نقوس المهدي
كاتب
بين دنس اللاهوت والحكمة الهندية
في تناول مفردة جوهرية أساسية ملحة ضاغطة كمفردة او موضوع الجسد، الذي ربما استحال فصله عن فكرة الفن، تكون الحاجة الى نظرة سريعة على زاويتي نظر ثقافتين، مختلفتين بقدر ما هما دينيتان، الحضارة الغربية التي انبثق منها تاريخ الفن الحديث والمعاصر الذي يمثل المرجعية الرئيسية لنتاج الفن الحديث في كل بلاد الشرق الأوسط، وحضارة الآيروفيدا في الهند القديمة التي أثّرت بتراثها الروحي (البوذية) على كل بلاد الشرق الأقصى تقريبا خاصة اليابان (الزن) والصين (التاوية الكونفوشيوسية)، شبه ضرورة لفهم تبعات منظار الرؤية وانعكاساتها على كيفية وحساسية التناول الفني للمفردة عبر تاريخ الفن بطوله، وصولا إلى ديناميت الفكر الفني المعاصر الذي لم يشبِعه نسف التابو عن العمل الفني كمبدأ انطلاقٍ فحسب، بل تمادى في تفتيت خلايا هذا الجسد عبر أكثر الوسائط راديكالية والتي تخطت مفهوم “الجمالي” الى حدود الصدمة (الفنان الإنجليزي المعاصر داميان هيرست بحيواناته المذبوحة في فيترينات زجاجية تتحلل ويعمل فيها الدود والذباب والعفن أمام الجمهور نموذجا).
الصراع الطويل بين الضرورة الفنية (على اعتبار أن الفنان مثل دائما خروجا أخلاقيا عن الأعراف بحكم الخامة الحرة المولود منها وبها)، وبين المحظور يحسب بالقرون، بل بالعشرات منها (يحضر هنا، كمثال، مايكل انجلو وكيف تفنن في مراوغة المؤسسة الدينية التي كلفته برسم سقف كنيسة سستينا حين صوّر كل ذاك العري الطافح بالحسية، رغم تناوله قديسين وملائكة وقصص الخلق والقيامة وعوالم السماء).
بشكل بديهي، لا ينشأ أي صراع سوى من تعارض رغبتين أو ايديولوجيتين: بين محاولة الحجب والإقصاء من جهة، وبين قانون الطبيعة بعضويتها ومدها من جهة أخرى. فثلاثة آلاف عام تقريبا، التي هي عمر اللاهوت، وتبنّي السلطة ذلك التراث العقائدي كوسيلة قمع وسيطرة طوال ذلك الزمن، جعلت من الجسد شيئا هلاميا هامشيا محجوبا محجبا، يسترق لحظاته الجارفة في الظلام عبر حياة ازدواجية عصابية تشنجية غير واعية بحالتها الفصامية الرازحة تحت وطأة الشعور بالذنب. هذا الشعور بالذنب ناتج أساسا من فكرة “المدنس” التي دنس بها اللاهوت أطهر أسماء الحياة ألا وهو الجسد (عبرت لوحة تيتيان في القرن السادس عشر “الحب الطاهر والحب المدنس” عن فكرة المدنس في صورة امرأة شهوانية يطير عن جسدها العاري وشاح أحمر، وفي النصف الآخر من اللوحة تجلس، في رزانة تغشاها سيماء الفكر، امرأة متدثرة بثوب أبيض كثير التفاصيل والثنيات في إشارة إلى حياة الطهارة والعفة). لعل القذارة، كما عبر هنري ميللر، لا توجد سوى في الدماغ.
في حين لو سمع أحد حكماء الهند القديمة القول بارتباط مفهوم القذارة بالجنس لفغر فاه ولم يفهم، اعتبارا لفلسفتهم الروحية التي نظرت إلى كل أشياء الوجود وحركتها الغريزية كمظهر من مظاهر الروح الكوني (الله) وتجلٍ له. فالجنس، حسب رؤيتهم، شيء بريء، طاهر بطبيعته كالحيوانات، هو في جوهره طاقة. فقط يجب توجيه هذه الطاقة من مستواها المادي الغشيم إلى الروحي، نحو الوعي، حتى يحصل الاتحاد بين الفرد والطاقة الكونية التي هو جزء منها.
بالإمكان القول إن ثنائية الطاهر والمدنس أو الحلال والحرام في التراث اللاهوتي، تقابله ثنائية أكثر علمية وأرقى فهما في حضارة الهند القديمة، رغم أسبقيتها على عمر اللاهوت بخمسة آلاف سنة تقريبا، ألا وهي ثنائية المادي والروحي أو الحيواني والإلهي، بمعنى أن ما يفرق ممارسة شخص لغريزته عن شخص آخر هو درجة روحية الفعل ومدى ملامسته وتواصله مع الروح الكوني الأسمى. فكون الإنسان مجهزا بإمكانات السمو والاتحاد مع روح الوجود، ذلك الاتحاد الذي فيه خَلاصه وأعمق أسباب سعادته، كونه يمتلك هذه الإمكانات ووسائل الوصول إلى هدفه، وفي الوقت نفسه يتجاهل كل هذا ويظل قابعا في مرحلة أقرب إلى الحيوان يتحرك في لزوجة المادي الخشن العابر، لهو أكبر خسارة! هنا تفوّق مفهوم الارتقاء من الأدنى الى الأعلى في الفكر الهندي القديم على خرافة التحريم الغيبي في طريقة النظر اللاهوتية وتاريخ تعاملها القمعي مع الغريزة، باعتبار الغريزة رمز الجسد ولسان حاله. فكما أن “العين مصباح الجسد”، فإن الغريزة مفتاحه وبوابة الدخول إليه.
فكان أن وصل الجسم الآدمي في تلك الحضارة أرفع درجات التحكم عبر فنون اليوجا، التي تهب اليوجي (من بلغ الأستاذية) القدرة على الطيران فوق المكان وفي الزمن بينما هو جالس مربعا في مكانه، وكذلك فنون التانترا، رغم أنها محاطة بكثير من الأسرار التي لا تكشف إلا للدارسين الموثوق فيهم، حيث يتمتع ممارس فن التانترا، إيروتيكيا، أن يمارس الألعاب الجنسية والاتصال بالشريكة الليل بطوله دون الوصول إلى القذف الذي نظروا إليه كنوع من إهدار للطاقة. هذه الحضارة نفسها هي التي خلّفت لنا منمنمات الكاماسوترا البالغة الرقة فنيا والتحرر الأخلاقي، وهياكل المعابد المزحومة بالنحت الحجري البارز لحفلات مجون الآلهة في الجنس الجماعي التي لا يفرق بينها وبين بورنوجرافيا وقتنا هذا سوي زادهم المعرفي الروحي وإدراكهم حدود ومستويات تلك الممارسات، ناهيك عن كونها مناسبات وأعياد احتفال الآلهة بأجسادها الفانية بعد أن تخطوا ثقل المادة وضغط الرغبة وبلغوا الحرية في اللعب.
بغير مشرط، ومن خلال تأملاته جالسا مغمضا عينيه، وصل الهندي القديم إلى تشريح الجسد حتى أدق الشرايين. رسَم الطاقة الحيوية في الجسم وحددها في سبعة مراكز غير تشريحية، وهي الأماكن التي يتقاطع فيها عصبان دقيقان يصعدان في موازاة من الفقرة السفلى في العمود الفقري حتى أعلى الرأس، كل مركز يسمى “شاقرا“. تتركز الطاقة أساسا بصورتها البدائية الغشيمة في المنطقة الجنسية كمركز أول، وتكون، روحيا، حسب مفهومهم، في حالة سبات. تليها المراكز الستة تدرجا في العمود الفقري حتى قمة الرأس حيث المركز السابع الأخير الذي، ما إن وصلت إليه الطاقة عبر رحلتها من خلال التمارين الجسدية-الروحية كاليوجا والتأمل، بلغ صاحبها مرحلة الاستنارة والإشعاع، كتلك التي تحكى عن بوذا والقديسين. يصبح جسدا مستنيرا.
لعل هذه النظرة الفلسفية هي ما جعلت فنون آسيا، الصين واليابان ضمنا، بحكم القرابة الروحية، تنشغل بفكرة هارمونية الفردي مع الكوني، هذا في التناول المتصوف للفن. أما في تناوله الحسي، جاء التعبير إيروتيكيا مباشرا بغير مواراة أو حرج، كما في تصاوير “الكاماسوترا” الهندية، وكذلك في مطبوعات الإيروتيك اليابانية المعروفة بـ “شونجا” التي كانت متداولة لقرون حتى منتصف القرن التاسع عشر والتي تعتبر النسخة اليابانية لكاماسوترا الهند.
مع ترجمة كتب الفيدا الهندية (الكتاب المقدس بهاجافات جيتا، وأدبيات وأشعار الحكمة المعروفة بالأوبانيشادات) إلى الألمانية في القرن الثامن عشر، تأثر العديد من مفكري وشعراء المدرسة الرومانسية في ألمانيا، من جوته إلى نيتشه، بفكرة الارتقاء أو التسامي بالدافع الجنسي وإمكان تحويله إلى طاقة روحية خلاقة، حد أن وجد شوبنهاور في تلك الكتب عزاء حياته حسب ترديده. ومقولة نوفاليس الخالدة “يجب أن يكون الجسد روحا والروح جسدا“. غير أن الفكرة بلغت صيغتها الأكثر واقعية بعد أن مرت من مصفاة نيتشة الذي حجّم العقلَ وأعاده إلى حيزه اللحمي كعضو في الجسم خاضع لآلية وبيولوجية الجسم. إن صرخة نيتشه على لسان زرادشت “جسد خالص أنا ولا شيء أبعد” سوف يكون لها الأثر الحاسم على كل النتاج الفكري والأدبي والفني على جسد القرن العشرين كله في الحداثة وما بعدها.
وصول الفن الحديث إلى جسدانيته
ما من فنان، قديما أو حديثا، لم يكن عمله، من دون وعي، ورغما عنه، انعكاسا مباشرا لجسديته. أن أرسم خطا ركيكا يعني أن جسدي الفني لم ينضج بعد، وأن تكون ضربة فرشاتي كالسيف يعني أن محاربا يسكن هذا الجسد. فكرة الفن نفسها ليست سوى تجسيد، أو تجسد في المعنى الأرقى والأكثر معاصرة. العمل الفني يستمد قوانينه من قوانين الجسد وآلية عمله. للعمل الفني رأس وقدم وقلب ونبض ومنطقة جنسية ودرجة إشعاع وروح. والعمل الفني في بنيته الانفعالية يتوازى مع ميكانيزم الرغبة من ضغط إلى استثارة إلى توهج إلى تفريغ إلى شعور بالراحة المؤقتة. تحقق الجمالية في العمل يساوي تحقق اللذة في الرغبة.
والعمل الفني يشبه الجسد في رحلته في الزمن، يولد في غموض رحم خالقة، ينمو يخرج للعالم يسبب دهشة وجود، ثم يصبح مألوفا يتقادم فيشيخ وينحرف الإحساس به في سيرورة الذوق والتذوق فتتحول قيمته، النسبية أصلا، من فنية إلى تاريخية. وأجازف بالقول بأن الكيمياء الغامضة التي تنتج الطبيعةُ من خلالها كيانا فنيا شاعرا، هي في الأساس كيمياء جسد، منطقة البين بين التي يتداخل أو يتصارع فيها جسدان أو جنسان أو عنصران أو هويتان حسيتان.
من المفارقات أن تتحقق لفن التصوير جسدانيته على يد رسام لم ينشغل برسم الجسد أساسا: بول سيزان. احتلال سيزان مكانته التاريخية كأب للفن الحديث مثّل ضمنيا وصول الوعي الفني إلى الجسد من خلال الوعي بالشكل. كان التراث التصويري السابق على سيزان منذ عصر الكهوف إلى انطباعية زمنه تصويرا أو تجسيدا لشيء ما. رمق سيزان هذا بنظرة المعلم إلى حرفي بارع ليس أكثر، وهو الدور الذي عافت أصالته أن تلعبه. أدار ظهره لمعاصريه وتفرغ للتأمل: “في الجنة يعرفون أنني سيزان“. لم يرسم التفاحة حين نصبها أمامه، بل شبّع دائرة التفاحة على قماشته بكل مكونات خلاياه، بالهندسة والزخم الكامنين في تكسرات الخلية، بِنْيته. شتان بين فكرتي التجسيد والتجسد. تفاحتة أصبحت ثقلا، كثافة، حيزا، شكلا، جسدا. كذلك الورقة في يد اللاعب، الطاولة، المفرش، ظهر المرأة المستحمة، قمة الجبل. كل العناصر أصبحت وزنا وثقلا. حيزا مشدودا إلى جاذبية أرض لوحته.
هل كانت مصادفة أن تخرج “فتيات أفينيون“، التي أرّخت التكعيبية سنة 1907، على يد “القابلة” بيكاسو من رحم عمل سيزان؟ تلك اللوحة التي شُحنت بحسية لم ينل منها التنظير المفهومي والروح الهندسية التي استوعبت الانشطارات البللورية في فتوحات سيزان الذي كان رحل توا قبل أقل من عام!
لا عجب أن يتلقف بالتوس منجز سيزان بالتبجيل. رغم اشتغال الأول على منطقة، جماليا ومفهوميا، بعيدة كل البعد عن الأرض التي حرثها الأخير. فإن كان سيزان قد وصل بلمسته إلى حيز الثقل الذي يقول الجسد، فقد تشرّب بالتوس هذا الثقل التصويري ليقول به الخفة، الرقة، التفتح، بالأحرى. التفتح في أعمق وأعذب مظهر له: ممر العري الواقع بين الطفولة والمراهقة. الإلهي، حسب تعبير بالتوس نفسه.
ويمر على شاشة الوقت نفسه تقريبا ثلاثة مصورين شباب بثقوبهم السوداء، جمعهم، دونما لقاء في الواقع، الجرح والاضطراب والقدَر المتشابه إلى خانة الموت المبكر، بعد أن سجلوا بالخطوط الرشيقة الحادة في آن، حياة الجسد في خمارات الليل وبيوت الدعارة، وحفروا تقلصاته الشبقية في المخدر والكحول: النمساوي إيجون شيلي، والإيطالي اميديو موديلياني، والفرنسي هنري دوتولوز لوتريك.
وترسخ الروح الكثيفة غير القابلة للتصنيف لمصور من الوزن الثقيل، لوسيان فرويد، على كتلات اللحم البشري الذي تمتزج هالته الحية بحس الموت وكيميائه المتربصة بلحظات الوجود، في تراكيب مدهشة، ومن زوايا لا تخطر مجانا على بال فنان خلاق.
وتتراكم في ثلاجات الفن طوال القرن العشرين أجساد لا حصر لها، شرّحها كل فنان بمشرطه الخاص وطريقته. لكن النقلة النوعية في تناول المفردة، في افتتاحية النصف الثاني من القرن، كانت على يد الفنان الفرنسي الشاب إيف كلاين، الذي يعتبر واحدا من أوائل فناني مابعد الحداثة، والذي مرق من سماء الفن خطفا كأسطورة شاعر. ولعل موته المبكر كان، بغير ما إرادة، تأكيدا على فلسفة الفراغ التصويرية التي بصم بها حائط المعاصرة بأزرقه الخاص، أزرق الألترامارين.
يوسف ليمود
في تناول مفردة جوهرية أساسية ملحة ضاغطة كمفردة او موضوع الجسد، الذي ربما استحال فصله عن فكرة الفن، تكون الحاجة الى نظرة سريعة على زاويتي نظر ثقافتين، مختلفتين بقدر ما هما دينيتان، الحضارة الغربية التي انبثق منها تاريخ الفن الحديث والمعاصر الذي يمثل المرجعية الرئيسية لنتاج الفن الحديث في كل بلاد الشرق الأوسط، وحضارة الآيروفيدا في الهند القديمة التي أثّرت بتراثها الروحي (البوذية) على كل بلاد الشرق الأقصى تقريبا خاصة اليابان (الزن) والصين (التاوية الكونفوشيوسية)، شبه ضرورة لفهم تبعات منظار الرؤية وانعكاساتها على كيفية وحساسية التناول الفني للمفردة عبر تاريخ الفن بطوله، وصولا إلى ديناميت الفكر الفني المعاصر الذي لم يشبِعه نسف التابو عن العمل الفني كمبدأ انطلاقٍ فحسب، بل تمادى في تفتيت خلايا هذا الجسد عبر أكثر الوسائط راديكالية والتي تخطت مفهوم “الجمالي” الى حدود الصدمة (الفنان الإنجليزي المعاصر داميان هيرست بحيواناته المذبوحة في فيترينات زجاجية تتحلل ويعمل فيها الدود والذباب والعفن أمام الجمهور نموذجا).
الصراع الطويل بين الضرورة الفنية (على اعتبار أن الفنان مثل دائما خروجا أخلاقيا عن الأعراف بحكم الخامة الحرة المولود منها وبها)، وبين المحظور يحسب بالقرون، بل بالعشرات منها (يحضر هنا، كمثال، مايكل انجلو وكيف تفنن في مراوغة المؤسسة الدينية التي كلفته برسم سقف كنيسة سستينا حين صوّر كل ذاك العري الطافح بالحسية، رغم تناوله قديسين وملائكة وقصص الخلق والقيامة وعوالم السماء).
بشكل بديهي، لا ينشأ أي صراع سوى من تعارض رغبتين أو ايديولوجيتين: بين محاولة الحجب والإقصاء من جهة، وبين قانون الطبيعة بعضويتها ومدها من جهة أخرى. فثلاثة آلاف عام تقريبا، التي هي عمر اللاهوت، وتبنّي السلطة ذلك التراث العقائدي كوسيلة قمع وسيطرة طوال ذلك الزمن، جعلت من الجسد شيئا هلاميا هامشيا محجوبا محجبا، يسترق لحظاته الجارفة في الظلام عبر حياة ازدواجية عصابية تشنجية غير واعية بحالتها الفصامية الرازحة تحت وطأة الشعور بالذنب. هذا الشعور بالذنب ناتج أساسا من فكرة “المدنس” التي دنس بها اللاهوت أطهر أسماء الحياة ألا وهو الجسد (عبرت لوحة تيتيان في القرن السادس عشر “الحب الطاهر والحب المدنس” عن فكرة المدنس في صورة امرأة شهوانية يطير عن جسدها العاري وشاح أحمر، وفي النصف الآخر من اللوحة تجلس، في رزانة تغشاها سيماء الفكر، امرأة متدثرة بثوب أبيض كثير التفاصيل والثنيات في إشارة إلى حياة الطهارة والعفة). لعل القذارة، كما عبر هنري ميللر، لا توجد سوى في الدماغ.
في حين لو سمع أحد حكماء الهند القديمة القول بارتباط مفهوم القذارة بالجنس لفغر فاه ولم يفهم، اعتبارا لفلسفتهم الروحية التي نظرت إلى كل أشياء الوجود وحركتها الغريزية كمظهر من مظاهر الروح الكوني (الله) وتجلٍ له. فالجنس، حسب رؤيتهم، شيء بريء، طاهر بطبيعته كالحيوانات، هو في جوهره طاقة. فقط يجب توجيه هذه الطاقة من مستواها المادي الغشيم إلى الروحي، نحو الوعي، حتى يحصل الاتحاد بين الفرد والطاقة الكونية التي هو جزء منها.
بالإمكان القول إن ثنائية الطاهر والمدنس أو الحلال والحرام في التراث اللاهوتي، تقابله ثنائية أكثر علمية وأرقى فهما في حضارة الهند القديمة، رغم أسبقيتها على عمر اللاهوت بخمسة آلاف سنة تقريبا، ألا وهي ثنائية المادي والروحي أو الحيواني والإلهي، بمعنى أن ما يفرق ممارسة شخص لغريزته عن شخص آخر هو درجة روحية الفعل ومدى ملامسته وتواصله مع الروح الكوني الأسمى. فكون الإنسان مجهزا بإمكانات السمو والاتحاد مع روح الوجود، ذلك الاتحاد الذي فيه خَلاصه وأعمق أسباب سعادته، كونه يمتلك هذه الإمكانات ووسائل الوصول إلى هدفه، وفي الوقت نفسه يتجاهل كل هذا ويظل قابعا في مرحلة أقرب إلى الحيوان يتحرك في لزوجة المادي الخشن العابر، لهو أكبر خسارة! هنا تفوّق مفهوم الارتقاء من الأدنى الى الأعلى في الفكر الهندي القديم على خرافة التحريم الغيبي في طريقة النظر اللاهوتية وتاريخ تعاملها القمعي مع الغريزة، باعتبار الغريزة رمز الجسد ولسان حاله. فكما أن “العين مصباح الجسد”، فإن الغريزة مفتاحه وبوابة الدخول إليه.
فكان أن وصل الجسم الآدمي في تلك الحضارة أرفع درجات التحكم عبر فنون اليوجا، التي تهب اليوجي (من بلغ الأستاذية) القدرة على الطيران فوق المكان وفي الزمن بينما هو جالس مربعا في مكانه، وكذلك فنون التانترا، رغم أنها محاطة بكثير من الأسرار التي لا تكشف إلا للدارسين الموثوق فيهم، حيث يتمتع ممارس فن التانترا، إيروتيكيا، أن يمارس الألعاب الجنسية والاتصال بالشريكة الليل بطوله دون الوصول إلى القذف الذي نظروا إليه كنوع من إهدار للطاقة. هذه الحضارة نفسها هي التي خلّفت لنا منمنمات الكاماسوترا البالغة الرقة فنيا والتحرر الأخلاقي، وهياكل المعابد المزحومة بالنحت الحجري البارز لحفلات مجون الآلهة في الجنس الجماعي التي لا يفرق بينها وبين بورنوجرافيا وقتنا هذا سوي زادهم المعرفي الروحي وإدراكهم حدود ومستويات تلك الممارسات، ناهيك عن كونها مناسبات وأعياد احتفال الآلهة بأجسادها الفانية بعد أن تخطوا ثقل المادة وضغط الرغبة وبلغوا الحرية في اللعب.
بغير مشرط، ومن خلال تأملاته جالسا مغمضا عينيه، وصل الهندي القديم إلى تشريح الجسد حتى أدق الشرايين. رسَم الطاقة الحيوية في الجسم وحددها في سبعة مراكز غير تشريحية، وهي الأماكن التي يتقاطع فيها عصبان دقيقان يصعدان في موازاة من الفقرة السفلى في العمود الفقري حتى أعلى الرأس، كل مركز يسمى “شاقرا“. تتركز الطاقة أساسا بصورتها البدائية الغشيمة في المنطقة الجنسية كمركز أول، وتكون، روحيا، حسب مفهومهم، في حالة سبات. تليها المراكز الستة تدرجا في العمود الفقري حتى قمة الرأس حيث المركز السابع الأخير الذي، ما إن وصلت إليه الطاقة عبر رحلتها من خلال التمارين الجسدية-الروحية كاليوجا والتأمل، بلغ صاحبها مرحلة الاستنارة والإشعاع، كتلك التي تحكى عن بوذا والقديسين. يصبح جسدا مستنيرا.
لعل هذه النظرة الفلسفية هي ما جعلت فنون آسيا، الصين واليابان ضمنا، بحكم القرابة الروحية، تنشغل بفكرة هارمونية الفردي مع الكوني، هذا في التناول المتصوف للفن. أما في تناوله الحسي، جاء التعبير إيروتيكيا مباشرا بغير مواراة أو حرج، كما في تصاوير “الكاماسوترا” الهندية، وكذلك في مطبوعات الإيروتيك اليابانية المعروفة بـ “شونجا” التي كانت متداولة لقرون حتى منتصف القرن التاسع عشر والتي تعتبر النسخة اليابانية لكاماسوترا الهند.
مع ترجمة كتب الفيدا الهندية (الكتاب المقدس بهاجافات جيتا، وأدبيات وأشعار الحكمة المعروفة بالأوبانيشادات) إلى الألمانية في القرن الثامن عشر، تأثر العديد من مفكري وشعراء المدرسة الرومانسية في ألمانيا، من جوته إلى نيتشه، بفكرة الارتقاء أو التسامي بالدافع الجنسي وإمكان تحويله إلى طاقة روحية خلاقة، حد أن وجد شوبنهاور في تلك الكتب عزاء حياته حسب ترديده. ومقولة نوفاليس الخالدة “يجب أن يكون الجسد روحا والروح جسدا“. غير أن الفكرة بلغت صيغتها الأكثر واقعية بعد أن مرت من مصفاة نيتشة الذي حجّم العقلَ وأعاده إلى حيزه اللحمي كعضو في الجسم خاضع لآلية وبيولوجية الجسم. إن صرخة نيتشه على لسان زرادشت “جسد خالص أنا ولا شيء أبعد” سوف يكون لها الأثر الحاسم على كل النتاج الفكري والأدبي والفني على جسد القرن العشرين كله في الحداثة وما بعدها.
وصول الفن الحديث إلى جسدانيته
ما من فنان، قديما أو حديثا، لم يكن عمله، من دون وعي، ورغما عنه، انعكاسا مباشرا لجسديته. أن أرسم خطا ركيكا يعني أن جسدي الفني لم ينضج بعد، وأن تكون ضربة فرشاتي كالسيف يعني أن محاربا يسكن هذا الجسد. فكرة الفن نفسها ليست سوى تجسيد، أو تجسد في المعنى الأرقى والأكثر معاصرة. العمل الفني يستمد قوانينه من قوانين الجسد وآلية عمله. للعمل الفني رأس وقدم وقلب ونبض ومنطقة جنسية ودرجة إشعاع وروح. والعمل الفني في بنيته الانفعالية يتوازى مع ميكانيزم الرغبة من ضغط إلى استثارة إلى توهج إلى تفريغ إلى شعور بالراحة المؤقتة. تحقق الجمالية في العمل يساوي تحقق اللذة في الرغبة.
والعمل الفني يشبه الجسد في رحلته في الزمن، يولد في غموض رحم خالقة، ينمو يخرج للعالم يسبب دهشة وجود، ثم يصبح مألوفا يتقادم فيشيخ وينحرف الإحساس به في سيرورة الذوق والتذوق فتتحول قيمته، النسبية أصلا، من فنية إلى تاريخية. وأجازف بالقول بأن الكيمياء الغامضة التي تنتج الطبيعةُ من خلالها كيانا فنيا شاعرا، هي في الأساس كيمياء جسد، منطقة البين بين التي يتداخل أو يتصارع فيها جسدان أو جنسان أو عنصران أو هويتان حسيتان.
من المفارقات أن تتحقق لفن التصوير جسدانيته على يد رسام لم ينشغل برسم الجسد أساسا: بول سيزان. احتلال سيزان مكانته التاريخية كأب للفن الحديث مثّل ضمنيا وصول الوعي الفني إلى الجسد من خلال الوعي بالشكل. كان التراث التصويري السابق على سيزان منذ عصر الكهوف إلى انطباعية زمنه تصويرا أو تجسيدا لشيء ما. رمق سيزان هذا بنظرة المعلم إلى حرفي بارع ليس أكثر، وهو الدور الذي عافت أصالته أن تلعبه. أدار ظهره لمعاصريه وتفرغ للتأمل: “في الجنة يعرفون أنني سيزان“. لم يرسم التفاحة حين نصبها أمامه، بل شبّع دائرة التفاحة على قماشته بكل مكونات خلاياه، بالهندسة والزخم الكامنين في تكسرات الخلية، بِنْيته. شتان بين فكرتي التجسيد والتجسد. تفاحتة أصبحت ثقلا، كثافة، حيزا، شكلا، جسدا. كذلك الورقة في يد اللاعب، الطاولة، المفرش، ظهر المرأة المستحمة، قمة الجبل. كل العناصر أصبحت وزنا وثقلا. حيزا مشدودا إلى جاذبية أرض لوحته.
هل كانت مصادفة أن تخرج “فتيات أفينيون“، التي أرّخت التكعيبية سنة 1907، على يد “القابلة” بيكاسو من رحم عمل سيزان؟ تلك اللوحة التي شُحنت بحسية لم ينل منها التنظير المفهومي والروح الهندسية التي استوعبت الانشطارات البللورية في فتوحات سيزان الذي كان رحل توا قبل أقل من عام!
لا عجب أن يتلقف بالتوس منجز سيزان بالتبجيل. رغم اشتغال الأول على منطقة، جماليا ومفهوميا، بعيدة كل البعد عن الأرض التي حرثها الأخير. فإن كان سيزان قد وصل بلمسته إلى حيز الثقل الذي يقول الجسد، فقد تشرّب بالتوس هذا الثقل التصويري ليقول به الخفة، الرقة، التفتح، بالأحرى. التفتح في أعمق وأعذب مظهر له: ممر العري الواقع بين الطفولة والمراهقة. الإلهي، حسب تعبير بالتوس نفسه.
ويمر على شاشة الوقت نفسه تقريبا ثلاثة مصورين شباب بثقوبهم السوداء، جمعهم، دونما لقاء في الواقع، الجرح والاضطراب والقدَر المتشابه إلى خانة الموت المبكر، بعد أن سجلوا بالخطوط الرشيقة الحادة في آن، حياة الجسد في خمارات الليل وبيوت الدعارة، وحفروا تقلصاته الشبقية في المخدر والكحول: النمساوي إيجون شيلي، والإيطالي اميديو موديلياني، والفرنسي هنري دوتولوز لوتريك.
وترسخ الروح الكثيفة غير القابلة للتصنيف لمصور من الوزن الثقيل، لوسيان فرويد، على كتلات اللحم البشري الذي تمتزج هالته الحية بحس الموت وكيميائه المتربصة بلحظات الوجود، في تراكيب مدهشة، ومن زوايا لا تخطر مجانا على بال فنان خلاق.
وتتراكم في ثلاجات الفن طوال القرن العشرين أجساد لا حصر لها، شرّحها كل فنان بمشرطه الخاص وطريقته. لكن النقلة النوعية في تناول المفردة، في افتتاحية النصف الثاني من القرن، كانت على يد الفنان الفرنسي الشاب إيف كلاين، الذي يعتبر واحدا من أوائل فناني مابعد الحداثة، والذي مرق من سماء الفن خطفا كأسطورة شاعر. ولعل موته المبكر كان، بغير ما إرادة، تأكيدا على فلسفة الفراغ التصويرية التي بصم بها حائط المعاصرة بأزرقه الخاص، أزرق الألترامارين.
يوسف ليمود