نقوس المهدي
كاتب
ما إن وصلت الحافلة ، حتّى تدفقت جموع الركاب للصعود من كلا البابين ، ثمّة عدد من الفتيان الأشقياء ، تسلٌقوا أطرافها وتسلّلوا من نوافذها.
اتخدت مكاني في المنتصف ، وقد أمسكت يسراي الكرسي ، المشغول بامرأة ورجلين ، و كانت يمنايّ تحمل كتاباً وجريدة ، بالقرب منّي كانت تقف فتاة شقراء ، تشبه الشّقراوات اللواتي يظهرن في أحلامي بكثرة.
مذهلة القوام ، لم أتبيّن ملامح وجهها بسبب وقفتها الجانبية ، تمنيت أن أرى عينيها ، فتاة مثلها ذات شعر أشقر مسدل ، لابدّ أن تكون صاحبة أجمل عينين .. توقفت الحافلة عدّة مرات ، وفي كلّ مرّة كان عدد الركاب يتزايد ، ورائحة الحموضة تشتد وتتزاحم الأنفاس والأجساد ، حتى وصلتُ إلى ظهر تلك الفتاة ، وبات جسدي ملتصقاً بها ، وخصلات شعرها أخذت تحطّ على وجهي ، كلّما استطاعت نفحة هواء أن تصل إليه.
خطر لي أن أبتعد عنها ، فقد تسرّبت إلى نفسي رائحة الأنوثة ، التي حرمت منها ، تلفّت حولي لعلّي أجد مكاناً أوسع لي ، ولكن إلى أين ؟.. وهذه الوقفة المريحة، وهذا الجسد اللدن يدعوانك للاقتراب أكثر.
الحافلة تهتز وتفرمل وتمشي ، وعلى هذه الأنغام ، كنتُ أنعمُ بالالتصاق خلف تلك السّاحرة ، وأتلفّت حولي بين اللحظة والأخرى ، خوفاً من أن يكون قد أحسّ بحركاتي أحد الركاب.
وفكرت :
- لماذا لا أتخذ موضعاً أكثر اثارة ، ولن يلحظني أحد ؟!.. وهي لن تمانع .. يبدو أنها معتادة على مثل هذا الزّحام ، لكن هاجساً بداخلي أجابني :
- ماذا تقول ياأستاذ ؟! .. أتعود مراهقاً من جديد ، ألا تخجل !؟.
لم أعثر حولي على مكان غير مكاني ، الازدحام يزداد .. والمسافة إلى محطة الوصول بعيدة ، و فاتنتي تقف ساكنة لا تلتفت ، كانت سارحة خلف الزجاج.
- لا تكن جباناً وأحمق ، لماذا لا تنعم بهذه اللحظات الدافئة !!.. ليت الطريق يطول أكثر ، وليت هذه الغادة الشقراء لا تنزل أبداً .. طوال عمرك وأنت تحلم بالشقراوات ، والحياة تضنّ عليكَ بامرأة ، مجرد امرأة ، فكيف شقراء ؟!.. إذاً اغتنم هذه اللحظات ، شدّ عليها ، اجذبها إليك ، ولا تدعها تفلت.
أمامك سنوات ستقضيها وحيداً دون امرأة تشاركك فراشك .. تزوّد بالدفء الآن ، بالأنوثة .. بنعومة الشعر .. بنضارة العنق الذي تكاد شفتاك تنقضان عليه .. تزود بلمسة ، فأمامك ليل طويل ، بمكنك عندها ، أن تتذكر هذه اللمسات ، وتستحضر هذه الناعمة ، وتبدأ بممارسة عادتك الجهنّمية ، وحيداً ستكون ، تتلوّى في فراشك ، تزأر عروقك بالشّهوة ، تستعر أنفاسك ، ونبض قلبك محترقاً .. خذ لمسة من عجيزتها .. لمسة واحدة ... تكفيك طوال العمر.
أمر زواجك مستحيل ، ربما بعد خمس سنوات .. وأنت تشارف على الأربعين ، تستطيع أن تفكر .. أنت فقير وراتبك تتلقفه أمك وشقيقاتك ، منذ أول الشهر .. لولا فقرك هذا لما وافقت أمك على طلب يد " فطوم " ابنة أخيها .. آهٍ فطوم .. سمراء بلون الصدأ ، قصيرة مثل برميل ، وعيناها ثقبان بجفون مبطّنة ، وشعرها كأسلاك شائكة ، فمها واسع التكشيرة ، وأنفها ضخم مكتنز.
قلتَ حينها في نفسك :
- فطوم .. أفضل من لا امرأة ، والنساء على أية حال متساويات فوق السّرير في الظّلام ، وهكذا ذهبت مع أمك وأخواتك العوانس الخمس ، لطلب يد " فطوم " ... وكم كانت المفاجأة قاسية عليك ، إذ طلب خالك منكم ، أن يكون سكنك وحدك ، بعيداً عن أمك وشقيقاتك العوانس ، وعليك أن تدفع مئة ألف ليرة للمقدم ، ومثلها للمؤخر ، عدا ثمن الذهب خمسين ألف ليرة .. إذا كنت فعلاً راغباً بفطوم.
انعم إذاً بهذه الشقراء .. اقترب أكثر .. التصق ، حرّك فخذيك قليلاً ، وتحسّس بيدك عجيزتها المكتنزة ، تحسّس ولا تخف ، فالكتاب والجريدة كفيلان بالتمويه..اقترب واياك أن تحدثني عن الأخلاق ، أما يكفيك أنّك كلٌ يوم لا يتوقف لسانك عن ذكر الأخلاق الحميدة والفاضلة أمام طلابك؟ ماذا جنيت من كلّ ذلك ؟ هل نفعتك ؟ .. كل ما تستطيع فعله هو أن تحترق ، أمام وسحر وجمال طالباتك .. إذا كنت تعدّ نفسك إنساناً مثقفاً وموضوعياً فعليك أن تعترف بأنك رجل مكبوت ، والجنس ضروري في حياة الإنسان ، فلماذا تمنع نفسك عن اللذة ؟ ... بالأمس تهربت من الآذنة أم " محمود " بحجة أنها كبيرة ، وتعمل آذنة في الثانوية ،إذاً ماذا تفعل وقد ثبت فشلك مع زميلاتك المدرسات ، عجزت عن اقامة أي علاقة باحداهن ، والسبب هو أخلاقك الفاضلة ... إنك لا تعرف الخداع ، كلما تعرفت إلى واحدة صارحتها بحقيقة وضعك المادي .. وتهرب منك.
في هذه اللحظة وجدتني ضعيفاً مستسلماً لشهوتي الحقيرة ، وها أنا أمدّ يدي الراعشة ، لتتحسّس ما تصبو إليه ، وبسرعة غير متوقعة ، التفتت فاتنتي إلى الخلف ، والصرخة ملء فيها .. وياللهول !! .. كم كانت المفاجأة عنيفة وقاسية ، كظمت صرختها والدهشة المتجمدة على قسمات وجهها وعينيها الجزعتين:
- لا .. لا هذا ليس معقولاً .. شيء لا يصدق ، مستحيل .. لا يعقل أن تكون هذه الشقراء احدى طالباتي ، في الصف الحادي عشر ؟!
رباه لا بدّ أني في حلم .. هذه الشقراء أعرفها جيداً ، إنها " نوران " أكثر الطالبات اجتهاداً ، تعتني دوماً بجمالها الآخاذ وذكاؤها عال وبديهتها سريعة ، أعرف أنها تكن لي فائق الاحترام ، وهي تحبّ مادة الفلسفة .. ومرّة سألتني:
- لماذا ياأستاذ يكون مدرسوا الفلسفة إنسانيّن وطيّبين كثيراً ؟ .
في تلك اللحظة سررت كثيراً من سؤالها ، اعتبرت كلاًمها مغازلة غير مباشرة ، ألستُ أحد مدرسي الفلسفة ؟ .. إنها تقصدني إذاً ، تمنيتُ أن أتقدم وأطلب يدها .. لكنّ فقري سرعان ما قفز ومزّق فارق السّن الأحلام.
في احدى المرات أخبرتني بأنّها تتمنّى أن تختص في الفلسفة ، فهي معجبة بسقراط الحكيم وبحكمته ، ولكنها كانت تفكر بالطريقة التي تقنع أهلها ، ففرع الفلسفة غير موجود في جامعة حلب ، عليها أن تذهب إلى جامعة دمشق ، وهذا ماسوف يمانعه والدها.
عندما التفتت ، كان ذلك الشعور الذي ارتكبني أكبر من الخجل ، إنه شعور بالعار والاثم والفضيحة ، شعور جعلني أنكر ذاتي ، لقد سقط القناع عنّي أخيراً ، واكتشفت مدى ما آلت إليه قدرات الشهوانية عندي ، إنّي بكل بساطة أنقسم إلى إثنين : مدرس فلسفة يتشبث بالأخلاق والفضيلة ، وحيوان شهواني عبد وضيع لشهواتي . تمنيت لو تنشق أرضية الحافلة فأسقط وأضيع .. أموت .. لعلي أنتهي وتنتهي " نوران" أيضاً.
ابتعدت عنها ، تراجعت عن نظرة الاشمئزاز ، التي قذفتني بها ، اندفعت بقوة نحو الباب ، أخذت طريقي بصعوبة بالغة ، ومن شدّة توتري وشعوري بالخزي ، دهست قدم طفلة تمسك بأذيال أمها ، التي تحمل رضيعها ، فانبعث صراخ الطفلة فاغرة ببكاء حاد ، تابعت انهزامي غير عابئ بالنظرات الشذراء .. وقفزت عند أول موقف.
غداً كيف سأواجهها في الصّف ؟ .. لابدّ أنها ستبلغ عني زميلاتها الطالبات .. وسيتبرّعن بدورهنّ لنشر الخبر ، وربما تسّربت الفضيحة إلى بقية الثانويات الموزعة ساعاتي فيها . ثمّ ماذا لو ذهبت " نوران " وأخبرت والدها ؟ .. حتماً سأجده غداً بانتظاري عند المدير ، الذي يعتبرني أفضل المدرسين عنده، ياللفضيحة .. سيخبر المدرسين والمدرسات ، بما اقترفته.
سرت في الطريق ساهماً ، قلبي بنزف ألماً وخجلاً ، ودمعتي تكاد تقفز من عيوني ، كان عليّ أن أعرفها منذ النظرة الأولى ، فهي من أحبّ الطالبات إلى قلبي ، فكم من مرة حلمت بها ، وعرّيتها من " بدلة الفتوة " . كيف لم أعرفها !؟ .. ألأنها كانت ترتدي كنزة صفراء وبنطال الجنز !! .. أم لأني لم أر وجهها ؟؟ .. كان غباء منّي .. ولكن ما حصل قد حصل.
عليّ أن أطلب نقلي من الثانوية منذ الغد ، وإذا وجدت الخبر منتشراً في الثانويات ، سأطلب نقلي إلى الريف ، أو ربما قدمت استقالتي.
وعندما عدت إلى منزلي متأخراً .. كانت المفاجأة تنتظرني ، نعم لقد وافق خالي أن يزوجني " فطوم " مقابل أن أسجّل لها نصف دارنا .. وسيكتب المقدّم عليّ مئة ألف غير مقبوضة ، ومثلها للمؤخر.
وما كان بمقدوري إلّا أن أوافق .. فأنا فقير ومسؤول عن أسرة ، وليس من حقي أن أحلم بفتاة شقراء ، يجب أن أتخلى عن الرومانسية ، فالفقر والجمال عدوان لا بجتمعان ... سأتزوج من " فطوم " .. وعندها أنام معها سأطفئ النور ، وفي الظلام كل شيء متساو ومتشابه ، فالظلام نعمة يجب أن نحافظ عليه.
مصطفى الحاج حسين
حلب ..
اتخدت مكاني في المنتصف ، وقد أمسكت يسراي الكرسي ، المشغول بامرأة ورجلين ، و كانت يمنايّ تحمل كتاباً وجريدة ، بالقرب منّي كانت تقف فتاة شقراء ، تشبه الشّقراوات اللواتي يظهرن في أحلامي بكثرة.
مذهلة القوام ، لم أتبيّن ملامح وجهها بسبب وقفتها الجانبية ، تمنيت أن أرى عينيها ، فتاة مثلها ذات شعر أشقر مسدل ، لابدّ أن تكون صاحبة أجمل عينين .. توقفت الحافلة عدّة مرات ، وفي كلّ مرّة كان عدد الركاب يتزايد ، ورائحة الحموضة تشتد وتتزاحم الأنفاس والأجساد ، حتى وصلتُ إلى ظهر تلك الفتاة ، وبات جسدي ملتصقاً بها ، وخصلات شعرها أخذت تحطّ على وجهي ، كلّما استطاعت نفحة هواء أن تصل إليه.
خطر لي أن أبتعد عنها ، فقد تسرّبت إلى نفسي رائحة الأنوثة ، التي حرمت منها ، تلفّت حولي لعلّي أجد مكاناً أوسع لي ، ولكن إلى أين ؟.. وهذه الوقفة المريحة، وهذا الجسد اللدن يدعوانك للاقتراب أكثر.
الحافلة تهتز وتفرمل وتمشي ، وعلى هذه الأنغام ، كنتُ أنعمُ بالالتصاق خلف تلك السّاحرة ، وأتلفّت حولي بين اللحظة والأخرى ، خوفاً من أن يكون قد أحسّ بحركاتي أحد الركاب.
وفكرت :
- لماذا لا أتخذ موضعاً أكثر اثارة ، ولن يلحظني أحد ؟!.. وهي لن تمانع .. يبدو أنها معتادة على مثل هذا الزّحام ، لكن هاجساً بداخلي أجابني :
- ماذا تقول ياأستاذ ؟! .. أتعود مراهقاً من جديد ، ألا تخجل !؟.
لم أعثر حولي على مكان غير مكاني ، الازدحام يزداد .. والمسافة إلى محطة الوصول بعيدة ، و فاتنتي تقف ساكنة لا تلتفت ، كانت سارحة خلف الزجاج.
- لا تكن جباناً وأحمق ، لماذا لا تنعم بهذه اللحظات الدافئة !!.. ليت الطريق يطول أكثر ، وليت هذه الغادة الشقراء لا تنزل أبداً .. طوال عمرك وأنت تحلم بالشقراوات ، والحياة تضنّ عليكَ بامرأة ، مجرد امرأة ، فكيف شقراء ؟!.. إذاً اغتنم هذه اللحظات ، شدّ عليها ، اجذبها إليك ، ولا تدعها تفلت.
أمامك سنوات ستقضيها وحيداً دون امرأة تشاركك فراشك .. تزوّد بالدفء الآن ، بالأنوثة .. بنعومة الشعر .. بنضارة العنق الذي تكاد شفتاك تنقضان عليه .. تزود بلمسة ، فأمامك ليل طويل ، بمكنك عندها ، أن تتذكر هذه اللمسات ، وتستحضر هذه الناعمة ، وتبدأ بممارسة عادتك الجهنّمية ، وحيداً ستكون ، تتلوّى في فراشك ، تزأر عروقك بالشّهوة ، تستعر أنفاسك ، ونبض قلبك محترقاً .. خذ لمسة من عجيزتها .. لمسة واحدة ... تكفيك طوال العمر.
أمر زواجك مستحيل ، ربما بعد خمس سنوات .. وأنت تشارف على الأربعين ، تستطيع أن تفكر .. أنت فقير وراتبك تتلقفه أمك وشقيقاتك ، منذ أول الشهر .. لولا فقرك هذا لما وافقت أمك على طلب يد " فطوم " ابنة أخيها .. آهٍ فطوم .. سمراء بلون الصدأ ، قصيرة مثل برميل ، وعيناها ثقبان بجفون مبطّنة ، وشعرها كأسلاك شائكة ، فمها واسع التكشيرة ، وأنفها ضخم مكتنز.
قلتَ حينها في نفسك :
- فطوم .. أفضل من لا امرأة ، والنساء على أية حال متساويات فوق السّرير في الظّلام ، وهكذا ذهبت مع أمك وأخواتك العوانس الخمس ، لطلب يد " فطوم " ... وكم كانت المفاجأة قاسية عليك ، إذ طلب خالك منكم ، أن يكون سكنك وحدك ، بعيداً عن أمك وشقيقاتك العوانس ، وعليك أن تدفع مئة ألف ليرة للمقدم ، ومثلها للمؤخر ، عدا ثمن الذهب خمسين ألف ليرة .. إذا كنت فعلاً راغباً بفطوم.
انعم إذاً بهذه الشقراء .. اقترب أكثر .. التصق ، حرّك فخذيك قليلاً ، وتحسّس بيدك عجيزتها المكتنزة ، تحسّس ولا تخف ، فالكتاب والجريدة كفيلان بالتمويه..اقترب واياك أن تحدثني عن الأخلاق ، أما يكفيك أنّك كلٌ يوم لا يتوقف لسانك عن ذكر الأخلاق الحميدة والفاضلة أمام طلابك؟ ماذا جنيت من كلّ ذلك ؟ هل نفعتك ؟ .. كل ما تستطيع فعله هو أن تحترق ، أمام وسحر وجمال طالباتك .. إذا كنت تعدّ نفسك إنساناً مثقفاً وموضوعياً فعليك أن تعترف بأنك رجل مكبوت ، والجنس ضروري في حياة الإنسان ، فلماذا تمنع نفسك عن اللذة ؟ ... بالأمس تهربت من الآذنة أم " محمود " بحجة أنها كبيرة ، وتعمل آذنة في الثانوية ،إذاً ماذا تفعل وقد ثبت فشلك مع زميلاتك المدرسات ، عجزت عن اقامة أي علاقة باحداهن ، والسبب هو أخلاقك الفاضلة ... إنك لا تعرف الخداع ، كلما تعرفت إلى واحدة صارحتها بحقيقة وضعك المادي .. وتهرب منك.
في هذه اللحظة وجدتني ضعيفاً مستسلماً لشهوتي الحقيرة ، وها أنا أمدّ يدي الراعشة ، لتتحسّس ما تصبو إليه ، وبسرعة غير متوقعة ، التفتت فاتنتي إلى الخلف ، والصرخة ملء فيها .. وياللهول !! .. كم كانت المفاجأة عنيفة وقاسية ، كظمت صرختها والدهشة المتجمدة على قسمات وجهها وعينيها الجزعتين:
- لا .. لا هذا ليس معقولاً .. شيء لا يصدق ، مستحيل .. لا يعقل أن تكون هذه الشقراء احدى طالباتي ، في الصف الحادي عشر ؟!
رباه لا بدّ أني في حلم .. هذه الشقراء أعرفها جيداً ، إنها " نوران " أكثر الطالبات اجتهاداً ، تعتني دوماً بجمالها الآخاذ وذكاؤها عال وبديهتها سريعة ، أعرف أنها تكن لي فائق الاحترام ، وهي تحبّ مادة الفلسفة .. ومرّة سألتني:
- لماذا ياأستاذ يكون مدرسوا الفلسفة إنسانيّن وطيّبين كثيراً ؟ .
في تلك اللحظة سررت كثيراً من سؤالها ، اعتبرت كلاًمها مغازلة غير مباشرة ، ألستُ أحد مدرسي الفلسفة ؟ .. إنها تقصدني إذاً ، تمنيتُ أن أتقدم وأطلب يدها .. لكنّ فقري سرعان ما قفز ومزّق فارق السّن الأحلام.
في احدى المرات أخبرتني بأنّها تتمنّى أن تختص في الفلسفة ، فهي معجبة بسقراط الحكيم وبحكمته ، ولكنها كانت تفكر بالطريقة التي تقنع أهلها ، ففرع الفلسفة غير موجود في جامعة حلب ، عليها أن تذهب إلى جامعة دمشق ، وهذا ماسوف يمانعه والدها.
عندما التفتت ، كان ذلك الشعور الذي ارتكبني أكبر من الخجل ، إنه شعور بالعار والاثم والفضيحة ، شعور جعلني أنكر ذاتي ، لقد سقط القناع عنّي أخيراً ، واكتشفت مدى ما آلت إليه قدرات الشهوانية عندي ، إنّي بكل بساطة أنقسم إلى إثنين : مدرس فلسفة يتشبث بالأخلاق والفضيلة ، وحيوان شهواني عبد وضيع لشهواتي . تمنيت لو تنشق أرضية الحافلة فأسقط وأضيع .. أموت .. لعلي أنتهي وتنتهي " نوران" أيضاً.
ابتعدت عنها ، تراجعت عن نظرة الاشمئزاز ، التي قذفتني بها ، اندفعت بقوة نحو الباب ، أخذت طريقي بصعوبة بالغة ، ومن شدّة توتري وشعوري بالخزي ، دهست قدم طفلة تمسك بأذيال أمها ، التي تحمل رضيعها ، فانبعث صراخ الطفلة فاغرة ببكاء حاد ، تابعت انهزامي غير عابئ بالنظرات الشذراء .. وقفزت عند أول موقف.
غداً كيف سأواجهها في الصّف ؟ .. لابدّ أنها ستبلغ عني زميلاتها الطالبات .. وسيتبرّعن بدورهنّ لنشر الخبر ، وربما تسّربت الفضيحة إلى بقية الثانويات الموزعة ساعاتي فيها . ثمّ ماذا لو ذهبت " نوران " وأخبرت والدها ؟ .. حتماً سأجده غداً بانتظاري عند المدير ، الذي يعتبرني أفضل المدرسين عنده، ياللفضيحة .. سيخبر المدرسين والمدرسات ، بما اقترفته.
سرت في الطريق ساهماً ، قلبي بنزف ألماً وخجلاً ، ودمعتي تكاد تقفز من عيوني ، كان عليّ أن أعرفها منذ النظرة الأولى ، فهي من أحبّ الطالبات إلى قلبي ، فكم من مرة حلمت بها ، وعرّيتها من " بدلة الفتوة " . كيف لم أعرفها !؟ .. ألأنها كانت ترتدي كنزة صفراء وبنطال الجنز !! .. أم لأني لم أر وجهها ؟؟ .. كان غباء منّي .. ولكن ما حصل قد حصل.
عليّ أن أطلب نقلي من الثانوية منذ الغد ، وإذا وجدت الخبر منتشراً في الثانويات ، سأطلب نقلي إلى الريف ، أو ربما قدمت استقالتي.
وعندما عدت إلى منزلي متأخراً .. كانت المفاجأة تنتظرني ، نعم لقد وافق خالي أن يزوجني " فطوم " مقابل أن أسجّل لها نصف دارنا .. وسيكتب المقدّم عليّ مئة ألف غير مقبوضة ، ومثلها للمؤخر.
وما كان بمقدوري إلّا أن أوافق .. فأنا فقير ومسؤول عن أسرة ، وليس من حقي أن أحلم بفتاة شقراء ، يجب أن أتخلى عن الرومانسية ، فالفقر والجمال عدوان لا بجتمعان ... سأتزوج من " فطوم " .. وعندها أنام معها سأطفئ النور ، وفي الظلام كل شيء متساو ومتشابه ، فالظلام نعمة يجب أن نحافظ عليه.
مصطفى الحاج حسين
حلب ..