحياة ، لهذا اتمنى ان ابتعد عنهن ما امكنني ذلك ، من يجعلنا نفقد مزايانا الطبيعية ، الشجاعة ، والحزم ، والعقل غير النساء " ، بعد ان ينتهى من كتابة هذه الكلمات يشعر بخيبة أمل تتمكن منه ، كان قد صمم ان يعيش في يسنايا بولينا مع عمته ، يقرأ ويتأمل ، لكنه لم يستطع ان يبعد تفكيره في النساء ، فقد أسرته فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها " زينا مولوستفوف " دون ان يجرؤ بان يبوح لها بحبه وقد كتب في يومياته :" أمن الممكن ألا اعود فأراها ابداً ؟ أمن الممكن ان اسمع في يوم ما انها تزوجت ، ام هل اراها ثانية وذلك اكثر مدعاة الى الحزن بقبعتها سعيدة ، بنفس عينيها المفتوحتين المرحتين و العاشقتين ؟ " .
بعدها بعام ، سنة 1848 يكتب تولستوي رسالة الى شقيقه الاكبر :" كانت زينا ، كما علمت فيما بعد احدى اولئك الفتيات النادرات ، وان كنَّ قد ولدن للحياة العائلية ، ونتيجة لذلك يصممن على اغداق كل كنز الحب الذي يختزنّه في قلوبهن على أحبائهن المختارين ، والمحزن انني لم اكن يوما من بين جميع الناس الذين أثاروا إهتمامها "
بعدها يقرر ان ينشر مقالة ادبية يضع فيها مفهومه للحب فيكتب : " هناك ثلاثة انواع من الحب :
1- حب الجمال و حب التضحية بالذات والحب الذاتي ، ولا اتحدث عن حب شاب لفتاة أو حبها له ، فأنا اخاف هذه العواطف ، وقد كنت سيء الحظ للغاية في هذه الحياة من حيث اني فشلت في ان اشهد شرارة واحدة من الصدق في هذا النوع من الحب ، انني اتحدث عن الحب الموجه للجنس البشري الذي يتركز وفقا لقوة الروح شدة وضعفا على شخص واحد او على اشخاص عديدين ، او ينهمر على الكثيرين ، وينطوي حب الجمال على حب العاطفة نفسها والافصاح عنها ، لأن الناس الذين يحبون على هذا الوجه يكون هدفهم اثارة محبوبهم ، ذلك الشعور السار في الوجدان الذي يلذ لهم التعبير عنه ، والناس الذين يحبون مع حب الجمال لا يهتمون الا قليلا جدا بالمبادلة الا بوصفها شيئا لا اثر له ، وكثيرا ما يغيرون اهداف حبهم ، اذا ان غرضهم الاساسي ليس الا استثارة شعورهم السار بالحب . للمحافظة على هذا الاحساس السار في نفوسهم يتحدثون دون انقطاع عن عاطفتهم بألطف العبارات ، وعن الشخص المقصود بهذا الحب " .
في تلك الفترة يتفرغ تولستوي للقراءة ونجده في يومياته يدوّن الملاحظات حول المواضيع التي اثارت اعجابه : اعترافات جان جاك روسو ، اوجين اونغين لبوشكين ، اللصوص لشيلر ومعطف غوغول وحكايات صياد لتورجنيف ، ودايفيد كوبر فيلد لديكنز والتي كتب عنها انها اثارت لديه انطباعات عظيمة .وتبين اليوميات التي كتبها اثناء هذه الفترة ، انه أبدى اهتماما خاصاً بالادب الرومانسي وبخاصة الادب الفرنسي واشعار اوفيد وقد كان هذا الادب بالنسبة له يعني التحرر من المحظورات الاجتماعية وطريقا الى الحرية الادبية ، ولهذا نجده يبدأ منذ كتابة قصص الاولى القوزاق باضفاء هالة من القداسة على الحب ، وكانت اكثر مواضيع ابداعه تختلط باستمرار بوصف مفاتن المراة : " ان حب الجمال هو حب الحرية " ، ونجده بعد سنوات يكتب تحليلا نقديا مفصلا لنظريات الحب التي كانت منتشرة في الغرب انذاك ، فتولستوي يرى ان الحب ذو طابع فريد بصورة استثنائية .والحب هو القوة الوحيدة القادرة حسب راي تولستوي على لجم الانانية المفرطة ، دون ان يحذف السمات الفردية ، بل على العكس ينميها ويتفهمها ولهذا فان مغزى الحب البشري حسب رأي تولستوي هو تبرير وحماية النزعة الفردية من خلال التضحية بالانانية وهذا يحدث لانه عن طريق الحب نخن نؤكد الاهمية المطلقة للفرد ، والحب هو الغاء كامل للانانية ، انه نقل اهتمامنا من الذات الى الآخر ومن هنا تاتي قوة الحب الكبرى التي تلغي الانانية وتبعث الفرد وتسمو به نحو روحية جديدة .
************
الوقوع في الحُب
من المألوف ان يقال ان فلاناً وقع في الحب ، لان معظم العشاق يرتسم على وجوههم الذهول والحيرة والارتباك .
كم من الرجال والنساء أحبوا بععضهم البعض في كل الحقب والعصور التي سبقت تولستوي وسبقتنا ، كم من احلامهم تحققت وما قدر ما أهدر من عواطفهم وهواهم ، عادة ونحن نقرأ مؤلفات تولستوي او بلزاك او موباسان او تورجنيف ، نتساءل عن كل علاقات الحب الممزقة للقلوب تلك التي طرحها هؤلاء الكتّاب ، وهم يتركون لنا كل هذا الكم الهائل من الادلة التي تشير الى حياتهم العاطفية .
في 13 ايلول عام 1862 ، كتب تولستوي في يومياته :" انا احب حباً ، لم احبه في حياتي من قبل ، انا مجنون وسأطلق الرصاص على نفسي اذا سارت الامور على ما هي عليه ، لا يمكن وقف عواطفي نحوها " ، وفي اليوم التالي كتب " كل يوم يمر اعتقد فيه اني لن احتمل المزيد من شعوري بالسعادة ، سأذهب في الغـد اليهم وسأصارح لهم بكل شيء وإلا فإني أنتحر ؟ " .
كانت هي الابنة الثانية لعائلة يعرفها ويتردد عليهم دوما ونراها تكتب في يومياتها في 23 آب 1862 :" اني خائفة لو دلت تلك التجربة على رغبة خاطفة في الحب وليست حباً دائماً " .
كان هو حذراً في مسألة الحب والزواج وكان يعتقد ان الارتباط بامرأة مدى العمر شيء رهيب ، كانت علاقاته الاولى مع نساء كثيرات لا تتعدى اياما وتنتهي باستثناء علاقته بامرأة ريفية تدعى " اكسينيا " اثرت عليه تأثيرا كبيرا دامت علاقاته بها مدة طويلة ، وقد كتب عنها فيما بعد قصة الشيطان التي يروي فيها حكاية انسان يخضع لعبودية جسده ، لكنه وجد نفسه في أشد الحاجة الى امرأة ، وجعل يفكر في زوجته المستقبلية وقد اشترط فيها شروطا خاصة الى ان وقع في حب سونيا ونراه يكتب في يومياته 23 آب 1863 :" اني خائف ، ماذا لو دلت تلك التجربة على رغبة خاطفة في الحياة ، وليست حباً حقيقياً دائماً " لكنه عاد ليكتب في ايلول من نفس العام : لا اعتقد ان مستقبل حياتي مع زوحة يضارع ما يبدو لي الان مع سونيا .. المستقبل السعيد الهادىء الخالي من المخاوف " .
كانت سونيا الابنه الوسط لطبيب الماني الاصل " بيرز " يعمل في بلاط القيصر ، تزوج من الانسة ليوبونوف ابنة احد ملاك الاراضي ، كانت اول زيارة لتولستوي لعائلة الطبيب الالماني سنة 1856 ، في تلك الفترة كان قد انتهى من كتابة قصص من سيبستول وكانت سونيا واخواتها يشعرن بسعادة حين يقوم تولستوي بقراءة الاجزاء الاولى من قصة عهد الطفولة ، ونراه يعجب بالفتيات ويقول لاخته انه لو تزوج يوما فستكون عروسه من عائلة الدكتور بيرز ، وكانت الاخت تعتقد ان الابنة الكبرى ليزا خير من تصلح عروس لشقيقها الكاتب ، لكنه يخبر شقيقته انه لايحبها ونراه يكتب في يومياته :" ليزا تغريني ، لكني لن ادع ذلك يحدث ، فان مجرد الإغراء الذي لا يصحبه اي شعور ما غير مجدٍ " .فقد احسّ ان سونيا الأقرب الى قلبه ن وذات يوم تقترب منه على استحياء لتطلب منه ان يرقص معها فيجيبها بابتسامة :" اني اليوم اكبر سناً من ان افعل ذلك " . ونراها تكتب في مذكراتها ان الكونت تولستوي رفض الرقص لكنه طلب منها طلبا غريبا " ان أغني ولما كان ذلك آخر ما كنت ارغب فيه فقد هربت الى غرفتي " . يكتب في يومياته : لقد بقيت يومين افكر على انفراد في امر سونيا .. وقلت لنفسي لا تدفع نفسك حيث الشباب والجمال والشعر والحب ، فان لهذه ايها الشيخ من هم اصغر منك ، ان موضوعك في صومعة من صومعات العمل ، لقد عشت في هذه الصومعة وسأعود اليها " .
ويكتب بعد ايام " : لقد سطّرت خطاباً سوف أرسله اليها في الغد ، ياإلهي أمنحني القوة ، أخاف ان أموت ، فان مثل هذه السعادة تبدو مستحيلة "
وذهب في مساء اليوم التالي وفي جيبه الخطاب الذي أعدّه ووجد سونيا جالسة مع شقيقاتها ، انتظر ساعات حتى انسحبت الشقيقتان فمد يده الى سونيا بالخطاب قائلا : انه ينتظر ردّها ، فذهبت مسرعة الى غرفتها لتقرأ : " اي سونيا أصبح الأمر لا يُطاق ، لقد ظللت أقول لنفسي طيلة الاسابيع الماضية انني سأبوح الان ، ومع ذلك كنت اشعر بالحرج ، وكنت اخرج من البيت حزينا ساخطا على نفسي أسأل ما عساي ان اقول لو انني تكلمت ..لكن اذا كنتِ تحسين نحوي بأي عاطفة فأرجوكِ ان توافقي على ان تكوني زوجة لي ، ولكن اذا كنت تحسين ادنى شك فقولي لا ، ناشدتك الله ان تفكري ملياً في الأمر " .
وقفت سونيا جامدة وفي يدها الخطاب ، وعندما شاهدتها شقيقتها الكبرى على هذه الحال صرخت :" اخبريني ماذا بك ؟ فقالت بهدوء : ان الكونت طلب يدي ، فصرخت الاخت قائلة : ارفضيه ، كان تولستوي خلال هذه الفترة ينتظر والقلق قد سيطر عليه يحاول ان يسترق السمع على ما يجري داخل الغرفة الى ان سمع وقع أقدام حيث خرجت سونيا لتقول له جملة واحدة :" نعم .. ثم دخلت مسرعة الى غرفتها .
************
الغيرة القاتلة
كانت اول كلمة كتبها تولستوي في يومياته بعد الزواج قوله :" حظ من السعادة لا يُصدَّق " ، لكن هذه السعادة لم تدم طويلا اذ سرعان ما كدّر صفوها الغيرة ، فنجد سونيا تكتب في مذكراتها ": ان ماضي زوجي كله مخيف حتى انني لا اعتقد اني سوف أقبله " ثم تكتب بعد ايام :" إن زوجي مريض ، معتل المزاج وليس يحبني ، إنه يفترُ يوما في حين اني ازداد له حباً وانه يعتقد اني لا أحبه " .، وفي يومياتها هناك غيرة واضحة من بطلات رواياته فتكتب لتصف شعورها :" لقد قرأت اوائل بعض كتبه ، وكنت اشمئز واضيق كلما قرأت له شيئا عن الحب والنساء "
كانت سونيا تتنقل في قراءة أعمال زوجها ، ولم يكن يخامرها ألشك بأنه كان يحاول ان يرسم صورة للمرأة الحقيقية التي في مخيلته ، كان تولستوي من جانبه قد وجد مفهوما جديدا للحب عند الالماني شوبنهور ففي تلك السنوات تفرغ لقراءة الفلسفة وأُعجب اعجاباً شديداً بكتاب شوبنهور " العالم ارادة وتمثلا " والذي يفند فيه شوبنهور جميع مبادىء الحب الرومانسي ، وهو يعتقد ان جميع الشعراء والكتّاب الرومانسيين قد أخطأوا في سعيهم الى امثلة الحب من حيث هو الشهوة الانسانية ، فمثل هذا الرأي يُعد وهماً مطلقاً ، اما الحقبقة فهي ان الحب هو انعكاس لإرادة عمياء في الحياة وغريزة لاعقلانية لاستمرار النوع البشري.
ونجد تولستوي يعلق على ما كتبه شوبنهور فيكتب في يومياته :" لقد ايقنت ان جميع الاحلام والآلام الغرامية للعاشقين ليست سوى رقاقة رومانسية تخفي شيئا واحدا هو الغريزة الجنسية القاهرة " .
ويحاول ان يطبق نظرية شوبنهور في عمله الملحمي الكبير الحرب والسلام فيضع على لسان اندريه هذه الكلمات :" لا تتزوج ياصديقي العزيز ، هذه نصيحتي لك ، لا تتزوج الى ان تقنع نفسك بانك قمت بكل ما تقوى عليه ، وحتى تكون قد هدأت ثورة حبك للمرأة ، فيمكنك رؤيتها على حقيقتها " .
يكتب شوبنهور في العالم ارادة وتمثلا :" الانسان يخدع نفسه لاعتقاده بانه في الحب يخدم عواطفه وشهواته السامية ، انما يخدع نفسه بنفسه ، لان الحب ليس عاطفة فردية ، بل عاطفة جنسية بشرية ، انه نداء مجهول وقاهر ، علينا ان نتريث قبل ان نلبي نداءه " .
************
الحب نقمة ونعمة
في 1873 بدأ تولستوي روايته الشهيرة " آنا كارنينا "، عزل نفسه في مكتبه في ياسنايا بوليانا، يقرأ وبدأ يدوِّن الملاحظات ، من جانبها تكتب زوجته سونيا في يومياتها : "قال لي البارحة مساء أن قد ظهر له نموذج امرأة متزوجة، من الطبقة الارستقراطية. ضلّت سبيلها ، إن مهمته تنحصر في عَرض هذه المرأة على أنها جديرة بالعطف وليست مذنبة "
كان قد تذكر حادثة اثرت فيه كثيرا ، حكاية جاره بيبيكوف الذي يعيش مع امرأة أسمها آنا ستيبانوفنا ، امرأة في اوج شبابها ، لكنه اهملها بعد ذلك من اجل مربية اولاده الالمانية. وكان يفكر بالزواج من الشقراء فريولين. فهمت خيانته، غيرة ستيبانوفنا فاقت كل الحدود ، قررت الهرب ، عاشت بجنون وكآبة. ثم القت بنفسها تحت قطار لنقل البضائع . قبل ان تموت ارسلت رسالة الى بيبيكوف : " انت من قتلني، كن سعيداً, ، أذا كان يمكن لقاتل ان يكون سعيداً، أن احببت, تستطيع ان ترى جثتي على القضبان" ، في اليوم التالي ذهب تولستوي الى المحطة كمتفرج ، تخيل وجود تلك المرأة المسكينة التي اعطت كل شيء من اجل الحب ، فقط لتلتقي بهذه الميتة المبتذلة والحقيرة.
يكتب تولستوي ان " الحب نقمة ونعمة. الحب قوة متطرفة في الانسان, مثل العبقرية , الغضب الصلابة أو الثروة. وبالنسبة لــ آنا كان من الافضل لو لم تقع في حب فرونسكي. " . لانها اعطت كل شيء ، من اجل فرصة في الحب.
ينتهي من مسودة الرواية عام 1875 ليرسلها إلى صديقه ستراكوف: "إنها رواية حية، مثيرة، تامة، أنا راضٍ عنها، وستكون جاهزة قريبا". وطلب إلى ستراكوف أن يتولى تصحيح التجارب المطبعية!. وظهر الكتاب عام 1878 ، في نحو ألف صفحة.
************
فات الآوان
كان تولستوي قد قرأ من قبل مدام بوفاري لفلوبير وقد نشرت متسلسلة ، ونتعرف من يومياته ان موضوع الخيانة قد شغل باله منذ زمن طويل ، لكنه يجد ان الكاتب الفرنسي كان قاسيا مع بطلته فقد طاردها بمشاعر متجمدة ومتواصلة بلا رحمة ، ويتساءل تولستوي لماذا أصر فلوبير على ان تحيا مدام بوفاري حياة خالية وهمية ، ونجد تولستوي برغم اعجابه الشديد بالرواية فانه ياخذ على المؤلف ان حاول ان يعكس الكثير من طباعه على " ايما بوفاري " .
يتحدث دستويفسكي عن انا كارنينا باعجاب شديد :" لقد دشن تولستوي مفهموما جديدا لادانة الظلم في آنا كارنينا " . وفي رسالة بعثها فلوبير الى تورجنيف عام 1880 يتحدث عن تولستوي وروايته الجديدة :" ياله من فنان ، وياله من نفساني " .
في الرواية نجد تصمم آنا على هجر زوجها وابنها لتقيم مع عشيقها بعد صراع نفسي طويل. إنها أعظم صدقاً واستقامة من أن تقبل بوضعها الملتبس، وأعظم حساسية من أن تكبت شعورها الفاجع بدورها كامرأة ينبذها المجتمع لأنها تصرّفت بصراحة، هذا المجتمع الراقي الذي تنتمي إليه والذي يغْتفر أشد المواقف زيفاً إذا ظلّت مخبّأة، وإذا راعت القاعدة الاجتماعية. إن آنا التي لا تطيق الرياء، تكره الكذب وتتحدّى المجتمع. بيد أن المجتمع لا يغفر لها، ففي المساء الذي قصدت فيه المسرح، أشعرها معارُفها بذلك على نحوٍ قاس. وهكذا فإنها ترى نفسها مَدينة، دانَها عالم ليس أهلاً "للحكم عليها". العدل الإلهي وحده، يستطيع في عرف تولستوي، أن يُنزل بها عقابه لأنها هجرت زوجها وابنها. وبهذا المعنى ينبغي أن نفهم تلك العبارة المعمّاة التي صدّر بها روايته." لي النقمة انا أجازي".
ولقد قرأها تولستوي في نص لشوبنهاور بالألمانية.
************
في الخامس من شباط 1893، تذهب سونيا مع وزوجها إلى رحلة صيد فتكتب في يومياتها : " كان يقف خلف إحدى الأشجار.. وسألته لماذا لم يعد يكتب. طأطأ رأسه وتطلّع حوله بطريقة أقرب إلى الكوميديّا وقال: لا أحد يستطيع سماعنا عدا هذه الأشجار، كما أعتقد يا عزيزتي - كان ينادي كل شخص يا عزيزي حينما تقدّم به العمر -، لذا سأخبرك بأنني قبل أن أكتب أي شيء جديد، أحتاج أن التهب بالحب، وهذا ما انتهى الآن. ( يا للعيب ) قلت مضيفة بروح النكتة، يمكنك أن تقع في حبي، إن أحببت لكي تستطيع أن تكتب شيئا ما. قال: (كلا، لقد فات الأوان )".