نقوس المهدي
كاتب
نشوة السكران
بسم الله الرحمن الرحيم نحمد من زين رياض الوجوه بنرجس اللحاظ وورد الخدود، وأثمر أغصان القدود برمان النهود، حمد من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، وسيب بذكر محبوبه إن كان تهاميا في حجاز أو شاميا في نوى، ونصلي ونسلم على من حث على تهذيب النفس الأبية، عن الرذائل الدنية، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين يحبهم ويحبونه، ويقفون عند ما أمرهم ولا يتعدونه، ما ذر شارق، وهام عاشق.
وبعد؛ فهذا بيان العشق والعشاق والمعشوقات من النسوان، وما يتصل بذلك من تطورات الصبوة والهيمان، الذي أفصح به أصحاب "ديوان الصبابة"، "وتزيين الأسواق" "وسبحة المرجان"، لخصته منها حلية للآذان، وأتيت فيه بأشياء مما يزري بأريج الريحان، وسميته: "نشوة السكران، من صهباء تذكار الغزلان"، ورتبته على مقدمة، وفصول، وخاتمة.
مقدمة في ذكر العشق واسمه وما جاء في حده ورسمه
اعلم أن العشق طمع يتولد في القلب، ويتحرك وينمو، ثم يتربى، وتجتمع إليه مواد من الحرص، وكلما قوي زاد صاحبه في الاهتياج واللجاج، والتمادي في الطمع والفكر والأماني، والحرص على الطلب، حتى يؤديه ذلك إلى الغم المقلق، ويكون احتراق الدم عند ذلك باستحالة السواد، أو التهاب الصفراء وانقلابها إليها، ومن طبع السواد إفساد الفكر، ومع فساد الفكر يكون زوال العقل ورجاء ما لا يكون وتمني ما لا يتم، حتى يكون ذلك إلى الجنون، فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه، وربما مات غماً، وربما نظر إلى معشوقه فمات فرحا، وربما شهق شهقة فتختنق روحه، فيبقى أربعا وعشرين ساعة، فيظنون أنه مات، فيدفنونه وهو حي، وربما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه، وينضم عليها القلب ولا ينفرج حتى يموت، وتراه إذا ذكر من يهواه هرب دمعه واستحال لونه. ذكره فيثاغورث الحكيم الذي أخذ عن أصحاب سليمان بن داود عليهما السلام، على ما ذكره صاعد في كتاب "الطبقات". وقال تلميذه أفلاطون: هو قوة غريزية متولدة من وسواس الطمع وأشباح التخيل، نام بنصال الهيكل الطبيعي، محدث للشجاع جبنا وللجبان شجاعة، يكسو كل إنسان عكس طباعه حتى يبلغ به المرض النفساني والجنون الشوقي فيؤديانه إلى الداء العضال الذي لا دواء له. وقال تلميذه أرسطاطاليس: العشق عمى العاشق عن عيوب المعشوق. وهذا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "حبك الشيء يعمي ويصم".والذي مشى عليه أبو علي ابن سينا وغيره من الأطباء، أنه مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا، يجلبه المرء إلى نفسه بتسلط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل، وقد تكون معه شهوة جماع وقد لا تكون. وقال سيد الطائفة الجنيد رحمه الله: العشق إلفة رحمانية وإلهام شوقي أوجبهما كرم الإله على كل ذي روح لتحصل به اللذة العظمى التي لا يقدر على مثلها إلا بتلك الإلفة وهي موجودة في الأنفس بقدر مراتبها عند أربابها، فما أحد إلا عاشق لأمر يستدل به على قدر طبقته من الخلق، ولأجل ذلك كان أشرف المراتب في الدنيا مراتب الذين زهدوا فيها مع كونها معاينة، ومالوا إلى الأخرى مع كونه مخبرا لهم عنها بصورة اللفظ. وقال الأصمعي: سألت أعرابية عن العشق فقالت: جل والله عن أن يرى، وخفي عن أبصار الورى، فهو في الصدور كامن ككمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى. وقال أبو وائل الأوضاحي: إن لم يكن طرفا من الجنون فهو عصارة من السحر. وقالت أعرابية: هو تحريك الساكن، وتسكين المتحرك.
وقال ثمامة: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مالك، وملك قاهر، ملك مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآرائها، قد أعطي عنان طاعتها، وقوة تصرفها، وقياد ملكها، وتوارى عن الأبصار مدخله، وعمي عن القلوب مسلكه. وقال بعضهم: مجهول لا يعرف، ومعروف لا يجهل، هزله جد، وجده هزل. وما أحسن قول الشاعر:
يقول أناس لو نعت لنا الهوى ... ووالله ما أدري لهم كيف أنعت
فليس لشيء منه حد أحده ... وليس لشيء منه وقت موقت
قال في "تزيين الأسواق": العشق يختلف باختلاف المزاج على أنحاء أربعة: سريع التعلق والزوال كما في الصفراويين، وعكسه كما في السوداويين، وسريع التعلق بطيء الزوال كما في الدمويين، وعكسه كما في البلغميين. عن ابن عباس، رفعه، قال: "من عشق فعف فمات دخل الجنة". زاد الخطيب عنه: "فظفر" ثم أبدل قوله: "دخل الجنة" بقوله "مات شهيدا" وفي أخرى: "وكتم"، والحديث بسائر ما ذكر صححه مغلطاي وأعله البيهقي والجرجاني والحاكم في "التاريخ" بضعف سويد وتفرده به، ورواه ابن الجوزي مرفوعاً، وأبو محمد بن الحسين موقوفا، وأخرجه الخطيب عن عائشة مرفوعا أيضا، وضعفه الحافظ بن القيم في "الهدي" بجميع طرقه، وأظن أنه الصواب، وإن تضمنه الأكابر في أشعارهم. وفي أثر ابن عباس أيضا: "الهوى إله معبود". وعن الغزي، قال: رأيت عاشقين اجتمعا، فتحدثا من أول الليل إلى الغداة، ثم قاما إلى الصلاة. ووردت أحاديث كثيرة في العشق مع العفة. قيل لعذري: أتعدون موتكم في الحب مزية، وهو من ضعف البنية، ووهن العقل، وضيق الرئة؟ فقال: أما والله لو رأيتم المحاجر البلج، ترشق بالعيون الدعج، من تحت الحواجب الزج، والشفاه السمر، تبسم عن الثنايا الغر، كأنها شذر الدر، لجعلتموها اللات والعزى وتركتم الإسلام وراء ظهوركم. وبنو عذرة مختصون بمزية الحب وإيثار العشق، ولا تضرب الأمثال إلا بهم. وقال بعض حكماء الهند: ما علق العشق بأحد عندنا إلا وعزينا أهله فيه. وحكى الحافظ مغلطاي: إن العشق يختلف باختلاف أصحابه، فإن الغرام أشد ما يكون مع الفراغ وتكرار التردد إلى المعشوق والعجز عن الوصول إليه، فعلى هذا يكون أخف الناس عشقا الملوك، ثم من دونهم، لاشتغالهم بتدبير الملك وقدرتهم على مرادهم، ولكن قد يتذللون للمحبوب بما في ذلك من مزيد اللذة، ودونهم أفرغ لقلة الاشتغال، حتى يكون المفترغ له بالذات أهل البادية لعدم اشتغالهم بعوائق، ومن ثم هم أكثر الناس موتا به. ونقل ابن خلكان في ترجمة العلاف: إن العشق جرعة من حياض الموت، وبقعة من رياض الثكل، لكنه لا يكون إلا عن أريحية في الطبع ولطافة في الشمائل، وجود لا يتفق معه منع، وميل لا ينفع فيه عذل. ووجد على صخرة: العشق ملك غشوم، ومسلط مظلوم، دانت له القلوب، وانقادت له الألباب، وخضعت له النفوس، فالعقل أسيره، والنظر رسوله، واللحظ عامله، والتفكير جاسوسه، والشغف حاجبه، والهيمان نائبه، بحر مستقر غامض، ويم تياره طافح فائض، وهو دقيق المسلك، عسير المخرج.
مبحث في أسباب العشق وعلاماته
قال بعض الأطباء: سببه النفساني الاستحسان والفكر، وسببه البدني ارتفاع بخار رديء إلى الدماغ عن مني محتقن، ولذلك أكثر ما يعتري العزاب، وكثرة الجماع تزيله بسرعة، وعلامته: نحافة البدن، وخلاء الجفن للسهر، وكثرة صعود الأبخرة، وغؤور العين وجفافها إلا عند البكاء، وحركة الجفن ضاحكة كأنه ينظر إلى شيء لذيذ، ونفس كثير الانقطاع والاسترداد والصعداء، ونبض غير منتظم، ولاسيما عند ذكر أسماء وصفات مختلفة، وتغير اللون وتنفس الصعداء. قال ارسطاطاليس: للعشق من النجوم زحل وعطارد والزهرة جميعا. فزحل يهيئ الفكرة والتمني والطمع والهم والهيجان والأحزان والوساوس والجنون، وعطارد يهيئ قول الشعر ونظم الرسائل والملق والخلاعة، وتنميق الكلام، وتليين المرام، والتذلل والتلطف، والزهرة تهيئ للعشق والوله والهيمان، والرقة والتلذذ بالنظر، والمؤانسة بالحديث، والمغازلة الباحثة على الشبق والغلمة، والميل إلى الطرب وسماع الأغاني وما شابهه. ومن علاماته: إغضاء المحب عند نظر محبوبه إليه، ورميه بطرفه نحو الأرض من مهابته له، وحياؤه منه، وعظمته في صدره، واضطراب يبدو للمحب عند رؤية من يشبه محبوبه، أو عند سماع اسمه، وحب أهله وقرابته وغلمانه وجيرانه وساكني بلده، وكثرة غيرته عليه، ومحبة القتل والموت ليبلغ رضاه، والإنصات لحديثه إذا حدث، واستغراب كل ما يأتي به ولو أنه عين المحال، وتصديقه وإن كذب، وموافقته وإن ظلم، والشهادة له وإن جار، وإتباعه كيف يسلك، والإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه، والتعمد للقعود بقربه، والدنو منه، وإطراح الأشغال الشاغلة عنه، والزهد فيها، والرغبة عنها، والاستهانة بكل خطب جليل داع إلى فراقه، والتباطؤ في المشي عند القيام عند وجوده بكل ما يقدر عليه مما كان يتمتع به قبل ذلك حتى كأنه هو الموهوب له، وهذا كله قبل استعار نار الحب، فإذا تمكن أعرض عن ذلك كله وبدله عن ذلك كله وبدله سؤالا وتضرعا كأنه يأخذه من المحبوب، حتى أنه يبذل نفسه دون محبوبه، كما كانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب بنفوسهم حتى يصرعوا حوله. ومنها: الانبساط الكثير الزائد، والتضايق في المكان الواسع، والمحاربة على الشيء يأخذه أحدهما، وكثرة الغمز الخفي، وكثرة التمطي والتكسل إذا نظر إلى محبوبه، إلى غير ذلك مما لا يحصى. فهو ألطف موجود نشأ في الوجود، وأعز مقصد لذي الهجود. وقال المعلم: العشق نصف الأمراض، وشطر الأعراض، وقسيم الأقسام، وجل الآلام. وله مراتب سبعة تدريجية ذكرها داود الأنطاكي، ولو منح الله شخصا مددا يستغرق المدد، وحياة تستفرغ الأبد، وفراغا يذر الشواغل سدى، ونفحات قدسية تصقل مرآة عقله لقبوله الفيض أبدا، وأفرغ ذلك كله في تحرير ما أودعه عمر بن الفارض من مراتب العشق وأدواره، وتنقلاته وأطواره، لفني الزمان ولم يدرك معشاره، وبادت الأكوان ولم يعرف قراره، ولولا ضيق عطن هذا المختصر، لأوضحت لك من بعض تدقيقاته في أقل كلماته ما يدعك في حيرة الفكر، وببحار العجب غارقا، ويسكتك وإن كنت مصعقاً ناطقاً.
مبحث في مراتب العشق وأسمائه وصفاته
فأول مراتبه: الهوى: وهو: ميل النفس، وقد يراد به نفس المحبوب.
ثم العلاقة: وهي: الحب اللازم للقلب.
ثم الكلف: وهو: شدة الحب، وأصله من الكلفة، وهي: المشقة. وقيل: هو مأخوذ من الأثر، وهو شيء يعلو الوجه كالسمسم. والكلف أيضا: لون بين السواد والحمرة، وهي حمرة كدرة.
ثم العشق: وهو: اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب، قال في "الصحاح": هو فرط الحب. وهو أمر هذه الأسماء، وقلما نطقت به العرب، وكأنهم ستروا اسمه وكنوا عنه بهذه الأسماء، ولا تكاد تجده في شعرهم القديم وإنما ولع به المتأخرون. ولم يقع هذا اللفظ في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، إلا في حديث سويد بن سعيد.
ثم الشغف: قال العزيزي في "غريب القرآن": (شغفها حبا) [يوسف:30] أصاب حبه شغاف قلبها، وهو الغلاف، أو حبة القلب، وهي علقة سوداء في صميمه، و (شغفها حباً) ارتفع حبه إلى أعلى موضع في قلبها، مشتق من شغاف الجبال، أي: رؤوسها، وقولهم: فلان مشغوف بفلانة، أي ذهب به الحب أقصى المذاهب.
والشغف: بالمهملة: إحراق الحب للقلب، وقد قرئ بهما جميعاً.
ومثله في الإحراق اللوعة واللاعج، فهذا هو الهوى المحرق.
ثم الجوى: وهو: الهوى الباطن، قال الجوهري: الجوى: الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن.
ثم التتيم: وهو: أن يستبعده الحب، منه سمي تيم الله، أي: عبد الله.
ثم التبل: وهو: أن يسقمه الهوى، وفي "الصحاح": تبلهم الدهر وأتبلهم: إذا أفناهم.
ثم التدله: وهو: ذهاب العقل من الهوى، ويقال: دلهه الحب، أي حيره.
ثم الهيام: وهو: أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه.
ثم الصبابة: وهي: رقة الشوق وحرارته.
والمقة: المحبة.
والوامق: المحب.
والوجد: الحب الذي يتبعه الحزن.
والدنف: لا تكاد تستعمله العرب في الحب، وإنما ولع به المتأخرون، وإنما استعملته العرب في المرض.
والشجو: حب يتبعه هم وحزن.
والشوق: سفر القلب إلى المحبوب. قال الجوهري: الشوق والاشتياق نزاع النفس إلى الشيء. وقد جاء في السنة: "وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقاءك". واختلف فيه: هل يزول بالوصال أو يزيد؟.
والبلبال: الهم ووسواس الصدور، والبلابل جمع بلبلة، يقال بلابل الشوق، وهي وساوسه.
والتباريح: الشدائد والدواهي، يقال برح به الحب والشوق، إذا أصابه منه البرح، وهو: الشدة.
والغمرة: ما يغمر القلب من حب أن سكر أو غفلة.
والشجن: الحاجة حيث كانت، وحاجة المحب أشد إلى محبوبه.
والوصب: ألم الحب ومرضه، فإن أصل الوصب المرض.
والكمد: الحزن المكتوم وتغير اللون.
والأرق: السهر، وهو من لوازم المحبة.
والحنين: الشوق الممزوج برقة وتذكر يهيج الباعثة.
والجنون: أصل مادته: الستر، والحب المفرط يستر العقل، فلا يفعل المحب ما ينفعه ولا ما يضره، فهو شعبة من الجنون، ومن الحب ما يكون من جنونا.
والود: خالص الحب وألطفه وأرقه، وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة.
والخلة: توحيد المحبة، فالخليل هو الذي يوحد حبه لمحبوبه، وهي مرتبة لا تقبل المشاركة، ولهذا اختص بها من العالم الخليلان إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، كما قال تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) [النساء: 125] . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا". وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا". وقيل: إنما سميت خلة لتخلل المحبة جميع أجزاء الروح. وزعم من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل، وهذا الزعم باطل، لأن الخلة خاصة والمحبة عامة، قال تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة:222] .
والغرام: الحب اللازم، يقال: رجل مغرم بالحب، وقد لزمه الحب. وفي "الصحاح": الغرام: الولوع.
والوله: ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد، وما أحسن قول السيد يوسف بن إبراهيم الأمين:
عشق المحبوب ظبيا مثله ... فاعتراه لهواه وله
كان معشوقا فأضحى عاشقا ... فقضى الحب عليه وله
والرسيس: من الرس، وهو: الثبات ورسوخ صورة المحبوب في النفس، وزعموا أنه أول المراتب، ويليه الحب، والحب أخص من العشق لأنه عن أول نظرة، وأقصاه امتزاج الأرواح.
والرأفة: أشد الحب، لأنها مبالغة في الرحمة.
والصبوة: لا تطلق حقيقة إلا على الميل والافتتان في زمن الصبا، لكن تطلق تجاوزا على مطلق الميل للمشابهة والنزوع.
والكآبة: شدة الحزن، كالتفجع، أو هو توجع وبكاء على الفقد والبرح.
والغل: شدة العشق.
والسهد: شدة السهر وتواتر أحوال المحبوب على القلب. وفي معناه: التحرق واللذع والولع.
والنصب: لوعة من مرض وغم.
والخبل: الجنون المتولد من شدة الحب، وهذا في الأصح آخر المراتب.
والجزع: عدم الصبر على الفرقة.
والهلع: الشدة.
والخلابة: سلب العقل.
والبله: حمق أو غفلة، فيكون هنا استغراقاً في الحب.
وفي ترتيب هذه الأسماء خلاف يرد على من التزم ترتيبها. ونحن قد أوضحنا نفس المعاني، ومنها يسهل الترتيب والتنزيل على المراتب، فتأمل. وله أسماء غير هذه أضربت عنها خوف الإطالة.
والمحبة أم باب هذه الأسماء كلها. وقيل: الشوق جنس، والمحبة نوع منه، والحب حرف ينتظم الثلاثة: العشق، والوجد، والهوى، وللناس في حد المحبة كلام كثير، فقيل: هي الميل الدائم بالقلب الهائم. وقيل: ذكر المحبوب على عدد الأنفاس، وقيل: مصاحبته على الإدمان. وقيل: القيام له بكل ما يحبه منك. ثم القلب إذا امتلأ من الحب فلا اتساع فيه لغير المحبوب (والذين أمنوا أشد حبا لله) [البقرة: 165] .
مبحث في العشق وذمه وترياقه وسمه
فكم مدحه عاقل، وذمه متعاقل، هيهات! فات من ذمه المطلوب، ومن أين للوجه المليح ذنوب. قال قدامة: العشق فضيلة تنتج الحيلة الجميلة، عزيز يذل له عز الملوك، وتضرع له صولة البطل، وأول باب تفتق به الأذهان، وتستخرج به دقائق الافتتان، إليه تستريح الهمم، وتسكن نوافر الشيم، له سرور يجول في الجنان، وفرح يسكن في قلب الإنسان. قيل لبعض العلماء: إن ابنك عشق! فقال: الحمد لله! الآن رقت حواشيه، ولطفت معانيه، وملحت إشارته، وظرفت حركاته، وحسنت عباراته، وجادت رسائله، وجلت شمائله، فواظب على المليح، واجتنب القبيح. وقيل لآخر كذلك، فقال: لا بأس بذلك، إذا عشق لطف وظرف ودق ورق. قال قائل:
ولا خير في الدنيا بغير صبابة ... ولا في نعيم ليس فيه حبيب
وقال آخر:
إذا لم تذق في هذه الدار صبوة ... فموتك فيها والحياة سواء
وقال آخر:
ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيباً ولا وافى إليك حبيب
وقال آخر:
ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها ... فيما مضى أحد إذا لم يعشق
وفي حكمة كسرى: إن الملك لا يكمل إلا بعد عشقه، وكذلك العالم. قالوا: والعشق مما يؤجر عليه صاحبه. قال شريك: أشدهم حبا أعظمهم أجرا. وأرواح العشاق عطرة لطيفة، وأبدانهم ضعيفة، وكلامهم يرطب الأرواح، ويجلب الأفراح، والعاشق المسكين تدور أخباره، وتروى أشعاره، ويبقى له العشق لم يذكر له اسم، ولا جرى له رسم، ولا رفع له رأس، ولا ذكر مع الناس. وسئل أبو نوفل: هل سلم أحد من العشق؟ فقال: نعم! الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عنده فهم، فأما من في طبعه أدنى ظرف، أو معه دماثة أهل الحجاز وظرف أهل العراق، فلا يسلم منه. وقيل: لا يخلو أحد من صبوة إلا منقوص البنية أو جافي الخلقة على خلاف تركيب الاعتدال.
قالت امرأة:
رأيت الهوى حلو إذا اجتمع الشمل ... ومرا على الهجران لا بل هو القتل
فمن لم يذق للهجر طعما فإنه ... إذا ذاق طعم الحب لم يدر ما الوصل
وقد ذقت طعميه على القرب والنوى ... فأبعده قتل وأقربه خبل
وفي هذا المعنى قول آزاد:
شأن المحب عجيب في صبابته ... الهجر يقتله والوصل يحييه
وأما ما جاء في ذمه، وسريان سمه، فأكثر من أن يحصى، فكم ترك الغني صعلوكا، والمالك مملوكا، وكم من عاشق أتلف في معشوقه ما له وعرضه ونفسه وضيع أهله ومصالح دنياه ودينه.
قال الوأواء الدمشقي:
سبيل الهوى وعر ... وحلو الهوى مر
وبرد الهوى حر ... ويوم الهوى دهر
وقال غيره:
العشق مشغلة عن كل صالحة ... وسكرة العشق تنفي سكرة الوسن
والهوى أكثر ما يستعمل في الحب المذموم، وقد يستعمل في الممدوح استعمالاً مفيداً، قال تعالى: (أفرءيت من اتخذ إلهه هواه) [الجاثية:23] . وفي الحديث: "حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". والأول ذم، والثاني مدح، فتلخص من الآية والسنة، أن المحمود هو في الخير والصلاح، والمذموم هو في الشر والفساد. قيل إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. قلت: لو قال: إلى الهاوية، لكان أنسب. وقيل: الهوى الهوان، زيدت فيه النون، كما قيل:
فسألتها بإشارة عن حالها ... وعلى فيها للوشاة عيون
فتنفست صعدا وقالت ما الهوى ... إلا الهوان أزيل عنه النون
قال سهل: قسم الله للأعضاء من الهوى لكل عضو حظا، فإذا مال عضو منها إلى الهوى رجع ضرره إلى القلب. وحاصل القضية أن العشق والهوى أصل كل بلية، وفيه ذل كل نفس أبية.
قال ابن الفارض:
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضنى به وله عقل
وعش خاليا فالحب راحته عنا ... وأوله سقم وآخره قتل
مبحث في أن العشق اضطراري أو اختياري
قال أحمد بن أبي حجلة المغربي: للناس فيه كلام من الطرفين، وتبختر بين الصفين، فقائل بأنه اضطراري، وقائل بأنه اختياري، ولكل من القولين وجه مليح، وقد رجيح، ونحن نذكر ما يعم به الانتفاع، ونتكلم في طوله وعرضه بالباع والذراع. فمن ذلك ما قاله القاضي محمد بن أحمد النوقاتي في كتابه "منحة الظراف": العشاق معذورون على كل حال، مغفور لهم جميع الأقوال والأفعال، إذ العشق إنما دهاهم على غير اختيار، بل اعتراهم على جبر واضطرار، والمرء إنما يلام على ما يستطيع من الأمور، لا في المقضى عليه والمقدور، هذا مما لا يشك فيه ذو لب، ولا يختلج خلافه في قلب. وجاء في تفسير قوله تعالى: (فلما رأينه وأكبرنه وقطعن أيديهن) [يوسف: 31] . وهذا اضطرار واضح. قال وهب: كن أربعين امرأة، فمات منهن تسع وجدا بيوسف وكمدا عليه. وقال الفضيل بن عياض: لو رزقني الله دعوة مجابة لدعوت الله تعالى بها أن يغفر للعشاق، لأن حركاتهم اضطرارية لا اختيارية. وفي كتاب "امتزاج الأرواح" للتميمي: قال بعض الأطباء: وقوع العشق بأهله ليس باختيارهم، ولا بحرصهم عليه، ولا لذة لأكثرهم فيه، ولكن وقوعه بهم كوقوع العلل المدنفة والأمراض المتلفة، لا فرق بينه وبين ذلك. وقال المدائني: لام رجل رجلا من أهل الهوى، فقال: لو كان لذي هوى اختيار لاختار أن يهوى، ولكن لا اختيار له. وقال الحافظ ابن القيم رحمه الله: فسر كثير من السلف قوله تعالى: (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) [البقرة: 286] بالعشق، وهذا لم يريدوا به التخصيص، وإنما أرادوا به التمثيل، وإن العشق من تحميل ما لا يطاق، أي: التحمل القدري لا الشرعي الأمري. انتهى. وحكى ابن حزم أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: رأيت امرأة فعشقتها، فقال عمر: ذلك مما لا يملك. وقال ابن طاووس في قوله تعالى: (وخلق الإنسان ضعيفا) [النساء: 28] أي: إذا نظر إلى السماء لم يصبر. ومن هذا ظهر أن عذلهم في هذه الحال بمنزلة عذل المريض في مرضه. وذهب جماعة من الأطباء وغيرهم إلى أنه اختياري، والإنسان هو المختار فيه بتسليط فكرته في بحار سكرا ته، والمحبة إرادة قوية، والعبد يحمد ويذم على إرادته، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا، وقد ذم الله تعالى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأخبر أن عذابهم أليم، ولو كانت المحبة لا تملك لم يتوعدوهم بالعذاب على ما لا يدخل تحت قدرتهم، ومنه قوله تعالى: (ونهى النفس عن الهوى) [النازعات: 40] ومحال أن ينهي الإنسان نفسه عما يدخل تحت قدرته. والقول الصحيح الذي ليس فيه رد، ولا عن محبوبه صد، التفصيل في ذلك، وهو أن العشق يختلف باختلاف ما جبل الإنسان عليه من اللطافة ورقة الحاشية، وغلظ الكبد، وقساوة القلب، ونفور الطباع وغير ذلك، فمنهم من إذا رأى الصورة الحسنة مات من شدة ما يرد على قلبه من الدهش، كما تقدم في حق النسوة اللاتي متن لما رأين يوسف عليه السلام. وقد كان مصعب بن الزبير إذا رأته المرأة حاضت لحسنه، ومنهم من إذا رأى المليح سقط من قامته، ولم يعرف نعله من عمامته، فهذا وأمثاله عشقه اضطراري، والمخالفة فيه مكابرة في المحسوس. ومنهم من يكون أول عشقه الاستحسان للشخص، ثم تحدث له إرادة القرب منه، ثم المودة، وهو أن يود، أو ملكه، ثم يقوى الود فيصير محبة، ثم يصير خلة، ثم يصير هوى، ثم يصير عشقا، ثم يصير تتيما، ثم يصير ولها، فهذا وأمثاله مبدأ عشقه اختياري، لأنه كان يمكنه دفع ذلك وحسم مادته، على أن هذا النوع أيضا إذا انتهى بصاحبه إلى ما ذكرنا صار اضطراريا، كما قال الشاعر:
العشق أول ما يكون مجانة ... فإذا تمكن صار شغلا شاغلا
وقال بعض الفلاسفة: لم أر حقا أشبه بباطل ولا باطلا أشبه بحق من العشق، هزله جد، وجده هزل، أوله لعب، وآخره عطب. قال صاحب "روضة المحبين": وهذا كان بمنزلة السكر مع شرب الخمر، فإن تناول المسكر اختياري، وما يتولد منه من السكر اضطراري. فحينئذ يكون ادعاء من قال: إنه اضطراري مطلقا أو اختياري مطلقا غير مقبول عند ذوي العقول.
مبحث في ذكر الحسن والجمال
وهما قسمان: الظاهر والباطن، والطاعن والقاطن. فالباطن المحمود لذاته، كالعلم والبراعة، والجود والشجاعة، والتقوى والشهامة، والظاهر ما ظهر من غصن قوامه الرطيب، ووجهه الفائق على البدر بلا معيب. قيل: الحسن الصريح، ما استنطق الأفواه بالتسبيح. والصحيح أنه لا يدري كنهه، ولا يعرف شبهه، حتى كأنه نكرة لا تتعرف، ومجهول لا يعرف. قال بعضهم: للحسن معنى لا تناله العبارة، ولا يحيط به الوصف. وقيل: أمر مركب من أشياء وضاءة وصباحة وحسن تشكيل وتخطيط ودموية في البشر. وقيل: تناسب الخلقة واعتدالها واستواؤها، ورب صورة مبيضة ليست في الحسن بذاك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بياض المرأة في حسن شعرها تمام الحسن. وعن عائشة: البياض شطر الحسن. وقالوا في الجارية: جميلة من بعيد، مليحة من قريب. وقيل: الظرف في القد، والبراعة في الجيد، والرقة في الأطراف، والدقة في الخصر، والشأن كله في الكلام. وأحسن الحسن ما لم يجلب بتزيين، كما قيل: إن المليحة من تزين حليها، لا من غدت بحليها تتزين. والعرب تقول: الحلاوة في العينين، والملاحة في الفم، والجمال في الأنف، والظرف في اللسان، والرشاقة في القد، والنعومة في الخد، والبراقة في الأسنان. وقال بعضهم: البدن فيه الوجه والأطراف، وفي الوجه المحاسن وإليها الاستشراف، وفي المحاسن النكت التي هي الغاية في الاستحسان والاستظراف، كالملاحة في العين، ونكتة الملاحة الدعج، وكالحسن في الفم، ونكتة الحسن الفلج، وكالطلاوة في الجبين، ونكتة الطلاوة البلج، وكالرونق في الخد، ونكتة الخد الضرج، ومما يستحسن في المرأة طول أربعة، هي: أطرافها، وقامتها، وشعرها، وعنقها. وقصر أربعة، هي: يديها، ورجليها، ولسانها، وعينيها، والمراد بهذا القصر المعنوي، فلا تبذر ما في بيت زوجها، ولا تخرج من بيتها، ولا تستطيل بلسانها، ولا تطمع بعينيها، وبياض أربعة: لونها، وفرقها، وثغرها، وبياض عينيها. وسواد أربعة: أهدابها، وحاجبها، وعينيها، وشعرها، وحمرة أربعة: لسانها، وخدها، وشفتيها مع لعس، وإشراب بياضها بحمرة. وغلظ أربعة: ساقها، ومعصمها، وعجيزتها، وما هنالك. وسعة أربعة: جبهتها، وجبينها، وعينها، وصدرها. وضيق أربعة: فمها، ومنخرها، ومنفذ أذنيها، وما هنالك، وهو المقصود الأعظم من المرأة. قيل: وجدت جارية في زمن بني ساسان بهذه الصفات المذكورة جميعها. وحكي أن يعصور أحد ملوك الصين أهدى إلى كسرى أنو شر وان ملك فارس هدية، من جملتها جارية طولها سبعة أذرع تضرب أهداب عينيها خديها، كأن بين أجفانها لمعان البرق، مقرونة الحاجبين، لها ضفائر تجرهن إذا مشت. وهذه أوصاف بها جماع الحسن، وإنما العبارات الكثيرة تفنن في الأوصاف، وأهل الفراسة تجعل الجمال الظاهر دليلا على اعتدال المزاج. وقال بعض الحكماء: من نعم الله على العبد تحسين خلقه وخلقه واسمه، قيل: وصوته. وقال سقراط: إذا حسن الله وجهك فلا تضف إليه قبيح المعاصي، أو قبحه فلا تجمع بين قبيحين. ولما كان الجمال من حيث هو محبوبا للنفوس، معظما في القلوب، لم يبعث الله نبيا إلا جميل الوجه، كريم الحسب، شريف النسب، حسن الصوت، وأوتي يوسف عليه السلام شطر الحسن، وفي صفته صلى الله عليه وسلم: كأن الشمس تجري في وجهه، وبالجملة فقد كان صلى الله عليه وسلم من الحسن في الذروة العليا، ومن الجمال في المرتبة القصوى، كما يفصح عنه كتاب "الشمائل" للترمذي وغيره، وكان يدعو الناس إلى جمال الباطن والظاهر، ويقول: "إن الله جميل يحب الجمال". فكل جمال بالنسبة إلى بحره بلالة، وإلى نوره ذبالة، وهذا هو المطلب الذي تكل عنه البصائر، ويقصر عنه كل ذي حد جائر. وقال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) [التين: 4] أي تعديل لقامته وصورته كله. وجاء في تفسير قوله تعالى: (يزيد في الخلق ما يشاء) [فاطر:1] إنه الوجه الحسن، والصوت الحسن. قال بعض الحكماء: قلما توجد صورة حسنة تدبرها نفس ردية، والحسن أول سعادة الإنسان، وقلما تجد الخلق إلا تبعا للخلقة، تناسبا مطردا، وأصلا لا ينعكس، وإجماعا لا ينفرد، لكنه إن كان أمرا مرغوبا فيه، فأن حسن السيرة أفضل منه، وتدل عليه وجوه ذكرها الرازي في "أسرار التنزيل". ثم الشعراء أكثروا في تشبيه الأعضاء بالحروف، فشبهوا الحاجب بالنون، والعين بالعين، والصدغ بالواو، والفم بالميم،
والطرف بالصاد، والثنايا بالسين، والطرة المضفورة بالشين، والقامة بالألف. وأورد في "ديوان الصبابة" لذلك أمثلة كثيرة من الأشعار، وشبهوا بالفواكه أيضا، كالخدود بالتفاح، والشفة بالعناب، والثدي والرمان، والمشمومات، كالوجنة بالورد، والعين بالنرجس، والعذار بالآس، وبالمعادن، كالشفة بالعقيق، والأسنان باللؤلؤ، وقد وقع تشبيه الشفة بالمرجان أيضا، وأشياء مختلفة، كالوجه بالبدر، والفرق بالصبح، والشعر بالليل، ومرسله بالحية، والصدغ بالعقرب، والوجنة بالماء والنار، والريق بالخمر، والثدي والسرة بحق العاج، إلى غير ذلك. وللشعراء في ذلك على اختلاف مراداتهم وتخيلهم المقدمات الشعرية كلام كثير. واعلم أن الأساليب في هذا الباب دائرة بين التشبيه المجرد وبين جعل الحروف ونحوها من المشبه به في العادة مشبها، ومقابله في المحبوب مشبها به، وفي كل ذلك إما أن تبقى الأداة أو تحذف، وفي كل إما أ، يرشح المعنى بأوصاف تزيده حسنا أو لا، وأرفع الكل جعل الممدوح مشبها به محذوف الأداة مرشحا بلطائف الأوصاف، وقل سالكه، وعكسه معلوم. ومما يلتحق بالحسن والجمال تلون البدن، ومداره إما على صفاء الخلط أو شدة الحرارة أو ما تركب منهما، والأول يلزم حالة واحدة، إما البياض في البلغم أو الحمرة في الدم، أو الصفرة في الصفراء، أو السواد في السوداء، وما تركب بحسبه مع مراعاة الطوارئ، كقرب شمس أو جبل أو سد جهة، وهذا المبحث هو المعروف عند الأطباء بالألوان، وعند العامة بالسحنة، موضع تحقيقه الطب. والثاني يلزم السمرة وإن غلب البلغم. وأما الثالث: فهو الذي تناط به أمثال هذه الأحكام، وحاصل القول فيه: إن الجلد شفاف يحكي ما تحته، وأن الباعث إليه الأخلاط، هو الحرارة، فهي كالنار إذا اشتدت صعدت ما لاقته، وموضعها القلب، ومحركاتها مختلفة ما بين غضب وحياء وقهر وغيرها، إما إلى داخل دفعة أو تدريجيا، أو إلى خارج كذلك، أو إليهما، وموضع بسطه الحكمة، والذي يخصنا من ذلك هنا أن نقول: إن استيلاء سلطان المحبة والعشق من المعشوق على العاشق أعظم استيلاء من سلطان القهر والعظمة والناموس السلطاني، حتى قال بعض الحكماء: لكل مرتبة من مراتب المحبة حد إلا محبة العشق فلا حد لها. وقال بعضهم: إن تعلق روح العاشق ببدنه كتعلق النار بالشمعة، إلا أنه لا يطفئها كل هواء. إذا تقرر هذا، وجمع إلى ما قررناه من مراتب تحريك الحرارة، ظهر علة اصفرار لون العاشق، وارتعاد مفاصله، وخفقان قلبه، لأن الاستبشار بالاجتماع الموجب للفرح، المنتج لحركة الحرارة إلى خارج لتؤثر الحمرة وصفاء اللون، يعارضه لشدة الشفقة والخوف من نحو واش وسرعة تفريق، وإلباس الموجب لإطفاء الحرارة أو جذبها إلى داخل المنتج لصفرة اللون أو الموت فجأة، ومن ثم إذا أمن من ذلك لم يقع تغير، وأما حمرة المعشوق، فهي إما حياء أو خجل، وكل منهما باعث للحرارة إلى خارج، ونتيجة احمرار الألوان وصفاؤها. فأفضل الألوان الأحمر الصافي المشرق مطلقا، حتى في الثياب، كالحلل، والمشروب والمشموم، كالورد والشقيق، والحيوان، كالخيل، والمعادن، كالذهب والياقوت، إلى غير ذلك، ومنه: "أهلك الرجال الأحمران" يعني: الخمر والنساء، والأحامر: الذهب، والزعفران، واللحم. وأحب ما يكون إليهم منه ما كان في الوجنات والشفاه. وأما وصفهم الموت بالأحمر، والدمع الناشئ عن شدة الحرقة بالحمرة، فليس طعنا فيهما، بل مدح، لأنهم أرادوا أنهما من المطالب التي لا تنال إلا بالمشاق والصعوبة. وقد توسع الناس في هذا المبحث فخرجوا منه إلى التفضيل بين السمر والبيض، وخاضوا بسبب ذلك في كلام عريض، فمن قائل بتفضيل السمر مطلقا، وقوم البيض، وآخرون فصلوا، فقالوا: إن كلا يميل إلى عكس لونه، وهذا تحكم وحكم على الطبائع
والأمزجة بلا دليل، والصحيح أن الميل إما بداعية الشهوة، أو النفع، ولا ضبط للأول لاختلافه باختلاف الأشخاص. وأما الثاني، فالقول فيه إما بحسب معتدل المزاج، فالروميات حينئذ في نحو الحجاز أنفع، كما أن الحبشيات في نحو الروم أجود، لأن حرارة الأبدان تختبئ في الأغوار زمن البرد، وبالعكس، وإما بحسب المرضى، فالسود للمبرودين أجود، والبيض للمحرومين كذلك. قال الأنطاكي: وعندي أن عكس هذا أجود لما سمعت من التعليل، والصحيح أن الحبشة ألطف مما عداهم مزاجاً، وأرق بشرة، وأعدل حرارة، فلذلك هن أوفق مطلقاً، ولكنهن في معرض التغيير، وموضع تحقيق ذلك في الطبيعيات. وأما الحكم على المصريين، فإنهم إلى السمر أميل، فمن قبيل التحكم. وإذا أحكمت ما قررناه من علة اصفرار الألوان، علمت أن خفقان القلب عند الاجتماع أو الرؤية من لازم ذلك الشأن، وقد لهج الشعراء بالاعتذار عن ذلك، وأكثروا فيه من التشعب والمسالك. ومن المحبين الملوك، وهم أحسن الناس طباعاً، وأطولهم باعاً وأطيبهم عيشاً، وأكثرهم طيشاً، وأرقهم شعراً، وأدقهم فكراً، وأقربهم موجوعا وأكثرهم بالحبيب ولوعاً، إذ هم في الحقيقة أولى بذلك، وأحقهم بالنوم على تلك الأرائك. فمنهم من قنع من محبوبه بالنظر حتى مات كمداً ولحق بالشهداء، ومنهم من أصبح دونه في العفاف، وأقام سالف محبوبه مقام السلاف. ومنهم من خلع العذار، فجمع مابين ذات العقود، وابنة العنقود، ولكن مع صيانة، ورجوع إلى ديانة، فهو وإن طال به المجلس اختصر، وإن جنى فيه على محبوبه اعتذر. ومنهم من نال بالراح اللذة المحظورة، وأخرج بها وجنة الحبيب من صورة إلى صورة، فجارى النديم في الجريال، وسما إلى الحبيب سمو حباب الماء حالاً على حال، فأفضى به ذلك إلى هلكه، وفساد ملكه. ومن المحبين من عشق على السماع، ووقع من النزوع إلى الحبيب في النزاع. ومنهم من يحب بمجرد الوصف دون المعاينة، ولهذا نهى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تنعت المرأة لغير زوجها حتى كأنه ينظر إليها، والحديث في الصحيح. ومنهم من يعشق أثراً رآه. ومنهم من يحب في النوم شكلاً لا يعرفه، فيهيم به. ومنهم من يعشق باللمس، قيل: وهو رأس الشهوة. ومنه من يعشق بالشم. ومنم من نظر أول نظرة، فاحترق من خد الحبيب بجمرة، والنظر داعية الأرق وزناد الحرق، كم دعا إلى الجماع المحرم بالإجماع، فهو سهم مسموم، وفعل مذموم. ومن أطوار العشق: سحر الجفون، ونبل العيون، وتغير الألوان عند العيان، من صفرة وجل، وحمرة خجل، وما في معنى ذلك من عقد اللسان، وسحر البيان. وهنا تفضيل بين البيض والسود، والسمر ذوات النهود، وهذا مما يميل إليه المصريون في الغالب. ومن أطواره: الغيرة، وما فيها من الحيرة، وإفشاء السر والكتمان، عند عدم الإمكان، ومغالطة الحبيب واستعطافه، وتلافي غيظه وانحرافه، والرسل والرسائل، والتلطف في الوسائل، والاحتيال على طيف الخيال، وغير ذلك ممل قيل فيه، على اختلاف معانيه، وقصر الليل وطوله، وخضاب شفقه ونصوله، وقلة عقل العذول، وما عنده من كثرة الفضول، وحسن الإشارة، إلى الوصل والزيارة، وذم الرقيب والنمام والواشي كثير الكلام، والعتاب عند اجتماع الأحباب، وما في ذلك من الرضى، والعفو عما مضى، وإغاثة العاشق المسكين، إذا وصلت العظم السكين، ودواء علة الجوى، وما يقاسيه أهل الهوى، وتعنت المعشوق على الصب المشوق، وغير ذلك من أقسام الهجر، وصبر القابض فيه على الجمر، والدعاء على المحبوب، وما فيه من الفقه المقلوب، وبدو الخضوع، وانسكاب الدموع، والوعد والأماني، وما فيهما من راحة العاني، والرضى من المحبوب، بأيسر مطلوب، واختلاط الأرواح، كاختلاط الماء بالراح، وعود المحب كالخلال، وطيف الخيال، وما في معناه في رقة خصر الحبيب، وتشبيه الردف بالكثيب، وما يكابده في طلب الأحباب، من الأمور الصعاب، وطيب ذكرى حبيب وما عولج به العشق من الدواء، وقصد به السلو عن الهوى، وخفقان القلب والتلوين، عند اجتماع المحبين، وأسرار المحبة، وما فيها من اختلاف آراء الأحبة. ومن أطواره أيضا: هجر الدلال، وهجر الملال، وهجر الجزاء والمعاقبة، والهجر الخلقي. ومن العشاق من مات من حبه، وقدم على ربه من غني وفقير، وكبير وصغير، على اختلاف ضروبهم، وتباين مطلوبهم. ومنهم من خالسته عيون الإماء، فأسلمته للفناء. ومنهم من حظي
بالتلاقي، بعد تجرع كأس الفراق. ومنهم من سمي بالفساق. ومنهم من حمله هواه، على أذية من يهواه. ومنهم من عانده الزمن في مطلوبه، حتى شورك في محبوبه. ومنهم من عوقب بالفسق، ولم يشتهر بالعشق. ومنهم من حل عقد المحبة، وخالف سنن الأحبة. ومنهم من تمادى على نقض العهد، ومات على إخلاف الوعد. ومنهم من أشبه العشاق في محبته، وشاكلهم في مودته. ومنهم من أناح به فقتله، حتى أذهب عقله. ومنهم من جرع كأس الضنى، وصبر على مكابدة العناء. وبالجملة، فالعشق أطوار كثيرة، وللعشاق أحوال غزيرة، لا تنالها العبارة، ولا تحيط بها الإشارة، وقد عقد الفاضل الأديب الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي حجلة المغربي في "ديوان الصبابة"، والشيخ داود الأنطاكي المعروف بالأكمه في "تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق" أبواباً لكل جملة من هذه الجمل المذكورة، وأتيا بعبائر أنيقة، وأشعار لطيفة، وحكايات رشيقة، هي من عيون الأغيار مستورة، أضربت عنها مخافة الإطالة، وذكرت من أطرافها ما تتم به فائدة هذه الرسالة، يؤخذ منها التراب لطلب الدواء، والتماس الشفاء، ومن رام التفصيل، فعليه بمطالعتها المصححة لداء أهل الأهواء. وأفضل المحبين من استشهد في سبيل الله، وبذل روحه رجاء لقاء الله، ونصوص الكتاب والسنة طافحة بفضائل الشهداء، معروفة عند العلماء بالله تعالى. وأما عشاق الجواري والكواعب، وما لهم من العجائب، فهم جمع جم لا يحصى كثرة، ولا يستصقى وفرة. وممن اشتهرت سيرته، وظهرت في الحب سريرته، واحتفل بذكرهم الشعراء في الأشعار، وروي لهم في الكتب صحاح الأخبار وحسان الآثار، فهم: عروة بن قيس، وجميل وصاحبته بثينة، وكثير وصاحبته عزة، وقيس وصاحبته لبنى، والمجنون وصاحبته ليلى، وعروة بن جزام وصاحبته عفراء، وعبد الله بن عجلان وصاحبته هند، وذو الرمة وصاحبته مي، ومالك وصاحبته جنوب، وعبد الله بن علقمة وصاحبته حبيش، ونصيب وصاحبته زينب، والمرقش وصاحبته أسماء، وعتبة بن الحباب وصاحبته ريا، والصمة وصاحبته ريا، وكعب وصاحبته ميلاء، وكم من عاشق جهل اسمه أو اسم محبوبه أو شيء من سيرته أو مآل حقيقته. ومنهم من منعه الزهد والعبادة، من أن يقضي من محبوبه مراده. ومنهم من ساعده الزمان في المراد، حتى بلغه ما أراد. وذكر الأنطاكي ما سوى البشر، وما لقوا من العبر، وهو نوعان: أحدهما: الجنة، وما لقوا من المحنة، والثاني: من كلف وهو غير مكلف. وهذا الأخير خمسة أصناف: الثاني: الحيوان، وما وقع له من أمور العشق في اختلاف الأزمان، الثالث: ما جرى من القوة العاشقية والمعشوقية، بين الأنفس النباتية. الرابع: ما بث من الأسرار الملكية، بين الأجسام والأجرام الفلكية. ولكل واحد من تلك الأنواع تفصيل ذكره في "تزيين الأسواق" لا أطول بذكرها بطون الأوراق. وستأتي الإشارة إلى عشق ما سوى الإنسان في آخر هذا الكتاب. وحاصل القضية، وجود العشق والمحبة في كل جزء من أجزاء الكائنات، بتقدير العزيز العليم على قدر اللياقة، وزهاء الطاقة، والحسن منهما ما حسنه الشرع، والقبيح منهما ما قبحه الشرع، وبالله التوفيق.
.../...
* الكتاب: نشوة السكران من صهباء تذكار الغزلان
المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (المتوفى: 1307هـ)
عُني بنشره: محمد عطيه الكتبي
بسم الله الرحمن الرحيم نحمد من زين رياض الوجوه بنرجس اللحاظ وورد الخدود، وأثمر أغصان القدود برمان النهود، حمد من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، وسيب بذكر محبوبه إن كان تهاميا في حجاز أو شاميا في نوى، ونصلي ونسلم على من حث على تهذيب النفس الأبية، عن الرذائل الدنية، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين يحبهم ويحبونه، ويقفون عند ما أمرهم ولا يتعدونه، ما ذر شارق، وهام عاشق.
وبعد؛ فهذا بيان العشق والعشاق والمعشوقات من النسوان، وما يتصل بذلك من تطورات الصبوة والهيمان، الذي أفصح به أصحاب "ديوان الصبابة"، "وتزيين الأسواق" "وسبحة المرجان"، لخصته منها حلية للآذان، وأتيت فيه بأشياء مما يزري بأريج الريحان، وسميته: "نشوة السكران، من صهباء تذكار الغزلان"، ورتبته على مقدمة، وفصول، وخاتمة.
مقدمة في ذكر العشق واسمه وما جاء في حده ورسمه
اعلم أن العشق طمع يتولد في القلب، ويتحرك وينمو، ثم يتربى، وتجتمع إليه مواد من الحرص، وكلما قوي زاد صاحبه في الاهتياج واللجاج، والتمادي في الطمع والفكر والأماني، والحرص على الطلب، حتى يؤديه ذلك إلى الغم المقلق، ويكون احتراق الدم عند ذلك باستحالة السواد، أو التهاب الصفراء وانقلابها إليها، ومن طبع السواد إفساد الفكر، ومع فساد الفكر يكون زوال العقل ورجاء ما لا يكون وتمني ما لا يتم، حتى يكون ذلك إلى الجنون، فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه، وربما مات غماً، وربما نظر إلى معشوقه فمات فرحا، وربما شهق شهقة فتختنق روحه، فيبقى أربعا وعشرين ساعة، فيظنون أنه مات، فيدفنونه وهو حي، وربما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه، وينضم عليها القلب ولا ينفرج حتى يموت، وتراه إذا ذكر من يهواه هرب دمعه واستحال لونه. ذكره فيثاغورث الحكيم الذي أخذ عن أصحاب سليمان بن داود عليهما السلام، على ما ذكره صاعد في كتاب "الطبقات". وقال تلميذه أفلاطون: هو قوة غريزية متولدة من وسواس الطمع وأشباح التخيل، نام بنصال الهيكل الطبيعي، محدث للشجاع جبنا وللجبان شجاعة، يكسو كل إنسان عكس طباعه حتى يبلغ به المرض النفساني والجنون الشوقي فيؤديانه إلى الداء العضال الذي لا دواء له. وقال تلميذه أرسطاطاليس: العشق عمى العاشق عن عيوب المعشوق. وهذا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "حبك الشيء يعمي ويصم".والذي مشى عليه أبو علي ابن سينا وغيره من الأطباء، أنه مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا، يجلبه المرء إلى نفسه بتسلط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل، وقد تكون معه شهوة جماع وقد لا تكون. وقال سيد الطائفة الجنيد رحمه الله: العشق إلفة رحمانية وإلهام شوقي أوجبهما كرم الإله على كل ذي روح لتحصل به اللذة العظمى التي لا يقدر على مثلها إلا بتلك الإلفة وهي موجودة في الأنفس بقدر مراتبها عند أربابها، فما أحد إلا عاشق لأمر يستدل به على قدر طبقته من الخلق، ولأجل ذلك كان أشرف المراتب في الدنيا مراتب الذين زهدوا فيها مع كونها معاينة، ومالوا إلى الأخرى مع كونه مخبرا لهم عنها بصورة اللفظ. وقال الأصمعي: سألت أعرابية عن العشق فقالت: جل والله عن أن يرى، وخفي عن أبصار الورى، فهو في الصدور كامن ككمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى. وقال أبو وائل الأوضاحي: إن لم يكن طرفا من الجنون فهو عصارة من السحر. وقالت أعرابية: هو تحريك الساكن، وتسكين المتحرك.
وقال ثمامة: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مالك، وملك قاهر، ملك مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآرائها، قد أعطي عنان طاعتها، وقوة تصرفها، وقياد ملكها، وتوارى عن الأبصار مدخله، وعمي عن القلوب مسلكه. وقال بعضهم: مجهول لا يعرف، ومعروف لا يجهل، هزله جد، وجده هزل. وما أحسن قول الشاعر:
يقول أناس لو نعت لنا الهوى ... ووالله ما أدري لهم كيف أنعت
فليس لشيء منه حد أحده ... وليس لشيء منه وقت موقت
قال في "تزيين الأسواق": العشق يختلف باختلاف المزاج على أنحاء أربعة: سريع التعلق والزوال كما في الصفراويين، وعكسه كما في السوداويين، وسريع التعلق بطيء الزوال كما في الدمويين، وعكسه كما في البلغميين. عن ابن عباس، رفعه، قال: "من عشق فعف فمات دخل الجنة". زاد الخطيب عنه: "فظفر" ثم أبدل قوله: "دخل الجنة" بقوله "مات شهيدا" وفي أخرى: "وكتم"، والحديث بسائر ما ذكر صححه مغلطاي وأعله البيهقي والجرجاني والحاكم في "التاريخ" بضعف سويد وتفرده به، ورواه ابن الجوزي مرفوعاً، وأبو محمد بن الحسين موقوفا، وأخرجه الخطيب عن عائشة مرفوعا أيضا، وضعفه الحافظ بن القيم في "الهدي" بجميع طرقه، وأظن أنه الصواب، وإن تضمنه الأكابر في أشعارهم. وفي أثر ابن عباس أيضا: "الهوى إله معبود". وعن الغزي، قال: رأيت عاشقين اجتمعا، فتحدثا من أول الليل إلى الغداة، ثم قاما إلى الصلاة. ووردت أحاديث كثيرة في العشق مع العفة. قيل لعذري: أتعدون موتكم في الحب مزية، وهو من ضعف البنية، ووهن العقل، وضيق الرئة؟ فقال: أما والله لو رأيتم المحاجر البلج، ترشق بالعيون الدعج، من تحت الحواجب الزج، والشفاه السمر، تبسم عن الثنايا الغر، كأنها شذر الدر، لجعلتموها اللات والعزى وتركتم الإسلام وراء ظهوركم. وبنو عذرة مختصون بمزية الحب وإيثار العشق، ولا تضرب الأمثال إلا بهم. وقال بعض حكماء الهند: ما علق العشق بأحد عندنا إلا وعزينا أهله فيه. وحكى الحافظ مغلطاي: إن العشق يختلف باختلاف أصحابه، فإن الغرام أشد ما يكون مع الفراغ وتكرار التردد إلى المعشوق والعجز عن الوصول إليه، فعلى هذا يكون أخف الناس عشقا الملوك، ثم من دونهم، لاشتغالهم بتدبير الملك وقدرتهم على مرادهم، ولكن قد يتذللون للمحبوب بما في ذلك من مزيد اللذة، ودونهم أفرغ لقلة الاشتغال، حتى يكون المفترغ له بالذات أهل البادية لعدم اشتغالهم بعوائق، ومن ثم هم أكثر الناس موتا به. ونقل ابن خلكان في ترجمة العلاف: إن العشق جرعة من حياض الموت، وبقعة من رياض الثكل، لكنه لا يكون إلا عن أريحية في الطبع ولطافة في الشمائل، وجود لا يتفق معه منع، وميل لا ينفع فيه عذل. ووجد على صخرة: العشق ملك غشوم، ومسلط مظلوم، دانت له القلوب، وانقادت له الألباب، وخضعت له النفوس، فالعقل أسيره، والنظر رسوله، واللحظ عامله، والتفكير جاسوسه، والشغف حاجبه، والهيمان نائبه، بحر مستقر غامض، ويم تياره طافح فائض، وهو دقيق المسلك، عسير المخرج.
مبحث في أسباب العشق وعلاماته
قال بعض الأطباء: سببه النفساني الاستحسان والفكر، وسببه البدني ارتفاع بخار رديء إلى الدماغ عن مني محتقن، ولذلك أكثر ما يعتري العزاب، وكثرة الجماع تزيله بسرعة، وعلامته: نحافة البدن، وخلاء الجفن للسهر، وكثرة صعود الأبخرة، وغؤور العين وجفافها إلا عند البكاء، وحركة الجفن ضاحكة كأنه ينظر إلى شيء لذيذ، ونفس كثير الانقطاع والاسترداد والصعداء، ونبض غير منتظم، ولاسيما عند ذكر أسماء وصفات مختلفة، وتغير اللون وتنفس الصعداء. قال ارسطاطاليس: للعشق من النجوم زحل وعطارد والزهرة جميعا. فزحل يهيئ الفكرة والتمني والطمع والهم والهيجان والأحزان والوساوس والجنون، وعطارد يهيئ قول الشعر ونظم الرسائل والملق والخلاعة، وتنميق الكلام، وتليين المرام، والتذلل والتلطف، والزهرة تهيئ للعشق والوله والهيمان، والرقة والتلذذ بالنظر، والمؤانسة بالحديث، والمغازلة الباحثة على الشبق والغلمة، والميل إلى الطرب وسماع الأغاني وما شابهه. ومن علاماته: إغضاء المحب عند نظر محبوبه إليه، ورميه بطرفه نحو الأرض من مهابته له، وحياؤه منه، وعظمته في صدره، واضطراب يبدو للمحب عند رؤية من يشبه محبوبه، أو عند سماع اسمه، وحب أهله وقرابته وغلمانه وجيرانه وساكني بلده، وكثرة غيرته عليه، ومحبة القتل والموت ليبلغ رضاه، والإنصات لحديثه إذا حدث، واستغراب كل ما يأتي به ولو أنه عين المحال، وتصديقه وإن كذب، وموافقته وإن ظلم، والشهادة له وإن جار، وإتباعه كيف يسلك، والإسراع بالسير نحو المكان الذي يكون فيه، والتعمد للقعود بقربه، والدنو منه، وإطراح الأشغال الشاغلة عنه، والزهد فيها، والرغبة عنها، والاستهانة بكل خطب جليل داع إلى فراقه، والتباطؤ في المشي عند القيام عند وجوده بكل ما يقدر عليه مما كان يتمتع به قبل ذلك حتى كأنه هو الموهوب له، وهذا كله قبل استعار نار الحب، فإذا تمكن أعرض عن ذلك كله وبدله عن ذلك كله وبدله سؤالا وتضرعا كأنه يأخذه من المحبوب، حتى أنه يبذل نفسه دون محبوبه، كما كانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب بنفوسهم حتى يصرعوا حوله. ومنها: الانبساط الكثير الزائد، والتضايق في المكان الواسع، والمحاربة على الشيء يأخذه أحدهما، وكثرة الغمز الخفي، وكثرة التمطي والتكسل إذا نظر إلى محبوبه، إلى غير ذلك مما لا يحصى. فهو ألطف موجود نشأ في الوجود، وأعز مقصد لذي الهجود. وقال المعلم: العشق نصف الأمراض، وشطر الأعراض، وقسيم الأقسام، وجل الآلام. وله مراتب سبعة تدريجية ذكرها داود الأنطاكي، ولو منح الله شخصا مددا يستغرق المدد، وحياة تستفرغ الأبد، وفراغا يذر الشواغل سدى، ونفحات قدسية تصقل مرآة عقله لقبوله الفيض أبدا، وأفرغ ذلك كله في تحرير ما أودعه عمر بن الفارض من مراتب العشق وأدواره، وتنقلاته وأطواره، لفني الزمان ولم يدرك معشاره، وبادت الأكوان ولم يعرف قراره، ولولا ضيق عطن هذا المختصر، لأوضحت لك من بعض تدقيقاته في أقل كلماته ما يدعك في حيرة الفكر، وببحار العجب غارقا، ويسكتك وإن كنت مصعقاً ناطقاً.
مبحث في مراتب العشق وأسمائه وصفاته
فأول مراتبه: الهوى: وهو: ميل النفس، وقد يراد به نفس المحبوب.
ثم العلاقة: وهي: الحب اللازم للقلب.
ثم الكلف: وهو: شدة الحب، وأصله من الكلفة، وهي: المشقة. وقيل: هو مأخوذ من الأثر، وهو شيء يعلو الوجه كالسمسم. والكلف أيضا: لون بين السواد والحمرة، وهي حمرة كدرة.
ثم العشق: وهو: اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب، قال في "الصحاح": هو فرط الحب. وهو أمر هذه الأسماء، وقلما نطقت به العرب، وكأنهم ستروا اسمه وكنوا عنه بهذه الأسماء، ولا تكاد تجده في شعرهم القديم وإنما ولع به المتأخرون. ولم يقع هذا اللفظ في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، إلا في حديث سويد بن سعيد.
ثم الشغف: قال العزيزي في "غريب القرآن": (شغفها حبا) [يوسف:30] أصاب حبه شغاف قلبها، وهو الغلاف، أو حبة القلب، وهي علقة سوداء في صميمه، و (شغفها حباً) ارتفع حبه إلى أعلى موضع في قلبها، مشتق من شغاف الجبال، أي: رؤوسها، وقولهم: فلان مشغوف بفلانة، أي ذهب به الحب أقصى المذاهب.
والشغف: بالمهملة: إحراق الحب للقلب، وقد قرئ بهما جميعاً.
ومثله في الإحراق اللوعة واللاعج، فهذا هو الهوى المحرق.
ثم الجوى: وهو: الهوى الباطن، قال الجوهري: الجوى: الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن.
ثم التتيم: وهو: أن يستبعده الحب، منه سمي تيم الله، أي: عبد الله.
ثم التبل: وهو: أن يسقمه الهوى، وفي "الصحاح": تبلهم الدهر وأتبلهم: إذا أفناهم.
ثم التدله: وهو: ذهاب العقل من الهوى، ويقال: دلهه الحب، أي حيره.
ثم الهيام: وهو: أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه.
ثم الصبابة: وهي: رقة الشوق وحرارته.
والمقة: المحبة.
والوامق: المحب.
والوجد: الحب الذي يتبعه الحزن.
والدنف: لا تكاد تستعمله العرب في الحب، وإنما ولع به المتأخرون، وإنما استعملته العرب في المرض.
والشجو: حب يتبعه هم وحزن.
والشوق: سفر القلب إلى المحبوب. قال الجوهري: الشوق والاشتياق نزاع النفس إلى الشيء. وقد جاء في السنة: "وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقاءك". واختلف فيه: هل يزول بالوصال أو يزيد؟.
والبلبال: الهم ووسواس الصدور، والبلابل جمع بلبلة، يقال بلابل الشوق، وهي وساوسه.
والتباريح: الشدائد والدواهي، يقال برح به الحب والشوق، إذا أصابه منه البرح، وهو: الشدة.
والغمرة: ما يغمر القلب من حب أن سكر أو غفلة.
والشجن: الحاجة حيث كانت، وحاجة المحب أشد إلى محبوبه.
والوصب: ألم الحب ومرضه، فإن أصل الوصب المرض.
والكمد: الحزن المكتوم وتغير اللون.
والأرق: السهر، وهو من لوازم المحبة.
والحنين: الشوق الممزوج برقة وتذكر يهيج الباعثة.
والجنون: أصل مادته: الستر، والحب المفرط يستر العقل، فلا يفعل المحب ما ينفعه ولا ما يضره، فهو شعبة من الجنون، ومن الحب ما يكون من جنونا.
والود: خالص الحب وألطفه وأرقه، وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة.
والخلة: توحيد المحبة، فالخليل هو الذي يوحد حبه لمحبوبه، وهي مرتبة لا تقبل المشاركة، ولهذا اختص بها من العالم الخليلان إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، كما قال تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) [النساء: 125] . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا". وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا". وقيل: إنما سميت خلة لتخلل المحبة جميع أجزاء الروح. وزعم من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل، وهذا الزعم باطل، لأن الخلة خاصة والمحبة عامة، قال تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة:222] .
والغرام: الحب اللازم، يقال: رجل مغرم بالحب، وقد لزمه الحب. وفي "الصحاح": الغرام: الولوع.
والوله: ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد، وما أحسن قول السيد يوسف بن إبراهيم الأمين:
عشق المحبوب ظبيا مثله ... فاعتراه لهواه وله
كان معشوقا فأضحى عاشقا ... فقضى الحب عليه وله
والرسيس: من الرس، وهو: الثبات ورسوخ صورة المحبوب في النفس، وزعموا أنه أول المراتب، ويليه الحب، والحب أخص من العشق لأنه عن أول نظرة، وأقصاه امتزاج الأرواح.
والرأفة: أشد الحب، لأنها مبالغة في الرحمة.
والصبوة: لا تطلق حقيقة إلا على الميل والافتتان في زمن الصبا، لكن تطلق تجاوزا على مطلق الميل للمشابهة والنزوع.
والكآبة: شدة الحزن، كالتفجع، أو هو توجع وبكاء على الفقد والبرح.
والغل: شدة العشق.
والسهد: شدة السهر وتواتر أحوال المحبوب على القلب. وفي معناه: التحرق واللذع والولع.
والنصب: لوعة من مرض وغم.
والخبل: الجنون المتولد من شدة الحب، وهذا في الأصح آخر المراتب.
والجزع: عدم الصبر على الفرقة.
والهلع: الشدة.
والخلابة: سلب العقل.
والبله: حمق أو غفلة، فيكون هنا استغراقاً في الحب.
وفي ترتيب هذه الأسماء خلاف يرد على من التزم ترتيبها. ونحن قد أوضحنا نفس المعاني، ومنها يسهل الترتيب والتنزيل على المراتب، فتأمل. وله أسماء غير هذه أضربت عنها خوف الإطالة.
والمحبة أم باب هذه الأسماء كلها. وقيل: الشوق جنس، والمحبة نوع منه، والحب حرف ينتظم الثلاثة: العشق، والوجد، والهوى، وللناس في حد المحبة كلام كثير، فقيل: هي الميل الدائم بالقلب الهائم. وقيل: ذكر المحبوب على عدد الأنفاس، وقيل: مصاحبته على الإدمان. وقيل: القيام له بكل ما يحبه منك. ثم القلب إذا امتلأ من الحب فلا اتساع فيه لغير المحبوب (والذين أمنوا أشد حبا لله) [البقرة: 165] .
مبحث في العشق وذمه وترياقه وسمه
فكم مدحه عاقل، وذمه متعاقل، هيهات! فات من ذمه المطلوب، ومن أين للوجه المليح ذنوب. قال قدامة: العشق فضيلة تنتج الحيلة الجميلة، عزيز يذل له عز الملوك، وتضرع له صولة البطل، وأول باب تفتق به الأذهان، وتستخرج به دقائق الافتتان، إليه تستريح الهمم، وتسكن نوافر الشيم، له سرور يجول في الجنان، وفرح يسكن في قلب الإنسان. قيل لبعض العلماء: إن ابنك عشق! فقال: الحمد لله! الآن رقت حواشيه، ولطفت معانيه، وملحت إشارته، وظرفت حركاته، وحسنت عباراته، وجادت رسائله، وجلت شمائله، فواظب على المليح، واجتنب القبيح. وقيل لآخر كذلك، فقال: لا بأس بذلك، إذا عشق لطف وظرف ودق ورق. قال قائل:
ولا خير في الدنيا بغير صبابة ... ولا في نعيم ليس فيه حبيب
وقال آخر:
إذا لم تذق في هذه الدار صبوة ... فموتك فيها والحياة سواء
وقال آخر:
ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيباً ولا وافى إليك حبيب
وقال آخر:
ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها ... فيما مضى أحد إذا لم يعشق
وفي حكمة كسرى: إن الملك لا يكمل إلا بعد عشقه، وكذلك العالم. قالوا: والعشق مما يؤجر عليه صاحبه. قال شريك: أشدهم حبا أعظمهم أجرا. وأرواح العشاق عطرة لطيفة، وأبدانهم ضعيفة، وكلامهم يرطب الأرواح، ويجلب الأفراح، والعاشق المسكين تدور أخباره، وتروى أشعاره، ويبقى له العشق لم يذكر له اسم، ولا جرى له رسم، ولا رفع له رأس، ولا ذكر مع الناس. وسئل أبو نوفل: هل سلم أحد من العشق؟ فقال: نعم! الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عنده فهم، فأما من في طبعه أدنى ظرف، أو معه دماثة أهل الحجاز وظرف أهل العراق، فلا يسلم منه. وقيل: لا يخلو أحد من صبوة إلا منقوص البنية أو جافي الخلقة على خلاف تركيب الاعتدال.
قالت امرأة:
رأيت الهوى حلو إذا اجتمع الشمل ... ومرا على الهجران لا بل هو القتل
فمن لم يذق للهجر طعما فإنه ... إذا ذاق طعم الحب لم يدر ما الوصل
وقد ذقت طعميه على القرب والنوى ... فأبعده قتل وأقربه خبل
وفي هذا المعنى قول آزاد:
شأن المحب عجيب في صبابته ... الهجر يقتله والوصل يحييه
وأما ما جاء في ذمه، وسريان سمه، فأكثر من أن يحصى، فكم ترك الغني صعلوكا، والمالك مملوكا، وكم من عاشق أتلف في معشوقه ما له وعرضه ونفسه وضيع أهله ومصالح دنياه ودينه.
قال الوأواء الدمشقي:
سبيل الهوى وعر ... وحلو الهوى مر
وبرد الهوى حر ... ويوم الهوى دهر
وقال غيره:
العشق مشغلة عن كل صالحة ... وسكرة العشق تنفي سكرة الوسن
والهوى أكثر ما يستعمل في الحب المذموم، وقد يستعمل في الممدوح استعمالاً مفيداً، قال تعالى: (أفرءيت من اتخذ إلهه هواه) [الجاثية:23] . وفي الحديث: "حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". والأول ذم، والثاني مدح، فتلخص من الآية والسنة، أن المحمود هو في الخير والصلاح، والمذموم هو في الشر والفساد. قيل إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. قلت: لو قال: إلى الهاوية، لكان أنسب. وقيل: الهوى الهوان، زيدت فيه النون، كما قيل:
فسألتها بإشارة عن حالها ... وعلى فيها للوشاة عيون
فتنفست صعدا وقالت ما الهوى ... إلا الهوان أزيل عنه النون
قال سهل: قسم الله للأعضاء من الهوى لكل عضو حظا، فإذا مال عضو منها إلى الهوى رجع ضرره إلى القلب. وحاصل القضية أن العشق والهوى أصل كل بلية، وفيه ذل كل نفس أبية.
قال ابن الفارض:
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضنى به وله عقل
وعش خاليا فالحب راحته عنا ... وأوله سقم وآخره قتل
مبحث في أن العشق اضطراري أو اختياري
قال أحمد بن أبي حجلة المغربي: للناس فيه كلام من الطرفين، وتبختر بين الصفين، فقائل بأنه اضطراري، وقائل بأنه اختياري، ولكل من القولين وجه مليح، وقد رجيح، ونحن نذكر ما يعم به الانتفاع، ونتكلم في طوله وعرضه بالباع والذراع. فمن ذلك ما قاله القاضي محمد بن أحمد النوقاتي في كتابه "منحة الظراف": العشاق معذورون على كل حال، مغفور لهم جميع الأقوال والأفعال، إذ العشق إنما دهاهم على غير اختيار، بل اعتراهم على جبر واضطرار، والمرء إنما يلام على ما يستطيع من الأمور، لا في المقضى عليه والمقدور، هذا مما لا يشك فيه ذو لب، ولا يختلج خلافه في قلب. وجاء في تفسير قوله تعالى: (فلما رأينه وأكبرنه وقطعن أيديهن) [يوسف: 31] . وهذا اضطرار واضح. قال وهب: كن أربعين امرأة، فمات منهن تسع وجدا بيوسف وكمدا عليه. وقال الفضيل بن عياض: لو رزقني الله دعوة مجابة لدعوت الله تعالى بها أن يغفر للعشاق، لأن حركاتهم اضطرارية لا اختيارية. وفي كتاب "امتزاج الأرواح" للتميمي: قال بعض الأطباء: وقوع العشق بأهله ليس باختيارهم، ولا بحرصهم عليه، ولا لذة لأكثرهم فيه، ولكن وقوعه بهم كوقوع العلل المدنفة والأمراض المتلفة، لا فرق بينه وبين ذلك. وقال المدائني: لام رجل رجلا من أهل الهوى، فقال: لو كان لذي هوى اختيار لاختار أن يهوى، ولكن لا اختيار له. وقال الحافظ ابن القيم رحمه الله: فسر كثير من السلف قوله تعالى: (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) [البقرة: 286] بالعشق، وهذا لم يريدوا به التخصيص، وإنما أرادوا به التمثيل، وإن العشق من تحميل ما لا يطاق، أي: التحمل القدري لا الشرعي الأمري. انتهى. وحكى ابن حزم أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: رأيت امرأة فعشقتها، فقال عمر: ذلك مما لا يملك. وقال ابن طاووس في قوله تعالى: (وخلق الإنسان ضعيفا) [النساء: 28] أي: إذا نظر إلى السماء لم يصبر. ومن هذا ظهر أن عذلهم في هذه الحال بمنزلة عذل المريض في مرضه. وذهب جماعة من الأطباء وغيرهم إلى أنه اختياري، والإنسان هو المختار فيه بتسليط فكرته في بحار سكرا ته، والمحبة إرادة قوية، والعبد يحمد ويذم على إرادته، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا، وقد ذم الله تعالى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأخبر أن عذابهم أليم، ولو كانت المحبة لا تملك لم يتوعدوهم بالعذاب على ما لا يدخل تحت قدرتهم، ومنه قوله تعالى: (ونهى النفس عن الهوى) [النازعات: 40] ومحال أن ينهي الإنسان نفسه عما يدخل تحت قدرته. والقول الصحيح الذي ليس فيه رد، ولا عن محبوبه صد، التفصيل في ذلك، وهو أن العشق يختلف باختلاف ما جبل الإنسان عليه من اللطافة ورقة الحاشية، وغلظ الكبد، وقساوة القلب، ونفور الطباع وغير ذلك، فمنهم من إذا رأى الصورة الحسنة مات من شدة ما يرد على قلبه من الدهش، كما تقدم في حق النسوة اللاتي متن لما رأين يوسف عليه السلام. وقد كان مصعب بن الزبير إذا رأته المرأة حاضت لحسنه، ومنهم من إذا رأى المليح سقط من قامته، ولم يعرف نعله من عمامته، فهذا وأمثاله عشقه اضطراري، والمخالفة فيه مكابرة في المحسوس. ومنهم من يكون أول عشقه الاستحسان للشخص، ثم تحدث له إرادة القرب منه، ثم المودة، وهو أن يود، أو ملكه، ثم يقوى الود فيصير محبة، ثم يصير خلة، ثم يصير هوى، ثم يصير عشقا، ثم يصير تتيما، ثم يصير ولها، فهذا وأمثاله مبدأ عشقه اختياري، لأنه كان يمكنه دفع ذلك وحسم مادته، على أن هذا النوع أيضا إذا انتهى بصاحبه إلى ما ذكرنا صار اضطراريا، كما قال الشاعر:
العشق أول ما يكون مجانة ... فإذا تمكن صار شغلا شاغلا
وقال بعض الفلاسفة: لم أر حقا أشبه بباطل ولا باطلا أشبه بحق من العشق، هزله جد، وجده هزل، أوله لعب، وآخره عطب. قال صاحب "روضة المحبين": وهذا كان بمنزلة السكر مع شرب الخمر، فإن تناول المسكر اختياري، وما يتولد منه من السكر اضطراري. فحينئذ يكون ادعاء من قال: إنه اضطراري مطلقا أو اختياري مطلقا غير مقبول عند ذوي العقول.
مبحث في ذكر الحسن والجمال
وهما قسمان: الظاهر والباطن، والطاعن والقاطن. فالباطن المحمود لذاته، كالعلم والبراعة، والجود والشجاعة، والتقوى والشهامة، والظاهر ما ظهر من غصن قوامه الرطيب، ووجهه الفائق على البدر بلا معيب. قيل: الحسن الصريح، ما استنطق الأفواه بالتسبيح. والصحيح أنه لا يدري كنهه، ولا يعرف شبهه، حتى كأنه نكرة لا تتعرف، ومجهول لا يعرف. قال بعضهم: للحسن معنى لا تناله العبارة، ولا يحيط به الوصف. وقيل: أمر مركب من أشياء وضاءة وصباحة وحسن تشكيل وتخطيط ودموية في البشر. وقيل: تناسب الخلقة واعتدالها واستواؤها، ورب صورة مبيضة ليست في الحسن بذاك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بياض المرأة في حسن شعرها تمام الحسن. وعن عائشة: البياض شطر الحسن. وقالوا في الجارية: جميلة من بعيد، مليحة من قريب. وقيل: الظرف في القد، والبراعة في الجيد، والرقة في الأطراف، والدقة في الخصر، والشأن كله في الكلام. وأحسن الحسن ما لم يجلب بتزيين، كما قيل: إن المليحة من تزين حليها، لا من غدت بحليها تتزين. والعرب تقول: الحلاوة في العينين، والملاحة في الفم، والجمال في الأنف، والظرف في اللسان، والرشاقة في القد، والنعومة في الخد، والبراقة في الأسنان. وقال بعضهم: البدن فيه الوجه والأطراف، وفي الوجه المحاسن وإليها الاستشراف، وفي المحاسن النكت التي هي الغاية في الاستحسان والاستظراف، كالملاحة في العين، ونكتة الملاحة الدعج، وكالحسن في الفم، ونكتة الحسن الفلج، وكالطلاوة في الجبين، ونكتة الطلاوة البلج، وكالرونق في الخد، ونكتة الخد الضرج، ومما يستحسن في المرأة طول أربعة، هي: أطرافها، وقامتها، وشعرها، وعنقها. وقصر أربعة، هي: يديها، ورجليها، ولسانها، وعينيها، والمراد بهذا القصر المعنوي، فلا تبذر ما في بيت زوجها، ولا تخرج من بيتها، ولا تستطيل بلسانها، ولا تطمع بعينيها، وبياض أربعة: لونها، وفرقها، وثغرها، وبياض عينيها. وسواد أربعة: أهدابها، وحاجبها، وعينيها، وشعرها، وحمرة أربعة: لسانها، وخدها، وشفتيها مع لعس، وإشراب بياضها بحمرة. وغلظ أربعة: ساقها، ومعصمها، وعجيزتها، وما هنالك. وسعة أربعة: جبهتها، وجبينها، وعينها، وصدرها. وضيق أربعة: فمها، ومنخرها، ومنفذ أذنيها، وما هنالك، وهو المقصود الأعظم من المرأة. قيل: وجدت جارية في زمن بني ساسان بهذه الصفات المذكورة جميعها. وحكي أن يعصور أحد ملوك الصين أهدى إلى كسرى أنو شر وان ملك فارس هدية، من جملتها جارية طولها سبعة أذرع تضرب أهداب عينيها خديها، كأن بين أجفانها لمعان البرق، مقرونة الحاجبين، لها ضفائر تجرهن إذا مشت. وهذه أوصاف بها جماع الحسن، وإنما العبارات الكثيرة تفنن في الأوصاف، وأهل الفراسة تجعل الجمال الظاهر دليلا على اعتدال المزاج. وقال بعض الحكماء: من نعم الله على العبد تحسين خلقه وخلقه واسمه، قيل: وصوته. وقال سقراط: إذا حسن الله وجهك فلا تضف إليه قبيح المعاصي، أو قبحه فلا تجمع بين قبيحين. ولما كان الجمال من حيث هو محبوبا للنفوس، معظما في القلوب، لم يبعث الله نبيا إلا جميل الوجه، كريم الحسب، شريف النسب، حسن الصوت، وأوتي يوسف عليه السلام شطر الحسن، وفي صفته صلى الله عليه وسلم: كأن الشمس تجري في وجهه، وبالجملة فقد كان صلى الله عليه وسلم من الحسن في الذروة العليا، ومن الجمال في المرتبة القصوى، كما يفصح عنه كتاب "الشمائل" للترمذي وغيره، وكان يدعو الناس إلى جمال الباطن والظاهر، ويقول: "إن الله جميل يحب الجمال". فكل جمال بالنسبة إلى بحره بلالة، وإلى نوره ذبالة، وهذا هو المطلب الذي تكل عنه البصائر، ويقصر عنه كل ذي حد جائر. وقال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) [التين: 4] أي تعديل لقامته وصورته كله. وجاء في تفسير قوله تعالى: (يزيد في الخلق ما يشاء) [فاطر:1] إنه الوجه الحسن، والصوت الحسن. قال بعض الحكماء: قلما توجد صورة حسنة تدبرها نفس ردية، والحسن أول سعادة الإنسان، وقلما تجد الخلق إلا تبعا للخلقة، تناسبا مطردا، وأصلا لا ينعكس، وإجماعا لا ينفرد، لكنه إن كان أمرا مرغوبا فيه، فأن حسن السيرة أفضل منه، وتدل عليه وجوه ذكرها الرازي في "أسرار التنزيل". ثم الشعراء أكثروا في تشبيه الأعضاء بالحروف، فشبهوا الحاجب بالنون، والعين بالعين، والصدغ بالواو، والفم بالميم،
والطرف بالصاد، والثنايا بالسين، والطرة المضفورة بالشين، والقامة بالألف. وأورد في "ديوان الصبابة" لذلك أمثلة كثيرة من الأشعار، وشبهوا بالفواكه أيضا، كالخدود بالتفاح، والشفة بالعناب، والثدي والرمان، والمشمومات، كالوجنة بالورد، والعين بالنرجس، والعذار بالآس، وبالمعادن، كالشفة بالعقيق، والأسنان باللؤلؤ، وقد وقع تشبيه الشفة بالمرجان أيضا، وأشياء مختلفة، كالوجه بالبدر، والفرق بالصبح، والشعر بالليل، ومرسله بالحية، والصدغ بالعقرب، والوجنة بالماء والنار، والريق بالخمر، والثدي والسرة بحق العاج، إلى غير ذلك. وللشعراء في ذلك على اختلاف مراداتهم وتخيلهم المقدمات الشعرية كلام كثير. واعلم أن الأساليب في هذا الباب دائرة بين التشبيه المجرد وبين جعل الحروف ونحوها من المشبه به في العادة مشبها، ومقابله في المحبوب مشبها به، وفي كل ذلك إما أن تبقى الأداة أو تحذف، وفي كل إما أ، يرشح المعنى بأوصاف تزيده حسنا أو لا، وأرفع الكل جعل الممدوح مشبها به محذوف الأداة مرشحا بلطائف الأوصاف، وقل سالكه، وعكسه معلوم. ومما يلتحق بالحسن والجمال تلون البدن، ومداره إما على صفاء الخلط أو شدة الحرارة أو ما تركب منهما، والأول يلزم حالة واحدة، إما البياض في البلغم أو الحمرة في الدم، أو الصفرة في الصفراء، أو السواد في السوداء، وما تركب بحسبه مع مراعاة الطوارئ، كقرب شمس أو جبل أو سد جهة، وهذا المبحث هو المعروف عند الأطباء بالألوان، وعند العامة بالسحنة، موضع تحقيقه الطب. والثاني يلزم السمرة وإن غلب البلغم. وأما الثالث: فهو الذي تناط به أمثال هذه الأحكام، وحاصل القول فيه: إن الجلد شفاف يحكي ما تحته، وأن الباعث إليه الأخلاط، هو الحرارة، فهي كالنار إذا اشتدت صعدت ما لاقته، وموضعها القلب، ومحركاتها مختلفة ما بين غضب وحياء وقهر وغيرها، إما إلى داخل دفعة أو تدريجيا، أو إلى خارج كذلك، أو إليهما، وموضع بسطه الحكمة، والذي يخصنا من ذلك هنا أن نقول: إن استيلاء سلطان المحبة والعشق من المعشوق على العاشق أعظم استيلاء من سلطان القهر والعظمة والناموس السلطاني، حتى قال بعض الحكماء: لكل مرتبة من مراتب المحبة حد إلا محبة العشق فلا حد لها. وقال بعضهم: إن تعلق روح العاشق ببدنه كتعلق النار بالشمعة، إلا أنه لا يطفئها كل هواء. إذا تقرر هذا، وجمع إلى ما قررناه من مراتب تحريك الحرارة، ظهر علة اصفرار لون العاشق، وارتعاد مفاصله، وخفقان قلبه، لأن الاستبشار بالاجتماع الموجب للفرح، المنتج لحركة الحرارة إلى خارج لتؤثر الحمرة وصفاء اللون، يعارضه لشدة الشفقة والخوف من نحو واش وسرعة تفريق، وإلباس الموجب لإطفاء الحرارة أو جذبها إلى داخل المنتج لصفرة اللون أو الموت فجأة، ومن ثم إذا أمن من ذلك لم يقع تغير، وأما حمرة المعشوق، فهي إما حياء أو خجل، وكل منهما باعث للحرارة إلى خارج، ونتيجة احمرار الألوان وصفاؤها. فأفضل الألوان الأحمر الصافي المشرق مطلقا، حتى في الثياب، كالحلل، والمشروب والمشموم، كالورد والشقيق، والحيوان، كالخيل، والمعادن، كالذهب والياقوت، إلى غير ذلك، ومنه: "أهلك الرجال الأحمران" يعني: الخمر والنساء، والأحامر: الذهب، والزعفران، واللحم. وأحب ما يكون إليهم منه ما كان في الوجنات والشفاه. وأما وصفهم الموت بالأحمر، والدمع الناشئ عن شدة الحرقة بالحمرة، فليس طعنا فيهما، بل مدح، لأنهم أرادوا أنهما من المطالب التي لا تنال إلا بالمشاق والصعوبة. وقد توسع الناس في هذا المبحث فخرجوا منه إلى التفضيل بين السمر والبيض، وخاضوا بسبب ذلك في كلام عريض، فمن قائل بتفضيل السمر مطلقا، وقوم البيض، وآخرون فصلوا، فقالوا: إن كلا يميل إلى عكس لونه، وهذا تحكم وحكم على الطبائع
والأمزجة بلا دليل، والصحيح أن الميل إما بداعية الشهوة، أو النفع، ولا ضبط للأول لاختلافه باختلاف الأشخاص. وأما الثاني، فالقول فيه إما بحسب معتدل المزاج، فالروميات حينئذ في نحو الحجاز أنفع، كما أن الحبشيات في نحو الروم أجود، لأن حرارة الأبدان تختبئ في الأغوار زمن البرد، وبالعكس، وإما بحسب المرضى، فالسود للمبرودين أجود، والبيض للمحرومين كذلك. قال الأنطاكي: وعندي أن عكس هذا أجود لما سمعت من التعليل، والصحيح أن الحبشة ألطف مما عداهم مزاجاً، وأرق بشرة، وأعدل حرارة، فلذلك هن أوفق مطلقاً، ولكنهن في معرض التغيير، وموضع تحقيق ذلك في الطبيعيات. وأما الحكم على المصريين، فإنهم إلى السمر أميل، فمن قبيل التحكم. وإذا أحكمت ما قررناه من علة اصفرار الألوان، علمت أن خفقان القلب عند الاجتماع أو الرؤية من لازم ذلك الشأن، وقد لهج الشعراء بالاعتذار عن ذلك، وأكثروا فيه من التشعب والمسالك. ومن المحبين الملوك، وهم أحسن الناس طباعاً، وأطولهم باعاً وأطيبهم عيشاً، وأكثرهم طيشاً، وأرقهم شعراً، وأدقهم فكراً، وأقربهم موجوعا وأكثرهم بالحبيب ولوعاً، إذ هم في الحقيقة أولى بذلك، وأحقهم بالنوم على تلك الأرائك. فمنهم من قنع من محبوبه بالنظر حتى مات كمداً ولحق بالشهداء، ومنهم من أصبح دونه في العفاف، وأقام سالف محبوبه مقام السلاف. ومنهم من خلع العذار، فجمع مابين ذات العقود، وابنة العنقود، ولكن مع صيانة، ورجوع إلى ديانة، فهو وإن طال به المجلس اختصر، وإن جنى فيه على محبوبه اعتذر. ومنهم من نال بالراح اللذة المحظورة، وأخرج بها وجنة الحبيب من صورة إلى صورة، فجارى النديم في الجريال، وسما إلى الحبيب سمو حباب الماء حالاً على حال، فأفضى به ذلك إلى هلكه، وفساد ملكه. ومن المحبين من عشق على السماع، ووقع من النزوع إلى الحبيب في النزاع. ومنهم من يحب بمجرد الوصف دون المعاينة، ولهذا نهى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تنعت المرأة لغير زوجها حتى كأنه ينظر إليها، والحديث في الصحيح. ومنهم من يعشق أثراً رآه. ومنهم من يحب في النوم شكلاً لا يعرفه، فيهيم به. ومنهم من يعشق باللمس، قيل: وهو رأس الشهوة. ومنه من يعشق بالشم. ومنم من نظر أول نظرة، فاحترق من خد الحبيب بجمرة، والنظر داعية الأرق وزناد الحرق، كم دعا إلى الجماع المحرم بالإجماع، فهو سهم مسموم، وفعل مذموم. ومن أطوار العشق: سحر الجفون، ونبل العيون، وتغير الألوان عند العيان، من صفرة وجل، وحمرة خجل، وما في معنى ذلك من عقد اللسان، وسحر البيان. وهنا تفضيل بين البيض والسود، والسمر ذوات النهود، وهذا مما يميل إليه المصريون في الغالب. ومن أطواره: الغيرة، وما فيها من الحيرة، وإفشاء السر والكتمان، عند عدم الإمكان، ومغالطة الحبيب واستعطافه، وتلافي غيظه وانحرافه، والرسل والرسائل، والتلطف في الوسائل، والاحتيال على طيف الخيال، وغير ذلك ممل قيل فيه، على اختلاف معانيه، وقصر الليل وطوله، وخضاب شفقه ونصوله، وقلة عقل العذول، وما عنده من كثرة الفضول، وحسن الإشارة، إلى الوصل والزيارة، وذم الرقيب والنمام والواشي كثير الكلام، والعتاب عند اجتماع الأحباب، وما في ذلك من الرضى، والعفو عما مضى، وإغاثة العاشق المسكين، إذا وصلت العظم السكين، ودواء علة الجوى، وما يقاسيه أهل الهوى، وتعنت المعشوق على الصب المشوق، وغير ذلك من أقسام الهجر، وصبر القابض فيه على الجمر، والدعاء على المحبوب، وما فيه من الفقه المقلوب، وبدو الخضوع، وانسكاب الدموع، والوعد والأماني، وما فيهما من راحة العاني، والرضى من المحبوب، بأيسر مطلوب، واختلاط الأرواح، كاختلاط الماء بالراح، وعود المحب كالخلال، وطيف الخيال، وما في معناه في رقة خصر الحبيب، وتشبيه الردف بالكثيب، وما يكابده في طلب الأحباب، من الأمور الصعاب، وطيب ذكرى حبيب وما عولج به العشق من الدواء، وقصد به السلو عن الهوى، وخفقان القلب والتلوين، عند اجتماع المحبين، وأسرار المحبة، وما فيها من اختلاف آراء الأحبة. ومن أطواره أيضا: هجر الدلال، وهجر الملال، وهجر الجزاء والمعاقبة، والهجر الخلقي. ومن العشاق من مات من حبه، وقدم على ربه من غني وفقير، وكبير وصغير، على اختلاف ضروبهم، وتباين مطلوبهم. ومنهم من خالسته عيون الإماء، فأسلمته للفناء. ومنهم من حظي
بالتلاقي، بعد تجرع كأس الفراق. ومنهم من سمي بالفساق. ومنهم من حمله هواه، على أذية من يهواه. ومنهم من عانده الزمن في مطلوبه، حتى شورك في محبوبه. ومنهم من عوقب بالفسق، ولم يشتهر بالعشق. ومنهم من حل عقد المحبة، وخالف سنن الأحبة. ومنهم من تمادى على نقض العهد، ومات على إخلاف الوعد. ومنهم من أشبه العشاق في محبته، وشاكلهم في مودته. ومنهم من أناح به فقتله، حتى أذهب عقله. ومنهم من جرع كأس الضنى، وصبر على مكابدة العناء. وبالجملة، فالعشق أطوار كثيرة، وللعشاق أحوال غزيرة، لا تنالها العبارة، ولا تحيط بها الإشارة، وقد عقد الفاضل الأديب الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي حجلة المغربي في "ديوان الصبابة"، والشيخ داود الأنطاكي المعروف بالأكمه في "تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق" أبواباً لكل جملة من هذه الجمل المذكورة، وأتيا بعبائر أنيقة، وأشعار لطيفة، وحكايات رشيقة، هي من عيون الأغيار مستورة، أضربت عنها مخافة الإطالة، وذكرت من أطرافها ما تتم به فائدة هذه الرسالة، يؤخذ منها التراب لطلب الدواء، والتماس الشفاء، ومن رام التفصيل، فعليه بمطالعتها المصححة لداء أهل الأهواء. وأفضل المحبين من استشهد في سبيل الله، وبذل روحه رجاء لقاء الله، ونصوص الكتاب والسنة طافحة بفضائل الشهداء، معروفة عند العلماء بالله تعالى. وأما عشاق الجواري والكواعب، وما لهم من العجائب، فهم جمع جم لا يحصى كثرة، ولا يستصقى وفرة. وممن اشتهرت سيرته، وظهرت في الحب سريرته، واحتفل بذكرهم الشعراء في الأشعار، وروي لهم في الكتب صحاح الأخبار وحسان الآثار، فهم: عروة بن قيس، وجميل وصاحبته بثينة، وكثير وصاحبته عزة، وقيس وصاحبته لبنى، والمجنون وصاحبته ليلى، وعروة بن جزام وصاحبته عفراء، وعبد الله بن عجلان وصاحبته هند، وذو الرمة وصاحبته مي، ومالك وصاحبته جنوب، وعبد الله بن علقمة وصاحبته حبيش، ونصيب وصاحبته زينب، والمرقش وصاحبته أسماء، وعتبة بن الحباب وصاحبته ريا، والصمة وصاحبته ريا، وكعب وصاحبته ميلاء، وكم من عاشق جهل اسمه أو اسم محبوبه أو شيء من سيرته أو مآل حقيقته. ومنهم من منعه الزهد والعبادة، من أن يقضي من محبوبه مراده. ومنهم من ساعده الزمان في المراد، حتى بلغه ما أراد. وذكر الأنطاكي ما سوى البشر، وما لقوا من العبر، وهو نوعان: أحدهما: الجنة، وما لقوا من المحنة، والثاني: من كلف وهو غير مكلف. وهذا الأخير خمسة أصناف: الثاني: الحيوان، وما وقع له من أمور العشق في اختلاف الأزمان، الثالث: ما جرى من القوة العاشقية والمعشوقية، بين الأنفس النباتية. الرابع: ما بث من الأسرار الملكية، بين الأجسام والأجرام الفلكية. ولكل واحد من تلك الأنواع تفصيل ذكره في "تزيين الأسواق" لا أطول بذكرها بطون الأوراق. وستأتي الإشارة إلى عشق ما سوى الإنسان في آخر هذا الكتاب. وحاصل القضية، وجود العشق والمحبة في كل جزء من أجزاء الكائنات، بتقدير العزيز العليم على قدر اللياقة، وزهاء الطاقة، والحسن منهما ما حسنه الشرع، والقبيح منهما ما قبحه الشرع، وبالله التوفيق.
.../...
* الكتاب: نشوة السكران من صهباء تذكار الغزلان
المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (المتوفى: 1307هـ)
عُني بنشره: محمد عطيه الكتبي