نقوس المهدي
كاتب
وردت كلمة "حجاب" في القرآن في عددٍ من المواقع والآيات، وفي كُل هذه المواقع كانت الكلمة تأتي بالمعنى ذاته، وهو الستر والغياب، أي ما يحول بين الشَّيء وبين غيره، فالحجاب يحجب المحجوب ويُخفيه، كما يظهر ذلك في آيةٍ مثل: [وَإذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذَّيِنَ لا يُؤمِنُوُنَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُوُرًا[ وذلك كنايةً عن الكُفر والجُحود، فلا يسمعون الحق، ولا يعرفونه، وفي قوله أيضًا [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَه اللهُ إلَّا وَحْيًا أو مِنْ وَرَاءِ حِجَاب] فيكون الحجاب هنا حائلًا بين "الله" وبين رسوله فلا يراه على وجه الإطلاق، وليس فقط على وجه التَّحقق.
ثمَّة عددٌ من المُسلمين الجُدد الذين يقولون إنَّ حجاب المرأة ليس أصلًا في الإسلام، وذلك استنادًا على فكرة أنَّ الحجاب الوارد في القرآن لا يعني اللباس، وهذا صحيحٌ طبعًا، فالحجاب لا يعني اللباس أبدًا، ولكن هذا ليس دليلًا على أنَّ الحجاب ليس مشروعًا في الإسلام، ولنقرأ الآية التي تناولت كلمة الحجاب، مما يتعلَّق بالمرأة. تقول الآية [وَإذَا سَأَلْتُمُوْهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوُهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوْبِكُم وَقُلُوْبِهِنَّ] فيكون الحجاب هنا أي حائلٍ يحول دون أن يرى الرَّجل المرأة، كجدارٍ، أو بابٍ، أو أي حاجزٍ، فالحجاب حاجزٌ يفصل بين شيئين أيضًا.
الآن، السُّؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان القرآن حريصًا ألَّا يرى الرَّجل المرأة وهي في بيتها، ويأمره بأنَّ يُكلّمها من وراء حجاب، فهل يسمح للمرأة بارتداء ملابس يسمح للرجل برؤية ما لا يستطيع رؤيته وهو يُكلّمها في البيت؟ فعندما يتكلَّم الرَّجل مع المرأة وهي في بيتها من وراء حجاب، فهو لا يرى منها شيئًا، لا يديها، ولا وجهها، ولكنَّه يتمكَّن من رؤية هذه الأشياء وهي في الشَّارع، فهل هذا يبدو منطقيًا؟ إذا كانت الحكمة من أمر الرجال بمُخاطبة النساء من وراء حجاب، هو عدم رؤية المرأة إطلاقًا، فأين تذهب هذه الحكمة عندما تخرج المرأة إلى الشَّارع؟
من الواضح أنَّ المطلوب هو أن تختفي المرأة تمامًا عن أنظار الرَّجل؛ فلا يرى منها شيئًا، وإلَّا لما أمرها بأن تختبئ وراء ساترٍ أثناء حديثها مع الرجال وهي في منزلها. ومن الواضح أيضًا -من خلال تتبع آيات القرآن التي تناولت ذكر هذه المسألة- أنَّ حجاب المرأة هو بيتها، ولهذا أمرها القرآن بالقرار في البيت، ومُلازمته [وَقِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُوُلَى] وفي ربط الآية للقرار في البيوت بالتَّبرج دلالةُ لا يُمكننا أن نُغفلها أبدًا، فمُجرَّد خروج المرأة من المنزل يُعتبر تبرجًا، ولأنَّ المطلوب هو اختفاء المرأة تمامًا عن أنظار الرَّجل، فالبيت هو الحجاب الحاجز للمرأة عن أعين الرجال.
وفي هذا المعنى يقول الأستاذ محمود محمد طه، في كتابه (الزي عنوان عقل المرأة وخلقها)، عندما تكلَّم عن تاريخ الحجاب في الإسلام: "والحجاب انّما يعني بقاء المرأة في دارها، وعن ذلك ورد قول الله تعالى: (وقرن في بيوتكّن ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الاولى، واقمن الصلاة، وآتين الزكاة، واطعن الله ورسوله، انّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس اهل البيت ويطّهركم تطهيراً) وبهذا النص أصبح خروج المرأة من المنزل غير مسموح به، إلا للضرورة. والضرورة تعني الاّ يكون عند، المرأة من يعولها من الرجال، فهي إن لم تخرج لتكسب الكسب الشريف لنفسها، ولمن تعول من الأطفال، فإنها ستموت جوعاً، أو تنحرف. في مثل هذه الحال، وحدها، سمح للمرأة في الشريعة، في الماضي بالخروج. وهذه هي الضرورة التي تبيح المحرّمات – الحياة أو الموت – (قل لا اجد فيما اوحي الي محرّماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة، أو دماً مسفوحاً، أو لحم خنزير فانه رجس، أو فسقاً أهل لغير الله به، فمن اضطّر غير باغ، ولا عاد، فان ربك غفور رحيم) .. (فمن اضطر غير باغ ولا عاد). هذا هو مقياس الضرورة في الشريعة الإسلامية – ضرورة الحياة أو الموت هي التي تبيح المحرّمات. فاذا اضطّرت المرأة للخروج، بهذا المعنى الذي سقناه للضرورة، فإن عليها حينئذ ان تخرج من منزلها بزي خاص، تبدو فيه وكأنها تنقل منزلها معها. وذلك بأن تخرج وهي متحجبة تماماً، لا يبدو منها سوى وجهها، وكفيها، وظاهر قدميها. قال تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك، وبناتك، ونساء المؤمنين، يدنين عليهّن من جلابيبهّن، ذلك ادنى ان يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً ..). هذا الزي هو الزي الشرعي الذي كانت ترتديه في الماضي، المرأة الخارجة، للضرورة التي بينّا آنفاً. ولابد من ملاحظة هنا أن بعض الناس يظن أن آية الحجاب وراء الباب لم يقصد بها غير نساء النبي وهذا سوء فهم، عقل الذكي يأباه وكفى."
الآن؛ ماذا لو اضطرت المرأة إلى الخروج من المنزل؟ إذا افترضنا وجود مُبررٍ طارئ وضروري لخروج المرأة، فعلى المرأة أن تأخذ بيتها معها، أعني أن تأخذ حجابها الذي يحجبها عن أعين الرجال نهائيًا، تمامًا كما يفعل الحاجز في البيت، وهنا سيكون اللباس من يقوم بهذه المُهمَّة، لأنَّ أخذ جدران البيت معها إلى الشَّارع ليس مُمكنًا، فيكون من لباسها ما يقوم مقام هذا الجدار الذي يحجبها عن أعين الرجال، وهو -في هذه الحالة- النقاب الذي يجعل المرأة مخفيَّة تمامًا عن أعين الرجال، فلا يرى منها شيئًا، ولا حتَّى يتعرَّف عليها. والأمر ليس كما ذهب إليه الأستاذ محمود محمد طه، فالحجاب البيتي لا يكشف وجه المرأة، وكفيها وظاهر قدميها، فهذه مما لا يظهر أبدًا في حال كان كلامها مع الرجال، وهي في بيتها، من وراء حجاب، فلا شيء من ذلك يظهر، ولا أعرف مُبررًا له في التَّصريح بظهور هذه الأجزاء من جسد المرأة. فالواجب ألَّا يظهر من المرأة إلا ما يظهر منها في حال كانت تتكلَّم مع الرجال من وراء حجاب، وهي في بيتها، وفي هذه الحالة فإنَّه لا يظهر منها إلَّا صوتها فقط، ولا يظهر منها أي جزء من جسدها أبدًا.
هنا قد يقول البعض: "ولماذا يأمر الله الرجال بغض البصر، إذا كان الواجب هو ألا يظهر شيء من جسد المرأة؟" وقد يأخذون ذلك كحجة منطقية على إباحة وجواز أن يظهر من المرأة شيء يستحق أن يغض الرجل البصر عنه. وهي حجة ساقطة من عدة أوجه، فإذا كان يجوز للمرأة كشف جزء من جسدها، كوجهها وكفيها وظاهر قدمها مثلًا، فلماذا يؤمر الرجال بغض النظر عنها وعن رؤيتها؟ الأمر بغض النظر عن شيء يعني أن رؤية هذا الشيء مُحرَّم، وهذا يعني أن ما قد يظهر من المرأة في الشَّارع كوجهها وكفيها مثلًا هو محرَّم على الرجال رؤيته. فما هي الحكمة من هذا الأمر إذن؟ هنا يأتي الوجه الآخر الذي يتغافل عنه كثيرٌ من النَّاس؛ ألا وهو سياق الآية التي أمرت الرجال بغض النظر؛ فسياق الآية كانت تتكلَّم عن الدخول إلى البيوت، ولهذا نقرأ:
[َيا أيٌّهَا الذَّيِن آمَنُوُا لا تَدْخُلُوُا بُيُوْتًا غَيْرَ بُيُوُتِكُم حَتَّى تَسْتَأنِسُوُا وَتُسَلِّمُوُا عَلَى أهْلِهَا ذَلِكُم خَيْرٌ لَكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُوُن * فِإنْ لَمْ تَجِدُوُا فِيِهَا أحَدًا فَلا تَدْخُلُوُهَا حَتَّى يُؤذَنَ لَكُم وَإنْ قِيْلَ لَكُم ارْجِعِوُا فَارْجِعِوُا هُوَ أزْكَى لَكُم وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُوُنَ عَلِيِمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ أنْ تَدْخُلُوُا بُيُوُتًا غَيْرَ مَسْكُوُنَةٍ فِيْهَا مَتَاعٌ لَكُم وَالله يَعْلَمُ مَا تُبْدُوُنَ وَمَا تَكْتُمُوُنَ * قُل للمُؤْمِنِيِنَ يَغُضُّوُا مِنْ أبَصَارِهِم وَيَحْفَظُوُا فُرُوُجَهُم ذَلِكَ أزْكَى لَهُم إنَّ اللهَ خَبِيْرٌ بِمَا يَصْنَعُوُن]
إذن؛ فالأمر بغض البصر جاء في سياق الحديث عن الدُّخول إلى البيوت، فالواجب عندها أن يغض الرجال أبصارهم؛ كي لا يكشفوا عورات البيوت، من نساء أو خلافه، ولا علاقة للأمر بالشَّارع وأدابه، فالكلام هنا عن البيوت وآدابها، وعندها يُحل إشكال التَّناقض الظَّاهري بين الأمر بحجاب المرأة كُليًا، والأمر بغض البصر للرجال.
يتبقى لنا النَّظر في إشكاليَّةٍ أخيرة؛ وهي فكرة التَّعرف على النساء في الشَّوارع، والتي يعتمد فيها القائلون بها على آية [يَا أَيُّهَا النَّبِيُ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِيِنَ يُدْنِيِنَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيْبِهِنَّ ذَلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوُرًا رَحِيِمًا] فيقولون إنَّ الواجب هو أن يتم التَّعرف على المرأة بدليل [ذَلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ] ولا نعرف المرأة إلَّا إذا رأينا وجهها، فتكشَّفت لنا هويتها. وهذا الفهم خاطئُ ويُوقعنا في التَّناقض مع مُجمل الآيات السَّابقة، والصَّحيح أنَّ هذه المعرفة لا علاقة لها بمعرفة هويَّة المرأة، وإنَّما نوعها أو طبقتها، فرؤية المرأة المُنقبة تجعلنا نعرفها، أي نعرف أنَّها مُسلمة مثلًا، ولكن الآية جاءت في سياقٍ تاريخيٍ وثقافيٍ مُحددين جدًا، فكانت الحكمة من هذا الأمر هو الفصل والتَّفريق بين الإماء والحرائر، ففي حين لم يجد الشَّارع حرجًا في أن تُظهر المرأة محاسنها، فإنَّ المُسلمة الحُرَّة لا ينطبق عليها الأمر نفسه، فكان لابُد لها من تغطية وجهها وجسدها كُلَّه، فيعرف الرَّجل من لباسها المُغيب لها أنَّها مُسلمة حُرَّة، وليست أمةً أو جارية، وهذا هو المعنى الذي أجمعت عليه أمهات كُتب التفاسير. ولا أدري لماذا يُطالبنا المُسلمون الجُدد بوضع السياق التَّاريخي والثَّقافي للآيات بعين الاعتبار، ثمَّ لا يُطبقون الأمر ذاته هُم أيضًا. وعلى أيَّة حال، فإنَّ في استخدام الآية لكلمة [جَلابِيْبِهِنَّ] دلالةٌ واضحةٌ على معنى الحجاب، لأنَّ جلباب المرأة هو ما يُعرف في زماننا هذا بالنقاب، فقد جاء في المعاجم العربيَّة أنَّ الجلباب هو الثَّوب المُشتمل على الجسد كله، أي ما يُغطي الجسد كله، وقيل هو مُرادف للخمار، وقيل إنَّه ما يُلبس فوق الثياب كالملحفة، وقيل إنَّها الملاءة تشتمل بها المرأة، ولا يُوجد لباسٌ يُقابل هذه المواصفات في زماننا هذا سوى "النقاب"، وعلى هذا فهو لا يختلف كثيرًا عن الخمار بمعناه الذي أوردته الآية [وَليَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جِيُوُبِهِنَّ وَلَا يُبْدِيِنَ زِيْنَتَهُنَّ] فإذا ضربت المرأة خمارها (أي غطاء رأسها) على جيبها، كان ذلك جلبابًا لها، ولا فارق (لُغويًا) بين الخمار والجلباب كما رأينا.
هنالك من المُسلمين من يستشهد بالآية التي تقول [وَلَا يُبْدِيِنَ زِيِنْتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا] للقول بأنَّه يجوز للمرأة إظهار وجهها وكفيَّها، ولعلَّ ذلك كان مُبرر الأستاذ محمود محمد طه في إباحة إظهار المرأة لهذه الأشياء، ولكن لعلَّ هؤلاء لم يلاحظوا لقوله [إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا] فالزينة هنا هي التي تظهر، وليس ما تُظهره المرأة، فيكون المقصود به ما ظهر رغمًا عن المرأة أو دون إرادتها، وإلَّا فإن الواجب هو ألَّا تظهر هذه الزينة والدليل في نفس الآية ذاتها عندما قال [وَلا يُبْدِيِنَ زِيْنَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُوْلَتِهِنَّ أو آبَائِهِنَّ أو آبَاءِ بُعُوُلَتِهِنَّ ....] فالأصل إذن؛ أنَّ هذه الزينة لا يجب أن تظهر للغرباء، وتظهر فقط للأصناف الواردين في الآية، ولا يجوز القول إنَّ الزينة التي تُظهرها المرأة لزوجها أو أبيها أو حماها أو أخوتها هي نفسها الزينة التي يُمكن للرجال الغرباء النَّظر إليه ورؤيته؛ وإلَّا فلماذا ذكرت الآية [أو الطِّفْلِ الذَّيِنَ لَمْ يَظْهَرُوُا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء] فالآية اعتبرت الزينة :عورة، ومن هنا جاء الحُكم الفقهي بأنَّ المرأة كُلُّها عورة، إذ أنَّ ما يظهر منها يُعتبر زينة، والزينة لا تجوز أن تظهر إلَّا للمحارم المذكورين في الآية، ومن هنا فلا تناقض بين هذه الآية وبين الحديث الصَّحيح: "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان." بل كلاهما يُعضّد بعضه بعضًا.
الخُلاصة:
الحجاب أصلٌ في الإسلام ولاشك، والأصل في الحجاب هو تغطية المرأة لكامل جسدها، فلا يظهر منه شيء، وهو ما يُسمَّى بالنقاب، والقول بأنَّ النقاب هو لباس تقتضيه عادات الشُّعوب لا معنى له؛ بدليل أنَّ القرآن صرَّح بتحريم لباس المرأة قبل الإسلام والذي وصفه بالتَّبرج حتَّى ولو بالخروج من المنزل، فالحجاب فُرض في الإسلام، ولم يكن موجودًا قبله، وكان الغرض منه التَّفريق بين الإماء والحرائر، ثمَّ بعد فرضه في الإسلام أصبح عادةً لعرب الجزيرة المُسلمين، ومن ثمَّ تم تصديره إلى بقيَّة الدُّول الإسلاميَّة إبَّان الاستعمار الإسلامي، فمنهم من قبله بالكُليَّة، ومنهم من قبل جزءًا منه، ومنهم من رفضه، ومن أراد أن يتبع الإسلام الصَّحيح، فعليه الاقتداء بالقرآن والسُّنة وليس باتباع عادات وأعراف ثقافته، فالشعوب الأفريقيَّة مثلًا، لم تكن تعرف الإسلام والصلاة والصيام، ولكن عندما يُريد الأفريقي أن يدخل الإسلام، فإنَّه يقبل الإسلام كما هو ولا يُحاول توفيقه ليُناسب ثقافته فيرفض فكرة الصلاة ويُحاول المُقاربة بينها وبين الطقوس الوثنيَّة من باب مُلائمة الإسلام لثقافات الشُّعوب، وبحجة أنَّ الإسلام صالحٌ لكل زمانٍ ومكان، ففكرة الصالحيَّة هذه تعني صالحية تطبيق الأحكام والتَّعاليم كما هي، لا كما يفهمه البعض بصورةٍ خاطئة بمعنى الملائمة بين التَّعاليم والثقافة. الواجب هو أن تُصبح التَّعاليم نفسها ثقافةً كما حدث في الجزيرة العربيَّة، فبعض تعاليم الإسلام لم تكن ثقافةً عربيَّة خالصةً، ولكنها أصبحت كذلك بعد الإسلام.
ثمَّة عددٌ من المُسلمين الجُدد الذين يقولون إنَّ حجاب المرأة ليس أصلًا في الإسلام، وذلك استنادًا على فكرة أنَّ الحجاب الوارد في القرآن لا يعني اللباس، وهذا صحيحٌ طبعًا، فالحجاب لا يعني اللباس أبدًا، ولكن هذا ليس دليلًا على أنَّ الحجاب ليس مشروعًا في الإسلام، ولنقرأ الآية التي تناولت كلمة الحجاب، مما يتعلَّق بالمرأة. تقول الآية [وَإذَا سَأَلْتُمُوْهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوُهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوْبِكُم وَقُلُوْبِهِنَّ] فيكون الحجاب هنا أي حائلٍ يحول دون أن يرى الرَّجل المرأة، كجدارٍ، أو بابٍ، أو أي حاجزٍ، فالحجاب حاجزٌ يفصل بين شيئين أيضًا.
الآن، السُّؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان القرآن حريصًا ألَّا يرى الرَّجل المرأة وهي في بيتها، ويأمره بأنَّ يُكلّمها من وراء حجاب، فهل يسمح للمرأة بارتداء ملابس يسمح للرجل برؤية ما لا يستطيع رؤيته وهو يُكلّمها في البيت؟ فعندما يتكلَّم الرَّجل مع المرأة وهي في بيتها من وراء حجاب، فهو لا يرى منها شيئًا، لا يديها، ولا وجهها، ولكنَّه يتمكَّن من رؤية هذه الأشياء وهي في الشَّارع، فهل هذا يبدو منطقيًا؟ إذا كانت الحكمة من أمر الرجال بمُخاطبة النساء من وراء حجاب، هو عدم رؤية المرأة إطلاقًا، فأين تذهب هذه الحكمة عندما تخرج المرأة إلى الشَّارع؟
من الواضح أنَّ المطلوب هو أن تختفي المرأة تمامًا عن أنظار الرَّجل؛ فلا يرى منها شيئًا، وإلَّا لما أمرها بأن تختبئ وراء ساترٍ أثناء حديثها مع الرجال وهي في منزلها. ومن الواضح أيضًا -من خلال تتبع آيات القرآن التي تناولت ذكر هذه المسألة- أنَّ حجاب المرأة هو بيتها، ولهذا أمرها القرآن بالقرار في البيت، ومُلازمته [وَقِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُوُلَى] وفي ربط الآية للقرار في البيوت بالتَّبرج دلالةُ لا يُمكننا أن نُغفلها أبدًا، فمُجرَّد خروج المرأة من المنزل يُعتبر تبرجًا، ولأنَّ المطلوب هو اختفاء المرأة تمامًا عن أنظار الرَّجل، فالبيت هو الحجاب الحاجز للمرأة عن أعين الرجال.
وفي هذا المعنى يقول الأستاذ محمود محمد طه، في كتابه (الزي عنوان عقل المرأة وخلقها)، عندما تكلَّم عن تاريخ الحجاب في الإسلام: "والحجاب انّما يعني بقاء المرأة في دارها، وعن ذلك ورد قول الله تعالى: (وقرن في بيوتكّن ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الاولى، واقمن الصلاة، وآتين الزكاة، واطعن الله ورسوله، انّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس اهل البيت ويطّهركم تطهيراً) وبهذا النص أصبح خروج المرأة من المنزل غير مسموح به، إلا للضرورة. والضرورة تعني الاّ يكون عند، المرأة من يعولها من الرجال، فهي إن لم تخرج لتكسب الكسب الشريف لنفسها، ولمن تعول من الأطفال، فإنها ستموت جوعاً، أو تنحرف. في مثل هذه الحال، وحدها، سمح للمرأة في الشريعة، في الماضي بالخروج. وهذه هي الضرورة التي تبيح المحرّمات – الحياة أو الموت – (قل لا اجد فيما اوحي الي محرّماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة، أو دماً مسفوحاً، أو لحم خنزير فانه رجس، أو فسقاً أهل لغير الله به، فمن اضطّر غير باغ، ولا عاد، فان ربك غفور رحيم) .. (فمن اضطر غير باغ ولا عاد). هذا هو مقياس الضرورة في الشريعة الإسلامية – ضرورة الحياة أو الموت هي التي تبيح المحرّمات. فاذا اضطّرت المرأة للخروج، بهذا المعنى الذي سقناه للضرورة، فإن عليها حينئذ ان تخرج من منزلها بزي خاص، تبدو فيه وكأنها تنقل منزلها معها. وذلك بأن تخرج وهي متحجبة تماماً، لا يبدو منها سوى وجهها، وكفيها، وظاهر قدميها. قال تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك، وبناتك، ونساء المؤمنين، يدنين عليهّن من جلابيبهّن، ذلك ادنى ان يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً ..). هذا الزي هو الزي الشرعي الذي كانت ترتديه في الماضي، المرأة الخارجة، للضرورة التي بينّا آنفاً. ولابد من ملاحظة هنا أن بعض الناس يظن أن آية الحجاب وراء الباب لم يقصد بها غير نساء النبي وهذا سوء فهم، عقل الذكي يأباه وكفى."
الآن؛ ماذا لو اضطرت المرأة إلى الخروج من المنزل؟ إذا افترضنا وجود مُبررٍ طارئ وضروري لخروج المرأة، فعلى المرأة أن تأخذ بيتها معها، أعني أن تأخذ حجابها الذي يحجبها عن أعين الرجال نهائيًا، تمامًا كما يفعل الحاجز في البيت، وهنا سيكون اللباس من يقوم بهذه المُهمَّة، لأنَّ أخذ جدران البيت معها إلى الشَّارع ليس مُمكنًا، فيكون من لباسها ما يقوم مقام هذا الجدار الذي يحجبها عن أعين الرجال، وهو -في هذه الحالة- النقاب الذي يجعل المرأة مخفيَّة تمامًا عن أعين الرجال، فلا يرى منها شيئًا، ولا حتَّى يتعرَّف عليها. والأمر ليس كما ذهب إليه الأستاذ محمود محمد طه، فالحجاب البيتي لا يكشف وجه المرأة، وكفيها وظاهر قدميها، فهذه مما لا يظهر أبدًا في حال كان كلامها مع الرجال، وهي في بيتها، من وراء حجاب، فلا شيء من ذلك يظهر، ولا أعرف مُبررًا له في التَّصريح بظهور هذه الأجزاء من جسد المرأة. فالواجب ألَّا يظهر من المرأة إلا ما يظهر منها في حال كانت تتكلَّم مع الرجال من وراء حجاب، وهي في بيتها، وفي هذه الحالة فإنَّه لا يظهر منها إلَّا صوتها فقط، ولا يظهر منها أي جزء من جسدها أبدًا.
هنا قد يقول البعض: "ولماذا يأمر الله الرجال بغض البصر، إذا كان الواجب هو ألا يظهر شيء من جسد المرأة؟" وقد يأخذون ذلك كحجة منطقية على إباحة وجواز أن يظهر من المرأة شيء يستحق أن يغض الرجل البصر عنه. وهي حجة ساقطة من عدة أوجه، فإذا كان يجوز للمرأة كشف جزء من جسدها، كوجهها وكفيها وظاهر قدمها مثلًا، فلماذا يؤمر الرجال بغض النظر عنها وعن رؤيتها؟ الأمر بغض النظر عن شيء يعني أن رؤية هذا الشيء مُحرَّم، وهذا يعني أن ما قد يظهر من المرأة في الشَّارع كوجهها وكفيها مثلًا هو محرَّم على الرجال رؤيته. فما هي الحكمة من هذا الأمر إذن؟ هنا يأتي الوجه الآخر الذي يتغافل عنه كثيرٌ من النَّاس؛ ألا وهو سياق الآية التي أمرت الرجال بغض النظر؛ فسياق الآية كانت تتكلَّم عن الدخول إلى البيوت، ولهذا نقرأ:
[َيا أيٌّهَا الذَّيِن آمَنُوُا لا تَدْخُلُوُا بُيُوْتًا غَيْرَ بُيُوُتِكُم حَتَّى تَسْتَأنِسُوُا وَتُسَلِّمُوُا عَلَى أهْلِهَا ذَلِكُم خَيْرٌ لَكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُوُن * فِإنْ لَمْ تَجِدُوُا فِيِهَا أحَدًا فَلا تَدْخُلُوُهَا حَتَّى يُؤذَنَ لَكُم وَإنْ قِيْلَ لَكُم ارْجِعِوُا فَارْجِعِوُا هُوَ أزْكَى لَكُم وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُوُنَ عَلِيِمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ أنْ تَدْخُلُوُا بُيُوُتًا غَيْرَ مَسْكُوُنَةٍ فِيْهَا مَتَاعٌ لَكُم وَالله يَعْلَمُ مَا تُبْدُوُنَ وَمَا تَكْتُمُوُنَ * قُل للمُؤْمِنِيِنَ يَغُضُّوُا مِنْ أبَصَارِهِم وَيَحْفَظُوُا فُرُوُجَهُم ذَلِكَ أزْكَى لَهُم إنَّ اللهَ خَبِيْرٌ بِمَا يَصْنَعُوُن]
إذن؛ فالأمر بغض البصر جاء في سياق الحديث عن الدُّخول إلى البيوت، فالواجب عندها أن يغض الرجال أبصارهم؛ كي لا يكشفوا عورات البيوت، من نساء أو خلافه، ولا علاقة للأمر بالشَّارع وأدابه، فالكلام هنا عن البيوت وآدابها، وعندها يُحل إشكال التَّناقض الظَّاهري بين الأمر بحجاب المرأة كُليًا، والأمر بغض البصر للرجال.
يتبقى لنا النَّظر في إشكاليَّةٍ أخيرة؛ وهي فكرة التَّعرف على النساء في الشَّوارع، والتي يعتمد فيها القائلون بها على آية [يَا أَيُّهَا النَّبِيُ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِيِنَ يُدْنِيِنَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيْبِهِنَّ ذَلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوُرًا رَحِيِمًا] فيقولون إنَّ الواجب هو أن يتم التَّعرف على المرأة بدليل [ذَلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ] ولا نعرف المرأة إلَّا إذا رأينا وجهها، فتكشَّفت لنا هويتها. وهذا الفهم خاطئُ ويُوقعنا في التَّناقض مع مُجمل الآيات السَّابقة، والصَّحيح أنَّ هذه المعرفة لا علاقة لها بمعرفة هويَّة المرأة، وإنَّما نوعها أو طبقتها، فرؤية المرأة المُنقبة تجعلنا نعرفها، أي نعرف أنَّها مُسلمة مثلًا، ولكن الآية جاءت في سياقٍ تاريخيٍ وثقافيٍ مُحددين جدًا، فكانت الحكمة من هذا الأمر هو الفصل والتَّفريق بين الإماء والحرائر، ففي حين لم يجد الشَّارع حرجًا في أن تُظهر المرأة محاسنها، فإنَّ المُسلمة الحُرَّة لا ينطبق عليها الأمر نفسه، فكان لابُد لها من تغطية وجهها وجسدها كُلَّه، فيعرف الرَّجل من لباسها المُغيب لها أنَّها مُسلمة حُرَّة، وليست أمةً أو جارية، وهذا هو المعنى الذي أجمعت عليه أمهات كُتب التفاسير. ولا أدري لماذا يُطالبنا المُسلمون الجُدد بوضع السياق التَّاريخي والثَّقافي للآيات بعين الاعتبار، ثمَّ لا يُطبقون الأمر ذاته هُم أيضًا. وعلى أيَّة حال، فإنَّ في استخدام الآية لكلمة [جَلابِيْبِهِنَّ] دلالةٌ واضحةٌ على معنى الحجاب، لأنَّ جلباب المرأة هو ما يُعرف في زماننا هذا بالنقاب، فقد جاء في المعاجم العربيَّة أنَّ الجلباب هو الثَّوب المُشتمل على الجسد كله، أي ما يُغطي الجسد كله، وقيل هو مُرادف للخمار، وقيل إنَّه ما يُلبس فوق الثياب كالملحفة، وقيل إنَّها الملاءة تشتمل بها المرأة، ولا يُوجد لباسٌ يُقابل هذه المواصفات في زماننا هذا سوى "النقاب"، وعلى هذا فهو لا يختلف كثيرًا عن الخمار بمعناه الذي أوردته الآية [وَليَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جِيُوُبِهِنَّ وَلَا يُبْدِيِنَ زِيْنَتَهُنَّ] فإذا ضربت المرأة خمارها (أي غطاء رأسها) على جيبها، كان ذلك جلبابًا لها، ولا فارق (لُغويًا) بين الخمار والجلباب كما رأينا.
هنالك من المُسلمين من يستشهد بالآية التي تقول [وَلَا يُبْدِيِنَ زِيِنْتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا] للقول بأنَّه يجوز للمرأة إظهار وجهها وكفيَّها، ولعلَّ ذلك كان مُبرر الأستاذ محمود محمد طه في إباحة إظهار المرأة لهذه الأشياء، ولكن لعلَّ هؤلاء لم يلاحظوا لقوله [إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا] فالزينة هنا هي التي تظهر، وليس ما تُظهره المرأة، فيكون المقصود به ما ظهر رغمًا عن المرأة أو دون إرادتها، وإلَّا فإن الواجب هو ألَّا تظهر هذه الزينة والدليل في نفس الآية ذاتها عندما قال [وَلا يُبْدِيِنَ زِيْنَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُوْلَتِهِنَّ أو آبَائِهِنَّ أو آبَاءِ بُعُوُلَتِهِنَّ ....] فالأصل إذن؛ أنَّ هذه الزينة لا يجب أن تظهر للغرباء، وتظهر فقط للأصناف الواردين في الآية، ولا يجوز القول إنَّ الزينة التي تُظهرها المرأة لزوجها أو أبيها أو حماها أو أخوتها هي نفسها الزينة التي يُمكن للرجال الغرباء النَّظر إليه ورؤيته؛ وإلَّا فلماذا ذكرت الآية [أو الطِّفْلِ الذَّيِنَ لَمْ يَظْهَرُوُا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء] فالآية اعتبرت الزينة :عورة، ومن هنا جاء الحُكم الفقهي بأنَّ المرأة كُلُّها عورة، إذ أنَّ ما يظهر منها يُعتبر زينة، والزينة لا تجوز أن تظهر إلَّا للمحارم المذكورين في الآية، ومن هنا فلا تناقض بين هذه الآية وبين الحديث الصَّحيح: "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان." بل كلاهما يُعضّد بعضه بعضًا.
الخُلاصة:
الحجاب أصلٌ في الإسلام ولاشك، والأصل في الحجاب هو تغطية المرأة لكامل جسدها، فلا يظهر منه شيء، وهو ما يُسمَّى بالنقاب، والقول بأنَّ النقاب هو لباس تقتضيه عادات الشُّعوب لا معنى له؛ بدليل أنَّ القرآن صرَّح بتحريم لباس المرأة قبل الإسلام والذي وصفه بالتَّبرج حتَّى ولو بالخروج من المنزل، فالحجاب فُرض في الإسلام، ولم يكن موجودًا قبله، وكان الغرض منه التَّفريق بين الإماء والحرائر، ثمَّ بعد فرضه في الإسلام أصبح عادةً لعرب الجزيرة المُسلمين، ومن ثمَّ تم تصديره إلى بقيَّة الدُّول الإسلاميَّة إبَّان الاستعمار الإسلامي، فمنهم من قبله بالكُليَّة، ومنهم من قبل جزءًا منه، ومنهم من رفضه، ومن أراد أن يتبع الإسلام الصَّحيح، فعليه الاقتداء بالقرآن والسُّنة وليس باتباع عادات وأعراف ثقافته، فالشعوب الأفريقيَّة مثلًا، لم تكن تعرف الإسلام والصلاة والصيام، ولكن عندما يُريد الأفريقي أن يدخل الإسلام، فإنَّه يقبل الإسلام كما هو ولا يُحاول توفيقه ليُناسب ثقافته فيرفض فكرة الصلاة ويُحاول المُقاربة بينها وبين الطقوس الوثنيَّة من باب مُلائمة الإسلام لثقافات الشُّعوب، وبحجة أنَّ الإسلام صالحٌ لكل زمانٍ ومكان، ففكرة الصالحيَّة هذه تعني صالحية تطبيق الأحكام والتَّعاليم كما هي، لا كما يفهمه البعض بصورةٍ خاطئة بمعنى الملائمة بين التَّعاليم والثقافة. الواجب هو أن تُصبح التَّعاليم نفسها ثقافةً كما حدث في الجزيرة العربيَّة، فبعض تعاليم الإسلام لم تكن ثقافةً عربيَّة خالصةً، ولكنها أصبحت كذلك بعد الإسلام.