نقوس المهدي
كاتب
عشنا في غرفتين. لصديقي (1) الغرفة الأصغر، ولي الغرفة الأكبر ذات النوافذ الثلاث. كان صديقي يتغيّب طوال النهار ولا يعود إلا لتمضيّة الليل. أما أنا فكنت في غرفتي طوال الوقت، وإذا حدث أنْ خرجت فإما للذهاب إلى البريد، أو لشراء بعض المواد لإعداد العشاء. علاوة على ذلك، فإني مصاب بالتهاب (ذات الجنب) البلورا، مما كان يعطيني سببا آخر لعدم الخروج.
أحب أن أكون وحيداً. لكن بعد مرور شهر، أخذت أشعر بضيق من وحدتي. الكتب لم تعد تسلّيني. وغالباً ما أمضي وقتاً طويلا جالساً إلى طاولتي دون أن أستطيع كتابة جملة واحدة. التقط ثانية كتابي وأترك الصفحة بيضاء. ثم هذا المرض اللعين. بدأت فعلا أحسّ بالضجر.
المدينة (2) التي كنت أعيش فيها في تلك الحقبة لم تعجبني على الإطلاق. فهي مبنية على جبل كبير بحيث يمكننا مشاهدة مناظر، في كل مكان، شبيهة بتلك التي على البطاقات البريدية. هذه المناظر كانت تسبب لي غثياناً بحيث كنت سعيداً أن أغلق النوافذ وأبقى شبه محبوس في غرفتي. ناهيك باستثناء مكتب البريد، والسوق والعطّار، لا أرى أين يمكنني الذهاب.
إذن بقيت في غرفتي مثل منعزل.
أحياناً، تمضي أيام دون أن آكل شيئاً. لذا كنت أحاول كلّ شيء لكي أكون رائق المزاج. كنت أتمدد على الفراش وأبتسم. ابتسمتُ لمدة عشرين دقيقة مستمرة، على أن الابتسامة تحولت إلى تثاؤب. وكان هذا جد مزعج. فتحت فمي إلى حدٍّ كافٍ لكي ابتسم، لكنه انفتح على نحو أوسع مما جعلني أتثاءب. فأستغرقت في أحلام اليقظة.
رأيت أمامي جرّة مليئة بالحليب وقطعاً من الخبز الطازج. ورأيت نفسي جالساً إلى الطاولة، أكتب بسرعة. تتراكم على الطاولة، على الفراش، على الكرسي الأوراق المحبرة بالكلمات. أكتب أكثر فأكثر، وأنا ابتسمُ لأفكاري على نحو مسموع. أيّة روعة في أن يكون قربك خبز وحليب وصندوق من خشب الجوز مليء بالتبغ.
فتحت النافذة وألقيت بنظري إلى الحديقة. أزهار بنفسجية وصفراء نمت إزاء البيت بالضبط. أوراق التبغ كان تنمو وشجرة كستناء كبيرة ومهيبة انتصبت ابعد قليلا. وفي البعيد كان بدء البستان.
كل شيء كان هادئاً، فقط القطارات كانت تصفر عند سَفَح الجبل.
لم استطع اليوم القيام بأي شيء. ذرعت الغرفة جيئة وذهابا، ثم جلست إلى الطاولة، لكن سرعان ما نهضت إلى الكرسي الهزاز. التقطت كتابا وفجأة ألقيت به ذارعاً ثانية الغرفة جيئةً وذهاباً. وفجأة بدا لي كما لو أني قد نسيت شيئاً ما، حادثاً أو كلمةً مهمة.
حاولت بألم أن أتذكّر هذه الكلمة، بل حتّى تراءى لي أنّ الكلمة تبدأ بحرف ميم. كلا، ليس بحرف الميم، بالأحرى بحرف الراء.
رُشد؟ رفاهيّة؟ رقعة؟ رباط؟ أو مفهوم؟ معاناة؟ مواد؟ (3)
لا، حرف الراء بالتأكيد، إن لم تكن سوى كلمة.
كنت أردد كلمات تبدأ بحرف الراء، وأنا أعدّ القهوة. يا للعدد الهائل من كلمات وجدتها تبدأ بهذا الحرف. ربما كانت توجد بينها الكلمة التي ابحث عنها، إلا أني لم أتعرّف عليها، ظنا منّي أنها كالأخريات. أو ربما أن هذه الكلمة لا توجد قطعا.
(1932-1933)
هوامش:
1- الصديق هو رفيقه الشاعر الكسندر فيدنسكي
2- المدينة هي "كورسك" التي نفي إليها خارمس وفيدنسكي عام 1931
3- الكلمات في النص الروسي الأصلي التي تبدأ بحرف الراء هي: عقل، فرح، إطار، حزام. والحروف التي تبدأ بحرف الميم: فكر، معاناة، مواد.