معاوية محمد الحسن
كاتب
مقدمة
تهدف هذه الدراسة بصورةٍ أساسيةٍ الي التعريف بتداوليات الادب أو بصورة أكثر دقة تناول النصوص الأدبية و بصفة خاصة الاعمال السردية Narratives من خلال وجهة النظر المتعلقة بالنظرية التداولية أو التلفظية Pragmatics و هي احدي المباحث الهامة في علم اللغة المعاصر التي تتبني المنهج الخاص بدراسة استعمال اللغة من طرف الافراد و الجماعات , فهي و خلافا للنظريات اللسانية الأخري التي سادت خلال القرنين التاسع عشر و العشرين مثل البنيوية و التوليدية النحوية و غيرها تولي اهمية كبيرة للسياق الثقافي و الاجتماعي اضافة للظروف النفسية و الاجتماعية لكل من المتكلم و المخاطب خلال عملية انتاج الخطاب و باختصار ايضا يمكن تعريف النظرية التداولية علي أساس أنها عملية دراسة المنجز اللغوي خلال الاستعمال و بالتالي فهي تفرض أسلوب دراسة اللغة في حيز الاستعمال من خلال وجهة نظر المتكلم / المخاطب , و وفقا لتعريف شارلس موريس و هو احد رواد هذه النظرية فان النظرية التداولية تعني بالاساس بدراسة العلاقة الارتباطية بين العلامات اللغوية Signs (1)من جهة و متلقي و مفسري تلك العلامات من جهة أخري , فهي –اي النظرية – و بخلاف المناهج البنوية في دراسة اللغة لا تهتم بدراسة البنية الشكلانية للغة و انما بالطرائق التي تعبر فيها اللغة عن نفسها من خلال الاستعمال و الاسنهلاك اليومي .
تبرز هنا خلال محاولتنا المتواضعة لتحليل النصوص الادبية من خلال منهج اللسانيات التداولية او بتعبير اخر المقاربة التداولية للاعمال الادبية قضية أساسية لابد من الاشارة اليها و هي تتعلق بعدم صلاحية المنهج التداولي لدراسة النص الادبي حسبما اشار الي ذلك بعض الباحثين في هذا المجال , باعتبار أنه – اي المنهج التداولي - أصلح لدراسة لغة الأفراد أو الاحاديث المتداولة علي صعيد الاستعمال اليومي للغة دونا عن النصوص الادبية التي تنتج خطابا أكثر احكاما و تعقيدا و في مقابل ذلك فان البعض يري أن النصوص الادبية تحتوي أيضا علي جوانب تتعلق بذات المتكلم مهما أغرقت تلك النصوص في الصبغة الفنية و مهما اجتهدت في ابراز الموضوعية (2).
و سنحاول بالطبع ان نتمسك بهذه النظرة القائلة بتداولية النص الأدبي نظرا لما قد يحويه من عناصر تتعلق بشخص المتكلم كذات متفردة في عملية انتاج الخطاب وفق جملة من السياقات الثقافية و الاشتراطات الاجتماعية التي يبرز من خلالها التص و هذا المنحي في الدراسة حسبما اعتقد يشكل الاساس المتين بالنسبة لمفاربة الاعمال السردية تداوليا .
انطلاقا من كل هذا , تطمح هذه الدراسة في بيان الأبعاد التداولية في النص الروائي الموسم ب ( مارخدر ) للروائي و القاص السوداني عمر محمد احمد الصايم و تكمن اهمية الدراسة من كون انها تهدف الي الكشف عن معاني و مقاصد النص المذكور من منظور تداولي و محاولة اسقاط مباديء النظرية التداولية علي عناصره المختلفة , كما تهدف الدراسة ايضا الي ابراز أهم الاسترتيجيات الخطابية المختلفة داخل بنية الرواية و بيان اثرها علي المتلقي او المخاطب , هذا بالاضافة الي محاولة ايضاح مختلف العناصر الدلالية و التداولية المتمثلة في افعال الكلام Speech acts و غيرها من عناصر متنوعة ذات صلة و يمكن هنا اجمالا ان نشير ال اشكاليتين رئيستين تحاول الدراسة سبر غورهما و هما :
اولا : الي أي مدي يمكن أن تسهم دراسة الابعاد و الظواهر التداولية ( افعال الكلام –التضمينات المنطقية – الاستلزام الحواري – المفاتيح و الروابط ...الخ ) في فهم و استيعاب النص الادبي المشار اليه باعتبار انه نص تم انتاجه من خلال جملة اشتراطات يتعلق بعضها بالبنية الثقافية –الاجتماعية التي تشكل مفتاحا لتداوليات الخطاب بصفة عامة وبالتالي يمكن ان يركن الباحث الي الاتجاه التداولي في التعريف بالنص و الكشف عن قيمه المختلفة باعتباره موضوعا للاتصال اكثر من كونه موضوعا للدراسة البنيوية او الاسلوبية اللغوية .
ثانيا : كيف استطاع الكاتب في روايته الموسومة ب ( مارخدر ) توظيف الافعال الكلامية داخل بنية النص الروائي من اجل التاثير علي المتلقي او المخاطب و ماهي طبيعة و اغراض تلك الافعال الكلامية المرتبطة باستراتيجيات و أساليب النص البلاغية .
سيحاول الباحث هنا التركيز بصفة اساسية علي (افعال الكلام ) المستخدمة داخل النص الروائي (مارخدر ) و محاولة تتبع و رصد هذه الافعال بصيغها المختلفة و ذلك بغية تحليلها تحليلا يستند بالاساس الي نظرية (جون أوستن) حول افعال الكلام و الهدف النهائي بالطبع من هكذا تحليل هو معرفة غايات و مقاصد الخطاب التي يرمي اليها النص .
من جملة الاهداف الاخري التي تتوخاها الورقة ايضا لفت نظر الباحثين الي اهمية الدرس التداولي في تناول النصوص الادبية فعلي الرغم من أن الكاتب (عمر الصايم ) قد حظي بعدد من الدراسات النقدية لا باس بها بالقياس الي حداثة نشر أعماله الادبية - ظهرت (مارخدر) كاول رواية للكاتب قبل عام تقريبا - الا ان الملاحظ ان مجمل تلك الدراسات لم يأخذ الا طابع النقد الكلاسيكي او البنيوي او الشكلاني Formalism و بالتالي ظلت تلك الدراسات قاصرة في مجملها عن الكشف عن الابعاد التداولية و التواصلية للرواية المذكورة مثلما عجزت أيضا عن تناول النص من منظور مختلف قادر علي تخطي الحدود و الحواجز التقليدية للنقد المتمثلة في الاسلوبية اللغوية و البناء اللغوي و بناء الشخصيات و عناصر الحبكة و ما شابه الي اعادة اكتشاف النص في ضوء احتكاكه مع البنية الثقافية و الاجتماعية التي تسهم بقدر كبير في تداوليات الخطاب الادبي فوفقا لما هو معلوم فان المقاربة التداولية للنصوص الادبية تنأي عن الاسئلة ا المتعلقة بالبنية و تلك المتعلقة بالدلالة لتركز حول جوهر الوظيفة التلفظية او التداولية في النصوص و الخطابات الادبية وفق منظومة تقوم علي علاقات المتكلم و المخاطب و طبيعة الرسالة و الادوار التي يلعبهما كلاهما داخل سياق محدد
حول النظرية التداولية أو التلفظية
نشأت التداولية pragmatics في سياق تطور و إذدهار العلوم الفلسفية و البلاغية سيما تلك المتعلقة بفلسفة اللغة حسبما أشار الي ذلك العالم اللغوي و الفيلسوف المعروف (ليييش) ، بيد ان البراغماتيا pragmatics كمصطلح لم يتم الكشف عنه و استخدامه في المجالات المرتبطة بعلم اللغة الا عندما تمكن العالم اللغوي المعروف (موريس) من تطوير ما يعرف بالسيميوطيقيا و ذلك خلال ثلاثينيات القرن المنصرم , و بحسب (موريس) فإن مجالات علم اللغة العام يمكن تفسيمها إلي ثلاثة مباحث أساسية و هي علم التراكيب Syntax و علم الدلالة Semantics و علم التداوليات pragmatics .
و منذ بداية خمسينيات القرن الماضي أخذ الاهتمام بالدراسات التداولية يتزايد يوماً بعد أخر بالرغم من تلك السطوة الكبيرة التي كانت ما تزال ماثلة بالنسبة لعلم اللغة البنيوي Structuralism و التي لم تكن تضع في الحسبان الجانب المتعلق بالاستخدام الفعلي للغة من خلال تداولاتها اليومية و لا حتي تلك الجوانب المتعلقة بوظائف اللغة نفسها أو وجهة نظر مستخدميها علي سبيل المثال ، فقد ظلت الدراسات اللغوية في ذاك الحين قاصرة علي ما يمكن تسميته اللسانيات الوصفية التي تقوم بصورة أساسية علي محاولات وصف الظاهرة اللغوية علي أساس بنيوي-ظاهراتي يؤطر اللغة داخل إطار من الحقائق الموضوعية التي تستند علي الهيكل الخارجي للغة من حيث أنها مجموعة من الاصوات التي تتألف منها ما يعرف بالفونيمات و التي بدورها تنتظم في بني اكبر تعرف بالموريفمات و هكذا حتي نصل الي مستوي الكلمة أو المفردة التي يعتبرها البنيون العلامة الرئيسية في البناء اللغوي ، و هكذا فان هذا المنهج قد اهمل تماماً كما هو معروف دراسة اللغة من حيث الاستعمال أو التداول حيث يمكن النظر الي اللغة في هذا الجانب باعتبارها تمثل و قبل أي شيءٍ أخر جملة المعارف او الحصيلة اللغوية لمستخدم اللغة التي تمكنه في نهاية الامر من تطويع اللغة خلال عملية الاتصال و التواصل مع الأخرين و هي بالتالي –أي اللغة- كما أشار شومسكي تعتبر احدي الفاعليات الداخلية للعقل الانساني بالدرجة الأولي بمعني انها نتاج تلاقح عقلاني محدد ، و قد اطلق شومسكي و هو احد أبرز علماء اللسانيات المعاصرين علي هذين المنهجين المختلفين في الدراسات اللغوية منهج الدراسة الظاهراتية للغة Externalized Language في مقابل منهج دراسة اللغة من الداخل Internalized Language و بالطبع فان الدراسات اللغوية التي سادت خلال النصف الاول من القرن العشرين يمكن وصفها هنا علي أساس أنها دراسات حاولت أن تشتغل علي وصف الظاهرة اللغوية من الخارج و بالتالي لم تستطع أن تتخطي معضلة وصف البني و الانساق اللغوية بعيدا عن بيئاتها الاجتماعية و الثقافية ، بينما اهتمت التداولية بمحاولة رصد اللغة من خلال الاستعمال اليومي باعتبار ان الواقع اي كان لا يمكن ملامسته و مقاربته الا من خلال اللغة التي تظل ميتة و هامدة حينما تنتزع و تجرد من خاصية الاستعمال او التداول لتصبح مجرد بنية جامدة و يمكن الاشارة اليها هنا بالمصطلح الذي كان قد ابتدعه فرديناندد دي سوسسية احد رواد البنيوية و هو Langue و الذي يستعمل في وصف اللغة كنظام بنيوي متكامل يوجد مستقلاً عن متحدثي اللغة و ذلك في مقابل مصطلح Parole الذي يستعمل للدلالة علي الاداء الكلامي الحقيقي و الفعلي للمتحدثين او الناطقين بلغةٍ ما .
نظرية أفعال الكلام و تطبيقاتها
سنحاول في هذا الجانب و بطريقة مختصرة رسم بعض الملامح العامة لنظرية أفعال الكلام Speech acts theory التي تندرج تحت الاطار العام لمباحث النظرية التداولية، و ما ذاك الا لان هذه الدراسة تتوخي تناول رواية (مارخدر) تناولاً تداولياً يقوم كما أسلفنا علي محاولة بحث و استقصاء و رصد توظيف الاستراتيجيات الخاصة بافعال الكلام داخل النص الروائي المشار اليه .
يعتبر استاذ فلسفة اللغة في جامعة اوكسفورد خلال خمسينيات القرن الماضي (جون لانجشو اوستن) رائد و مؤسس النظرية التي تعرف بنظرية أفعال الكلام Speech acts theory و قد برزت أهم ملامح تلك النظرية من خلال الكتاب الذي أصدره (أوستن) في ذلك الوقت تحت عنوان How to do things with words أو ( كيف تنجز الكلمات الأشياء) و قد جاء ذلك الكتاب ردا علي الفلاسفة الوضعيين حول ما يتعلق بفلسفة اللغة من حيث أنها أي اللغة مجرد وسيلة او ادأة لوصف وقائع العالم الخارجي و ظاهراته و قد أنبري أوستن يفند هذه المقولة محاولاً إثبات أن دور اللغة لا يقتصر علي وصف العالم و إنما يتعدي ذلك الي محاولة تغيير العالم و التأثير عليه و بذلك فان منهج أوستن يلغي الحدود المعروفة بين الكلام و الحدث حيث لاحظ (أوستن ) أن كثيراً من الجمل الخبرية لا تسعي لوصف أو تقرير ظاهرة او واقعة معينة بقدر ما تسعي الي محاولة إحداث نقلة بنائية جديدة علي صعيد الحدث فعبارة مثل (فتحت الجلسة) التي تقال عادة في افتتاح اعمال المحاكم لا تعد وصفية بالدرجة الاولي و إنما يتضح هدفها من خلال الانتقال من وضعية محددة للقاضي و للاشخاص الأخرين داخل قاعة المحكمة الي وضعية جديدة مختلفة و بالتالي فهي تفرض نوعاً من التغييير علي الواقع المرئي من خلال الخطاب اللغوي .و باختصار فان استعمال اللغة حسب مفهوم (أوستن) يعكس نمطاً و نشاطاً إجتماعياً أكثر من كونه يمثل مجموعة أقوال يتجاذبها الصدق أو الكذب حسبما كان شائعاً وسط الفلاسفة لحقبةٍ طويلة من الزمان.
في هذا السياق ينبغي الإشارة أيضاُ الي واحدٍ من أهم فلاسفة اللغة و هو لودفيغ فينجشتاين (1889-1951) (3)الذي سبق و ان أشار الي ذات المعاني حين اعتبر أن وظيفة اللغة تتجاوز حدود وصف ظاهرات العالم الخارجي إلي وظائف اخري تتمثل في محاولات بناء و اعادة بناء الواقع عبر سلسلة من العمليات السياقية التي تكتسب فيها المفردات و العبارات و الجمل معاني مختلفة فالمعني بالنسبة لفتجشتاين هو الاستعمال meaning is use (4) و بالتالي فان فيتجشتاين هنا يختلف اختلافا كلياً مع تلك النظريات التي حاولت ربطت المعني بمنظومة العلاقات السيمائية داخل الوحدات اللغوية ., وقد وضع أربع تصنيفات للفعل الكلامي يمكن أجمالها في الأتي :
1- فعل التلفظ locutionary act و يقصد به ما يتفوه به المرء أي جملة الاصوات التي يتلفظها المتكلم و هي مجموعة من الفونيمات (الصويتات) التي تشكل قولا له معني لغوي محدد.
2- فعل قوة التلفظ Illocutionary act وهو مقدار ما ينجزه القول من فعل حقيقي يعبر عن نية المتكلم و تطلعاته فهو بالتالي يمثل معني قصدياً بالنسبة للمتكلم .
3- فعل أثر التلفظ perlocutionary act و يقصد به هنا الأثر الذي تحدثه الكلمات في سياق دلالي محدد علي السامع و تعمل بالتالي علي إيصال و تبليغ رسالته التي يود نقلها للمستمع او المخاطب .
و يجدر بنا هنا الاشارة أيضاً إلي أن نظرية افعال الكلام كانت قد وجدت حظها من الذيوع و الانتشار بعد أن تولي أحد تلامذة (أوستن) و هو الاميركي ( جون سورل) محاولة اعادة ضبط و تأسيس النظرية عبر إسهامه في وضع جملة من القواعد و الآليات الخاصة بالنظرية ،فقد قام (سورل) علي سبيل المثال باعادة تصنيف أفعال الكلام ليحصرها في خمسة أفعال رئيسية موسعاً بذلك دائرة و محيط هذه الافعال بعد ان قام أيضا بوضع عدد من الشروط الخاصة التي تحكم عملية الاتصال و التواصل الانجازي للفعل الكلامي . (5
البناء السردي /السياق التواصلي و أفعال الكلام
تمثل رواية مارخدر للروائي السوداني عمر الصايم حسبما أشار الي ذلك عدد من النقاد طفرةً في الخطاب الروائي السوداني المعاصر و ذلك علي اوجه عدة و صعدٍ مختلفة و ليس يعنينا هنا بالطبع الحديث عن الجماليات الفنية للعمل، كما لا يعنيننا أيضاً بحث النواحي المتعلقة بكتنيكات السرد التي استخدمها الكاتب و لا تلك الجوانب المتعلقة ببناء الشخصيات و البراعة الفائقة التي أظهرها الكاتب في التشخيص Characterization علي سبيل المثال ، فكل ذلك مما قد سلفت الاشارة اليه في بحوث و دراسات سابقة و إنما الهدف الذي تتوخاه الدراسة يتمثل في محاولة احداث نوع من القراءة التداولية تتمثل في استقصاء الاستراتيجيات الخاصة بتوظيف (أفعال الكلام ) داخل الرواية و حسبما هو معلوم فان أفعال الكلام تمثل إحدي المفاهيم الأساسية لعلم التداولية كما سبق ان أشرنا إلي ذلك .
سنحاول في بداية الأمر تقديم فذلكة عن الرواية الموسومة ب (مآرخدر) قبل ان ندخل مباشرة في مناقشة اهم الافعال الكلامية المستخدمة في العمل و تلك ضرورة تقتضيها مصلحة الدراسة التي تنشد المقاربة التداولية لهذه الرواية التي عدت من قبل كثير من النقاد السودانيين بشارة كبري و فأل حسن في مسيرة الرواية السودانية المعاصرة .
تستدعي رواية (مارخدر) في سياق تطورها العام ثلاثة أزمنة مختلفة تمثل الزمن الداخلي في النص الروائي و بحسب الناقد عمر عاشور فان الزمن الداخلي في النص الروائي هو زمن تخييلي يقوم علي ثنائية زمنية مضطربة ،فهو يقول واصفا هذا الاضطراب:
( هذا الاضطراب عبارة عن ذبذبة بين الحاضر و الماضي حيث يمثل الماضي زمن الاحداث بينما يمثل الحاضر زمن القص الذي ينهض فيه السرد أي ان هناك مستويين من الزمن :الاول الخاص بالاحداث و يسمي زمن التخيل و الثاني الخاص بالحكي او المشافهة و يسمي بزمن السرد) (6)
علي هذا الاساس يمكن النظر الي جملة الاحداث التي تمثلها رواية مارخدر هنا حيث انها تدور علي فلك ثلاثة ازمنة تاريخية مرتبطة بتشيكل تاريخ السودان المعاصر و بالتالي فان الرواية تحاول تقديم مساءلة لجملة من الموضوعات تمثل معضلة الهوية الثقافية و الحضارية إحداها و حتي يتمكن القاريء الذي لم تتح له فرصة الاطلاع علي هذه الرواية العظيمة من الوقوف علي فكرتها الأساسية ينبغي إستدعاء تلخيص الكاتب نفسه لفكرة العمل قبل الولوج في موضوع صلب الدراسة المرتبط بالافعال الكلامية حيث يقول الكاتب في مقابلة اجرتها معه إحدي المجلات الالكترونية في السودان ما يلي :
(مارخدر اسم نتاج مقاربة نحتتها شخصيتان في الرواية هما مدثر واستيفانيوس، وهما من ديانتين مختلفتين كما يتبدى من اسميهما، اصطنعا هذه المقاربة من صميم تراثهما الديني ليتمكنا من إيجاد قاسم مشترك يبرر صداقتهما، حدث هذا في طفولتهما، عاد مدثر وجعل مارخدر أسطورة تاريخية تعايشت مع كل الأزمنة الحضارية من كوش، فمروي، ثم سوبا وحتى راهننا المعيش، مدثر كتب جزء من الرواية والجزء الآخر هو مذكرات تاسي. بالنسبة لي أرى في مارخدر القوة الكامنة لقيم كثيرة تزخر بها الشخصية السودانية، ويحتاجها الإنسان في مقارعة أزماته الأنطولوجية أينما كانت، وبغض النظر عن اللون أو الدين أو غيرهما من الفروقات التي تميز الإنسان ولكنها لا تمتهن إنسانيته. وأعلم أنه ليس من حقي كأحد المشاركين في إنتاج النص تحديد دلالة جزمية، جامعة مانعة لما ورد فيه تُغلق الباب أمام محاولات استكشاف مدلولات بعيدة أو غائبة عن لحظات الكتابة وتفاعلاتها؛ ولذلك يظل مارخدر مفتوحاً للتحليل وإعادة إنتاج المقولات النقدية.) (7)
علي ضوء ما جاء في الفقرة السابقة و هي مجتزأ من حوار مطول كما ذكرنا مع الكاتب يمكن ملاحظة حقيقة مهمة و هي تعدد السياقات الزماكانية للاحداث في الرواية و يستلزم ذلك بالضرورة تنوعاً في الخطاب السردي و في السياقات و الشخصيات مما يفتح شهية المشتغل بالدرس التداولي لللمقاربة التداولية التي تقوم بالأساس وفق رؤية تستهدف قراءة العمل الأدبي من خلال علاقته بالسياق التواصلي و التركيز علي أفعال الكلام ، بالاضافة الي استكشاف العلامات المنطقية الحجاجية، والاهتمام بالسياق التواصلي والتلفظي في النصوص والخطابات و علي هذا الاساس فان المقاربات التداولية للخطاب السردي و بحسب الناقد (جميل حمداوي ) . تكون قد تجاوزت تماماً سؤال البنية، وسؤال الدلالة، لتهتم بسؤال الوظيفة والدور والرسالة والسياق الوظيفي..(8)
أفعال الكلام داخل نص (مارخدر)
بدايةً لابد من الاشارة الي حقيقة مهمة فيما يتعلق بالمقاربة التداولية للنص الأدبي ، و هي ان النص الأدبي من خلال وجهة النظر التداولية يمكن التعامل معه علي أساس أنه يمثل جملة أفعال كلامية، فهو –اي النص الادبي- و كما أشار الي ذلك الناقد (جميل حمداوي) (ليس مجرد خطاب لتبادل الأخبار والأقوال والأحاديث، بل هو نص يستهدف عبر مجموعة من الأقوال والأفعال الإنجازية تغيير وضع المتلقي، وتغيير نظام معتقداته، أو تغيير موقفه السلوكي من خلال ثنائية افعل ولاتفعل) (9)
علي ضوء ما ذكر آنفاً سنتناول هنا نماذجا من أساليب استعمال أفعال الكلام داخل النص الروائي الموسوم ب(مارخدر) ، مستهدين في ذلك بالتصنيف العام الذي أبتدعه مهندس النظرية الأول (أوستن) بالاضافة الي تلميذه (سورل) و كان (أوستن)قد قام بحصر جميع الأفعال اللغوية تحت إطار خمس مجموعات رئيسية كالأتي:-
1- الحكميات Verdictives
2- التنفيذيات Exercitives
3- الوعديات أو الإلزاميات Commisives
4- السلوكيات Behabitives
5- العرضيات Expositives
ثم جاء (سوريل) ليجري تعديلاً علي هذا التصنيف حيث أضاف اليه جملة أخري من الاصناف الاخري كالاخباريات assertive , و التوجيهيات او الطلبيات directives علي سبيل المثال لا الحصر و سنحاول فيما ياتي انتخاب مجموعة من افعال الكلام بحسب تصنيف (اوستن ) و ( سوريل) علي حد سواء مستقصين استعمالاتها في رواية (مارخدر )
أولاً : الاخباريات Assertives
و هي بحسب (سوريل ) مجموعة من الافعال الكلامية تهدف بالدرجة الاولي الي وصف واقعة معينة من خلال طرح قضية تستوجب الصحة و الخطأ و المعيار الاساسي هنا هو مدي تطابق القضية مع الوقائع في العالم الخارجي(10)
في رواية مارخدر نلاحظ وقوع كثير من هذه الافعال فعلي سبيل المثال و في السياق السردي لحالة العلاقة المضطربة بين أبويً الراوي –الأب و الام- يدور حوار مقتضب بشأن موضوع اقتران الأب بزوجةٍ أخري و نلحظ أيضا في مقطع اخر من المنولوج الداخلي ان الزوجة كان لديها حدس سابق تجاه هذا الأمر و تبدو أيضاً مستسلمة لقدر كهذا و في ذات يوم يفصح الأب بحقيقة إرتباطه بالزواج من أخري :_
( قالها لي بعادية ، لفظها بهدوء غير مصطنع ،كأنه يصرح لي بأن له ملابسا لدي الغسال ، أخفيت دهشتي و تصنعت الأدب المفرط ، التأدب المفرط يجدي و يشجعه علي مزيد من البوح
-تزوجت قبل ست سنوات .
قلت : و الولد ؟
- عمره خمس سنوات.(11)
نلاحظ هنا أن الغرض الانجازي من الخطاب المطروح ينحو باتجاه تقرير واقعة محددة (تزوجت ) ،ان الاب هنا يستخدم ضمير المتكلم في الاشارة لارتكابه واقعة محددة تقرر قضية تستلزم الصحة او الخطأ و تبدو اللفظة اللاحقة (قبل ست سنوات) علامة لغوية تفيد تأكيد وقوع الحادثة في سياق زماني محدد و عندما ينهض سؤال الراوي (و الولد؟)- و هنا يجب ملاحظة أن الراوي كان لديه حدسا أو معلومة حول نتائج هذا الزواج (الانجاب) كنوع من الاستلزام الحواري- ينبري الأب او الزوج قائلا( عمره خمس سنوات ) و هذا ما يفيد بقطعية الأخبارية التي افادت بوقوع حدث الزواج من امرأة أخري و من الملاحظ ايضا ان هذه الجملة الحوارية هي جملة خبرية و ليست انشائية و من المعلوم ان الجملة الخبرية تستلزم فرضية الصحة أو الخطأ بينما الجملة الانشائية لا يشترط فيها مثل هذا .
ثانيا : التوجيهيات أو الطلبيات Directives
من افعال الكلام التي قام (سورييل) باعتمادها الي جانب الافعال الاخري التي قام بتصنيفها (أوستن) و هي تعني أن الفعل الكلامي هنا يهدف الي حمل السامع علي انجاز مهمة محددة أو حثه علي القيام بامر ما و يكون اتجاه المطابقة فيها من العالم الي القول وشرط الاخلاص فيها يتمثل في الرغبة و الارادة الصادقة و الاخلاص .
في مفتتح رواية مارخدر و في سياق حدييث الراوي حول واقعة محاولة اغتياله علي ايدي الكهنة نقرأ ما يلي :
( تأكدت أنني سأقتل اليوم ، سأوثق علي شجرة الموت اليابسة و يلقي مئة من الرماة بسهامهم علي جسدي ، سيفتح الكهنة رأسي للغربان و سيجرني صغار الكهنة الي جبانة النجسين . قلت للكاهن :
-أمنحني قليلا من الوقت ، أكمل هذه المنحوتة .
تبسم : لك هذا )( 12)
يستخدم الراوي أحد ألاساليب المعروفة في بناء أفعال الكلام و هو أسلوب (الطلبيات ) و هو كما أشرنا يقوم علي محاولة حث السامع علي انجاز مهمة محددة تستدعي قضية مطلبية و يكون محتوي تلك القضية علي الدوام متعلقا بالمستقبل علي عكس ما يتعلق بالاخباريات Assertives كما رأينا آنفا و التي تتعلق القضية فيها بالماضي و تستلزم شروطا للصحة و الخطأ .
من الملاحظ هنا أيضا أن الراوي يستعمل أسلوب الرجاء Request و ليس الامر imperative حيث يقوم الخطاب هنا علي لفظة محورية (امنحني) و هنا يجب ملاحظة أنه و لنجاح الفعل الكلامي المحدد لابد من توافر جملة من العناصر المتعلقة بشروط قياسية اسماها اوستن شروط الملائمة و تتمثل هذه الشروط في أنه يجب ان يكون المشارك في الموقف اللغوي صادقا في افكاره و مشاعره و نياته كما يلزم أيضا وجود اشخاص يتفوهون بعبارات طلبية واضحة و محددة اضافة الي وجود اشخاص مؤهلين لتنفيذ الطلبيات (13)
تتوفر اذن شروط نجاح الفعل الكلامي في الخطاب الموجه من قبل الراوي الي الكاهن و تستدعي لفظة (امنحني) هنا وجود علاقة سلطوية تحكم المشاركين في الحوار و بذلك يصدر الخطاب هنا من أدني الي اعلي حيث يمثل الكاهن السلطة التي بامكانها انفاذ أمر القتل و يرضخ الراوي بالتالي لمشيئة تلك السلطة الباطشة و لذلك يمكن تصنيف الفعل الكلامي هنا داخل دائرة (التوجيهيات) او (الطلبيات) علي أساس انه يمثل نوعا من الرجاء او التوسل يستدعي علاقة سلطوية معكوسة (من أسفل الي اعلي ) و لذلك يختار الراوي كلمة علي شاكلة (امنحني) و ليس ( اعطني ) مثلا أو ( أريد بعض الوقت ...الخ.
ثالثا : التعبيريات Expressive
مجموعة من أفعال الكلام يكون الغرض الانجازي منها هو التعبير عن الموقف النفسي تعبيرا يتوافر فيه شرط الاخلاص و يدخل فيه الشكر و المواساة علي سبيل المثال و لا يشترط فيه التطابق مع العالم الخارجي و انما المطلوب فقط توافر شرط الاخلاص (14)
نستطيع هنا و بكل سهولة أن نحدد كما هائلا من الافعال الكلامية داخل نص مارخدر تندرج تحت اطار التعبيريات ولا يكاد النص يخلو من عرض مختلف اصناف هذه الافعال بدرجات متباينة تماشيا مع السياق الكلامي من ناحية و مع الموقف التواصلي من ناحية أخري ، فهي شانها في ذلك شأن بقية الافعال الكلامية الأخري تقع تحت طائلة الحكم العام لمعطيات توجيه عملية التبادل الكلامي و هي المتكلمون و السياق و الاستعمالات العادية للكلام .
سنحاول من خلال الجدول التالي عرض بعض نماذج التعبيريات في نص مارخدر ثم نعلق عليها في اقتضاب
الجملة/العبارة
نوع الفعل الكلامي
الغرض الإنجازي
-ما رأيك في جلالته؟
أجبته بدهشة: هو من أفضل ملوكنا.
(15)
المدح/الثناء
توجيه الثناء أو المدح لشخص معين ضمن سياقي كلامي يقتضي ابراز و عرض وجهة نظر المتكلم بازاء الشخصية و يشترط هنا توافر عنصر الاخلاص و ليس المطابقة مع وقائع العالم الخارجي الحقيقية .
كنت رديف أبي علي ظهر حماره حين حرن عند منحني الترعة ،مد أذنيه كبالونتين و القي بنظراته في شوك الكتر .....
قال ابي : يا النبي نوح و يا سيدنا الخدر.
قلت في نفسي : الشيطان ..الشيطان سيهجم علينا (16)
التذمر/الشكوي /اظهار الاسي
اظهار الجزع أو الفزع تجاه خطر يداهم المتكلم و تظهر القوة التعبيرية للفعل هنا من خلال استخدام المتكلم لعلامة لغوية دالة لها ارتباط مباشر بالسياق الثقافي-الحضاري و هي ارتباط شخصيتي النبي نوح و النبي الخضر في الثقافة الاسلامية و في الذهنية الدينية بمعاني النجدة .
بضحكة مغناجة كما تتغنج اليساريات ،ضحكت،أسقطت طرحتها عن الأخدود بين نهديها
قلت لها : نحن خلية واحدة و هدفنا واحد .
- لماذا لا نتزاور كالرفاق ؟
- عين السلطة و الاحزاب علينا و الاجواء ملغمة .(17)
الاعتذار
في السياق الكلامي للموقف التواصلي يدعو الراوي رفيقته الحزبية لزيارته ولكنها تتذرع بخطر مراقبة السلطات لنشاطهما كي تجد مخرجا من الوقوع في براثن الغواية و لذلك فان الجملة الحوارية الاخيرة تعتبر ملفوظاً لغوياً تتعلق وظيفته الانجازية بتحقيق معني الاعتذار .
رابعاً : الوعديات أو الالزاميات Commisives
الوعديات أو الالزاميات وفق تصنيف (أوستن) الذي سبقت الاشارة اليه ، تمثل مجموعة من الملفوظات اللغوية التي تندرج تحت ظاهرة ما يمسمي بافعال الكلام و هي تفيد الزام المتحدث نفسه بانجاز أو تحقيق فعل معين يقع في المستقبل .
في مارخدر أيضاً نلحظ لجؤ الكاتب لاستعمال مثل هذه الافعال فعلي سبيل المثال يمكن ان نقرأ في جانب من الرواية ذلك الحوار الذي يدور بين الراوي (تمثله شخصية الفتاة المجامعية المثقفة التي تنوي الاقتران بشاب من إحدي الإثنيات المغايرة بينما يرفض والدها ذلك ) ما يلي :
(قال أبي : ما ممكن تتزوجيه .
سألته : ليه يا بابا ؟
سكت و انصرف عني ، تحاول أمي افهامي.
تقول : سيذهب بك بعيدا .
- و ساعود يوما .
- مطبخهم و مطبخنا ما واحد .
- سنأكل في الكافتيريات .
- سيقول أهلك أنك تزوجتي عبد .)18
كما هو واضح من خلال الجمل الحوارية التي انتخبناها في هذا الصدد ، فان المتحدث (شخصية الفتاة الجامعية ) تلزم نفسها من خلال الخطاب بتحقيق او انجاز اشياء محددة و ذلك في محاولة ايفاءها بالتزامتها تجاه موقف معين أو قضية معينة جاءت في السياق السردي و برزت كتحد بالنسبة للراوي و هي قضية ارتباط تلك الفتاة بشاب أسود من أثنية مغايرة مضطهدة تأنف بعض المجموعات العرقية الاخري داخل المجتمع السوداني من الارتباط بها عن طريق المصاهرة و الزواج و ما يهمنا بالطبع ليس تقديم نقد ثقافي عن تلك الظاهرة العنصرية البغيضة و انما الذي يهمنا بالدرجة الاولي هو تلك الكيفية التي استطاع بها الكاتب ان يوظف فعل الكلام بطريقة معينة لخدمة الخطاب السردي و يمكن القول هنا أن الجملتين المشار اليهما اعلاه (أسفلهما خط ) تمثلان ما يمكن ان نطلق عليه ملفوظا قوليا ينتمي للفئة المعروفة ب( الوعديات) و تتمثل القدرة الانجازية لهذين الملفوظين كما وردا من خلال السياق في انهما جاءا كنتيجة لتحفيز مضاد يتمثل في محاول التصدي لهجمة ثقافية شرسة تمثلت في محاولة الابقاء علي الحدود و الحواجز العرقية داخل المجتمع وبالتالي فان الراوي يفند التعللات التي ابدتها الأسرة في محاولة منع ذلك الارتباط و هي تبدو واهية و لا تمثل السبب الحقيقي خلف معارضة ذلك الزواج الي ان يتفصح الاسرة ممثلة في شخصية الام عن السبب الحقيقي و هو كون ان الشاب المتقدم للزواج من الفتاة (عبد) .
ثمة ملاحظة اخري يتطلب الأمر عرضها هنا و هي أن ما اشرنا اليه من خلال النموذج السابق بفعل (الوعديات) يمكن مقاربته تداولياً هنا ايضا من خلال الظاهرة المعروفة في علم التداوليات ب(الاستلزام الحواري ) و النص الادبي كما هو معروف يعتبر و من خلال وجهة النظر التداولية عبارة عن مقاربة تقوم علي مبدأ الاستلزام الحواري الي جانب كونها تقوم علي ظواهر تداولية أخري (19)
و يقوم مبدأ الاستلزام الحواري علي مفهوم قدمه (بول غرايس) (20 )و هو يتعلق بجملة من الشروط الضمنية التي يقبل بها المتحاورون في سياق تبادلهم لخطاب معين و تكون تلك الشروط ضرورية لعملية و فهم و استيعاب الخطاب و من الممكن هنا القول أن المقطع المشار اليه آنفاً في رواية مارخدر يمكن فهمه من خلال الاستلزام الحواري و احدي خصائصه المهمة هي عدم قابليته للانفصال عن المحتوي الدلالي للكلمات و العبارات (21)، فنحن و من خلال المقطع السابق نلاحظ أن فعل الكلام يتم بناؤه من خلال السياق الكلامي الذي قوم علي مبدأ رفض الاسرة لزواج الفتاة من أخر مغاير عرقيا و علي الرغم من ورود مبدأ الرفض بصيغ و عبارات مغايرة (مطبخنا و مطبخهم ليس واحدا...سيذهب بك بعيدا ..الخ) الا ان كل ذلك يستلزم حوارياً مفهوم عدم الانصياع للرغبة الذي يمكن ان يستشف بصورة مباشرة من الجملة الحوارية الاولي ( ما ممكن تتزوجيه ) .
خاتمة
ان المقاربة التداولية للاعمال الادبية ما تزال قاصرة و محدودة الي حد بعيد في الوصول بكلا من الادب و البحث اللغوي بالغايات و الطموحات المنشودة و ما ذاك الا لسيطرة مناهج النقد الشكلاني و البنيوي علي البحث الأدبي من ناحية اضافة الي حداثة التداولية نفسها كمبحث يستفيد من علوم متعددة كاللسانيات و فلسفة اللغة و غيرها من الناحية الأخري ، لذلك وجب تكثيف الدرس التداولي من قبل الباحثين المتخصصين و اعمال النظر في السرديات المعاصرة علي وجه الخصوص تداوليا من اجل ابراز الجانب الوظيفي و التداولي و السياقي في النصوص الادبية .
استطاع الكاتب من خلال جملة الخطابات السردية التي قدمها عبر نصه الموسوم (مارخدر) توظيف افعال الكلام بصورة جيدة مكنته من تسخير تلك الافعال لخدمة الخطاب السردي في الرواية و في ختام هذا البحث أيضا لابد لي من الاقرار بحقيقة قصور هذه الدراسة في الالمام بكافة الجوانب و الابعاد التداولية في (مارخدر) و إني لأأرجو أن يتقبل القاريء هذا العمل المتواضع علي أساس أنه مجرد مجهود بشري يعتريه ما يعتري عمل الانسان من النقص و القصور .
المراجع و المصادر
(1)-راضية خفيف بوبكري. التداولية و تحليل الخطاب الادبي –مقاربة نظرية . مجلة الموقف الأدبي .العدد 399- 2004
(2) -المصدر السابق .
(3)آن روبول و جاك موشلار. التداولية اليومعالم جديد من التواصل.–المنظمة العربية للترجمة - دار الطليعة للطباعة و النشر-بيروت-لبنان-2003
(4)-عيسي تومي –الابعاد التداولية في القران الكريم –سورة البقرة نموذجاً –دراسة اعدت لنيل درجة الماجستير –جامعة محمد خيضر-الجزائر2004
(5) Searle ,J.R .Speech Acts. Cambridge university press .Cambridge-Mass(1969).
(6)-عاشور، عمر(ابن الزيبان) .البنية السردية عند الطيب صالح –البنية الزمانية و المكانية في موسم الهجرة الي الشمال .منشورات جائزة الطيب صالح العالمية للابداع الكتابي –شركة زين للهاتف السيار –الخرطوم -2011
(7) -مقابلة اجريت مع مؤلف (مآرخدر) في موقع البعيد الالكتروني .WWW.Albaeed.com
(8)- جميل حمداوي . المقاربة التداولية في الادب و النقد –مجلة ديوان العرب الالكترونية -2012WWW.diwaanalarab.com
(9)- ذات المصدر السابق .
(10)- عبد الكريم ، سحابة . التداولية. مجلة المخبر –ابحاث في اللغة و الأدب الجزائري –العدد الخامس –مارس 2009
(11) -الصايم ، عمر محمد احمد .رواية مآرخدر . دار المصورآت للطباعة و النشر –الخرطوم -2016 – ص(84)
(12) -ذات المصدر السابق .
(13),(14) Leech ,Geoffrey(1983) .Principles of Pragmatics .Longman Linguistics library –Longman-UK
(15) -,(16)،(17) ،(18) الصايم، عمر محمداحمد .رواية مآرخدر .مصدر سابق.
(19)- جميل حمداوي _ مصدر سابق .
(20) Grice. H.P .Presupposition and Conversational Implicature. In Leech(1983)-p.123-Longman –UK
(21)- الابعاد التداولية في القران الكريم –مصدر سابق .
5-عمر عاشور .البنية السردية عند الطيب صالح ..البنية الزمنية و المكانية في موسم الهجرة الي الشمال – منشورات جائزة الطيب صالح العالمية للابداع الكتابي –شركة زين للهاتف السيار –السودان -2011 .ص(37)
6- مقابلة أجرتها مجلة (البعيد الألكترونية ) مع الكاتب -البعيد | مجلة إلكترونية شاملة - 8-3-2016
* أفعال الكلام في رواية (مارخدر ) للروائي السوداني عمر الصايم...
مقاربة تداولية للخطاب السردي المعاصر ...
د. معاوية محمد الحسن قيلي
جامعة الطائف –المملكة العربية السعودية *
تهدف هذه الدراسة بصورةٍ أساسيةٍ الي التعريف بتداوليات الادب أو بصورة أكثر دقة تناول النصوص الأدبية و بصفة خاصة الاعمال السردية Narratives من خلال وجهة النظر المتعلقة بالنظرية التداولية أو التلفظية Pragmatics و هي احدي المباحث الهامة في علم اللغة المعاصر التي تتبني المنهج الخاص بدراسة استعمال اللغة من طرف الافراد و الجماعات , فهي و خلافا للنظريات اللسانية الأخري التي سادت خلال القرنين التاسع عشر و العشرين مثل البنيوية و التوليدية النحوية و غيرها تولي اهمية كبيرة للسياق الثقافي و الاجتماعي اضافة للظروف النفسية و الاجتماعية لكل من المتكلم و المخاطب خلال عملية انتاج الخطاب و باختصار ايضا يمكن تعريف النظرية التداولية علي أساس أنها عملية دراسة المنجز اللغوي خلال الاستعمال و بالتالي فهي تفرض أسلوب دراسة اللغة في حيز الاستعمال من خلال وجهة نظر المتكلم / المخاطب , و وفقا لتعريف شارلس موريس و هو احد رواد هذه النظرية فان النظرية التداولية تعني بالاساس بدراسة العلاقة الارتباطية بين العلامات اللغوية Signs (1)من جهة و متلقي و مفسري تلك العلامات من جهة أخري , فهي –اي النظرية – و بخلاف المناهج البنوية في دراسة اللغة لا تهتم بدراسة البنية الشكلانية للغة و انما بالطرائق التي تعبر فيها اللغة عن نفسها من خلال الاستعمال و الاسنهلاك اليومي .
تبرز هنا خلال محاولتنا المتواضعة لتحليل النصوص الادبية من خلال منهج اللسانيات التداولية او بتعبير اخر المقاربة التداولية للاعمال الادبية قضية أساسية لابد من الاشارة اليها و هي تتعلق بعدم صلاحية المنهج التداولي لدراسة النص الادبي حسبما اشار الي ذلك بعض الباحثين في هذا المجال , باعتبار أنه – اي المنهج التداولي - أصلح لدراسة لغة الأفراد أو الاحاديث المتداولة علي صعيد الاستعمال اليومي للغة دونا عن النصوص الادبية التي تنتج خطابا أكثر احكاما و تعقيدا و في مقابل ذلك فان البعض يري أن النصوص الادبية تحتوي أيضا علي جوانب تتعلق بذات المتكلم مهما أغرقت تلك النصوص في الصبغة الفنية و مهما اجتهدت في ابراز الموضوعية (2).
و سنحاول بالطبع ان نتمسك بهذه النظرة القائلة بتداولية النص الأدبي نظرا لما قد يحويه من عناصر تتعلق بشخص المتكلم كذات متفردة في عملية انتاج الخطاب وفق جملة من السياقات الثقافية و الاشتراطات الاجتماعية التي يبرز من خلالها التص و هذا المنحي في الدراسة حسبما اعتقد يشكل الاساس المتين بالنسبة لمفاربة الاعمال السردية تداوليا .
انطلاقا من كل هذا , تطمح هذه الدراسة في بيان الأبعاد التداولية في النص الروائي الموسم ب ( مارخدر ) للروائي و القاص السوداني عمر محمد احمد الصايم و تكمن اهمية الدراسة من كون انها تهدف الي الكشف عن معاني و مقاصد النص المذكور من منظور تداولي و محاولة اسقاط مباديء النظرية التداولية علي عناصره المختلفة , كما تهدف الدراسة ايضا الي ابراز أهم الاسترتيجيات الخطابية المختلفة داخل بنية الرواية و بيان اثرها علي المتلقي او المخاطب , هذا بالاضافة الي محاولة ايضاح مختلف العناصر الدلالية و التداولية المتمثلة في افعال الكلام Speech acts و غيرها من عناصر متنوعة ذات صلة و يمكن هنا اجمالا ان نشير ال اشكاليتين رئيستين تحاول الدراسة سبر غورهما و هما :
اولا : الي أي مدي يمكن أن تسهم دراسة الابعاد و الظواهر التداولية ( افعال الكلام –التضمينات المنطقية – الاستلزام الحواري – المفاتيح و الروابط ...الخ ) في فهم و استيعاب النص الادبي المشار اليه باعتبار انه نص تم انتاجه من خلال جملة اشتراطات يتعلق بعضها بالبنية الثقافية –الاجتماعية التي تشكل مفتاحا لتداوليات الخطاب بصفة عامة وبالتالي يمكن ان يركن الباحث الي الاتجاه التداولي في التعريف بالنص و الكشف عن قيمه المختلفة باعتباره موضوعا للاتصال اكثر من كونه موضوعا للدراسة البنيوية او الاسلوبية اللغوية .
ثانيا : كيف استطاع الكاتب في روايته الموسومة ب ( مارخدر ) توظيف الافعال الكلامية داخل بنية النص الروائي من اجل التاثير علي المتلقي او المخاطب و ماهي طبيعة و اغراض تلك الافعال الكلامية المرتبطة باستراتيجيات و أساليب النص البلاغية .
سيحاول الباحث هنا التركيز بصفة اساسية علي (افعال الكلام ) المستخدمة داخل النص الروائي (مارخدر ) و محاولة تتبع و رصد هذه الافعال بصيغها المختلفة و ذلك بغية تحليلها تحليلا يستند بالاساس الي نظرية (جون أوستن) حول افعال الكلام و الهدف النهائي بالطبع من هكذا تحليل هو معرفة غايات و مقاصد الخطاب التي يرمي اليها النص .
من جملة الاهداف الاخري التي تتوخاها الورقة ايضا لفت نظر الباحثين الي اهمية الدرس التداولي في تناول النصوص الادبية فعلي الرغم من أن الكاتب (عمر الصايم ) قد حظي بعدد من الدراسات النقدية لا باس بها بالقياس الي حداثة نشر أعماله الادبية - ظهرت (مارخدر) كاول رواية للكاتب قبل عام تقريبا - الا ان الملاحظ ان مجمل تلك الدراسات لم يأخذ الا طابع النقد الكلاسيكي او البنيوي او الشكلاني Formalism و بالتالي ظلت تلك الدراسات قاصرة في مجملها عن الكشف عن الابعاد التداولية و التواصلية للرواية المذكورة مثلما عجزت أيضا عن تناول النص من منظور مختلف قادر علي تخطي الحدود و الحواجز التقليدية للنقد المتمثلة في الاسلوبية اللغوية و البناء اللغوي و بناء الشخصيات و عناصر الحبكة و ما شابه الي اعادة اكتشاف النص في ضوء احتكاكه مع البنية الثقافية و الاجتماعية التي تسهم بقدر كبير في تداوليات الخطاب الادبي فوفقا لما هو معلوم فان المقاربة التداولية للنصوص الادبية تنأي عن الاسئلة ا المتعلقة بالبنية و تلك المتعلقة بالدلالة لتركز حول جوهر الوظيفة التلفظية او التداولية في النصوص و الخطابات الادبية وفق منظومة تقوم علي علاقات المتكلم و المخاطب و طبيعة الرسالة و الادوار التي يلعبهما كلاهما داخل سياق محدد
حول النظرية التداولية أو التلفظية
نشأت التداولية pragmatics في سياق تطور و إذدهار العلوم الفلسفية و البلاغية سيما تلك المتعلقة بفلسفة اللغة حسبما أشار الي ذلك العالم اللغوي و الفيلسوف المعروف (ليييش) ، بيد ان البراغماتيا pragmatics كمصطلح لم يتم الكشف عنه و استخدامه في المجالات المرتبطة بعلم اللغة الا عندما تمكن العالم اللغوي المعروف (موريس) من تطوير ما يعرف بالسيميوطيقيا و ذلك خلال ثلاثينيات القرن المنصرم , و بحسب (موريس) فإن مجالات علم اللغة العام يمكن تفسيمها إلي ثلاثة مباحث أساسية و هي علم التراكيب Syntax و علم الدلالة Semantics و علم التداوليات pragmatics .
و منذ بداية خمسينيات القرن الماضي أخذ الاهتمام بالدراسات التداولية يتزايد يوماً بعد أخر بالرغم من تلك السطوة الكبيرة التي كانت ما تزال ماثلة بالنسبة لعلم اللغة البنيوي Structuralism و التي لم تكن تضع في الحسبان الجانب المتعلق بالاستخدام الفعلي للغة من خلال تداولاتها اليومية و لا حتي تلك الجوانب المتعلقة بوظائف اللغة نفسها أو وجهة نظر مستخدميها علي سبيل المثال ، فقد ظلت الدراسات اللغوية في ذاك الحين قاصرة علي ما يمكن تسميته اللسانيات الوصفية التي تقوم بصورة أساسية علي محاولات وصف الظاهرة اللغوية علي أساس بنيوي-ظاهراتي يؤطر اللغة داخل إطار من الحقائق الموضوعية التي تستند علي الهيكل الخارجي للغة من حيث أنها مجموعة من الاصوات التي تتألف منها ما يعرف بالفونيمات و التي بدورها تنتظم في بني اكبر تعرف بالموريفمات و هكذا حتي نصل الي مستوي الكلمة أو المفردة التي يعتبرها البنيون العلامة الرئيسية في البناء اللغوي ، و هكذا فان هذا المنهج قد اهمل تماماً كما هو معروف دراسة اللغة من حيث الاستعمال أو التداول حيث يمكن النظر الي اللغة في هذا الجانب باعتبارها تمثل و قبل أي شيءٍ أخر جملة المعارف او الحصيلة اللغوية لمستخدم اللغة التي تمكنه في نهاية الامر من تطويع اللغة خلال عملية الاتصال و التواصل مع الأخرين و هي بالتالي –أي اللغة- كما أشار شومسكي تعتبر احدي الفاعليات الداخلية للعقل الانساني بالدرجة الأولي بمعني انها نتاج تلاقح عقلاني محدد ، و قد اطلق شومسكي و هو احد أبرز علماء اللسانيات المعاصرين علي هذين المنهجين المختلفين في الدراسات اللغوية منهج الدراسة الظاهراتية للغة Externalized Language في مقابل منهج دراسة اللغة من الداخل Internalized Language و بالطبع فان الدراسات اللغوية التي سادت خلال النصف الاول من القرن العشرين يمكن وصفها هنا علي أساس أنها دراسات حاولت أن تشتغل علي وصف الظاهرة اللغوية من الخارج و بالتالي لم تستطع أن تتخطي معضلة وصف البني و الانساق اللغوية بعيدا عن بيئاتها الاجتماعية و الثقافية ، بينما اهتمت التداولية بمحاولة رصد اللغة من خلال الاستعمال اليومي باعتبار ان الواقع اي كان لا يمكن ملامسته و مقاربته الا من خلال اللغة التي تظل ميتة و هامدة حينما تنتزع و تجرد من خاصية الاستعمال او التداول لتصبح مجرد بنية جامدة و يمكن الاشارة اليها هنا بالمصطلح الذي كان قد ابتدعه فرديناندد دي سوسسية احد رواد البنيوية و هو Langue و الذي يستعمل في وصف اللغة كنظام بنيوي متكامل يوجد مستقلاً عن متحدثي اللغة و ذلك في مقابل مصطلح Parole الذي يستعمل للدلالة علي الاداء الكلامي الحقيقي و الفعلي للمتحدثين او الناطقين بلغةٍ ما .
نظرية أفعال الكلام و تطبيقاتها
سنحاول في هذا الجانب و بطريقة مختصرة رسم بعض الملامح العامة لنظرية أفعال الكلام Speech acts theory التي تندرج تحت الاطار العام لمباحث النظرية التداولية، و ما ذاك الا لان هذه الدراسة تتوخي تناول رواية (مارخدر) تناولاً تداولياً يقوم كما أسلفنا علي محاولة بحث و استقصاء و رصد توظيف الاستراتيجيات الخاصة بافعال الكلام داخل النص الروائي المشار اليه .
يعتبر استاذ فلسفة اللغة في جامعة اوكسفورد خلال خمسينيات القرن الماضي (جون لانجشو اوستن) رائد و مؤسس النظرية التي تعرف بنظرية أفعال الكلام Speech acts theory و قد برزت أهم ملامح تلك النظرية من خلال الكتاب الذي أصدره (أوستن) في ذلك الوقت تحت عنوان How to do things with words أو ( كيف تنجز الكلمات الأشياء) و قد جاء ذلك الكتاب ردا علي الفلاسفة الوضعيين حول ما يتعلق بفلسفة اللغة من حيث أنها أي اللغة مجرد وسيلة او ادأة لوصف وقائع العالم الخارجي و ظاهراته و قد أنبري أوستن يفند هذه المقولة محاولاً إثبات أن دور اللغة لا يقتصر علي وصف العالم و إنما يتعدي ذلك الي محاولة تغيير العالم و التأثير عليه و بذلك فان منهج أوستن يلغي الحدود المعروفة بين الكلام و الحدث حيث لاحظ (أوستن ) أن كثيراً من الجمل الخبرية لا تسعي لوصف أو تقرير ظاهرة او واقعة معينة بقدر ما تسعي الي محاولة إحداث نقلة بنائية جديدة علي صعيد الحدث فعبارة مثل (فتحت الجلسة) التي تقال عادة في افتتاح اعمال المحاكم لا تعد وصفية بالدرجة الاولي و إنما يتضح هدفها من خلال الانتقال من وضعية محددة للقاضي و للاشخاص الأخرين داخل قاعة المحكمة الي وضعية جديدة مختلفة و بالتالي فهي تفرض نوعاً من التغييير علي الواقع المرئي من خلال الخطاب اللغوي .و باختصار فان استعمال اللغة حسب مفهوم (أوستن) يعكس نمطاً و نشاطاً إجتماعياً أكثر من كونه يمثل مجموعة أقوال يتجاذبها الصدق أو الكذب حسبما كان شائعاً وسط الفلاسفة لحقبةٍ طويلة من الزمان.
في هذا السياق ينبغي الإشارة أيضاُ الي واحدٍ من أهم فلاسفة اللغة و هو لودفيغ فينجشتاين (1889-1951) (3)الذي سبق و ان أشار الي ذات المعاني حين اعتبر أن وظيفة اللغة تتجاوز حدود وصف ظاهرات العالم الخارجي إلي وظائف اخري تتمثل في محاولات بناء و اعادة بناء الواقع عبر سلسلة من العمليات السياقية التي تكتسب فيها المفردات و العبارات و الجمل معاني مختلفة فالمعني بالنسبة لفتجشتاين هو الاستعمال meaning is use (4) و بالتالي فان فيتجشتاين هنا يختلف اختلافا كلياً مع تلك النظريات التي حاولت ربطت المعني بمنظومة العلاقات السيمائية داخل الوحدات اللغوية ., وقد وضع أربع تصنيفات للفعل الكلامي يمكن أجمالها في الأتي :
1- فعل التلفظ locutionary act و يقصد به ما يتفوه به المرء أي جملة الاصوات التي يتلفظها المتكلم و هي مجموعة من الفونيمات (الصويتات) التي تشكل قولا له معني لغوي محدد.
2- فعل قوة التلفظ Illocutionary act وهو مقدار ما ينجزه القول من فعل حقيقي يعبر عن نية المتكلم و تطلعاته فهو بالتالي يمثل معني قصدياً بالنسبة للمتكلم .
3- فعل أثر التلفظ perlocutionary act و يقصد به هنا الأثر الذي تحدثه الكلمات في سياق دلالي محدد علي السامع و تعمل بالتالي علي إيصال و تبليغ رسالته التي يود نقلها للمستمع او المخاطب .
و يجدر بنا هنا الاشارة أيضاً إلي أن نظرية افعال الكلام كانت قد وجدت حظها من الذيوع و الانتشار بعد أن تولي أحد تلامذة (أوستن) و هو الاميركي ( جون سورل) محاولة اعادة ضبط و تأسيس النظرية عبر إسهامه في وضع جملة من القواعد و الآليات الخاصة بالنظرية ،فقد قام (سورل) علي سبيل المثال باعادة تصنيف أفعال الكلام ليحصرها في خمسة أفعال رئيسية موسعاً بذلك دائرة و محيط هذه الافعال بعد ان قام أيضا بوضع عدد من الشروط الخاصة التي تحكم عملية الاتصال و التواصل الانجازي للفعل الكلامي . (5
البناء السردي /السياق التواصلي و أفعال الكلام
تمثل رواية مارخدر للروائي السوداني عمر الصايم حسبما أشار الي ذلك عدد من النقاد طفرةً في الخطاب الروائي السوداني المعاصر و ذلك علي اوجه عدة و صعدٍ مختلفة و ليس يعنينا هنا بالطبع الحديث عن الجماليات الفنية للعمل، كما لا يعنيننا أيضاً بحث النواحي المتعلقة بكتنيكات السرد التي استخدمها الكاتب و لا تلك الجوانب المتعلقة ببناء الشخصيات و البراعة الفائقة التي أظهرها الكاتب في التشخيص Characterization علي سبيل المثال ، فكل ذلك مما قد سلفت الاشارة اليه في بحوث و دراسات سابقة و إنما الهدف الذي تتوخاه الدراسة يتمثل في محاولة احداث نوع من القراءة التداولية تتمثل في استقصاء الاستراتيجيات الخاصة بتوظيف (أفعال الكلام ) داخل الرواية و حسبما هو معلوم فان أفعال الكلام تمثل إحدي المفاهيم الأساسية لعلم التداولية كما سبق ان أشرنا إلي ذلك .
سنحاول في بداية الأمر تقديم فذلكة عن الرواية الموسومة ب (مآرخدر) قبل ان ندخل مباشرة في مناقشة اهم الافعال الكلامية المستخدمة في العمل و تلك ضرورة تقتضيها مصلحة الدراسة التي تنشد المقاربة التداولية لهذه الرواية التي عدت من قبل كثير من النقاد السودانيين بشارة كبري و فأل حسن في مسيرة الرواية السودانية المعاصرة .
تستدعي رواية (مارخدر) في سياق تطورها العام ثلاثة أزمنة مختلفة تمثل الزمن الداخلي في النص الروائي و بحسب الناقد عمر عاشور فان الزمن الداخلي في النص الروائي هو زمن تخييلي يقوم علي ثنائية زمنية مضطربة ،فهو يقول واصفا هذا الاضطراب:
( هذا الاضطراب عبارة عن ذبذبة بين الحاضر و الماضي حيث يمثل الماضي زمن الاحداث بينما يمثل الحاضر زمن القص الذي ينهض فيه السرد أي ان هناك مستويين من الزمن :الاول الخاص بالاحداث و يسمي زمن التخيل و الثاني الخاص بالحكي او المشافهة و يسمي بزمن السرد) (6)
علي هذا الاساس يمكن النظر الي جملة الاحداث التي تمثلها رواية مارخدر هنا حيث انها تدور علي فلك ثلاثة ازمنة تاريخية مرتبطة بتشيكل تاريخ السودان المعاصر و بالتالي فان الرواية تحاول تقديم مساءلة لجملة من الموضوعات تمثل معضلة الهوية الثقافية و الحضارية إحداها و حتي يتمكن القاريء الذي لم تتح له فرصة الاطلاع علي هذه الرواية العظيمة من الوقوف علي فكرتها الأساسية ينبغي إستدعاء تلخيص الكاتب نفسه لفكرة العمل قبل الولوج في موضوع صلب الدراسة المرتبط بالافعال الكلامية حيث يقول الكاتب في مقابلة اجرتها معه إحدي المجلات الالكترونية في السودان ما يلي :
(مارخدر اسم نتاج مقاربة نحتتها شخصيتان في الرواية هما مدثر واستيفانيوس، وهما من ديانتين مختلفتين كما يتبدى من اسميهما، اصطنعا هذه المقاربة من صميم تراثهما الديني ليتمكنا من إيجاد قاسم مشترك يبرر صداقتهما، حدث هذا في طفولتهما، عاد مدثر وجعل مارخدر أسطورة تاريخية تعايشت مع كل الأزمنة الحضارية من كوش، فمروي، ثم سوبا وحتى راهننا المعيش، مدثر كتب جزء من الرواية والجزء الآخر هو مذكرات تاسي. بالنسبة لي أرى في مارخدر القوة الكامنة لقيم كثيرة تزخر بها الشخصية السودانية، ويحتاجها الإنسان في مقارعة أزماته الأنطولوجية أينما كانت، وبغض النظر عن اللون أو الدين أو غيرهما من الفروقات التي تميز الإنسان ولكنها لا تمتهن إنسانيته. وأعلم أنه ليس من حقي كأحد المشاركين في إنتاج النص تحديد دلالة جزمية، جامعة مانعة لما ورد فيه تُغلق الباب أمام محاولات استكشاف مدلولات بعيدة أو غائبة عن لحظات الكتابة وتفاعلاتها؛ ولذلك يظل مارخدر مفتوحاً للتحليل وإعادة إنتاج المقولات النقدية.) (7)
علي ضوء ما جاء في الفقرة السابقة و هي مجتزأ من حوار مطول كما ذكرنا مع الكاتب يمكن ملاحظة حقيقة مهمة و هي تعدد السياقات الزماكانية للاحداث في الرواية و يستلزم ذلك بالضرورة تنوعاً في الخطاب السردي و في السياقات و الشخصيات مما يفتح شهية المشتغل بالدرس التداولي لللمقاربة التداولية التي تقوم بالأساس وفق رؤية تستهدف قراءة العمل الأدبي من خلال علاقته بالسياق التواصلي و التركيز علي أفعال الكلام ، بالاضافة الي استكشاف العلامات المنطقية الحجاجية، والاهتمام بالسياق التواصلي والتلفظي في النصوص والخطابات و علي هذا الاساس فان المقاربات التداولية للخطاب السردي و بحسب الناقد (جميل حمداوي ) . تكون قد تجاوزت تماماً سؤال البنية، وسؤال الدلالة، لتهتم بسؤال الوظيفة والدور والرسالة والسياق الوظيفي..(8)
أفعال الكلام داخل نص (مارخدر)
بدايةً لابد من الاشارة الي حقيقة مهمة فيما يتعلق بالمقاربة التداولية للنص الأدبي ، و هي ان النص الأدبي من خلال وجهة النظر التداولية يمكن التعامل معه علي أساس أنه يمثل جملة أفعال كلامية، فهو –اي النص الادبي- و كما أشار الي ذلك الناقد (جميل حمداوي) (ليس مجرد خطاب لتبادل الأخبار والأقوال والأحاديث، بل هو نص يستهدف عبر مجموعة من الأقوال والأفعال الإنجازية تغيير وضع المتلقي، وتغيير نظام معتقداته، أو تغيير موقفه السلوكي من خلال ثنائية افعل ولاتفعل) (9)
علي ضوء ما ذكر آنفاً سنتناول هنا نماذجا من أساليب استعمال أفعال الكلام داخل النص الروائي الموسوم ب(مارخدر) ، مستهدين في ذلك بالتصنيف العام الذي أبتدعه مهندس النظرية الأول (أوستن) بالاضافة الي تلميذه (سورل) و كان (أوستن)قد قام بحصر جميع الأفعال اللغوية تحت إطار خمس مجموعات رئيسية كالأتي:-
1- الحكميات Verdictives
2- التنفيذيات Exercitives
3- الوعديات أو الإلزاميات Commisives
4- السلوكيات Behabitives
5- العرضيات Expositives
ثم جاء (سوريل) ليجري تعديلاً علي هذا التصنيف حيث أضاف اليه جملة أخري من الاصناف الاخري كالاخباريات assertive , و التوجيهيات او الطلبيات directives علي سبيل المثال لا الحصر و سنحاول فيما ياتي انتخاب مجموعة من افعال الكلام بحسب تصنيف (اوستن ) و ( سوريل) علي حد سواء مستقصين استعمالاتها في رواية (مارخدر )
أولاً : الاخباريات Assertives
و هي بحسب (سوريل ) مجموعة من الافعال الكلامية تهدف بالدرجة الاولي الي وصف واقعة معينة من خلال طرح قضية تستوجب الصحة و الخطأ و المعيار الاساسي هنا هو مدي تطابق القضية مع الوقائع في العالم الخارجي(10)
في رواية مارخدر نلاحظ وقوع كثير من هذه الافعال فعلي سبيل المثال و في السياق السردي لحالة العلاقة المضطربة بين أبويً الراوي –الأب و الام- يدور حوار مقتضب بشأن موضوع اقتران الأب بزوجةٍ أخري و نلحظ أيضا في مقطع اخر من المنولوج الداخلي ان الزوجة كان لديها حدس سابق تجاه هذا الأمر و تبدو أيضاً مستسلمة لقدر كهذا و في ذات يوم يفصح الأب بحقيقة إرتباطه بالزواج من أخري :_
( قالها لي بعادية ، لفظها بهدوء غير مصطنع ،كأنه يصرح لي بأن له ملابسا لدي الغسال ، أخفيت دهشتي و تصنعت الأدب المفرط ، التأدب المفرط يجدي و يشجعه علي مزيد من البوح
-تزوجت قبل ست سنوات .
قلت : و الولد ؟
- عمره خمس سنوات.(11)
نلاحظ هنا أن الغرض الانجازي من الخطاب المطروح ينحو باتجاه تقرير واقعة محددة (تزوجت ) ،ان الاب هنا يستخدم ضمير المتكلم في الاشارة لارتكابه واقعة محددة تقرر قضية تستلزم الصحة او الخطأ و تبدو اللفظة اللاحقة (قبل ست سنوات) علامة لغوية تفيد تأكيد وقوع الحادثة في سياق زماني محدد و عندما ينهض سؤال الراوي (و الولد؟)- و هنا يجب ملاحظة أن الراوي كان لديه حدسا أو معلومة حول نتائج هذا الزواج (الانجاب) كنوع من الاستلزام الحواري- ينبري الأب او الزوج قائلا( عمره خمس سنوات ) و هذا ما يفيد بقطعية الأخبارية التي افادت بوقوع حدث الزواج من امرأة أخري و من الملاحظ ايضا ان هذه الجملة الحوارية هي جملة خبرية و ليست انشائية و من المعلوم ان الجملة الخبرية تستلزم فرضية الصحة أو الخطأ بينما الجملة الانشائية لا يشترط فيها مثل هذا .
ثانيا : التوجيهيات أو الطلبيات Directives
من افعال الكلام التي قام (سورييل) باعتمادها الي جانب الافعال الاخري التي قام بتصنيفها (أوستن) و هي تعني أن الفعل الكلامي هنا يهدف الي حمل السامع علي انجاز مهمة محددة أو حثه علي القيام بامر ما و يكون اتجاه المطابقة فيها من العالم الي القول وشرط الاخلاص فيها يتمثل في الرغبة و الارادة الصادقة و الاخلاص .
في مفتتح رواية مارخدر و في سياق حدييث الراوي حول واقعة محاولة اغتياله علي ايدي الكهنة نقرأ ما يلي :
( تأكدت أنني سأقتل اليوم ، سأوثق علي شجرة الموت اليابسة و يلقي مئة من الرماة بسهامهم علي جسدي ، سيفتح الكهنة رأسي للغربان و سيجرني صغار الكهنة الي جبانة النجسين . قلت للكاهن :
-أمنحني قليلا من الوقت ، أكمل هذه المنحوتة .
تبسم : لك هذا )( 12)
يستخدم الراوي أحد ألاساليب المعروفة في بناء أفعال الكلام و هو أسلوب (الطلبيات ) و هو كما أشرنا يقوم علي محاولة حث السامع علي انجاز مهمة محددة تستدعي قضية مطلبية و يكون محتوي تلك القضية علي الدوام متعلقا بالمستقبل علي عكس ما يتعلق بالاخباريات Assertives كما رأينا آنفا و التي تتعلق القضية فيها بالماضي و تستلزم شروطا للصحة و الخطأ .
من الملاحظ هنا أيضا أن الراوي يستعمل أسلوب الرجاء Request و ليس الامر imperative حيث يقوم الخطاب هنا علي لفظة محورية (امنحني) و هنا يجب ملاحظة أنه و لنجاح الفعل الكلامي المحدد لابد من توافر جملة من العناصر المتعلقة بشروط قياسية اسماها اوستن شروط الملائمة و تتمثل هذه الشروط في أنه يجب ان يكون المشارك في الموقف اللغوي صادقا في افكاره و مشاعره و نياته كما يلزم أيضا وجود اشخاص يتفوهون بعبارات طلبية واضحة و محددة اضافة الي وجود اشخاص مؤهلين لتنفيذ الطلبيات (13)
تتوفر اذن شروط نجاح الفعل الكلامي في الخطاب الموجه من قبل الراوي الي الكاهن و تستدعي لفظة (امنحني) هنا وجود علاقة سلطوية تحكم المشاركين في الحوار و بذلك يصدر الخطاب هنا من أدني الي اعلي حيث يمثل الكاهن السلطة التي بامكانها انفاذ أمر القتل و يرضخ الراوي بالتالي لمشيئة تلك السلطة الباطشة و لذلك يمكن تصنيف الفعل الكلامي هنا داخل دائرة (التوجيهيات) او (الطلبيات) علي أساس انه يمثل نوعا من الرجاء او التوسل يستدعي علاقة سلطوية معكوسة (من أسفل الي اعلي ) و لذلك يختار الراوي كلمة علي شاكلة (امنحني) و ليس ( اعطني ) مثلا أو ( أريد بعض الوقت ...الخ.
ثالثا : التعبيريات Expressive
مجموعة من أفعال الكلام يكون الغرض الانجازي منها هو التعبير عن الموقف النفسي تعبيرا يتوافر فيه شرط الاخلاص و يدخل فيه الشكر و المواساة علي سبيل المثال و لا يشترط فيه التطابق مع العالم الخارجي و انما المطلوب فقط توافر شرط الاخلاص (14)
نستطيع هنا و بكل سهولة أن نحدد كما هائلا من الافعال الكلامية داخل نص مارخدر تندرج تحت اطار التعبيريات ولا يكاد النص يخلو من عرض مختلف اصناف هذه الافعال بدرجات متباينة تماشيا مع السياق الكلامي من ناحية و مع الموقف التواصلي من ناحية أخري ، فهي شانها في ذلك شأن بقية الافعال الكلامية الأخري تقع تحت طائلة الحكم العام لمعطيات توجيه عملية التبادل الكلامي و هي المتكلمون و السياق و الاستعمالات العادية للكلام .
سنحاول من خلال الجدول التالي عرض بعض نماذج التعبيريات في نص مارخدر ثم نعلق عليها في اقتضاب
الجملة/العبارة
نوع الفعل الكلامي
الغرض الإنجازي
-ما رأيك في جلالته؟
أجبته بدهشة: هو من أفضل ملوكنا.
(15)
المدح/الثناء
توجيه الثناء أو المدح لشخص معين ضمن سياقي كلامي يقتضي ابراز و عرض وجهة نظر المتكلم بازاء الشخصية و يشترط هنا توافر عنصر الاخلاص و ليس المطابقة مع وقائع العالم الخارجي الحقيقية .
كنت رديف أبي علي ظهر حماره حين حرن عند منحني الترعة ،مد أذنيه كبالونتين و القي بنظراته في شوك الكتر .....
قال ابي : يا النبي نوح و يا سيدنا الخدر.
قلت في نفسي : الشيطان ..الشيطان سيهجم علينا (16)
التذمر/الشكوي /اظهار الاسي
اظهار الجزع أو الفزع تجاه خطر يداهم المتكلم و تظهر القوة التعبيرية للفعل هنا من خلال استخدام المتكلم لعلامة لغوية دالة لها ارتباط مباشر بالسياق الثقافي-الحضاري و هي ارتباط شخصيتي النبي نوح و النبي الخضر في الثقافة الاسلامية و في الذهنية الدينية بمعاني النجدة .
بضحكة مغناجة كما تتغنج اليساريات ،ضحكت،أسقطت طرحتها عن الأخدود بين نهديها
قلت لها : نحن خلية واحدة و هدفنا واحد .
- لماذا لا نتزاور كالرفاق ؟
- عين السلطة و الاحزاب علينا و الاجواء ملغمة .(17)
الاعتذار
في السياق الكلامي للموقف التواصلي يدعو الراوي رفيقته الحزبية لزيارته ولكنها تتذرع بخطر مراقبة السلطات لنشاطهما كي تجد مخرجا من الوقوع في براثن الغواية و لذلك فان الجملة الحوارية الاخيرة تعتبر ملفوظاً لغوياً تتعلق وظيفته الانجازية بتحقيق معني الاعتذار .
رابعاً : الوعديات أو الالزاميات Commisives
الوعديات أو الالزاميات وفق تصنيف (أوستن) الذي سبقت الاشارة اليه ، تمثل مجموعة من الملفوظات اللغوية التي تندرج تحت ظاهرة ما يمسمي بافعال الكلام و هي تفيد الزام المتحدث نفسه بانجاز أو تحقيق فعل معين يقع في المستقبل .
في مارخدر أيضاً نلحظ لجؤ الكاتب لاستعمال مثل هذه الافعال فعلي سبيل المثال يمكن ان نقرأ في جانب من الرواية ذلك الحوار الذي يدور بين الراوي (تمثله شخصية الفتاة المجامعية المثقفة التي تنوي الاقتران بشاب من إحدي الإثنيات المغايرة بينما يرفض والدها ذلك ) ما يلي :
(قال أبي : ما ممكن تتزوجيه .
سألته : ليه يا بابا ؟
سكت و انصرف عني ، تحاول أمي افهامي.
تقول : سيذهب بك بعيدا .
- و ساعود يوما .
- مطبخهم و مطبخنا ما واحد .
- سنأكل في الكافتيريات .
- سيقول أهلك أنك تزوجتي عبد .)18
كما هو واضح من خلال الجمل الحوارية التي انتخبناها في هذا الصدد ، فان المتحدث (شخصية الفتاة الجامعية ) تلزم نفسها من خلال الخطاب بتحقيق او انجاز اشياء محددة و ذلك في محاولة ايفاءها بالتزامتها تجاه موقف معين أو قضية معينة جاءت في السياق السردي و برزت كتحد بالنسبة للراوي و هي قضية ارتباط تلك الفتاة بشاب أسود من أثنية مغايرة مضطهدة تأنف بعض المجموعات العرقية الاخري داخل المجتمع السوداني من الارتباط بها عن طريق المصاهرة و الزواج و ما يهمنا بالطبع ليس تقديم نقد ثقافي عن تلك الظاهرة العنصرية البغيضة و انما الذي يهمنا بالدرجة الاولي هو تلك الكيفية التي استطاع بها الكاتب ان يوظف فعل الكلام بطريقة معينة لخدمة الخطاب السردي و يمكن القول هنا أن الجملتين المشار اليهما اعلاه (أسفلهما خط ) تمثلان ما يمكن ان نطلق عليه ملفوظا قوليا ينتمي للفئة المعروفة ب( الوعديات) و تتمثل القدرة الانجازية لهذين الملفوظين كما وردا من خلال السياق في انهما جاءا كنتيجة لتحفيز مضاد يتمثل في محاول التصدي لهجمة ثقافية شرسة تمثلت في محاولة الابقاء علي الحدود و الحواجز العرقية داخل المجتمع وبالتالي فان الراوي يفند التعللات التي ابدتها الأسرة في محاولة منع ذلك الارتباط و هي تبدو واهية و لا تمثل السبب الحقيقي خلف معارضة ذلك الزواج الي ان يتفصح الاسرة ممثلة في شخصية الام عن السبب الحقيقي و هو كون ان الشاب المتقدم للزواج من الفتاة (عبد) .
ثمة ملاحظة اخري يتطلب الأمر عرضها هنا و هي أن ما اشرنا اليه من خلال النموذج السابق بفعل (الوعديات) يمكن مقاربته تداولياً هنا ايضا من خلال الظاهرة المعروفة في علم التداوليات ب(الاستلزام الحواري ) و النص الادبي كما هو معروف يعتبر و من خلال وجهة النظر التداولية عبارة عن مقاربة تقوم علي مبدأ الاستلزام الحواري الي جانب كونها تقوم علي ظواهر تداولية أخري (19)
و يقوم مبدأ الاستلزام الحواري علي مفهوم قدمه (بول غرايس) (20 )و هو يتعلق بجملة من الشروط الضمنية التي يقبل بها المتحاورون في سياق تبادلهم لخطاب معين و تكون تلك الشروط ضرورية لعملية و فهم و استيعاب الخطاب و من الممكن هنا القول أن المقطع المشار اليه آنفاً في رواية مارخدر يمكن فهمه من خلال الاستلزام الحواري و احدي خصائصه المهمة هي عدم قابليته للانفصال عن المحتوي الدلالي للكلمات و العبارات (21)، فنحن و من خلال المقطع السابق نلاحظ أن فعل الكلام يتم بناؤه من خلال السياق الكلامي الذي قوم علي مبدأ رفض الاسرة لزواج الفتاة من أخر مغاير عرقيا و علي الرغم من ورود مبدأ الرفض بصيغ و عبارات مغايرة (مطبخنا و مطبخهم ليس واحدا...سيذهب بك بعيدا ..الخ) الا ان كل ذلك يستلزم حوارياً مفهوم عدم الانصياع للرغبة الذي يمكن ان يستشف بصورة مباشرة من الجملة الحوارية الاولي ( ما ممكن تتزوجيه ) .
خاتمة
ان المقاربة التداولية للاعمال الادبية ما تزال قاصرة و محدودة الي حد بعيد في الوصول بكلا من الادب و البحث اللغوي بالغايات و الطموحات المنشودة و ما ذاك الا لسيطرة مناهج النقد الشكلاني و البنيوي علي البحث الأدبي من ناحية اضافة الي حداثة التداولية نفسها كمبحث يستفيد من علوم متعددة كاللسانيات و فلسفة اللغة و غيرها من الناحية الأخري ، لذلك وجب تكثيف الدرس التداولي من قبل الباحثين المتخصصين و اعمال النظر في السرديات المعاصرة علي وجه الخصوص تداوليا من اجل ابراز الجانب الوظيفي و التداولي و السياقي في النصوص الادبية .
استطاع الكاتب من خلال جملة الخطابات السردية التي قدمها عبر نصه الموسوم (مارخدر) توظيف افعال الكلام بصورة جيدة مكنته من تسخير تلك الافعال لخدمة الخطاب السردي في الرواية و في ختام هذا البحث أيضا لابد لي من الاقرار بحقيقة قصور هذه الدراسة في الالمام بكافة الجوانب و الابعاد التداولية في (مارخدر) و إني لأأرجو أن يتقبل القاريء هذا العمل المتواضع علي أساس أنه مجرد مجهود بشري يعتريه ما يعتري عمل الانسان من النقص و القصور .
المراجع و المصادر
(1)-راضية خفيف بوبكري. التداولية و تحليل الخطاب الادبي –مقاربة نظرية . مجلة الموقف الأدبي .العدد 399- 2004
(2) -المصدر السابق .
(3)آن روبول و جاك موشلار. التداولية اليومعالم جديد من التواصل.–المنظمة العربية للترجمة - دار الطليعة للطباعة و النشر-بيروت-لبنان-2003
(4)-عيسي تومي –الابعاد التداولية في القران الكريم –سورة البقرة نموذجاً –دراسة اعدت لنيل درجة الماجستير –جامعة محمد خيضر-الجزائر2004
(5) Searle ,J.R .Speech Acts. Cambridge university press .Cambridge-Mass(1969).
(6)-عاشور، عمر(ابن الزيبان) .البنية السردية عند الطيب صالح –البنية الزمانية و المكانية في موسم الهجرة الي الشمال .منشورات جائزة الطيب صالح العالمية للابداع الكتابي –شركة زين للهاتف السيار –الخرطوم -2011
(7) -مقابلة اجريت مع مؤلف (مآرخدر) في موقع البعيد الالكتروني .WWW.Albaeed.com
(8)- جميل حمداوي . المقاربة التداولية في الادب و النقد –مجلة ديوان العرب الالكترونية -2012WWW.diwaanalarab.com
(9)- ذات المصدر السابق .
(10)- عبد الكريم ، سحابة . التداولية. مجلة المخبر –ابحاث في اللغة و الأدب الجزائري –العدد الخامس –مارس 2009
(11) -الصايم ، عمر محمد احمد .رواية مآرخدر . دار المصورآت للطباعة و النشر –الخرطوم -2016 – ص(84)
(12) -ذات المصدر السابق .
(13),(14) Leech ,Geoffrey(1983) .Principles of Pragmatics .Longman Linguistics library –Longman-UK
(15) -,(16)،(17) ،(18) الصايم، عمر محمداحمد .رواية مآرخدر .مصدر سابق.
(19)- جميل حمداوي _ مصدر سابق .
(20) Grice. H.P .Presupposition and Conversational Implicature. In Leech(1983)-p.123-Longman –UK
(21)- الابعاد التداولية في القران الكريم –مصدر سابق .
5-عمر عاشور .البنية السردية عند الطيب صالح ..البنية الزمنية و المكانية في موسم الهجرة الي الشمال – منشورات جائزة الطيب صالح العالمية للابداع الكتابي –شركة زين للهاتف السيار –السودان -2011 .ص(37)
6- مقابلة أجرتها مجلة (البعيد الألكترونية ) مع الكاتب -البعيد | مجلة إلكترونية شاملة - 8-3-2016
* أفعال الكلام في رواية (مارخدر ) للروائي السوداني عمر الصايم...
مقاربة تداولية للخطاب السردي المعاصر ...
د. معاوية محمد الحسن قيلي
جامعة الطائف –المملكة العربية السعودية *