نقوس المهدي
كاتب
كان أبي، كما أتصوره الآن بكل يقين، رجلا ذا طبيعة ميالة إلى البشر والطيبة. حتى سن الرابعة والثلاثين، كان يعمل مُزارعا لدى رجل يدعى ثوماس برووث تقع مزرعته قرب مدينة بيدويل، أوهايو. كان وقتئذ يملك حصانا، وكان يذهب مساء كل سبت لتزجية بعض الوقت في صحبة مزارعين آخرين. في المدينة كان يحتسي بضع كؤوس من الجعة ويقف في حانة بينهاد محاطا بعدد من المزارعين الذين اعتادوا زيارة المكان مساء كل سبت أيضا. كانت الأغاني تنشد والكؤوس تنقر بأصابع الإبهام. في الساعة العاشرة كان أبي يعود به إلى المنزل عبر طريق زراعي مقفر، ثم يطمئن على الحصان ويوليه الرعاية الليلية المعتادة ويذهب هو نفسه إلى النوم سعيدا كل السعادة بنصيبه في الحياة. حتى ذلك الوقت لم تكن لديه أية فكرة عن إمكانية التطلع إلى مركز رفيع في الحياة.
كان أبي في ربيع السنة الخامسة والثلاثين من عمره عندما تزوج من والدتي التي كانت تعمل مدرّسة في الأرياف. وفي الربيع الموالي قدمت أنا إلى الوجود أتململ وأبكي. شئ ما حدث للزوجين بعد ذلك؛ لقد أصبحا طموحين. كان الشعور الأمريكي المتحفز إلى الارتقاء في الحياة قد امتلكهما امتلاكا. قد تكون أمي هي المسؤولة عن هذا. فهي بحكم عملها كمدرسة كانت بلا شك تقرأ الكتب والمجلات؛ أفترض أن تكون قد قرأت كيف ارتفع كارفيلد لينكولن وأمريكيون آخرون من حضيض الفقر إلى قمة الشهرة والعظمة، وأنها في الأيام التي التزمت فيها السرير، وقد كنت ممددا إلى جانبها، ربما تكون قد حلمت باليوم الذي أكبر فيه وأصبح حاكما على الناس والمدن. استطاعت بطريقة أو بأخرى أن تقنع أبي بالعدول عن عمله كمزارع وبيع حصانه وبدء مشروع خاص به. كانت سيدة طويلة القامة تميل إلى الصمت ذات أنف طويل وعينين شهلاوين مضطربتين. لم تكن تريد شيئا لنفسها، لكنها كانت تطمح بشكل لا علاج له إلى مستقبل أفضل لأبي ولي أنا.
كان مصير المغامرة الأولى التي خاضها الزوجان سيئا؛ فقد اكتريا بقعة أرضية سيئة ومتحجرة من عشرة فدادين على طريق كريكز تبعد ثمانية أميال عن بيدويل، وشرعا في تربية الدجاج. كبرت أنا إلى أن بلغت مبلغ الفتيان وتكونت لدي انطباعات الحياة الأولى في ذلك المكان. كانت انطباعات كارثية في البداية، ولو كنت، من جهتي، رجلا كئيبا ميالا للنظر إلى الجانب المظلم من جوانب الحياة لعزوتُ ذلك إلى حقيقة أن أيام الطفولة التي كان يجب أن تكون أيام سعادة وحبور، قد قضيتها في مزرعة للدواجن.
أي شخص يفتقر إلى التجربة في مثل تلك المسائل لا يستطيع أن يكون فكرة عن الأمور المأساوية الكثيرة التي يمكن أن تحدث لدجاجة. إنها تخرج من بيضة وتعيش أسابيع قليلة مخلوقا صغيرا مغطى بريش ناعم كالذي تراه على بطاقات إيستر. ثم تتعرى بشكل مرعب وتأكل كميات من الذرة والوجبات التي وفرها الآباء من عرق جبينهم، وتصاب بأمراض مثل الكوليرا وغيرها وتقف وهي تنظر ببلاهة إلى الشمس وأخيرا تمرض فتموت. دجاجات معدودات وديك من حين لآخر يراد منها أن تخدم الغايات الإلهية الغامضة وتكافح للوصول إلى النضج. وتضع الدجاجات بيضا تخرج منه فراخ أخرى وهكذا دواليك. هكذا تكتمل الدائرة المخيفة. إنها دائرة معقدة بشكل لا يصدق. لا بد أن معظم الفلاسفة قد نشأوا في مزارع للدواجن. يأمل المرء الكثير من دجاجة، ولكنه واهم لدرجة مؤسفة. فالفراخ الصغيرة التي استهلت رحلة الحياة، وتبدو مشرقة ونشيطة بينما هي في الواقع في منتهى البلادة، تشبه على نحو كبير أناسا يختلط بهم المرء فيربكون أحكامه عن الحياة. إذا لم يقتلها المرض فإنها تنتظر إلى أن تُستثار توقعاتك بعناية ثم تمضي تحت عجلة عربة فتسحق تحتها وترجع ميتة إلى خالقها. تنتشر الحشرات المؤذية في جلدها وتنفق الأموال في شراء المساحيق لعلاجها. في المراحل المتأخرة من حياتي رأيت كيف أن إبداعات أدبية قد أنجزت حول موضوع الثروات التي تكتسب من تربية الدواجن. إنها كتبت ليقرأها أولئك الذين أكلوا حديثا من شجرة المعرفة؛ معرفة الخير والشر. إنه أدب يدعو إلى الأمل ويعلن أن الكثير يمكن أن يفعله أناس بسطاء طموحون يملكون دجاجات معدودة. لا يغرنك ذلك. إنه لم يكتب من أجلك. اذهب للتنقيب عن الذهب في مرتفعات ألاسكا الباردة. ضع ثقتك في نزاهة رجل سياسي. آمِن إن شئت بأن العالم ينمو بشكل أفضل وأن الخير سينتصر على الشر. ولكن لا تقرأ ولا تصدق الأدب المكتوب عن الدجاج؛ إنه لم يكتب من أجلك.
واضح أنني خرجت عن الموضوع؛ فقصتي ليست عن الدجاجة أساسا. إذا كان ينبغي أن تحكى بشكل صحيح فإنها ستنحصر حول البيضة لا الدجاجة. لمدة عشر سنين كافح أبي وأمي ليجعلا مزرعة الدواجن مشروعا مربحا، ثم تخليا عن ذلك الكفاح ليبدءا كفاحا آخر. انتقلا إلى مدينة بيدويل أوهايو وفتحا مطعما هناك. بعد عشر سنوات من القلق حول آلة تفريخ الدجاج التي لم تكن تعمل جيدا و"كرات" الريش الناعم الصغيرة التي كانت تبدو جميلة بطريقتها الخاصة والتي مرت من مرحلة الفراخ شبه العارية إلى مرحلة الدجاج النافق، رمينا كل شئ جانبا وحزمنا حوائجنا في عربة قدناها على طريق كريكز في اتجاه بيدويل. ذهبنا في قافلة صغيرة يداعبها الأمل وتبحث عن مكان جديد تبدأ فيه رحلة الصعود في الحياة. لا بد أننا كنا مجموعة أشخاص يظهر عليهم الحزن ولم يكونوا، في اعتقادي، أحسن حالا من لاجئين فارين من ساحة المعركة. سرنا، أنا وأمي، على الطريق والعربة التي عليها أمتعتنا اكتريناها ليوم واحد من جار لنا يدعى السيد ألبرت كريكز. كانت أرجل الكراسي الرخيصة تتدلى من جوانب العربة، وفوق أكوام الأسِرّة والموائد والصناديق الممتلئة بأدوات المطبخ يظهر صندوق كبير فيه دجاجات حية وفوقه عربة أطفال صغيرة كنت أمتطيها في صباي الأول. لم أكن أعرف لماذا احتفظنا بعربة الأطفال تلك! فلم يكن من المحتمل أن يولد لنا أطفال آخرون، كما أن عجلاتها كانت محطمة. المسألة أن الذين يملكون أمتعة قليلة يتمسكون بها. وهذه هي إحدى الحقائق التي تشجع على الحياة. ركب أبي العربة. كان بدينا بعض الشئ وكان يميل إلى الصمت والتحفظ بحكم العادة التي اكتسبها من معاشرته لأمي وللدجاج. لقد عمل خلال العشر سنوات التي قضيناها في مزرعة الدواجن كما عمل مُزارعا مساعدا في المزارع المجاورة. وأنفق المال الذي كسبه من عمله ذلك في علاج أمراض الدجاج وشراء أدوية مثل عقار الكوليرا الأبيض العجيب لويلمر وعقار البروفيسور بيدلو المساعد على تفريخ البيض وغيرها من العقاقير التي كانت أمي تجد إعلاناتها في الجرائد المتخصصة في الدواجن. كانت هناك ذؤابتان صغيرتان من الشعر على رأس أبي تتدليان فوق أذنيه. أذكر أنني عندما كنت طفلا صغيرا، كنت أجلس محملقا فيه وهو نائم على مقعد قرب المدفأة مساء كل أحد خلال فصول الشتاء. كنت وقتها قد تعلمت قراءة الكتب وتكوين بعض الأفكار الخاصة بي. كان الطريق "الأصلع" الذي يبدو على رأسه شبيها، كما تخيلته، بطريق عريض كالذي سلكه القيصر بفيالقه وهو يغادر روما إلى عجائب عالم مجهول. ذؤابتا الشعر فوق أذني أبي كانتا أشبه بالأدغال في تصوري. انتابتني حالة بين اليقظة والنوم وحلمت كأنني شئ صغير يمضي في الطريق إلى مكان بعيد جميل ليس فيه مزارع للدواجن والحياة فيه سعيدة لا تشغلها قضايا البيض. يمكن لأي أحد أن يؤلف كتابا عن رحلتنا من مزرعة الدواجن إلى المدينة. قطعنا، أمي وأنا، ثمانية أميال كاملة على أقدامنا لأنها كانت تريد الاطمئنان على أن شيئا من الأمتعة لن يسقط من العربة من جهة، ولأنني كنت أريد التملي في عجائب الدنيا من جهة أخرى. وعلى المقعد الملاصق للمقعد الذي كان يجلس عليه أبي في العربة كان هناك كنزه الأكبر الذي سأحدثكم عنه.
في مزرعة الدواجن حيث تخرج مئات بل آلاف من الفراخ من البيضات، تحدث أحيانا أشياء مفاجئة. فالأشكال المريعة قد تخرج من البيض كما قد تتولد عن الكائن البشري. هي حوادث لا تحدث إلا لماما؛ ربما مرة واحدة في كل ألف ولادة. فرخ يولد بأربع أرجل وأربعة أجنحة ورأسين أو أي شئ من هذا القبيل. لكنه لا يعيش؛ يرجع سريعا إلى خالقه. إن مسألة عدم قدرة الأشياء الصغيرة على العيش هي إحدى مآسي الحياة بالنسبة لوالدي. كانت لديه فكرة أنه لو استطاع أن يمكن فرخة ذات أربع سيقان أو فرخا ذا رأسين من العيش والنمو حتى يصبحا دجاجة وديكا لاكتسب ثروة. كان يحلم أن يأخذ ذلك المخلوق العجيب إلى المعارض الريفية فيعرضه على المزارعين ويصبح غنيا.
في كل الأحوال، عمد إلى الاحتفاظ بالمخلوقات الوحشية التي ولدت في مزرعتنا فوضعها في قارورات زجاجية مليئة بالكحول، وأثناء رحلتنا إلى المدينة وضع القارورات بعناية داخل صندوق وضعه على المقعد الملاصق لمقعده في العربة. كان يوجه حصاني العربة بيد ويمسك الصندوق باليد الأخرى كي لا يسقط. وعندما وصلنا إلى وجهتنا أخذ الصندوق على الفور فأزيلت القارورات منه. وخلال الأيام التي عملنا فيها في مطعم بمدينة بيدويل أوهايو ظلت المخلوقات حبيسة القارورات الزجاجية الموضوعة على رف خلف طاولة المطعم. كانت أمي تحتج على ذلك، لكن أبي كان يصر على الاحتفاظ ب"كنزه". قال إن تلك المخلوقات ذات قيمة عالية لأن الناس في اعتقاده يحبون مشاهدة الأشياء الغريبة والعجيبة.
هل قلت لكم إننا شرعنا في مشروع المطعم بمدين بيدويل أوهايو؟ لقد بالغت قليلا. فالمدينة نفسها تقع بسفح على هضبة منخفض وعلى ضفة نهر صغير. وطريق السكة الحديدية لا يمر بالمدينة ومحطة القطار تبعد ميلا واحدا إلى الشمال في مكان يدعى بيكلفيل. كان هناك مصنع لإنتاج مشروب عصير التفاح وآخر لإنتاج الخضر المصبرة المنقوعة بماء الخل والماء المالح في المحطة. لكنهما توقفا عن العمل قبل قدومنا إلى المدينة. كانت الحافلات تتجه إلى المحطة كل صباح ومساء عبر طريق يدعى تورنرز بارك قادم من أمام فندق على شارع بيدويل الرئيسي. ذهبنا إلى ذلك المكان الذي كان بعيدا عن الطريق كي نشرع في مشروع المطعم الذي كان فكرة والدتي. تحدثت عنه لسنة كاملة ثم ذهبت ذات يوم إلى هناك واكترت محلا فارغا مقابلا لمحطة السكة الحديدية. كانت تظن أن مشروع المطعم سيكون مربحا. قالت إن المسافرين سيلجئون إلى المطعم في انتظار أن يستقلوا القطار إلى خارج المدينة، وأن سكان المدينة سيأتون إلى المحطة لينتظروا القطارات القادمة. سيجيئون إلى المطعم لشراء قطع البطاطس المسلوقة وشرب القهوة. الآن وقد كبرت أعرف أنه كان لديها دافع آخر للذهاب إلى هناك. إنه دافع الطموح إلى مستقبل أفضل من أجلي؛ كانت تريدني أن أرتقي في الحياة وأنخرط في مدارس المدينة ثم أصبح حاكما على المدن كلها.
عمل أبي وأمي في بيكلفيل بكل كد واجتهاد كما تعودا أن يفعلا. في البداية كان ضروريا أن ندخل بعض التعديلات على شكل المحل حتى يصير مطعما. هذه العملية استغرقت شهرا كاملا. أعد أبي رفا وضع فيه علب الخضر المصبرة وكتب اسمه بالأحرف الكبيرة واللون الأحمر على واجهة المحل، وتحت اسمه كتب عبارة "كل هنا" بصيغة الأمر القسري الذي لم يكن يطاع إلا لماما. ثم أحضر صندوقا زجاجيا شفافا ملأه بعلب السجائر والسيجار. وعمدت أمي إلى كنس الفناء وتنظيف جدران المحل.
ذهبت إلى المدرسة في المدينة وكنت مسرورا بالابتعاد عن المزرعة وعن منظر الفراخ الحزينة التعيسة، ولكنني لم أكن قد ذقت طعم السعادة الكاملة بعد. وفي طريق عودتي إلى المنزل مساء في المدرسة في شارع تورنرز بارك تذكرت الأطفال الذين رأيتهم يلعبون في ساحة المدرسة؛ كانت هناك مجموعة من الفتيات يقفزن ويغنين. حاولت أن أجرب ذلك؛ طفقت أقفز على ساق واحدة على طول الطريق المتجمد وأغني بصوت عال: "هيبيتي هوب إلى دكان الحلاق". ثم توقفت وأخذت أنظر حولي في توجس. كنت خائفا من أن يراني أحدهم وأنا في حالتي المرحة تلك. لا بد أنني تصورت أني أفعل شيئا لا يليق بشخص مثلي نشأ في مزرعة للدواجن كان فيها الموت ضيفا معتادا.
وقررت أمي أن يبقى المطعم مفتوحا ليلا. كان هناك قطار للمسافرين يمر من أمام باب مطعمنا في الساعة العاشرة من مساء كل يوم متبوعا بآخر للبضائع. كان على طاقم قطار البضائع أن يحولوا القطار إلى سكة أخرى في بيكلفيل، وعندما يتمون هذه العملية كانوا يجيئون إلى مطعمنا لتناول القهوة الساخنة والطعام. أحيانا كان بعضهم يطلب بيضة مقلية. وفي الرابعة صباحا كانوا يعودون متجهين شمالا ثم يزوروننا مرة أخرى. مشروعنا بدأ يكبر شيئا فشيئا. كانت أمي تنام ليلا وتعتني بالمطعم خلال النهار وتلبي طلبات الزبائن بينما ينام أبي. كان ينام على نفس السرير الذي تنام عليه أمي ليلا. أما أنا فأذهب إلى مدينة بيدويل قاصدا المدرسة. أثناء الليالي الطوال عندما تنام أمي وأنا، كان أبي يطهو الوجبات التي كانت على شكل سندويتشات في سلل الغذاء الخاصة بزبائننا. فجأة قفزت إلى ذهنه فكرة تتعلق بالصعود في الحياة؛ امتلكته روح الرجل الأمريكي. لقد صار هو نفسه طموحا. وأثناء الليالي الطوال، عندما لا يجد أبي ما يفعله، كان يجد الوقت الكافي للتفكير. كان ذلك بداية انهياره. لقد قرر بينه وبين نفسه أنه كان في الماضي رجلا فاشلا لأنه لم يكن بشوشا بما فيه الكفاية، ولذلك فإنه يعتزم أن يتبنى نظرة مرحة للحياة. في الصباح الباكر صعد درجات السلم واتجه إلى سرير أمي التي استيقظت فبدءا يتحدثان. كنت أصغي إلى حديثهما من مكاني في غرفة نومي. كانت فكرة والدي أن يحاول هو وأمي أن يهيئا أسباب التسلية والترفيه للناس الذين كانوا يأتون لتناول الطعام في مطعمنا. لا أستطيع أن أتذكر الآن كلماته، ولكنه أعطاني الانطباع بأنه بصدد أن يصبح منشطا ومسليا عموميا بطرية أو بأخرى.
عندما يأتي الناس، خصوصا شبان مدينة بيدويل إلى محلنا في مناسبات نادرة جدا، تدور حوارات مسلية وممتعة. ومن كلمات أبي في البداية أدرك أن أثر صاحب المطعم المرح يطغى عليه. لا شك أن أمي كانت متوجسة في أول الأمر، لكنها لم تبد أي اعتراض. كان أبي يظن أن عاطفة ما ستتولد في صدور شبان مدينة بيدويل تجعلهم يسعون إلى صحبته هو وأمي. في المساء كانت مجموعات من الشباب السعيد المشرق تقبل عبر شارع تورنرز بارك وهي تغني. كانوا يمرون مجتمعين بمطعمنا وهم من الفرح والضحك في صخب وضجيج. ثم تبدأ الأغاني والاحتفالات. لا أريد أن أعطي الانطباع بأن أبي قد تحدث عن المسألة بإسهاب. فقد كان، كما قلت، رجلا غير قادر على التواصل مع الآخرين. كل ما قاله: " إنهم يرغبون في مكان يحجون إليه. أقول لكم إنهم يرغبون في مكان يحجون إليه". قال ذلك مرارا وتكرارا. وكان ذلك أقصى ما أمكنه أن يقول. خيالي وحده هو الذي جاد بتتمة ما كان يريد أن يقول.
ظلت فكرة أبي هذه طاغية على الأجواء في منزلنا لمدة شهرين أو ثلاثة. لم نكن نتحادث كثيرا، لكننا كنا نحاول في حياتنا اليومية بكل لهفة أن نجعل البسمات تحل محل النظرات الكئيبة. كانت أمي تبتسم في وجوه الزبائن. وكنت، وقد أصابتني العدوى، أبتسم لقطتنا. أصيب أبي بما يشبه الحمى وهو يغالب قلقه من ألا يستطيع إرضاء الزبائن. لا شك أن نفحة من روح الرجل المنشط المسلي كانت تعمل في مكان ما بداخله. لم يستنفد كل طاقته في إرضاء رجال السكة الحديدية الذين كان يخدمهم ليلا، لكنه بدأ ينتظر قدوم فتى أو فتاة من بيدويل فيريه ما يستطيع فعله. على طاولة المطعم كانت هناك سلة مصنوعة من الأسلاك ممتلئة بالبيض. وردت إلى ذهنه فكرة أن يصبح مسليا. شئ فطري كان يجعل للبيض صلة بتطور تلك الفكرة.
في وقت متأخر من الليل استيقظت على صرخة غضب قادمة من حجرة أبي. كلانا، أمي وأنا، استوينا جالسين على سريرينا. وبيدين مرتعشتين أشعلت أمي سراجا كان على مائدة قريبة من رأسها وسمعنا باب المطعم يغلق بشدة وعنف. وفي غضون دقائق قليلة سمعنا صوت قدمي أبي وهما يخبطان على درجات السلاملك. كان يحمل بيضة في يده التي كانت ترتعش كأنه كان مقرورا. لمع بريق من شبه الجنون في عينيه. عندما وقف ينظر إلينا كنت موقنا من أنه كان يعتزم أن يقذف بالبيضة في وجه أحدنا؛ إما أمي أو أنا، لكنه وضعها برفق على المائدة إلى جانب السراج ثم جثا على ركبتيه بمحاذاة سرير أمي. شرع يبكي مثل طفل وشرعت أنا أبكي معه وقد نال مني حزنه. كلانا ملأ الغرفة العلوية الصغيرة بالعويل. كان أمرا مضحكا لكن كل ما أذكره من ذلك المشهد كان حركة يد أمي وهي تربت بتتابع على الجانب الأصلع اللامع من رأس أبي. نسيت ما قالته أمي له وكيف أقنعته أن يخبرها بما حدث في الأسفل. كذلك تاه عن بالي ما قاله هو. كل ما أذكره هو حزني وخوفي ورأس أبي الأصلع اللامع وهو يعكس ضوء السراج، وهو جاث على ركبتيه بمحاذاة السرير. أما ما حدث في الأسفل فقد كنت أعرف القصة لسبب مبهم كأنني كنت شاهدا على حيرة أبي. أحيانا يحدث أن يطلع المرء على أشياء غير قابلة للتفسير.
في ذلك المساء قدم الشاب جو كين وهو ابن لأحد التجار في بيدويل إلى بيكلفيل للقاء والده الذي كان منتظرا أن يصل في قطار الساعة العاشرة مساء قادما من الجنوب. تأخر القطار ثلاث ساعات فجاء جو إلى مطعمنا ليزجي بعض الوقت في انتظار وصوله. في أثناء ذلك وصل قطار البضائع المحلي وجاء طاقمه لتناول الطعام عندنا. ثم انصرفوا ليبقى جو وحده في المطعم مع أبي.
من اللحظة الأولى التي جاء فيها الشاب إلى محلنا بدا واضحا أنه استغرب أفعال أبي. فكر أن أبي كان غاضبا من وجوده هناك. لاحظ أن صاحب المطعم أظهر الانزعاج من حضوره وفكر أن يغادر المحل، غير أن السماء بدأت تمطر فلم يستحسن فكرة العودة إلى المدينة ويقطع ذلك الطريق الطويل. اشترى سيجارا بخمسة قروش وطلب كوبا من القهوة. كان يحمل جريدة في جيبه فأخرجها وبدأ يقرأ وهو يقول كالمعتذر: "إنني أنتظر قطار المساء. لقد تأخر". طفق أبي يحملق بصمت في وجه الزائر الذي لم يكن قد رآه من قبل لوقت طويل. لا بد أنه كان يعاني من نوبة الهلع التي تنتاب عادة أولئك الذين يصعدون الخشبة لأول مرة. ذلك شئ يحدث مرارا في الحياة. لقد أطال التفكير في مثل هذا الموقف من قبل فلما حدث واجهه بعصبية ظاهرة؛ مبدئيا لم يعرف ماذا يفعل بيديه فضرب بإحداهما على الطاولة بعصبية وصافح جو كين بالأخرى قائلا: "تشرفنا". وضع جو كين الجريدة وحدق فيه. لمعت عينا أبي على واجهة سلة البيض الموضوعة على طاولة المطعم وبدأ يتكلم. قال بتردد: "حسنا، حسنا. سمعت عن كريستوفر كولومبوس، أليس كذلك؟" بدا كأنه كان غاضبا حين قال بحدة: "كريستوفر كولومبوس هذا كان مخادعا. لقد زعم أنه يستطيع أن يجعل البيضة تقف على أحد حديها، نعم لقد قال ذلك ولكنه ذهب فكسر حد البيضة".
لقد بدا للزائر أن أبي فقد صوابه من الانفعال وهو يتحدث عن مكر كريستوفر كولومبوس. كان يغمغم بكلمات بذيئة. قال إنه من الخطأ أن نعلم الأطفال أن كريستوفر كولومبوس كان رجلا عظيما طالما أنه كان يخادع في اللحظات الحرجة على كل حال. لقد أعلن أنه يستطيع أن يجعل البيضة تقف على أحد حديها، وحين انكشف خداعه لجأ إلى الحيلة.
أخذ أبي بيضة من السلة الموضوعة على الطاولة وهو ما يزال يتحدث بتذمر عن كريستوفر كولومبوس، ثم بدأ يمشي جيئة وذهابا. جعل يدير البيضة بين كفي يديه ثم ابتسم بمرح. أخذ يتمتم بكلمات عن التأثير الذي يحل بالبيضة من الكهرباء التي تسري من جسد الإنسان. قال إنه يستطيع أن يجعل البيضة تقف على حدها دون أن يكسر غشاءها بأن يديرها بين كفي يديه. أوضح أنه بفضل دفء يديه وبفضل التحريك اللولبي اللطيف للبيضة خلق مركزا جديدا للجاذبية. كان جو كين يتابعه بشئ من الاهتمام. قال أبي: "لقد تعاملت مع آلاف البيضات ولا أحد يعرف عن البيض أكثر مما أعرف". وضع البيضة على الطاولة فسقطت على أحد جانبيها. حاول أن يعيد الكرة مرة أخرى وهو يدير البيضة بين كفي يديه ويتفوه بكلمات عن عجائب الكهرباء وقانون الجاذبية. استمر يحاول ذلك مدة نصف ساعة، فلما نجح أخيرا في جعل البيضة تقف على حدها رفع رأسه للحظة فوجد الزائر لم يعد يتابعه. في الوقت الذي تمكن فيه من استثارة انتباه جو كين إلى نجاح محاولاته كانت البيضة قد انقلبت وسقطت على جانبها. بدا أبي مغالبا شعوره الطاغي كرجل تنشيط وتسلية ومغتما أشد الغم لفشل محاولاته الأولى. لكنه أخذ القارورات التي تحتوي على الفراخ ذات الخلق المشوه من مكانها فوق الرف وأخذ يريها للزائر متسائلا: "هل سبق لك أن رأيت مخلوقا ذا سبعة أرجل ورأسين كهذا من قبل، يا صاحبي؟" وأشار إلى الكائن الأكثر غرابة من بينها وابتسامة مرحة ترتسم على وجهه. اقترب من طاولة المحل محاولا أن يربت على كتف جو كين كما رأى الرجال في صالون بينهاد يفعلون من قبل عندما كان مزارعا صغيرا وكان ينزل إلى المدينة مساء كل سبت. شعر الزائر بتقزز من منظر جسم الطائر المشوه وهو يطفو فوق السائل الكحولي في القارورة ثم قام يريد الانصراف. خرج أبي من وراء طاولة المحل وأمسك بذراع الشاب وأرجعه إلى مقعده.
شعر بشئ من الغضب وأشاح بوجهه للحظة محاولا الابتسام. ثم وضع القارورات مرة أخرى على الرف. اجتاحته نوبة كرم فأجبر جو كين على تناول كوب من القهوة الساخنة وقدم له سيجارا آخر على حسابه. ثم أخذ آنية ملأها بخل صبه من ماعون موضوع تحت الطاولة، وأعلن أنه بصدد القيام بلعبة جديدة. قال: "سأضع هذه البيضة في هذه الآنية المليئة بالخل وأضعها على النار كي تسخن قليلا، ثم أضعها في فوهة قارورة دون أن أكسرها. وحين تصير البيضة داخل القارورة ستسترد شكلها الطبيعي ويعود غشاؤها صلبا كما كان. ثم أعطيك القارورة والبيضة داخلها. سيسألك الناس كيف أدخلت البيضة في القارورة؟ لا تجبهم. سيكون أمرا مسليا القيام بهذه اللعبة". ابتسم أبي وغمز لضيفه. أقر جو كين بينه وبين نفسه أن الرجل قبالته يبدو مخبولا شيئا ما لكنه غير ذي ضرر. شرب كوب القهوة الذي قُدم له ثم عاد ليقرأ الجريدة مرة أخرى. عندما صارت البيضة ساخنة في آنية الخل أخذها أبي بملعقة إلى الطاولة ثم ذهب إلى غرفة خلفية لإحضار قارورة فارغة. كان غاضبا لأن الزائر لم يكن يشاهد ما يفعل، لكنه واصل عمله بنشاط. كافح طويلا وهو يحاول عبثا إدخال البيضة في فوهة القارورة. فلما فشل وضع آنية الخل مرة أخرى على الفرن معتزما تسخين البيضة ثانية، ثم أخذها وأصابعه تكاد تحترق. لانَ غشاء البيضة قليلا بعد أن تم تسخينها للمرة الثانية، لكن ذلك لم يكن كافيا كي تتم اللعبة. حاول ثم حاول بعناد وقد بدأ يتملكه شعور باليأس. وحين اعتقد أخيرا أن اللعبة أوشكت على أن تصبح ممكنة وصل القطار المتأخر إلى المحطة فقام جو كين معتزما الذهاب بدون اكتراث.
قام أبي بمحاولة يائسة أخيرة لإخضاع البيضة وجعلها تقوم بالشئ الذي يجعله أهلا لأن يكون منشطا مشهورا يعرف كيف يسلي ضيوفه الذين يقصدون مطعمه. عبث بالبيضة بخشونة مفتعلة. بدأ يتذمر وقطرات العرق تنز من جبينه. لقد تكسرت البيضة في يده، وعندما اندلق محتواها على ثيابه التفت جو كين الذي كان واقفا عند الباب وشرع في الضحك. انطلق زئير الغضب من حنجرة أبي. طفق يرتجف من شدة الغضب ويقذف بسيل من الكلمات المتقطعة. أمسك بيضة أخرى من السلة على الطاولة ورمى بها بكل قوته فأخطأ رأس الشاب الذي راغ إلى باب المحل هاربا.
صعد أبي إلى الأعلى قادما نحونا، أمي وأنا، حاملا البيضة في يده. لم أكن أعرف ما كان ينوي فعله. تصورت أنه كان يفكر في تكسيرها وتكسير البيض كله، وأنه كان يريدنا ـ أمي وأنا ـ أن نراه يفعل ذلك. لكنه حين وقف قبالة أمي بدا أن شيئا ما قد حدث له. لقد وضع البيضة برفق على المائدة وجثا على ركبتيه قرب السرير كما أوضحت آنفا. قرر بعد ذلك أن يغلق المطعم في الليل ويصعد إلى أعلى قاصدا السرير. ثم أطفأ النور وانخرط هو وأمي في حوار طويل غير مسموع ونام.
يُفترض أني ذهبت للنوم أيضا، لكن نومي كان مضطربا. فقد أفقت عند الفجر وطفقت أنظر إلى البيضة الموضوعة على المائدة لوقت طويل. تساءلتُ لِمَ كان ضروريا أن يوجد البيض؟ ولِمَ تخرج الدجاجة من البيضة كي تضع بيضا جديدا؟ سرى السؤال في دمي واستقر فيه لأني ـ كما أتصور ـ ابن أبي. على كل حال، ظلت المشكلة في ذهني غير قابلة للحل؛ أدركت أخيرا أن ذلك ليس إلا دليلا آخر على انتصار البيضة التام، على الأقل فيما يتعلق بأسرتي.
كان أبي في ربيع السنة الخامسة والثلاثين من عمره عندما تزوج من والدتي التي كانت تعمل مدرّسة في الأرياف. وفي الربيع الموالي قدمت أنا إلى الوجود أتململ وأبكي. شئ ما حدث للزوجين بعد ذلك؛ لقد أصبحا طموحين. كان الشعور الأمريكي المتحفز إلى الارتقاء في الحياة قد امتلكهما امتلاكا. قد تكون أمي هي المسؤولة عن هذا. فهي بحكم عملها كمدرسة كانت بلا شك تقرأ الكتب والمجلات؛ أفترض أن تكون قد قرأت كيف ارتفع كارفيلد لينكولن وأمريكيون آخرون من حضيض الفقر إلى قمة الشهرة والعظمة، وأنها في الأيام التي التزمت فيها السرير، وقد كنت ممددا إلى جانبها، ربما تكون قد حلمت باليوم الذي أكبر فيه وأصبح حاكما على الناس والمدن. استطاعت بطريقة أو بأخرى أن تقنع أبي بالعدول عن عمله كمزارع وبيع حصانه وبدء مشروع خاص به. كانت سيدة طويلة القامة تميل إلى الصمت ذات أنف طويل وعينين شهلاوين مضطربتين. لم تكن تريد شيئا لنفسها، لكنها كانت تطمح بشكل لا علاج له إلى مستقبل أفضل لأبي ولي أنا.
كان مصير المغامرة الأولى التي خاضها الزوجان سيئا؛ فقد اكتريا بقعة أرضية سيئة ومتحجرة من عشرة فدادين على طريق كريكز تبعد ثمانية أميال عن بيدويل، وشرعا في تربية الدجاج. كبرت أنا إلى أن بلغت مبلغ الفتيان وتكونت لدي انطباعات الحياة الأولى في ذلك المكان. كانت انطباعات كارثية في البداية، ولو كنت، من جهتي، رجلا كئيبا ميالا للنظر إلى الجانب المظلم من جوانب الحياة لعزوتُ ذلك إلى حقيقة أن أيام الطفولة التي كان يجب أن تكون أيام سعادة وحبور، قد قضيتها في مزرعة للدواجن.
أي شخص يفتقر إلى التجربة في مثل تلك المسائل لا يستطيع أن يكون فكرة عن الأمور المأساوية الكثيرة التي يمكن أن تحدث لدجاجة. إنها تخرج من بيضة وتعيش أسابيع قليلة مخلوقا صغيرا مغطى بريش ناعم كالذي تراه على بطاقات إيستر. ثم تتعرى بشكل مرعب وتأكل كميات من الذرة والوجبات التي وفرها الآباء من عرق جبينهم، وتصاب بأمراض مثل الكوليرا وغيرها وتقف وهي تنظر ببلاهة إلى الشمس وأخيرا تمرض فتموت. دجاجات معدودات وديك من حين لآخر يراد منها أن تخدم الغايات الإلهية الغامضة وتكافح للوصول إلى النضج. وتضع الدجاجات بيضا تخرج منه فراخ أخرى وهكذا دواليك. هكذا تكتمل الدائرة المخيفة. إنها دائرة معقدة بشكل لا يصدق. لا بد أن معظم الفلاسفة قد نشأوا في مزارع للدواجن. يأمل المرء الكثير من دجاجة، ولكنه واهم لدرجة مؤسفة. فالفراخ الصغيرة التي استهلت رحلة الحياة، وتبدو مشرقة ونشيطة بينما هي في الواقع في منتهى البلادة، تشبه على نحو كبير أناسا يختلط بهم المرء فيربكون أحكامه عن الحياة. إذا لم يقتلها المرض فإنها تنتظر إلى أن تُستثار توقعاتك بعناية ثم تمضي تحت عجلة عربة فتسحق تحتها وترجع ميتة إلى خالقها. تنتشر الحشرات المؤذية في جلدها وتنفق الأموال في شراء المساحيق لعلاجها. في المراحل المتأخرة من حياتي رأيت كيف أن إبداعات أدبية قد أنجزت حول موضوع الثروات التي تكتسب من تربية الدواجن. إنها كتبت ليقرأها أولئك الذين أكلوا حديثا من شجرة المعرفة؛ معرفة الخير والشر. إنه أدب يدعو إلى الأمل ويعلن أن الكثير يمكن أن يفعله أناس بسطاء طموحون يملكون دجاجات معدودة. لا يغرنك ذلك. إنه لم يكتب من أجلك. اذهب للتنقيب عن الذهب في مرتفعات ألاسكا الباردة. ضع ثقتك في نزاهة رجل سياسي. آمِن إن شئت بأن العالم ينمو بشكل أفضل وأن الخير سينتصر على الشر. ولكن لا تقرأ ولا تصدق الأدب المكتوب عن الدجاج؛ إنه لم يكتب من أجلك.
واضح أنني خرجت عن الموضوع؛ فقصتي ليست عن الدجاجة أساسا. إذا كان ينبغي أن تحكى بشكل صحيح فإنها ستنحصر حول البيضة لا الدجاجة. لمدة عشر سنين كافح أبي وأمي ليجعلا مزرعة الدواجن مشروعا مربحا، ثم تخليا عن ذلك الكفاح ليبدءا كفاحا آخر. انتقلا إلى مدينة بيدويل أوهايو وفتحا مطعما هناك. بعد عشر سنوات من القلق حول آلة تفريخ الدجاج التي لم تكن تعمل جيدا و"كرات" الريش الناعم الصغيرة التي كانت تبدو جميلة بطريقتها الخاصة والتي مرت من مرحلة الفراخ شبه العارية إلى مرحلة الدجاج النافق، رمينا كل شئ جانبا وحزمنا حوائجنا في عربة قدناها على طريق كريكز في اتجاه بيدويل. ذهبنا في قافلة صغيرة يداعبها الأمل وتبحث عن مكان جديد تبدأ فيه رحلة الصعود في الحياة. لا بد أننا كنا مجموعة أشخاص يظهر عليهم الحزن ولم يكونوا، في اعتقادي، أحسن حالا من لاجئين فارين من ساحة المعركة. سرنا، أنا وأمي، على الطريق والعربة التي عليها أمتعتنا اكتريناها ليوم واحد من جار لنا يدعى السيد ألبرت كريكز. كانت أرجل الكراسي الرخيصة تتدلى من جوانب العربة، وفوق أكوام الأسِرّة والموائد والصناديق الممتلئة بأدوات المطبخ يظهر صندوق كبير فيه دجاجات حية وفوقه عربة أطفال صغيرة كنت أمتطيها في صباي الأول. لم أكن أعرف لماذا احتفظنا بعربة الأطفال تلك! فلم يكن من المحتمل أن يولد لنا أطفال آخرون، كما أن عجلاتها كانت محطمة. المسألة أن الذين يملكون أمتعة قليلة يتمسكون بها. وهذه هي إحدى الحقائق التي تشجع على الحياة. ركب أبي العربة. كان بدينا بعض الشئ وكان يميل إلى الصمت والتحفظ بحكم العادة التي اكتسبها من معاشرته لأمي وللدجاج. لقد عمل خلال العشر سنوات التي قضيناها في مزرعة الدواجن كما عمل مُزارعا مساعدا في المزارع المجاورة. وأنفق المال الذي كسبه من عمله ذلك في علاج أمراض الدجاج وشراء أدوية مثل عقار الكوليرا الأبيض العجيب لويلمر وعقار البروفيسور بيدلو المساعد على تفريخ البيض وغيرها من العقاقير التي كانت أمي تجد إعلاناتها في الجرائد المتخصصة في الدواجن. كانت هناك ذؤابتان صغيرتان من الشعر على رأس أبي تتدليان فوق أذنيه. أذكر أنني عندما كنت طفلا صغيرا، كنت أجلس محملقا فيه وهو نائم على مقعد قرب المدفأة مساء كل أحد خلال فصول الشتاء. كنت وقتها قد تعلمت قراءة الكتب وتكوين بعض الأفكار الخاصة بي. كان الطريق "الأصلع" الذي يبدو على رأسه شبيها، كما تخيلته، بطريق عريض كالذي سلكه القيصر بفيالقه وهو يغادر روما إلى عجائب عالم مجهول. ذؤابتا الشعر فوق أذني أبي كانتا أشبه بالأدغال في تصوري. انتابتني حالة بين اليقظة والنوم وحلمت كأنني شئ صغير يمضي في الطريق إلى مكان بعيد جميل ليس فيه مزارع للدواجن والحياة فيه سعيدة لا تشغلها قضايا البيض. يمكن لأي أحد أن يؤلف كتابا عن رحلتنا من مزرعة الدواجن إلى المدينة. قطعنا، أمي وأنا، ثمانية أميال كاملة على أقدامنا لأنها كانت تريد الاطمئنان على أن شيئا من الأمتعة لن يسقط من العربة من جهة، ولأنني كنت أريد التملي في عجائب الدنيا من جهة أخرى. وعلى المقعد الملاصق للمقعد الذي كان يجلس عليه أبي في العربة كان هناك كنزه الأكبر الذي سأحدثكم عنه.
في مزرعة الدواجن حيث تخرج مئات بل آلاف من الفراخ من البيضات، تحدث أحيانا أشياء مفاجئة. فالأشكال المريعة قد تخرج من البيض كما قد تتولد عن الكائن البشري. هي حوادث لا تحدث إلا لماما؛ ربما مرة واحدة في كل ألف ولادة. فرخ يولد بأربع أرجل وأربعة أجنحة ورأسين أو أي شئ من هذا القبيل. لكنه لا يعيش؛ يرجع سريعا إلى خالقه. إن مسألة عدم قدرة الأشياء الصغيرة على العيش هي إحدى مآسي الحياة بالنسبة لوالدي. كانت لديه فكرة أنه لو استطاع أن يمكن فرخة ذات أربع سيقان أو فرخا ذا رأسين من العيش والنمو حتى يصبحا دجاجة وديكا لاكتسب ثروة. كان يحلم أن يأخذ ذلك المخلوق العجيب إلى المعارض الريفية فيعرضه على المزارعين ويصبح غنيا.
في كل الأحوال، عمد إلى الاحتفاظ بالمخلوقات الوحشية التي ولدت في مزرعتنا فوضعها في قارورات زجاجية مليئة بالكحول، وأثناء رحلتنا إلى المدينة وضع القارورات بعناية داخل صندوق وضعه على المقعد الملاصق لمقعده في العربة. كان يوجه حصاني العربة بيد ويمسك الصندوق باليد الأخرى كي لا يسقط. وعندما وصلنا إلى وجهتنا أخذ الصندوق على الفور فأزيلت القارورات منه. وخلال الأيام التي عملنا فيها في مطعم بمدينة بيدويل أوهايو ظلت المخلوقات حبيسة القارورات الزجاجية الموضوعة على رف خلف طاولة المطعم. كانت أمي تحتج على ذلك، لكن أبي كان يصر على الاحتفاظ ب"كنزه". قال إن تلك المخلوقات ذات قيمة عالية لأن الناس في اعتقاده يحبون مشاهدة الأشياء الغريبة والعجيبة.
هل قلت لكم إننا شرعنا في مشروع المطعم بمدين بيدويل أوهايو؟ لقد بالغت قليلا. فالمدينة نفسها تقع بسفح على هضبة منخفض وعلى ضفة نهر صغير. وطريق السكة الحديدية لا يمر بالمدينة ومحطة القطار تبعد ميلا واحدا إلى الشمال في مكان يدعى بيكلفيل. كان هناك مصنع لإنتاج مشروب عصير التفاح وآخر لإنتاج الخضر المصبرة المنقوعة بماء الخل والماء المالح في المحطة. لكنهما توقفا عن العمل قبل قدومنا إلى المدينة. كانت الحافلات تتجه إلى المحطة كل صباح ومساء عبر طريق يدعى تورنرز بارك قادم من أمام فندق على شارع بيدويل الرئيسي. ذهبنا إلى ذلك المكان الذي كان بعيدا عن الطريق كي نشرع في مشروع المطعم الذي كان فكرة والدتي. تحدثت عنه لسنة كاملة ثم ذهبت ذات يوم إلى هناك واكترت محلا فارغا مقابلا لمحطة السكة الحديدية. كانت تظن أن مشروع المطعم سيكون مربحا. قالت إن المسافرين سيلجئون إلى المطعم في انتظار أن يستقلوا القطار إلى خارج المدينة، وأن سكان المدينة سيأتون إلى المحطة لينتظروا القطارات القادمة. سيجيئون إلى المطعم لشراء قطع البطاطس المسلوقة وشرب القهوة. الآن وقد كبرت أعرف أنه كان لديها دافع آخر للذهاب إلى هناك. إنه دافع الطموح إلى مستقبل أفضل من أجلي؛ كانت تريدني أن أرتقي في الحياة وأنخرط في مدارس المدينة ثم أصبح حاكما على المدن كلها.
عمل أبي وأمي في بيكلفيل بكل كد واجتهاد كما تعودا أن يفعلا. في البداية كان ضروريا أن ندخل بعض التعديلات على شكل المحل حتى يصير مطعما. هذه العملية استغرقت شهرا كاملا. أعد أبي رفا وضع فيه علب الخضر المصبرة وكتب اسمه بالأحرف الكبيرة واللون الأحمر على واجهة المحل، وتحت اسمه كتب عبارة "كل هنا" بصيغة الأمر القسري الذي لم يكن يطاع إلا لماما. ثم أحضر صندوقا زجاجيا شفافا ملأه بعلب السجائر والسيجار. وعمدت أمي إلى كنس الفناء وتنظيف جدران المحل.
ذهبت إلى المدرسة في المدينة وكنت مسرورا بالابتعاد عن المزرعة وعن منظر الفراخ الحزينة التعيسة، ولكنني لم أكن قد ذقت طعم السعادة الكاملة بعد. وفي طريق عودتي إلى المنزل مساء في المدرسة في شارع تورنرز بارك تذكرت الأطفال الذين رأيتهم يلعبون في ساحة المدرسة؛ كانت هناك مجموعة من الفتيات يقفزن ويغنين. حاولت أن أجرب ذلك؛ طفقت أقفز على ساق واحدة على طول الطريق المتجمد وأغني بصوت عال: "هيبيتي هوب إلى دكان الحلاق". ثم توقفت وأخذت أنظر حولي في توجس. كنت خائفا من أن يراني أحدهم وأنا في حالتي المرحة تلك. لا بد أنني تصورت أني أفعل شيئا لا يليق بشخص مثلي نشأ في مزرعة للدواجن كان فيها الموت ضيفا معتادا.
وقررت أمي أن يبقى المطعم مفتوحا ليلا. كان هناك قطار للمسافرين يمر من أمام باب مطعمنا في الساعة العاشرة من مساء كل يوم متبوعا بآخر للبضائع. كان على طاقم قطار البضائع أن يحولوا القطار إلى سكة أخرى في بيكلفيل، وعندما يتمون هذه العملية كانوا يجيئون إلى مطعمنا لتناول القهوة الساخنة والطعام. أحيانا كان بعضهم يطلب بيضة مقلية. وفي الرابعة صباحا كانوا يعودون متجهين شمالا ثم يزوروننا مرة أخرى. مشروعنا بدأ يكبر شيئا فشيئا. كانت أمي تنام ليلا وتعتني بالمطعم خلال النهار وتلبي طلبات الزبائن بينما ينام أبي. كان ينام على نفس السرير الذي تنام عليه أمي ليلا. أما أنا فأذهب إلى مدينة بيدويل قاصدا المدرسة. أثناء الليالي الطوال عندما تنام أمي وأنا، كان أبي يطهو الوجبات التي كانت على شكل سندويتشات في سلل الغذاء الخاصة بزبائننا. فجأة قفزت إلى ذهنه فكرة تتعلق بالصعود في الحياة؛ امتلكته روح الرجل الأمريكي. لقد صار هو نفسه طموحا. وأثناء الليالي الطوال، عندما لا يجد أبي ما يفعله، كان يجد الوقت الكافي للتفكير. كان ذلك بداية انهياره. لقد قرر بينه وبين نفسه أنه كان في الماضي رجلا فاشلا لأنه لم يكن بشوشا بما فيه الكفاية، ولذلك فإنه يعتزم أن يتبنى نظرة مرحة للحياة. في الصباح الباكر صعد درجات السلم واتجه إلى سرير أمي التي استيقظت فبدءا يتحدثان. كنت أصغي إلى حديثهما من مكاني في غرفة نومي. كانت فكرة والدي أن يحاول هو وأمي أن يهيئا أسباب التسلية والترفيه للناس الذين كانوا يأتون لتناول الطعام في مطعمنا. لا أستطيع أن أتذكر الآن كلماته، ولكنه أعطاني الانطباع بأنه بصدد أن يصبح منشطا ومسليا عموميا بطرية أو بأخرى.
عندما يأتي الناس، خصوصا شبان مدينة بيدويل إلى محلنا في مناسبات نادرة جدا، تدور حوارات مسلية وممتعة. ومن كلمات أبي في البداية أدرك أن أثر صاحب المطعم المرح يطغى عليه. لا شك أن أمي كانت متوجسة في أول الأمر، لكنها لم تبد أي اعتراض. كان أبي يظن أن عاطفة ما ستتولد في صدور شبان مدينة بيدويل تجعلهم يسعون إلى صحبته هو وأمي. في المساء كانت مجموعات من الشباب السعيد المشرق تقبل عبر شارع تورنرز بارك وهي تغني. كانوا يمرون مجتمعين بمطعمنا وهم من الفرح والضحك في صخب وضجيج. ثم تبدأ الأغاني والاحتفالات. لا أريد أن أعطي الانطباع بأن أبي قد تحدث عن المسألة بإسهاب. فقد كان، كما قلت، رجلا غير قادر على التواصل مع الآخرين. كل ما قاله: " إنهم يرغبون في مكان يحجون إليه. أقول لكم إنهم يرغبون في مكان يحجون إليه". قال ذلك مرارا وتكرارا. وكان ذلك أقصى ما أمكنه أن يقول. خيالي وحده هو الذي جاد بتتمة ما كان يريد أن يقول.
ظلت فكرة أبي هذه طاغية على الأجواء في منزلنا لمدة شهرين أو ثلاثة. لم نكن نتحادث كثيرا، لكننا كنا نحاول في حياتنا اليومية بكل لهفة أن نجعل البسمات تحل محل النظرات الكئيبة. كانت أمي تبتسم في وجوه الزبائن. وكنت، وقد أصابتني العدوى، أبتسم لقطتنا. أصيب أبي بما يشبه الحمى وهو يغالب قلقه من ألا يستطيع إرضاء الزبائن. لا شك أن نفحة من روح الرجل المنشط المسلي كانت تعمل في مكان ما بداخله. لم يستنفد كل طاقته في إرضاء رجال السكة الحديدية الذين كان يخدمهم ليلا، لكنه بدأ ينتظر قدوم فتى أو فتاة من بيدويل فيريه ما يستطيع فعله. على طاولة المطعم كانت هناك سلة مصنوعة من الأسلاك ممتلئة بالبيض. وردت إلى ذهنه فكرة أن يصبح مسليا. شئ فطري كان يجعل للبيض صلة بتطور تلك الفكرة.
في وقت متأخر من الليل استيقظت على صرخة غضب قادمة من حجرة أبي. كلانا، أمي وأنا، استوينا جالسين على سريرينا. وبيدين مرتعشتين أشعلت أمي سراجا كان على مائدة قريبة من رأسها وسمعنا باب المطعم يغلق بشدة وعنف. وفي غضون دقائق قليلة سمعنا صوت قدمي أبي وهما يخبطان على درجات السلاملك. كان يحمل بيضة في يده التي كانت ترتعش كأنه كان مقرورا. لمع بريق من شبه الجنون في عينيه. عندما وقف ينظر إلينا كنت موقنا من أنه كان يعتزم أن يقذف بالبيضة في وجه أحدنا؛ إما أمي أو أنا، لكنه وضعها برفق على المائدة إلى جانب السراج ثم جثا على ركبتيه بمحاذاة سرير أمي. شرع يبكي مثل طفل وشرعت أنا أبكي معه وقد نال مني حزنه. كلانا ملأ الغرفة العلوية الصغيرة بالعويل. كان أمرا مضحكا لكن كل ما أذكره من ذلك المشهد كان حركة يد أمي وهي تربت بتتابع على الجانب الأصلع اللامع من رأس أبي. نسيت ما قالته أمي له وكيف أقنعته أن يخبرها بما حدث في الأسفل. كذلك تاه عن بالي ما قاله هو. كل ما أذكره هو حزني وخوفي ورأس أبي الأصلع اللامع وهو يعكس ضوء السراج، وهو جاث على ركبتيه بمحاذاة السرير. أما ما حدث في الأسفل فقد كنت أعرف القصة لسبب مبهم كأنني كنت شاهدا على حيرة أبي. أحيانا يحدث أن يطلع المرء على أشياء غير قابلة للتفسير.
في ذلك المساء قدم الشاب جو كين وهو ابن لأحد التجار في بيدويل إلى بيكلفيل للقاء والده الذي كان منتظرا أن يصل في قطار الساعة العاشرة مساء قادما من الجنوب. تأخر القطار ثلاث ساعات فجاء جو إلى مطعمنا ليزجي بعض الوقت في انتظار وصوله. في أثناء ذلك وصل قطار البضائع المحلي وجاء طاقمه لتناول الطعام عندنا. ثم انصرفوا ليبقى جو وحده في المطعم مع أبي.
من اللحظة الأولى التي جاء فيها الشاب إلى محلنا بدا واضحا أنه استغرب أفعال أبي. فكر أن أبي كان غاضبا من وجوده هناك. لاحظ أن صاحب المطعم أظهر الانزعاج من حضوره وفكر أن يغادر المحل، غير أن السماء بدأت تمطر فلم يستحسن فكرة العودة إلى المدينة ويقطع ذلك الطريق الطويل. اشترى سيجارا بخمسة قروش وطلب كوبا من القهوة. كان يحمل جريدة في جيبه فأخرجها وبدأ يقرأ وهو يقول كالمعتذر: "إنني أنتظر قطار المساء. لقد تأخر". طفق أبي يحملق بصمت في وجه الزائر الذي لم يكن قد رآه من قبل لوقت طويل. لا بد أنه كان يعاني من نوبة الهلع التي تنتاب عادة أولئك الذين يصعدون الخشبة لأول مرة. ذلك شئ يحدث مرارا في الحياة. لقد أطال التفكير في مثل هذا الموقف من قبل فلما حدث واجهه بعصبية ظاهرة؛ مبدئيا لم يعرف ماذا يفعل بيديه فضرب بإحداهما على الطاولة بعصبية وصافح جو كين بالأخرى قائلا: "تشرفنا". وضع جو كين الجريدة وحدق فيه. لمعت عينا أبي على واجهة سلة البيض الموضوعة على طاولة المطعم وبدأ يتكلم. قال بتردد: "حسنا، حسنا. سمعت عن كريستوفر كولومبوس، أليس كذلك؟" بدا كأنه كان غاضبا حين قال بحدة: "كريستوفر كولومبوس هذا كان مخادعا. لقد زعم أنه يستطيع أن يجعل البيضة تقف على أحد حديها، نعم لقد قال ذلك ولكنه ذهب فكسر حد البيضة".
لقد بدا للزائر أن أبي فقد صوابه من الانفعال وهو يتحدث عن مكر كريستوفر كولومبوس. كان يغمغم بكلمات بذيئة. قال إنه من الخطأ أن نعلم الأطفال أن كريستوفر كولومبوس كان رجلا عظيما طالما أنه كان يخادع في اللحظات الحرجة على كل حال. لقد أعلن أنه يستطيع أن يجعل البيضة تقف على أحد حديها، وحين انكشف خداعه لجأ إلى الحيلة.
أخذ أبي بيضة من السلة الموضوعة على الطاولة وهو ما يزال يتحدث بتذمر عن كريستوفر كولومبوس، ثم بدأ يمشي جيئة وذهابا. جعل يدير البيضة بين كفي يديه ثم ابتسم بمرح. أخذ يتمتم بكلمات عن التأثير الذي يحل بالبيضة من الكهرباء التي تسري من جسد الإنسان. قال إنه يستطيع أن يجعل البيضة تقف على حدها دون أن يكسر غشاءها بأن يديرها بين كفي يديه. أوضح أنه بفضل دفء يديه وبفضل التحريك اللولبي اللطيف للبيضة خلق مركزا جديدا للجاذبية. كان جو كين يتابعه بشئ من الاهتمام. قال أبي: "لقد تعاملت مع آلاف البيضات ولا أحد يعرف عن البيض أكثر مما أعرف". وضع البيضة على الطاولة فسقطت على أحد جانبيها. حاول أن يعيد الكرة مرة أخرى وهو يدير البيضة بين كفي يديه ويتفوه بكلمات عن عجائب الكهرباء وقانون الجاذبية. استمر يحاول ذلك مدة نصف ساعة، فلما نجح أخيرا في جعل البيضة تقف على حدها رفع رأسه للحظة فوجد الزائر لم يعد يتابعه. في الوقت الذي تمكن فيه من استثارة انتباه جو كين إلى نجاح محاولاته كانت البيضة قد انقلبت وسقطت على جانبها. بدا أبي مغالبا شعوره الطاغي كرجل تنشيط وتسلية ومغتما أشد الغم لفشل محاولاته الأولى. لكنه أخذ القارورات التي تحتوي على الفراخ ذات الخلق المشوه من مكانها فوق الرف وأخذ يريها للزائر متسائلا: "هل سبق لك أن رأيت مخلوقا ذا سبعة أرجل ورأسين كهذا من قبل، يا صاحبي؟" وأشار إلى الكائن الأكثر غرابة من بينها وابتسامة مرحة ترتسم على وجهه. اقترب من طاولة المحل محاولا أن يربت على كتف جو كين كما رأى الرجال في صالون بينهاد يفعلون من قبل عندما كان مزارعا صغيرا وكان ينزل إلى المدينة مساء كل سبت. شعر الزائر بتقزز من منظر جسم الطائر المشوه وهو يطفو فوق السائل الكحولي في القارورة ثم قام يريد الانصراف. خرج أبي من وراء طاولة المحل وأمسك بذراع الشاب وأرجعه إلى مقعده.
شعر بشئ من الغضب وأشاح بوجهه للحظة محاولا الابتسام. ثم وضع القارورات مرة أخرى على الرف. اجتاحته نوبة كرم فأجبر جو كين على تناول كوب من القهوة الساخنة وقدم له سيجارا آخر على حسابه. ثم أخذ آنية ملأها بخل صبه من ماعون موضوع تحت الطاولة، وأعلن أنه بصدد القيام بلعبة جديدة. قال: "سأضع هذه البيضة في هذه الآنية المليئة بالخل وأضعها على النار كي تسخن قليلا، ثم أضعها في فوهة قارورة دون أن أكسرها. وحين تصير البيضة داخل القارورة ستسترد شكلها الطبيعي ويعود غشاؤها صلبا كما كان. ثم أعطيك القارورة والبيضة داخلها. سيسألك الناس كيف أدخلت البيضة في القارورة؟ لا تجبهم. سيكون أمرا مسليا القيام بهذه اللعبة". ابتسم أبي وغمز لضيفه. أقر جو كين بينه وبين نفسه أن الرجل قبالته يبدو مخبولا شيئا ما لكنه غير ذي ضرر. شرب كوب القهوة الذي قُدم له ثم عاد ليقرأ الجريدة مرة أخرى. عندما صارت البيضة ساخنة في آنية الخل أخذها أبي بملعقة إلى الطاولة ثم ذهب إلى غرفة خلفية لإحضار قارورة فارغة. كان غاضبا لأن الزائر لم يكن يشاهد ما يفعل، لكنه واصل عمله بنشاط. كافح طويلا وهو يحاول عبثا إدخال البيضة في فوهة القارورة. فلما فشل وضع آنية الخل مرة أخرى على الفرن معتزما تسخين البيضة ثانية، ثم أخذها وأصابعه تكاد تحترق. لانَ غشاء البيضة قليلا بعد أن تم تسخينها للمرة الثانية، لكن ذلك لم يكن كافيا كي تتم اللعبة. حاول ثم حاول بعناد وقد بدأ يتملكه شعور باليأس. وحين اعتقد أخيرا أن اللعبة أوشكت على أن تصبح ممكنة وصل القطار المتأخر إلى المحطة فقام جو كين معتزما الذهاب بدون اكتراث.
قام أبي بمحاولة يائسة أخيرة لإخضاع البيضة وجعلها تقوم بالشئ الذي يجعله أهلا لأن يكون منشطا مشهورا يعرف كيف يسلي ضيوفه الذين يقصدون مطعمه. عبث بالبيضة بخشونة مفتعلة. بدأ يتذمر وقطرات العرق تنز من جبينه. لقد تكسرت البيضة في يده، وعندما اندلق محتواها على ثيابه التفت جو كين الذي كان واقفا عند الباب وشرع في الضحك. انطلق زئير الغضب من حنجرة أبي. طفق يرتجف من شدة الغضب ويقذف بسيل من الكلمات المتقطعة. أمسك بيضة أخرى من السلة على الطاولة ورمى بها بكل قوته فأخطأ رأس الشاب الذي راغ إلى باب المحل هاربا.
صعد أبي إلى الأعلى قادما نحونا، أمي وأنا، حاملا البيضة في يده. لم أكن أعرف ما كان ينوي فعله. تصورت أنه كان يفكر في تكسيرها وتكسير البيض كله، وأنه كان يريدنا ـ أمي وأنا ـ أن نراه يفعل ذلك. لكنه حين وقف قبالة أمي بدا أن شيئا ما قد حدث له. لقد وضع البيضة برفق على المائدة وجثا على ركبتيه قرب السرير كما أوضحت آنفا. قرر بعد ذلك أن يغلق المطعم في الليل ويصعد إلى أعلى قاصدا السرير. ثم أطفأ النور وانخرط هو وأمي في حوار طويل غير مسموع ونام.
يُفترض أني ذهبت للنوم أيضا، لكن نومي كان مضطربا. فقد أفقت عند الفجر وطفقت أنظر إلى البيضة الموضوعة على المائدة لوقت طويل. تساءلتُ لِمَ كان ضروريا أن يوجد البيض؟ ولِمَ تخرج الدجاجة من البيضة كي تضع بيضا جديدا؟ سرى السؤال في دمي واستقر فيه لأني ـ كما أتصور ـ ابن أبي. على كل حال، ظلت المشكلة في ذهني غير قابلة للحل؛ أدركت أخيرا أن ذلك ليس إلا دليلا آخر على انتصار البيضة التام، على الأقل فيما يتعلق بأسرتي.