نقوس المهدي
كاتب
- I –
ارتطمت ذبابة على جبين رجل كان يركض بجوارها ، إخترقت رأسه ونفذت من قفاه .أصيب السيد ، ويدعى دَرْنْيَاتِن ، بدهشة كبيرة : فقد تهيأ له ، بأن شيئاً ما قد صفر في جوف دماغه ، وأن جلد قفاه قد إنفقع وأًصابته الحكة. توقف درنياتن متفكراً : " ما معنى هذا ؟ " لقد سمعت الصفير في دماغي بوضوح شديد . لكن لا يجد تفكيري أي شئ إطلاقاً ، يساعدني على فهم ما حدث. على كل حال ، فقد كان إحساساً فريداً ، وكأنها علة دماغية مجهولة. حسناً ، لن أفكر مزيداً في هذا الموضوع ، لأستأنف ركضي . بهذه الأفكار واصل السيد دَرْنْيَاتِن الركض قدماً ، لكنه كيفما حاول ، فإنه لم يتأتى له الركض.تعثر دَرْنْيَاتِن على إحدى قدميه في الدرب الأزرق وكاد أن يسقط ، حد أنه إضطر إلى التطويح بساعديه في الهواء ." جيد ، أني لم أقع ، - فكر دَرْنْيَاتِن ، وإلا لتهشمت نظارتي ، ولتعذر علي تحديد وجهة الدرب " . بعدها تحرك دَرْنْيَاتِن ماشياً ، مستنداً إلى عكازته. إلا أن المخاطر توالت تباعاً . وحتى يبدد أفكاره السيئة ترنم دَرْنْيَاتِن بإحدى الأغاني . كانت أغنية مرحة وطروبة ، إلى درجة شغلت دَرْنْيَاتِن وأنسته حتى بأنه يمشي على الدرب الأزرق ، الذي تعبر به في هذه الأوقات في أحايين أخرى ، مركبات مندفعة بسرعة مخيفة. كان الدرب الأزرق ضيقا للغاية ، وتفادي المركبات فيه ، بالوثب جانباً ، يعتبر أمراً صعباً للغاية .لهذا كان يعتبر درباً خطراً . كان الأشخاص الحذرين ،يتخذون الحيطة دوما حينما يمشون على الدرب الأزرق ، تفادياً للموت . الموت هنا متربص بالمشاة في كل خطوة ، سواءاً في هيئة سيارة أو في هيئة حنطور أو في هيئة مقطورة فحم أحفوري .لم يتمكن دَرْنْيَاتِن حتى من أن يكمل تمخطه ، حين تدحرجت نحوه سيارة عملاقة . صرخ دَرْنْيَاتِن : " إني أحتضر ! " – ووثب جانباً .تراجعت الحشائش أمامه ، وسقط في قعر خور جاف .عبرت السيارة هادرة بالقرب، وعلى سقفها رفرف علم الطوارئ .كان ركاب السيارة واثقون ، من أن دَرْنْيَاتِن قد مات ، لذا خلعوا قبعاتهم وواصلوا طريقهم برؤوس حاسرة.
تساءل السيد ، الذي يرتدي " جيربوكسا" ، بالأحرى ليس " جيربوكسا " ، بل " كابوتا " هل لاحظتم ، تحت أي إطارات سقط ذلك الشخص العجيب ، الأمامية أم الخلفية ؟ "تعود هذا السيد أن يردد " خداي وحلمتا أذني ملتهبتان بشدة ،لهذا دائما أرتدي هذا الكبوت ". إلى جانب السيد ، جلست في السيارة آنسة ذات ثغر مثير . قالت الآنسة ، - أنا منزعجة من إحتمالية إتهامنا بمقتل عابر السبيل ذاك ".تسائل السيد وهو يبعد الكابوت عن أذنه – " ماذا ؟ ماذا ؟ " فرددت الآنسة على مسامعه مخاوفها. قال صاحب الكابوت " كلا القتل يعتبر جريمة جنائية ، فقط في تلك الحالات ، التي يصبح فيها الضحية شبيهاً بالقرعة .نحن حتماً لسنا كذلك . نحن حتماً لسنا كذلك . نحن غير مذنبين في موت عابر السبيل . أرأيت ، كيف صاح هو بنفسه : إني أحتضر ! ونحن كنا مجرد شهود على موته المباغت " .تبسمت الآنسة آنيت بثغرها المثير وقالت في نفسها : " أنطون أنطونوفيتش ، كم أنتم بارعون في المخارجة من الورطات ".
رقد السيد دَرْنْيَاتِن في قعر الأخدود الجاف ، فارداً ساعديه وقدميه . أما السيارة فقد مضت . أدرك دَرْنْيَاتِن بأنه قد مات . وأن الموت قد عبر به في شكل سيارة . فنهض ونظف أكمام بذلته ولعق أصابعه ثم إنطلق على الدرب الأزرق يطارد الوقت .
كان الوقت قد فاته بتسع دقائق ونصف ، مشى دَرْنْيَاتِن ، يطارد الدقائق .
- II -
عاشت عائلة رونداداروف في منزل عند نهر " سفيريتشكي " الهادئ .كان رب أسرة رونداداروف ، السيد إفلاطون إيليتش ، عاشقاً لعلوم التحليق العالي : الرياضيات ، الفلسفة الثلاثية ، جغرافية "عدن" ،أما كتب فينتفيفيكا ، نظرية الهزات الموتية والتراتبية السماواتية لمحاكم " ديونيسيوس " الأريوباجوسية ، فكانت أكثر العلوم محبة لدى إفلاطون إيليتش .كان باب منزل أسرة رونداداروف مشرعاً لكل الأغراب ، من زوار البقع المقدسة بكوكبنا .وكانت قصص التلال الطائرة ، التي يرويها صعاليك قرى نيكيتنسكي ، يتم تلقفها في منزل رونداداروف بحيوية وإهتمام متحفز.وقد إحتفظ إفلاطون إيليتش بقائمة طويلة لتفاصيل طيران التلال كبيرها والصغيرة. وقد كان لطيران تلة "كابوستنسكي" تميزاً كبيراً عن كل ما سواه من التحليق.وكما هو معروف ، فإن تلة "كابوستنسكي" ، قد حلقت في الساعة الخامسة مساءاً ، مقتلعة أشجار الأرز من جذورها . لم يكن إرتفاع التلة من موقع إقلاعها نحو السماء في مسار منحني ، مثلما طارت التلال الأخرى ، ولكن كان في مسار مستقيم ، مع تأرجحات قليلة ، حدثت على علو 15-16 كيلومتراً. والرياح التي كانت تهب على التلة ، إخترقتها ، دون أن تحرفها عن مسارها .كأنما التلال الرملية قد فقدت خاصيتها التماسكية.مثلاً ، قد إخترق غراب التلة . إخترقها وكأنه يعبر سحابة . شهود كثيرون يؤكدون ذلك .هذا يخالف قوانين التلال الطائرة ، لكن الحقيقة هي الحقيقة ، وقد قام إفلاطون إيليتش بتدوينها في قائمة تفاصيل تلة "كابوستنسكي".كان أضياف محترمون يجتمعون يومياً لدى رونداداروف ويتناقشون حول مؤشرات قوانين الشبكات اللامنطقية .كان من بين الضيوف المحترمين : بروفيسور السكك الحديدية ميخائيل إفانوفيتش دوندوكوف و إغومين ميرينوس الثاني ومفسر الألغاز ستيفان دَرْنْيَاتِن.كان إجتماع الضيوف يتم في المضافة السفلية ، حول مائدة شديدة الإستطالة ، ويوضع فوق المائدة طست عادي مملوء بالماء . كان الأضياف يتحادثون، يتفلون في الطست : هكذا جرت العادة في عائلة رونداداروف .كان إفلاطون إيليتش بنفسه جالس يحمل كرباجاً . وكان يغمسه في الماء بين الوقت والآخر ويضرب به سطح المائدة الخاوية .كان هذا يسمى " أداة الضجيج " . في الساعة التاسعة ظهرت زوجة إفلاطون إيليتش ، آنا ماليايفنا ، وقادت الضيوف إلى المائدة .تناول الضيوف أطعمة سائلة ومتجمدة ، بعدها حبوا على أربع إلى آنا ماليايفنا ، لثموا يدها ثم جلسوا يشربون الشاي . بعد الشاي حكى إغومين ميرينوس الثاني حادثاً ، حدث منذ أربعة عشرة عاماً. كان فيه كأنما ، إغومين جالس بشكل ما على درج منزله يطعم بطاً . وفجأة خرجت ذبابة طائرة من المنزل ، دارت ثم إرتطمت على جبين إيغومين .ارتطمت على الجبين ثم عبرت خلال الرأس ونفذت من القفا، ثم قفلت طائرة إلى المنزل . ظل إيغومين جالس على الدرج بإبتسامة رضا ، لأنه أخيراً شاهد أعجوبة بأم عينيه .أما بقية الأضياف ، فبعد إستماعهم إلى ميرينوس الثاني ، قاموا بلطم شفاههم وتفاحات حناجرهم بملاعق الشاي ، كناية عن نهاية الأمسية. بعدها أخذ الحديث طابعاً عفوياً .غادرت آنا ماليايفنا الغرفة ، أما السيد مفسر الألغاز دَرْنْيَاتِن ، فتحدث عن موضوع " المرأة والأزهار " .وحدث أن تخلف بعض الضيوف للمبيت .عندها كان يتم تحريك عدد من الدواليب ، وينوم عليها ميرينوس الثاني .وكان بروفيسور دوندوكوف ينام في المضافة على البيانو ، والسيد دَرْنْيَاتِن فيستلقي على السرير مع " ماشا " شغالة عائلة رونداداروف .لكن في أغلب الحالات ، كان الأضياف ينصرفون إلى منازلهم . وكان إفلاطون إيليتش يغلق الباب وراءهم بنفسه ، ثم يعود إلى آنا ماليايفنا .
كان الصيادون في نهر " سفيريتشكا " يصدحون بالغناء وهم يسبحون .وعلى أنغام أغاني الصيادين ، كانت عائلة رونداداروف تخلد إلى النوم.
- III -
إنحشر إفلاطون إليتش روندادار في حلق باب المضافة .
أسند مرفقيه إلى الإطار وغرس قدميه في خشب الأرضية ، ظل مسمراً بينما عيناه متدحرجتان.
---------------------------
خارمس
1929-1930