نقوس المهدي
كاتب
الباب الأول
في الغزل
للوزير أحمد بن زيدون كتب بها إلى ولادة بنت المستكفي بالله في قرطبة بعد مفارقته لها ويأسه من لقائها يتشوقها ويستديم عهدها
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
يكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لبينكم أيامنا فغدت ... سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
إذ جانب العيش طلق من تألفنا ... ومورد اللهو صاف من تصافينا
وإذ هصرنا غصون الأنس دانية ... قطوفها فجنينا منه ما شينا
ليسق عهدكم عهد السرور فما ... كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم ... حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا
إن الزمان الذي ما زال يضحكنا ... أنساً بقربهم قد عاد يبكينا
غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغص فقال الدهر آمينا
فانحل ما كان معقوداً بأنفسنا ... وانبت ما كان موصولاً بأيدينا
وقد نكون وما يخشى تفرقنا ... فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا
لم تعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم ... رأياً ولم نتقلد غيره دينا
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا ... إن طال ما غير النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً ... منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
ولا استفدنا خليلاً عنك يشغلنا ... ولا اتخذنا بديلاً منك يسلينا
يا ساري البرق غاد القصر فاسق به ... من كان صرف الهوى والود يسقينا
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا ... من لو على البعد حياً كان يحيينا
يا روضة طال ما أجنت لواحظنا ... ورداً جلاه الصبا غضاً ونسرينا
ويا حياة تملينا بزهرتها ... منى ضروباً ولذات أفانينا
ويا نعيماً رفلنا من غضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا
لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة ... وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا
إذا انفردت وما شوركت في صفة ... فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا
يا جنة الخلد أبدلنا بسلسلها ... والكوثر العذب زقوماً وغسلينا
كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسعد قد غض من أجفان واشينا
سران في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
لا غرو أنا ذكرنا الحزن حين نهت ... عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سوراً ... مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
أما هواك فلم نعدل بمنهله ... شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
لم نجف جمال أنت كوكبه ... سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختياراً تجنبناك عن كثب ... لكن عدتنا على كره عوادينا
نأسى عليك إذا حثت مشعشعة ... فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا أكؤس الراح وتبدي من شمائلنا ... سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا
دومي على العهد ما دمنا محافظة ... فالحر من دان إنصافاً كما دينا
فما ابتغينا خليلاً منك يحسبنا ... ولا استفدنا حبيباً عنك يغنينا
ولو صبا نحونا من علو مطلعه ... بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا
أولى وفاء وإن لم تبذلي صلة ... فالذكر يقنعنا والطيف يكفينا
وفي الجواب قناع لو شفعت به ... بيض الأيادي التي ما زلت تولينا
عليك مني سلام الله ما بقيت ... صبابة منك نخفيها فتخفينا
لأبي الحسن علي بن زريق البغدادي وكانت له ابنة عم قد كلف بها أشد الكلف ثم ارتحل عنها من بغداد لفاقة علته فقصد أبا الخيبر عبد الرحمن الأندلسي في الأندلس ومدحه بقصيدة بليغة فأعطاه عطاء قليلاً. فقال ابن زريق أنا لله وأنا إليه راجعون سلكت القفار والبحار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء. ثم تذكر فراق ابنة عمه وما بينهما من بعد المسافة وتحمل المشقة مع ضيق ذات يده فاعتل غماً ومات. قالوا وأراد عبد الرحمن بذلك أن يختبره فلما كان بعد أيام سأل عنه فتفقدوه في الخان الذي كان فيه فوجدوه ميتاً وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه القصيدة
لا تعذليه فإن العذل يولعه ... قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه
جاوزت في نصحه حداً أضر به ... من حيث قدرت أن النصح ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً ... من عنفه فهو مضني القلب موجعه
قد كان مضطلعاً بالخطب يحمله ... فضلعت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من روعة التنفيذ أن له ... من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه ... عزم إلى سفر بالرغم يزمعه
يأبى المطالب إلا أن تكلفه ... للرزق سعياً ولكن ليس يجمعه
كأنما هو في حل ومرتحل ... مؤكل بفضاء الله يذرعه
إذا الزمان أراه في الرحيل غنى ... ولو إلى السند أضحى وهو يقطعه
وما مجاهدة الإنسان واصلة ... رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه
قد قسم الله بين الناس رزقهم ... لا يخلق الله من خلق يضيعه
لكنهم كلفوا حرصاً فلست ترى ... مسترزقاً وسوى الغايات يقنعه
والحرص في الرزق والأرزاق قد قسمت ... بغي ألا إن بغي المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه ... عفواً ويمنعه من حيث يطمعه
أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني ... صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه ... وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ... وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق ... مني بفرقته لكن أرقعه
إني أوسع عذري في جنايته ... بالبين عنه وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته ... وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا ... شكر عليه فعنه الله ينزعه
إعتضت من وجه خلي بعد فرقته ... كأساً يجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي دقت البين قلت له ... ألذنب والله ذنبي لست أدفعه
هلا أقمت فكان الرشد أجمعه ... لو أنني حين بان الرشد أتبعه
لو أنني لم تقع عيني على بلد ... في سفرتي هذه إلا وأقطعه
يا من أقطع أيامي وأنفدها ... حزناً عليه وليلي لست أهجعه
لا يطمئن بجنبي مضجع وكذا ... لا يطمئن به مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني ... به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى الدهر فيما بيننا ... عسراء تمنعني حقي وتمنعه
وكنت من ريب دهري جازعاً فرقاً ... فلم أوق الذي قد كنت أجزعه
بالله يا منزل القصر الذي درست ... آثاره وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا ... أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله ... وجاد غيث على مغناك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيع كما ... عندي له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا ... جرى على قلبه ذكري يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني ... بد ولا بي في حال يمتعه
علماً بأن اصطباري معقب فرجاً ... فأضيق الأمر إن فكرت أوسعه
عل الليالي التي أضنت بفرقتنا ... جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه
وإن تغل أحداً منا منيته ... لابد في غده الثاني سيتبعه
وإن يدم أبداً هذا الفراق لنا ... فما الذي بقضاء الله نصنعه
لشهاب الدين السهروردي
أبداً تحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وارحمنا للعاشقين تكلفوا ... ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح
وإذا هم كتموا تحدث عنهم ... عند الوشاة المدمع السفاح
وبدت شواهد للسقام عليهم ... فيها لمشكل أمرهم إيضاح
خفض الجناح ولكم وليس عليكم ... للصب في خفض الجناح جناح
فإلى لقاكم نفسه مرتاحة ... وإلى رضاكم طرفه طماح
عودوا بنور الوصل من غسق الجفا ... فالهجر ليل والوصال صباح
صافاهم فصفوا له فقلوبهم ... في نورها المشكاة والمصباح
وتمتعوا فالوقت طاب لقربكم ... راق الشراب ورفت الأقداح
يا صاح ليس على المحب ملامة ... إن لاح في أفق الوصال صباح
لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى ... كتمانهم فنمى الغرام فباحوا
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها ... لما دروا أن السماح رباح
ودعاهم داعي الحقائق دعوة ... فغدوا بها مستأنسين وراحوا
ركبوا على سنن الوفاء ودموعهم ... بحر وشدة شوقهم ملاح
والله ما طلبوا الوقوف ببابه ... حتى دعوا وأناهم المفتاح
لا يطربون لغير ذكر حبيبهم ... أبداً فكل زمانهم أفراح
حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم ... فتهتكوا لما رأوه وصاحوا
أفناهم عنهم وقد كشفت لهم ... حجب البقا فتلاشت الأرواح
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
للقاضي عياض
رأت قمر السماء فذكرتني ... ليالي وصلها بالرقمتين
كلانا ناظر قمراً ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني
لشهاب الدين الإعزازي
وهي طويلة اقتصرنا على أجودها
صاح في العاشقين بالكنانه ... رشأ في الجفون منه كنانه
بدوي بدت طلائع لحظي ... هـ فكانت فتاكة فتانه
رد منا القلوب منكسرات ... عندما راح كاسراً أجفانه
وغزانا بقامة وبعين ... تلك سيافة وذي طعانه
وأرانا وقد تبسم برقاً ... فأريناه ديمة هتانه
فهو يقضي على النفوس ولم تق ... ض من الوصل في هواه لبانه
سافر الوجه عن محاسن بدر ... مائس القد عن معاطف بانه
لست أدري أراكة هز من أع ... طافه الهيف أم لوى خيزرانه
خطرات النسيم تجرح خدي ... هـ ولمس الحرير يدمي بنانه
قال لي والدلال يعطف منه ... قامة كالقصيب ذات ليانه
هل عرفت الهوى فقلت وهل أن ... كر دعواه قال فاحمل هوانه
وله
فقن الظباء سوالفاً ونحورا ... والخيزران معاطفاً وخصورا
ثم اتخذنا من المدام مراشفاً ... ونظمن من حبب المدام ثغورا
ونظرن غزلاناً وفحن خمائلاً ... وخطرن أغصاناً ولحن بدورا
وسكن حبات القلوب كأنما ... غادرن حبات القلوب خدورا
لو لم يزدن بنا فتوراً في الهوى ... ما مسن عجباً واكتحلن فتورا
ولما كشفن عن الوجوه براقعاً ... ولما عطفن على الخصور شعورا
غازلننا يوم الحمى فهتكن من ... حجب القلوب سريرة وضميرا
وبرزن في وشي البرود كأنما ... أسبلن من فوق الحرير حريرا
إني أغار من العيون ولا هوى ... إلا إذا كان المحب غيورا
ولو استطعت حجبتهن بناظري ... وجعلت أهداب الجفون سفورا
للحاحري
حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلا مقلتاه وريقه
هلال ولكن أفق قلبي محله ... غزال ولكن سفح عيني عقيقه
أقر له من كل حسن جليله ... ووافقه من كل معنى دقيقه
بديع التثني راح قلبي أسيره ... على أن دمعي في الغرام طليقه
على سالفيه للعذار جديده ... وفي شفتيه للسلاف عتيقه
من الترك لا يصيبه شوق إلى الحمى ... ولا ذكر بانات العذيب يشوقه
على خده جمر من الحسن مضرم ... يشب ولكن في فؤادي حريقه
إذا خفق البرق اليماني موهناً ... تذكرته فاعتاد قلبي خفوقه
حكى وجهه بدر السماء فلو بدا ... مع البدر قال الناس هذا شقيقه
على مثله يستحسن الصب هتكه ... وفي مثله يجفو الصديق صديقه
ولله قلبي ما أشد عفافه ... وإن كان طرفي مستمراً فسوقه
فما فاز إلا من يبيت صبوحه ... شراب ثناياه ومنها غبوقه
لسعد الدين بن العربي
لام العذول على هواه وفندا ... فأعاد باللوم الغرام كما بدا
رشأ قد اتخذ الضلوع كناسه ... والقلب مرعى والمدامع موردا
سلب الفؤاد إذا بدا وإذا رنا ... فضح الغزالة والغزال الأغيدا
كالورد خدا والهلال تباعدا ... والظبي جيداً والقضيب تأودا
مترنح الأعطاف من خمر الصبا ... أو ما تراه باللحاظ معربدا
أيقنت أن من المدامة ريقه ... لما بدا در الحباب منضدا
وعلمت أن من الحديد فؤاده ... لما انتضى من مقلتيه مهندا
سيف ترقرق في شباه فرنده ... يأبى بغير جوانحي أن يغمدا
من منصفي من جوره فلقد غدا ... بدمي وسيف لحاظه متقلدا
زرق الأسنة في الرماح فلم أرى ... في رمح قامته سناناً أسودا
آنست من وجدي بجانب خده ... ناراً ولكن ما وجدت بها هدى
متورد الوجنات ما حييته ... إلا ارتدى ثوب الحياء موردا
ألقيت إكسير اللحاظ بخده ... فقلبت فضته النقية عسجدا
لمجير الدين بن تميم
يا محرقاً بالنار وجه محبه ... مهلاً فإن مدامعي تطفيه
أحرق بها جسدي وكل جوارحي ... واحرص على قلبي فإنك فيه
لابن الخياط
خذا من صبا نجد أماناً لقلبه ... فقد كاد رياها تطير بلبه
وإياكما ذاك النسيم فإنه ... متى هب كان الوجد أيسر خطبه
خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكروا والذكرى شوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب بصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه
وفي الركب مطوي الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبه
إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تناول منها داءه دون صحبه
ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من إعراضه مثل حجبه
أغار إذا آنست في الحي أنه ... حذاراً عليه أن تكون لحبه
لعون الدين الحلبي
لهيب الخد حين بدا لعيني ... هوى قلبي عليه كالفراش
فأحرقه فصار عليه خالاً ... وذا أثر الدخان على الحواشي
لابن سهل
سل في الظلام أخاك البدر عن سهري ... تدري النجوم كما تدري الورى خيري
أبيت أهتف بالشكوى وأشرب من ... دمعي وأنشق ريا ذكرك العطر
حتى يخيل أني شارب ثمل ... بين الرياض وبين الكأس والوتر
من لي به اختلفت فيه الملاحة إذ ... أومت إلى غيره إيماء مختصر
معطل فالحلى منه محلاة ... تغني الدراري عن التقليد بالدرر
بخده لفؤادي نسبة عجباً ... كلاهما أبداً يدمى من النظر
وخاله نقطة من غنج مقلته ... أتى بها الحسن من آياته الكبر
جاءت من العين نحو الخد زائرة ... وراقها الورد فاستغنت عن الصدر
بعض المحاسن يهوى بعضها شغفاً ... تأملوا كيف هام الغنج بالحور
لبعضهم
لم أضع للسلام كفي بصدري ... حين حيا بالحاجب المقرون
إنما قد وضعت كفي لأدري ... أين حلت سهام تلك العيون
* الكتاب: نفح الأزهار في منتخبات الأشعار
المؤلف: شاكر بن مغامس بن محفوظ بن صالح شقير البتلوني (المتوفى: 1314هـ)
المحقق: إبراهيم اليازجي
في الغزل
للوزير أحمد بن زيدون كتب بها إلى ولادة بنت المستكفي بالله في قرطبة بعد مفارقته لها ويأسه من لقائها يتشوقها ويستديم عهدها
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
يكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لبينكم أيامنا فغدت ... سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
إذ جانب العيش طلق من تألفنا ... ومورد اللهو صاف من تصافينا
وإذ هصرنا غصون الأنس دانية ... قطوفها فجنينا منه ما شينا
ليسق عهدكم عهد السرور فما ... كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم ... حزناً مع الدهر لا يبلى ويبلينا
إن الزمان الذي ما زال يضحكنا ... أنساً بقربهم قد عاد يبكينا
غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغص فقال الدهر آمينا
فانحل ما كان معقوداً بأنفسنا ... وانبت ما كان موصولاً بأيدينا
وقد نكون وما يخشى تفرقنا ... فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا
لم تعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم ... رأياً ولم نتقلد غيره دينا
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا ... إن طال ما غير النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً ... منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
ولا استفدنا خليلاً عنك يشغلنا ... ولا اتخذنا بديلاً منك يسلينا
يا ساري البرق غاد القصر فاسق به ... من كان صرف الهوى والود يسقينا
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا ... من لو على البعد حياً كان يحيينا
يا روضة طال ما أجنت لواحظنا ... ورداً جلاه الصبا غضاً ونسرينا
ويا حياة تملينا بزهرتها ... منى ضروباً ولذات أفانينا
ويا نعيماً رفلنا من غضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا
لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة ... وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا
إذا انفردت وما شوركت في صفة ... فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا
يا جنة الخلد أبدلنا بسلسلها ... والكوثر العذب زقوماً وغسلينا
كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسعد قد غض من أجفان واشينا
سران في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
لا غرو أنا ذكرنا الحزن حين نهت ... عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سوراً ... مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
أما هواك فلم نعدل بمنهله ... شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
لم نجف جمال أنت كوكبه ... سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختياراً تجنبناك عن كثب ... لكن عدتنا على كره عوادينا
نأسى عليك إذا حثت مشعشعة ... فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا أكؤس الراح وتبدي من شمائلنا ... سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا
دومي على العهد ما دمنا محافظة ... فالحر من دان إنصافاً كما دينا
فما ابتغينا خليلاً منك يحسبنا ... ولا استفدنا حبيباً عنك يغنينا
ولو صبا نحونا من علو مطلعه ... بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا
أولى وفاء وإن لم تبذلي صلة ... فالذكر يقنعنا والطيف يكفينا
وفي الجواب قناع لو شفعت به ... بيض الأيادي التي ما زلت تولينا
عليك مني سلام الله ما بقيت ... صبابة منك نخفيها فتخفينا
لأبي الحسن علي بن زريق البغدادي وكانت له ابنة عم قد كلف بها أشد الكلف ثم ارتحل عنها من بغداد لفاقة علته فقصد أبا الخيبر عبد الرحمن الأندلسي في الأندلس ومدحه بقصيدة بليغة فأعطاه عطاء قليلاً. فقال ابن زريق أنا لله وأنا إليه راجعون سلكت القفار والبحار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء. ثم تذكر فراق ابنة عمه وما بينهما من بعد المسافة وتحمل المشقة مع ضيق ذات يده فاعتل غماً ومات. قالوا وأراد عبد الرحمن بذلك أن يختبره فلما كان بعد أيام سأل عنه فتفقدوه في الخان الذي كان فيه فوجدوه ميتاً وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه القصيدة
لا تعذليه فإن العذل يولعه ... قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه
جاوزت في نصحه حداً أضر به ... من حيث قدرت أن النصح ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً ... من عنفه فهو مضني القلب موجعه
قد كان مضطلعاً بالخطب يحمله ... فضلعت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من روعة التنفيذ أن له ... من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه ... عزم إلى سفر بالرغم يزمعه
يأبى المطالب إلا أن تكلفه ... للرزق سعياً ولكن ليس يجمعه
كأنما هو في حل ومرتحل ... مؤكل بفضاء الله يذرعه
إذا الزمان أراه في الرحيل غنى ... ولو إلى السند أضحى وهو يقطعه
وما مجاهدة الإنسان واصلة ... رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه
قد قسم الله بين الناس رزقهم ... لا يخلق الله من خلق يضيعه
لكنهم كلفوا حرصاً فلست ترى ... مسترزقاً وسوى الغايات يقنعه
والحرص في الرزق والأرزاق قد قسمت ... بغي ألا إن بغي المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه ... عفواً ويمنعه من حيث يطمعه
أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني ... صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه ... وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ... وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق ... مني بفرقته لكن أرقعه
إني أوسع عذري في جنايته ... بالبين عنه وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته ... وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا ... شكر عليه فعنه الله ينزعه
إعتضت من وجه خلي بعد فرقته ... كأساً يجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي دقت البين قلت له ... ألذنب والله ذنبي لست أدفعه
هلا أقمت فكان الرشد أجمعه ... لو أنني حين بان الرشد أتبعه
لو أنني لم تقع عيني على بلد ... في سفرتي هذه إلا وأقطعه
يا من أقطع أيامي وأنفدها ... حزناً عليه وليلي لست أهجعه
لا يطمئن بجنبي مضجع وكذا ... لا يطمئن به مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني ... به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى الدهر فيما بيننا ... عسراء تمنعني حقي وتمنعه
وكنت من ريب دهري جازعاً فرقاً ... فلم أوق الذي قد كنت أجزعه
بالله يا منزل القصر الذي درست ... آثاره وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا ... أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله ... وجاد غيث على مغناك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيع كما ... عندي له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا ... جرى على قلبه ذكري يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني ... بد ولا بي في حال يمتعه
علماً بأن اصطباري معقب فرجاً ... فأضيق الأمر إن فكرت أوسعه
عل الليالي التي أضنت بفرقتنا ... جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه
وإن تغل أحداً منا منيته ... لابد في غده الثاني سيتبعه
وإن يدم أبداً هذا الفراق لنا ... فما الذي بقضاء الله نصنعه
لشهاب الدين السهروردي
أبداً تحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وارحمنا للعاشقين تكلفوا ... ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح
وإذا هم كتموا تحدث عنهم ... عند الوشاة المدمع السفاح
وبدت شواهد للسقام عليهم ... فيها لمشكل أمرهم إيضاح
خفض الجناح ولكم وليس عليكم ... للصب في خفض الجناح جناح
فإلى لقاكم نفسه مرتاحة ... وإلى رضاكم طرفه طماح
عودوا بنور الوصل من غسق الجفا ... فالهجر ليل والوصال صباح
صافاهم فصفوا له فقلوبهم ... في نورها المشكاة والمصباح
وتمتعوا فالوقت طاب لقربكم ... راق الشراب ورفت الأقداح
يا صاح ليس على المحب ملامة ... إن لاح في أفق الوصال صباح
لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى ... كتمانهم فنمى الغرام فباحوا
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها ... لما دروا أن السماح رباح
ودعاهم داعي الحقائق دعوة ... فغدوا بها مستأنسين وراحوا
ركبوا على سنن الوفاء ودموعهم ... بحر وشدة شوقهم ملاح
والله ما طلبوا الوقوف ببابه ... حتى دعوا وأناهم المفتاح
لا يطربون لغير ذكر حبيبهم ... أبداً فكل زمانهم أفراح
حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم ... فتهتكوا لما رأوه وصاحوا
أفناهم عنهم وقد كشفت لهم ... حجب البقا فتلاشت الأرواح
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
للقاضي عياض
رأت قمر السماء فذكرتني ... ليالي وصلها بالرقمتين
كلانا ناظر قمراً ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني
لشهاب الدين الإعزازي
وهي طويلة اقتصرنا على أجودها
صاح في العاشقين بالكنانه ... رشأ في الجفون منه كنانه
بدوي بدت طلائع لحظي ... هـ فكانت فتاكة فتانه
رد منا القلوب منكسرات ... عندما راح كاسراً أجفانه
وغزانا بقامة وبعين ... تلك سيافة وذي طعانه
وأرانا وقد تبسم برقاً ... فأريناه ديمة هتانه
فهو يقضي على النفوس ولم تق ... ض من الوصل في هواه لبانه
سافر الوجه عن محاسن بدر ... مائس القد عن معاطف بانه
لست أدري أراكة هز من أع ... طافه الهيف أم لوى خيزرانه
خطرات النسيم تجرح خدي ... هـ ولمس الحرير يدمي بنانه
قال لي والدلال يعطف منه ... قامة كالقصيب ذات ليانه
هل عرفت الهوى فقلت وهل أن ... كر دعواه قال فاحمل هوانه
وله
فقن الظباء سوالفاً ونحورا ... والخيزران معاطفاً وخصورا
ثم اتخذنا من المدام مراشفاً ... ونظمن من حبب المدام ثغورا
ونظرن غزلاناً وفحن خمائلاً ... وخطرن أغصاناً ولحن بدورا
وسكن حبات القلوب كأنما ... غادرن حبات القلوب خدورا
لو لم يزدن بنا فتوراً في الهوى ... ما مسن عجباً واكتحلن فتورا
ولما كشفن عن الوجوه براقعاً ... ولما عطفن على الخصور شعورا
غازلننا يوم الحمى فهتكن من ... حجب القلوب سريرة وضميرا
وبرزن في وشي البرود كأنما ... أسبلن من فوق الحرير حريرا
إني أغار من العيون ولا هوى ... إلا إذا كان المحب غيورا
ولو استطعت حجبتهن بناظري ... وجعلت أهداب الجفون سفورا
للحاحري
حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلا مقلتاه وريقه
هلال ولكن أفق قلبي محله ... غزال ولكن سفح عيني عقيقه
أقر له من كل حسن جليله ... ووافقه من كل معنى دقيقه
بديع التثني راح قلبي أسيره ... على أن دمعي في الغرام طليقه
على سالفيه للعذار جديده ... وفي شفتيه للسلاف عتيقه
من الترك لا يصيبه شوق إلى الحمى ... ولا ذكر بانات العذيب يشوقه
على خده جمر من الحسن مضرم ... يشب ولكن في فؤادي حريقه
إذا خفق البرق اليماني موهناً ... تذكرته فاعتاد قلبي خفوقه
حكى وجهه بدر السماء فلو بدا ... مع البدر قال الناس هذا شقيقه
على مثله يستحسن الصب هتكه ... وفي مثله يجفو الصديق صديقه
ولله قلبي ما أشد عفافه ... وإن كان طرفي مستمراً فسوقه
فما فاز إلا من يبيت صبوحه ... شراب ثناياه ومنها غبوقه
لسعد الدين بن العربي
لام العذول على هواه وفندا ... فأعاد باللوم الغرام كما بدا
رشأ قد اتخذ الضلوع كناسه ... والقلب مرعى والمدامع موردا
سلب الفؤاد إذا بدا وإذا رنا ... فضح الغزالة والغزال الأغيدا
كالورد خدا والهلال تباعدا ... والظبي جيداً والقضيب تأودا
مترنح الأعطاف من خمر الصبا ... أو ما تراه باللحاظ معربدا
أيقنت أن من المدامة ريقه ... لما بدا در الحباب منضدا
وعلمت أن من الحديد فؤاده ... لما انتضى من مقلتيه مهندا
سيف ترقرق في شباه فرنده ... يأبى بغير جوانحي أن يغمدا
من منصفي من جوره فلقد غدا ... بدمي وسيف لحاظه متقلدا
زرق الأسنة في الرماح فلم أرى ... في رمح قامته سناناً أسودا
آنست من وجدي بجانب خده ... ناراً ولكن ما وجدت بها هدى
متورد الوجنات ما حييته ... إلا ارتدى ثوب الحياء موردا
ألقيت إكسير اللحاظ بخده ... فقلبت فضته النقية عسجدا
لمجير الدين بن تميم
يا محرقاً بالنار وجه محبه ... مهلاً فإن مدامعي تطفيه
أحرق بها جسدي وكل جوارحي ... واحرص على قلبي فإنك فيه
لابن الخياط
خذا من صبا نجد أماناً لقلبه ... فقد كاد رياها تطير بلبه
وإياكما ذاك النسيم فإنه ... متى هب كان الوجد أيسر خطبه
خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكروا والذكرى شوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب بصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه
وفي الركب مطوي الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبه
إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تناول منها داءه دون صحبه
ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من إعراضه مثل حجبه
أغار إذا آنست في الحي أنه ... حذاراً عليه أن تكون لحبه
لعون الدين الحلبي
لهيب الخد حين بدا لعيني ... هوى قلبي عليه كالفراش
فأحرقه فصار عليه خالاً ... وذا أثر الدخان على الحواشي
لابن سهل
سل في الظلام أخاك البدر عن سهري ... تدري النجوم كما تدري الورى خيري
أبيت أهتف بالشكوى وأشرب من ... دمعي وأنشق ريا ذكرك العطر
حتى يخيل أني شارب ثمل ... بين الرياض وبين الكأس والوتر
من لي به اختلفت فيه الملاحة إذ ... أومت إلى غيره إيماء مختصر
معطل فالحلى منه محلاة ... تغني الدراري عن التقليد بالدرر
بخده لفؤادي نسبة عجباً ... كلاهما أبداً يدمى من النظر
وخاله نقطة من غنج مقلته ... أتى بها الحسن من آياته الكبر
جاءت من العين نحو الخد زائرة ... وراقها الورد فاستغنت عن الصدر
بعض المحاسن يهوى بعضها شغفاً ... تأملوا كيف هام الغنج بالحور
لبعضهم
لم أضع للسلام كفي بصدري ... حين حيا بالحاجب المقرون
إنما قد وضعت كفي لأدري ... أين حلت سهام تلك العيون
* الكتاب: نفح الأزهار في منتخبات الأشعار
المؤلف: شاكر بن مغامس بن محفوظ بن صالح شقير البتلوني (المتوفى: 1314هـ)
المحقق: إبراهيم اليازجي