نقوس المهدي
كاتب
بادئة بحوادث صغيرة منفصلة من الطعن تطورت الآن إلى عنف مجتمعي على نطاق واسع، بدون حواجز ممنوعة. حتى القنابل المصنعة محلياً تم استخدامها.
كانت النظرة السائدة في أمريتسار أن أعمال الشغب لن تستمر طويلاً ويُنظر إليها على أنها ليست أكثر من تعبير عن مشاعر سياسية مشتعلة مؤقتاً وأنها سوف تهدأ مع مرور الوقت. على أية حال، لم تكن هذه الأعمال المجتمعية هي الأولى التي شهدتها المدينة فقد كان هناك العديد منها في السابق. جميعها لم
جميعها لم تستمر طويلاً. نمطها كان مألوفاً. أسبوعان أو ما يقارب ذلك من الاضطرابات ثم تعود الأمور إلى طبيعتها. واستناداً إلى الخبرة فإن الناس لهم كل الحق في الاعتقاد بأن القلاقل الحالية سوف تنتهي أيضاً في غضون عدة أيام. لكن هذا لم يحدث، فقد استمرت الأعمال بل غدت أكثر كثافة.
المسلمون القاطنون في الأحياء الهندوسية بدأوا في مغادرتها إلى أماكن أكثر سلامة والهندوس القاطنون في مناطق ذات أغلبية مسـلمة فعلوا نفس الشيء. رغم ذلك فقد نظـر كل واحد إلى هذه التغييرات على أنها مؤقتـة. أقنعوا أنفسـهم بأن المناخ سـوف يكون عاجلاً خاليـاً من هذا الجنون المجتمعي.
القاضي المتقاعد ميان عبدالحي كان واثقاً جداً من أن الأمور ستعود إلى طبيعتها بصورة سريعة مما دفعه إلى عدم القلق. كان لديه ابنان، طفل في الحادية عشرة وبنت في السابعة عشرة، بالإضافة إلى خادم مسن في السبعينيات من عمره. كانت العائلة صغيرة، وحينما بدأت القلاقل أخذ ميان صاحب، الذي كان حذراً جداً، يتزود بمخزون كافٍ من الطعام. مخزون للاحتياط، ففي حال تدهور الأمور، على الأقل لن يكون هناك قلق.
ابنته «صغرى» كانت أقل تأكداً من الأوضاع. كانوا يعيشون في منزل ذي ثلاثة طوابق بمنظر يطل على كل المدينة تقريباً. «صغرى» لم تستطع التغلب على مخاوفها كلما صعدت إلى السطح وشاهدت الحرائـق مشتعلة في كل مكان. في البدايـة كانت تسمع سيارات الإطفاء تندفع بسرعة وأجراسها تصيح لكنها لم تعـد الآن تسمعها. كان هناك الكثير جداً من الحرائـق في الكثير جداً من المناطق.
الليالي أصبحت مخيفة على وجه الخصوص. كانت السـماء دائماً تضاء بحرائق تشبه العمالقـة الذين يقذفـون اللهب من أفواههم. ثم كانت هناك شعارات ملأت الهـواء ..... الله أكبر، الله أكبر ـــ صغرى لم تعبر عن مخاوفها لأبيها لأنه أعلن بثقة بأنه لا يوجد سبب للقلق. كل شيء سيكون على ما يرام. ولأنه بطبيعة الحال كان دائماً على صواب فقد شعرت بالاطمئنان مبدئياً.
على الرغم من ذلك، حينما انقطعت إمدادات الكهرباء والماء فجأة، أبدت قلقها لأبيها واقترحت عليه بأدب أن ينتقلوا لعدة أيام على الأقل إلى شريفبورا وهو أحد الأحياء المسلمة الذي انتقل إليه الكثير من سكان حيهم مسبقاً. لكن ميان صاحب كان عنيداً. «أنت تتخيلين الأمور. كل شيء سيكون عادياً عاجلاً جداً».
كان مخطئاً. فالأمور سارت من سيئ إلى أسوأ. فمنذ فترة طويلة لم توجد أية عائلة مسلمة في حي ميان عبدالحي. وفي أحد الأيام عانى ميان صاحب من ذبحة صدرية ووضع على الفراش. ابنه بشارت الذي دأب على قضاء وقته في التسلي بالألعاب التي يصنعها بنفسه، ظل الآن ملتصقاً بفراش الأب. جميع الدكاكين في الحي أغلقت بصورة دائمة. صيدلية الدكتور غلام حسين تم إغلاقها منذ أسابيع ولاحظت صغرى من السطح في أحد الأيام أن عيادة الدكتور جورانديتا مال المجاورة قد أغلقت أيضاً.
كانت حالة ميان صاحب تتدهور يوماً بعد يوم وصغرى فقدت صوابها تقريباً. في أحد الأيّام أخذت بشارت جانباً وقالت له: «يجب أن تفعل شيئاً. أعلم أن الخروج من البيت ليس آمناً لكن يجب أن نحصل على مساعدة. والدنا مريض جداً».
ذهب الولد لكنه عاد مباشرة. كان وجهه شاحباً بالخوف. شاهد جثة مغمورة بالدم ملقاة في الشارع ومجموعة من الرجال المتوحشي القسمات ينهبون المتاجر. أحاطت صغرى أخاها بذراعيها وقرأت دعاءً صامتاً، شاكرة الله على عودته سالماً. بالرغم من ذلك، لم تحتمل معاناة والدها. جانبه الأيسر أصبح الآن مشلولاً تماماً. كلامه أضحى معاقاً وصار يتفاهم معهم بالحركات غالباً، كل ذلك ليطمئن صغرى بأن الأمور ستكون حسنة في القريب العاجل.
حدث ذلك في شهر رمضان ولم يتبق سوى يومين على العيد. كان ميان صاحب واثقاً تماماً من أن المشاكل ستنتهي بقدومه. كان مخطئاً مرة أخرى، فقد غطت المدينة مظلة من الدخان مع نيران تحترق في كل مكان وفي الليل يُقطع السكون بأصوات المتفجرات التي تصم الآذان ولم تستطع صغرى وبشارت النوم لعدة أيّام. صغرى، على أية حال، لم تستطع النوم بسبب حالة أبيها المتدهورة. تنظر إليه دون حيلة ثم تنظر إلى أخيها الصغير المرتعب وإلى الخادم أكبر، ذي السبعين عاماً، الذي لم يكن مجدياً لكل الأغراض العملية. كان ملازماً لفراشه معظم الوقت، يكح ويكافح لكي يتنفس. ذات يوم قالت له بغضب: «أنت غير نافع. هل تدرك مدى المرض الذي يعاني منه ميان صاحب؟ ربما أنت كسول جداً لأن تبادر بالمساعدة وتتظاهر بأنك مصاب بالربو الحاد. في الماضي درج الخدم على التضحية بأرواحهم من أجل أسيادهم».
أحست صغرى بضيق شديد فيما بعد. لقد كانت حادّة من غير ضرورة مع الرجل المسن. في المساء، حينما أخذت طعامه إليه في حجرته الصغيرة، لم يكن هناك. بحث بشارت عنه في جميع أنحاء البيت لكنه لم يعثر عليه. كان الباب الأمامي مفتوحاً. لقد ذهب، ربما ليجلب بعض المساعدة لميان صاحب. صلّت صغرى من أجل أن يعود، لكن مرّ يومان ولم يعد.
جاء المساء ولم يتبق على احتفال العيد الآن سوى يوم واحد. تذكرت الإثارة التي تعتري العائلة في هذه المناسبة. تذكرت الوقوف على قمة السطح محدقة في السماء، بحثاً عن هلال العيد وداعية لأن تنقشع الغيوم، وتساءلت كيف أصبح كل شيء مختلفاً اليوم. السماء ملبدة بالدخان وعلى الأسطح البعيدة يستطيع المرء أن يشاهد الناس ينظرون إلى أعلى. هل هم يحاولون استطلاع الهلال أم يراقبون النيران؟
نظرت إلى أعلى ورأت الخيط الفضي للقمر يضيء خلال بقعة صغيرة في السماء. رفعت يديها للسماء ودعت الله أن يعيد الصحة إلى والدها. أما بشارت، فقد كان حانقاً لأنه لن يكون هناك عيد في هذه السنة.
لم يحلّ الليل بعد. نقلت صغرى فراش أبيها من الغرفة إلى الشرفة. رشت الماء على السطح لكي يصبح بارداً. كان ميان صاحب مستلقياً هناك بهدوء، ناظراً بعينين فارغتين إلى السماء، حيث شاهدت هي الهلال. جاءت صغرى وجلست بجواره. أشار إليها لأن تقترب أكثر ثم رفع ذراعه اليمنى ببطء ووضعها على رأسها. بدأت الدموع تنساب من عينيها. حتى ميان صاحب بدا متأثراً. ثم بصعوبة شديدة قال لها: «الله رحيم. كل الأمور ستكون حسنة».
فجأة كان هناك طرق على الباب. بدأ قلب صغرى في النبض بعنف. نظرت إلى بشارت الذي تحوّل وجهه إلى أبيض كصفحة من الورق. طُرق الباب للمرة الثانية. أشار ميان صاحب على صغرى بفتحه. لابد أن يكون المسن أكبر الذي رجع، اعتقدت. قالت لبشارت: «افتح الباب. أنا متأكدة إنه أكبر». هزّ والدها رأسه، كما ليشير بالنفي.
ـــ «إذن من سيكون؟» سألته صغرى.
حاول ميان عبد الحي أن يتكلّم لكن قبل أن يستطيع جاء بشارت وهو يجري. نفسه منقطع. أخذ صغرى جانباً وهمس لها: «إنه سيخ».
صرخت صغرى «سيخ! ماذا يريد»؟
ــ «يريدني أن أفتح الباب».
أخذت صغرى بشارت بين ذراعيها وذهبت وجلست على فراش أبيها، ناظرة إليه بحيرة.
ظهرت على شفتي ميان عبد الحي الصغيرتين الذابلتين ابتسامة شاحبة. «اذهبي وافتحي الباب. إنه جورموك سينج». ــ لا، إنه شخص آخر «قال بشارت».
استدار ميان صاحب لصغرى. «افتحي الباب. إنه هو».
نهضت صغرى. إنها تعرف جورموك سينج. والدها صنع له معروفاً ذات مرة. كان متهماً في قضية كاذبة وبرّأه ميان صاحب. كان ذلك منذ وقت طويل لكن كل سنة، في مناسبة العيد، يأتي الرجل من قريته بشنطة من الفواكه. ميان صاحب قال له عدة مرات: «سردار صاحب، أنت طيّب جداً. لا تتعب نفسك كل سنة». لكن جورموك سينج دائماً يرد: «ميان صاحب، الله أعطاك كل شيء. هذه هدية صغيرة فقط أحضرها لك كل سنة تعبيراً عن امتناني للمعروف الذي صنعتـه لي في إحدى المرات. حتى مائة جيل من أبنائي لن يستطيعوا إيفاءك حقك. فليحفظك الله سعيداً».
استعادت صغرى طمأنينتها. لماذا لم تفكّر في ذلك لأول وهلة؟ لكن لماذا قال بشارت إنه شخص آخر؟ على أية حال، هو يعرف وجه جورموك سينج من خلال زيارته السنوية.
اتجهت إلى الباب الأمامـي. كان هناك طرق آخر. توقف قلبها عن النبض. «من الطارق»؟ سألت بصوت ضعيف. همس لها بشارت بأن تنظر خلال الفتحة الصغيرة في الباب.
لم يكن جورموك سينج، الذي كان مسنّاً جداً. إنه شخص شاب. طرق مرة ثانية. كان يحمل شنطة في يده، من نفس النوع الذي درج جورموك سينج على جلبه.
ـــ «من أنت؟» سألت وهي أكثر ثقة الآن.
ـــ «أنا ابن سردار جورموك سينج، سانتوك».
انزاح خوف صغرى فجأة. «ما الذي أحضرك هنا اليوم؟» سألته بأدب.
ـــ «أين القاضي ميان صاحب» سألها.
ـــ «إنه متوعك» ردت صغرى.
ــــ «أوه، أنا آسف» قال سانتوك سينج. ثم نقل شنطته من يده إلى اليد الأخرى. «هذه بعض الفواكه». وبعد أن توقف برهة ««والدي مات».
ـــ «مات!».
ـــ «نعم، قبل شهر. لكن أحد الأشياء الأخيرة التي قالها لي: على مدى العشر سنوات الماضية، كنت دائماً آخذ هديتي البسيطة إلى القاضي ميّان صاحب. بعد أن أتوفى ستكون هذه مسؤوليتك». أعطيته وعداً بأنني لن أخالف هذه الوصية. إنني اليوم هنا لأفي بالوعد الذي قطعته لأبي وهو على فراش الموت».
تحركت مشاعر صغرى بصورة بالغة لدرجة أن الدموع جرت من عينيها. فتحت الباب قليلاً ودفع الشاب الشنطة تجاهها.
ـ «أسأل الله أن يحفظ روحه في سلام» قالت.
ـ «هل القاضي ميان صاحب مريض» سأل.
ـ «نعم».
ـ «مم يشتكي ؟».
ـ «أصيب بذبحة صدرية».
ــ «لو كان والدي حيّاً، لشعر بحزن عميق. إنه لا ينسى أبداً عطف القاضي ميّان صاحب حتى آخر نفس له. كان دائماً يقول: إنه ليس رجلاً، بل إله. «أسأل الله أن يحيطه برعايته. أرجو إبلاغه تحياتي واحتراماتي».
غادر الشاب قبل أن تحكّم صغرى رأيها في أن تطلب منه أن يحضر طبيباً لأبيها.
حالما وصل سانتوك سينج إلى الزاوية، اتجه أربعة رجـال، وجوههم مغطاة بعمائمهم، نحوه. اثنان منهم كانا يحملان مشاعل زيتية مشتعلة والآخران يحملان علباً من الكيروسين والمتفجرات.
أحدهم سأل سانتوك: «سيد سردار، هل أكملت مهمتك؟».
أومأ الشاب رأسه بالموافقة.
«إذن هل نشرع في مهمتنا؟» سأله.
«إذا أحببتم» رد ومشى بعيداً.