نقوس المهدي
كاتب
كان الشاعر قديما هو الكائن المركزي للعالم في نصوصه، قبل أن تأتي الحداثة على تعاقب موجاتها وتقلب هذا المفهوم وتغير من ملمـح الشاعر الألوهي، إلى مشارك مع القارئ في قصيدته يتتبع التفاصيل والأمكنة والواقع، لكن قليلين هم الشعراء الذين نجحوا في كتابة نصوص تجمع بين الشاعر المتمركز والنفس الحداثي.
تجسيد قصة الخلق البشرية
حين أراد الفيلسوف الفرنسي ديكارت أن يفسّر مسألة انتقاء الأفكار، لم يجد أبسط من سلة تفاح كمثال على ذلك، وحين فكّر نيوتن في جاذبية الأرض فإنه لم يجد أكثر تعبيرا ورمزيّة على ذلك من سقوط تفاحة، كما لم يجد مخترع الهواتف الذكية ستيف جوبز أبلغ من صورة تفاحة مقضومة لتكون علامة لشركاته، وفي تاريخ الشعر الإنساني منذ الملاحم الشعرية الأولى وصولا إلى قصيدة النثر لم تخل قصائد الحبّ من ذكر التفاح إما تلميحا وإما تصريحا.
لعلّ السرّ الذي يجعل التفاح تلك الفاكهة السحرية التي تغذّي مخيلة الفلاسفة والشعراء هو ارتباطها بغواية أمّ البشر حواء وبسرّ وجودنا الأرضي.
اقتداء بآلهة العشق الإغريقية أفروديت التي تفوّقت على الآلهتين هيرا وأثينا لتفوز بالتفاحة الذهبية من باريس، تصنع الشاعرة التونسية رفيقة مرواني في كتابها “دم التفاح” غواياتها بلغة شعرية فيها الكثير من السّحر الأفروديتي ما يجعل “باريس ـ القارئ” يمنحها قلبه دون تفكير، تقول الشاعرة “هبْ أنني آلهة، على تلك الرّبوة، شاهد نبوءتي، ألن تصير حمحمة الأحصنة مطرا، وعرقها ماء زلالا؟”.
مجموعة "دم التفاح" في جوهرها وإن كانت تصنع أسرة عالية للحلم الإيروتيكي فإنها تنصب فخاخا للعقول النمطية
عبر كل نصوص كتابها تنثر الشاعرة غبار الأساطير الإنسانية منذ ملاحم الخلق الأولى وصولا إلى أساطير الفكر والفن الحديثة في نظام التفاحة الكبرى وما جاورها، وهي تمتلك من المكر الشعري ما يجعلها تتلاعب بهذه الأساطير، بما يمنحها مذاقا آخر وسياقا حدثيّا مختلفا، مثلما تربط قصة الخلق الإنسانية بأسطورة التفاحة عند نيوتن والتي أنكرها هو، لكن أصرّ فولتير على ترسيخها في الأذهان لإعطائها منحى أسطوريا والخروج بها من دائرة المنطق الفيزيائي، وهذا ما تفعله الشاعرة في نصّها “أسرّة الظلام”، حين تقول “في زمن آخر كنت أعتقد أنّ النساء تفاحات الله المنذورة إلى يوم تنضج الثمرات، وتفيض الشهوات، لكن لأمر له علاقة بالسقوط والذهول، أنكرت جاذبيتهنّ”.
كما أننا نجد بين نصوص “دم التفاح” ظلالا للسّرديّات الشّرقية الكبرى، مثل هذا المقطع من نشيد الإنشاد، “كالتّفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين الخلق، تحت ظله اشتهيت الجلوس بينما ثمرته الحلوة في فمي”، حين تقول الشاعرة “ثمة ظلّ يتكئ على فخذي، ويقضم تفاحة، تخبئ شهقة السلالة تحت جلدها”.
الفرق بين الإيروتيكا والبورنوغرافيا تماما كالفرق بين فهمين مختلفين لشخصين مختلفين لكلمة الارتقاء، فالأول فهمها بمنطق النظر إلى أبعد نقطة في السماء دون أن يرفع قدمه عن الأرض، أما الثاني فقد فهمها على أساس أنه بدأ يتسلّق سلّما بينما عيناه تحدّقان في الأرض، فالإيروتيكا هي محاولة للتجديف في بحيرة اللاشعور بالمنطق الفرويدي، وهي محاولة لتحرير الجسد من مدجنة النّمط البشري والتي حوّلت الجسد الأنثوي إلى مجرّد ماكنة للتّناسل والجسد الذّكوري إلى مجرّد منجنيق منوي، أماّ البورنوغرافيا فهي عمليّة إشهار لهذا النّمط لا تتجاوز اللعب بمفردات القاموس الإيروتيكي لا غير، وكتاب دم التفاح في جوهره وإن كان يصنع أسرّة عالية للحلم الإيروتيكي فإنه ينصب فخاخا للعقول النمطيّة.
الملفت في الكتابات الشعرية الإيروتيكية، تداول مفردات الماء والنار فيها، وكذلك نجد نصوص رفيقة مرواني تتحرك بقبضة من ماء وخطوة من جمر، كما تقول في قصيدتين متتاليتين خطوة الجمر وقبضة ماء، فهي تصنع من الماء ما يظمئ ومن النار ما يروي، تتناقض الشاعرة دلاليا داخل نصوصها بما يشوّش حواسّ القارئ، فيظلّ “يستجدي الماء من عين الجمر” كما تقول في أحد نصوصها.
كتاب ينصب فخاخا للعقول النمطيّة
لم تخرج نصوص “دم التفاح” المجموعة الصادرة عن دار فضاءات سنة 2016، من دائرة الإيروتيكا الغارقة في الجوّ الأسطوري الذي وصلنا من قصائد الحبّ الإغريقية، عدا بعض النصوص القليلة التي أطلّ منها أطفال تفوح منهم رائحة الموت، تماما مثل الأطفال الذين تطالعنا صورهم في الجرائد والتلفزيون وهم تحت ركام الحروب، مثل نصّ الكتابة بالأشلاء ونص ندبات خائفة الذي تقول فيه “بالون أخضر معلّق في المفترق، أطفال ملّوا الطفو على السطح، يتسابقون إلى الهاوية، يتراشقون بالسخام، عيونهم الذائبة في دلاء الملح تجرّ الدخان عميقا ليغزوا حلم الفراشات”.
لكننا نشمّ رائحة الأمومة في هذه النصوص، وهو ما يعيدنا إلى العالم الإغوائي للأنثى، حين تكتب الشاعرة في نصّ لست بريئة “حفظت سرّ الماء في فم رضيع لم يعقل شكل النهد”.
لكأنّ النّصوص تعيد تجسيد قصّة الخلق البشريّة من تفّاحة الغواية مرورا بالتحام الجسدين بين النار والماء وصولا إلى دم الجريمة البشريّة الأولى حين تصرخ الأمّ الثكلى بلسان الشاعرة “يا اللّٰه، هبْ أطفالي قبورا جميلة تحجّ إليها الحمائم”.
نصوص دم التفاح هي نصوص أثيرية لا يدمغها قاموس الراهن ولا تُذكر فيها الأحداث والأماكن والأسماء وتغيب عنها النصوص الموازية كالتصديرات والإهداءات والهوامش، وقد اشتغلت فيها صاحبتها على شعرية الإضافة والتي عرف بها الشعر الفرنسي في منتصف القرن التاسع عشر وخاصة في قصائد شارل بودلير، وهي تعود إلى الفكرة الكلاسيكية لإنتاج الشعر رغم أنها تنتج نصوصا حديثة، ونقصد بالفكرة الكلاسيكية لإنتاج الشعر هي التي تعود إلى فكرة الإلهام ومركزية الشاعر وهي التي يغيب فيها القارئ المنتج بالمعنى البارتي.
تجسيد قصة الخلق البشرية
حين أراد الفيلسوف الفرنسي ديكارت أن يفسّر مسألة انتقاء الأفكار، لم يجد أبسط من سلة تفاح كمثال على ذلك، وحين فكّر نيوتن في جاذبية الأرض فإنه لم يجد أكثر تعبيرا ورمزيّة على ذلك من سقوط تفاحة، كما لم يجد مخترع الهواتف الذكية ستيف جوبز أبلغ من صورة تفاحة مقضومة لتكون علامة لشركاته، وفي تاريخ الشعر الإنساني منذ الملاحم الشعرية الأولى وصولا إلى قصيدة النثر لم تخل قصائد الحبّ من ذكر التفاح إما تلميحا وإما تصريحا.
لعلّ السرّ الذي يجعل التفاح تلك الفاكهة السحرية التي تغذّي مخيلة الفلاسفة والشعراء هو ارتباطها بغواية أمّ البشر حواء وبسرّ وجودنا الأرضي.
اقتداء بآلهة العشق الإغريقية أفروديت التي تفوّقت على الآلهتين هيرا وأثينا لتفوز بالتفاحة الذهبية من باريس، تصنع الشاعرة التونسية رفيقة مرواني في كتابها “دم التفاح” غواياتها بلغة شعرية فيها الكثير من السّحر الأفروديتي ما يجعل “باريس ـ القارئ” يمنحها قلبه دون تفكير، تقول الشاعرة “هبْ أنني آلهة، على تلك الرّبوة، شاهد نبوءتي، ألن تصير حمحمة الأحصنة مطرا، وعرقها ماء زلالا؟”.
مجموعة "دم التفاح" في جوهرها وإن كانت تصنع أسرة عالية للحلم الإيروتيكي فإنها تنصب فخاخا للعقول النمطية
عبر كل نصوص كتابها تنثر الشاعرة غبار الأساطير الإنسانية منذ ملاحم الخلق الأولى وصولا إلى أساطير الفكر والفن الحديثة في نظام التفاحة الكبرى وما جاورها، وهي تمتلك من المكر الشعري ما يجعلها تتلاعب بهذه الأساطير، بما يمنحها مذاقا آخر وسياقا حدثيّا مختلفا، مثلما تربط قصة الخلق الإنسانية بأسطورة التفاحة عند نيوتن والتي أنكرها هو، لكن أصرّ فولتير على ترسيخها في الأذهان لإعطائها منحى أسطوريا والخروج بها من دائرة المنطق الفيزيائي، وهذا ما تفعله الشاعرة في نصّها “أسرّة الظلام”، حين تقول “في زمن آخر كنت أعتقد أنّ النساء تفاحات الله المنذورة إلى يوم تنضج الثمرات، وتفيض الشهوات، لكن لأمر له علاقة بالسقوط والذهول، أنكرت جاذبيتهنّ”.
كما أننا نجد بين نصوص “دم التفاح” ظلالا للسّرديّات الشّرقية الكبرى، مثل هذا المقطع من نشيد الإنشاد، “كالتّفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين الخلق، تحت ظله اشتهيت الجلوس بينما ثمرته الحلوة في فمي”، حين تقول الشاعرة “ثمة ظلّ يتكئ على فخذي، ويقضم تفاحة، تخبئ شهقة السلالة تحت جلدها”.
الفرق بين الإيروتيكا والبورنوغرافيا تماما كالفرق بين فهمين مختلفين لشخصين مختلفين لكلمة الارتقاء، فالأول فهمها بمنطق النظر إلى أبعد نقطة في السماء دون أن يرفع قدمه عن الأرض، أما الثاني فقد فهمها على أساس أنه بدأ يتسلّق سلّما بينما عيناه تحدّقان في الأرض، فالإيروتيكا هي محاولة للتجديف في بحيرة اللاشعور بالمنطق الفرويدي، وهي محاولة لتحرير الجسد من مدجنة النّمط البشري والتي حوّلت الجسد الأنثوي إلى مجرّد ماكنة للتّناسل والجسد الذّكوري إلى مجرّد منجنيق منوي، أماّ البورنوغرافيا فهي عمليّة إشهار لهذا النّمط لا تتجاوز اللعب بمفردات القاموس الإيروتيكي لا غير، وكتاب دم التفاح في جوهره وإن كان يصنع أسرّة عالية للحلم الإيروتيكي فإنه ينصب فخاخا للعقول النمطيّة.
الملفت في الكتابات الشعرية الإيروتيكية، تداول مفردات الماء والنار فيها، وكذلك نجد نصوص رفيقة مرواني تتحرك بقبضة من ماء وخطوة من جمر، كما تقول في قصيدتين متتاليتين خطوة الجمر وقبضة ماء، فهي تصنع من الماء ما يظمئ ومن النار ما يروي، تتناقض الشاعرة دلاليا داخل نصوصها بما يشوّش حواسّ القارئ، فيظلّ “يستجدي الماء من عين الجمر” كما تقول في أحد نصوصها.
كتاب ينصب فخاخا للعقول النمطيّة
لم تخرج نصوص “دم التفاح” المجموعة الصادرة عن دار فضاءات سنة 2016، من دائرة الإيروتيكا الغارقة في الجوّ الأسطوري الذي وصلنا من قصائد الحبّ الإغريقية، عدا بعض النصوص القليلة التي أطلّ منها أطفال تفوح منهم رائحة الموت، تماما مثل الأطفال الذين تطالعنا صورهم في الجرائد والتلفزيون وهم تحت ركام الحروب، مثل نصّ الكتابة بالأشلاء ونص ندبات خائفة الذي تقول فيه “بالون أخضر معلّق في المفترق، أطفال ملّوا الطفو على السطح، يتسابقون إلى الهاوية، يتراشقون بالسخام، عيونهم الذائبة في دلاء الملح تجرّ الدخان عميقا ليغزوا حلم الفراشات”.
لكننا نشمّ رائحة الأمومة في هذه النصوص، وهو ما يعيدنا إلى العالم الإغوائي للأنثى، حين تكتب الشاعرة في نصّ لست بريئة “حفظت سرّ الماء في فم رضيع لم يعقل شكل النهد”.
لكأنّ النّصوص تعيد تجسيد قصّة الخلق البشريّة من تفّاحة الغواية مرورا بالتحام الجسدين بين النار والماء وصولا إلى دم الجريمة البشريّة الأولى حين تصرخ الأمّ الثكلى بلسان الشاعرة “يا اللّٰه، هبْ أطفالي قبورا جميلة تحجّ إليها الحمائم”.
نصوص دم التفاح هي نصوص أثيرية لا يدمغها قاموس الراهن ولا تُذكر فيها الأحداث والأماكن والأسماء وتغيب عنها النصوص الموازية كالتصديرات والإهداءات والهوامش، وقد اشتغلت فيها صاحبتها على شعرية الإضافة والتي عرف بها الشعر الفرنسي في منتصف القرن التاسع عشر وخاصة في قصائد شارل بودلير، وهي تعود إلى الفكرة الكلاسيكية لإنتاج الشعر رغم أنها تنتج نصوصا حديثة، ونقصد بالفكرة الكلاسيكية لإنتاج الشعر هي التي تعود إلى فكرة الإلهام ومركزية الشاعر وهي التي يغيب فيها القارئ المنتج بالمعنى البارتي.