دانييل خارمس - سطوة.. ت: إبراهيم فضل الله

iCAKVCK2D.jpg


قال فاول : " نحن نقترف الخطايا ونفعل الخير بصورة عمياء . فعندما وصل كاتب العدل على دراجته إلى كنيسة " كازانسكي " فجأة إختفى .
هل كان يعلم بأن ما تربص به : خير أم شر ؟ أو حادثة مثل هذه: فنان إشترى معطف فرو ، بإعتقاد أنه قد أحسن إلى تلك العجوز التي باعته المعطف تحت وطأة الحاجة ، لكن بالمقابل فإن عجوز أخرى ، وتحديداً والدته ، التي كانت تعيش معه والتي كانت تنام عادة في غرفة المعيشة ، حيث علق الفنان معطف الفرو الجديد ، هو بكل المقاييس قد إرتكب فعلاً شريراً في حقها ، لأن الروائح الحادة للنفتالين والفورمالين كانت تفوح من المعطف بصورة لا تطاق ، إلى درجة أن العجوز ، والدة الفنان ، في أحد الأيام لم تتمكن من الإستيقاظ وماتت.

أو خذ عندك هذا :خطاط أصبح ثملاً من شراب الفودكا ، ورسم ألغازاً ، في إعتقادي، حتى الكولونيل " ديبيتش " لن يكون قادراً على فك طلاسمها، هل هذا خير ، أم هو شر . من الصعوبة بمكان التمييز بين الخير والشر ".

أما " ميشين " الذي كان يفكر في كلمات " فاول " ، فقد سقط من مقعده ، وتأوه متوجعاً على الأرض : خو – خو ، تشيه – تشيه .

واصل فاول حديثه قائلاً : " لنأخذ الحب مثلاً.هو خير وهو كذلك شر. فمن ناحية يقال لك: حب ومن الناحية الأخرى يقال لك :لا تعبث. ربما من الأفضل أن لا تحب أصلاً؟
ولكن يقال لك : حب . وإذا أحببت – تعبث بالتأكيد. ما العمل إذن ؟ ربما عليك أن تحب ، أليس كذلك ؟
حسناً ، لماذا إذن عند كل الشعوب تستخدم نفس الكلمة للتعبير بأن الحب كذ والحب ليس بكذا ؟

إليك قصة فنان أحب أمه وأحب فتاة يانعة ممتلئة . وأحبهما بطريقتين مختلفتين . فمنح فتاته الجزء الأكبر من راتبه. وترك أمه شبه جائعة، بينما الفتاة كانت تأكل وتشرب عن ثلاثتهم .
الأم كانت تنام في غرفة المعيشة على الأرض ، بينما كان رهن استخدام الفتاة غرفتين جيدتين. كان في حوزة الفتاة أربعة معاطف ، بينما امتلكت الأم معطفاً وحيداً .
ليس هذا فحسب بل أن الفنان أخذ من أمه معطفها الوحيد وفصل منه تنورة لفتاته. أخيراً ، كان الفنان يلهو مع الفتاة ، لكنه لم يكن يعبث مع أمه ، بل أحبها حباً نقياً.
لكن الفنان كان خائف من فقدان أمه ولم يكن خائف من فقدان فتاته. وعندما ماتت الأم، انتحب الفنان، وعندما سقطت فتاته من النافذة وماتت بدورها ، لم تدمع عيناه، بل صادق فتاة أخرى .
عليه فإن قيمة الأم مثل قيمة التحفة النادرة التي لا مثيل لها ولا يمكن إستبدالها.

عندها قال " ميشين" وهو لا يزال مستقلياً على الأرض : شو- شو ، خو- خو

واصل " فاول" قائلاً : وهذا يسمى حباً نقياً ! هل هو حب صالح ؟ وإذا لم يكن حباً صالحاً ، إذن كيف يكون الحب؟
إحدى الأمهات أحبت طفلها. كان عمره عامين ونصف . حملته إلى الحضانة وأجلسته على الرمال . حيث أحضر أمهات أخريات أطفالهن إلى نفس المكان.
أحياناً يجتمع أربعون طفلاً صغيراً على نفس البقعة من الرمال. هكذا وفي أحد الأيام هجم كــلــب مســـعور على تلك الحضانة، واندفع مباشرة نحو الأطفال وبدأ يعضهم .
تدافعت الأمهات متصايحات مذعورات نحو أطفالهن ، بما في ذلك الأم المعنية . التي قامت ، مخاطرة بنفسها، بانتزاع طفل من بين فكي الكـــلــب ، بحسبان أنه طفلها.
لكنها عندما نظرت إلى الطفل ، تبينت بأنه ليس طفلها،قامت بإلقائه مرة أخرى إلى الكـــلــب ، لتخطف طفلها وتنقذه من براثن الموت الذي كان يرقد بجواره تماماً .
من يجيبني : هل إرتكبت خطيئة هي أم أنها فعلت خيراً ؟

سيو-سيو – قال " ميشين" ، متقلباً على الأرض.

واصل "فاول" حديثه قائلاً : "هل يقترف الحجر خطيئة ؟ هل تقترف الشجرة خطيئة ؟ هل يقترف الوحش خطيئة ؟ أم أن من يقترف الخطيئة هو الأنسان وحده ؟

-مليام – مليام ، قال " ميشين " ، مستمعاً إلى كلمات " فاول " ، شوب - شوب

واصل " فاول " حديثه : " إذا كان الإنسان وحده هو الخاطئ، إذن فإن جميع خطايا العالم إنما هي بداخل الإنسان نفسه .
الخطيئة لا تلج إلى جوف الإنسان ، ولكنها تخرج منه فقط . تماماً كالغذاء : يلتهم الإنسان طعاماً صالحاً ، ويخرج فضلات طالحة.
في هذا العالم لا يوجد شيء غير صالح ، فيما عدا تلك الأشياء التي يستهلكها الإنسان، يمكن أن تصبح طالحة.

-أومنياف، - قال " ميشين"،محاولاً النهوض من على الأرض.

واصل " فاول " : ها أنذا قد تحدثت عن ا لحب ، تحدثت عن حالاتنا تلك الآنفة، التي تسمى بكلمة واحدة " حب " .
هل هذا خطأ لغوي ، أم أن جميع تلك الحالات تعبر عن نفس الشئ ؟ حب الأم لطفلها ، حب الإبن لأمه ، حب الرجل للمرأة – ربما – كل هذا هو الحب نفسه؟

بالتأكيد ، - قال " ميشين " ، مومئاً برأسه.

قال "فاول" : نعم ، أنا أعتقد ، بأن جوهر الحب لا يتغير إعتماداً على من يحب من ؟
فإنه تم صرف كمية محددة من الحب لكل شخص . وكل شخص يسعى لإيجاد مكان ما لإيداعها ، بقضها وقضيضها.
إن إكتشاف سر التحولات الغامضة والخصائص الدقيقة لأرواحنا ، التي تشبه جوالاً ممتلئاً بالنشارة ..."

-كفى! – صرخ " ميشين"،وهو يقفز واقفاً من على الأرض – أغرب عن وجهي !

فتناثر فاول ، مثل قطعة سكر تالفة .


-------------------------
دانييل خارمس - 1940
ترجمة : إبراهيم فضل الله
 
أعلى