خورخي لويس بورخيس - أولريكا.. تـ: عبد الحميد الغرباوي

ستكون هذه القصة وفية للحقيقة، و في كل الحالات سأحرص على أن تكون مطابقة لما أتذكره من الحقيقة، و الأمران سيان.
لم يمر على أحداث القصة عهد طويل.. لكني أعلم أن التقليد الأدبي يقتضي إدخال التفاصيل الزمنية و التوكيد على ما يجب توكيده.
أود أن أقدم صورة عن لقائي في مدينة "يورك"، بـ "أولريكا" ( لم يُتَح لي معرفة لقبها، و الواضح أني لن أعرفه أبدا).
ستتألف هذه القصة من ليلة واحدة و صباح واحد فقط.
من السهل القول إني رأيتها للمرة الأولى، في يورك، عند " الأخوات الخمس" ذات النوافذ الملطخة الزجاج، درجة أن لا أحد يرى صورته منعكسة عليه.
في الحقيقة، التقينا في ردهة النزل الشمالي الصغيرة، خارج أسوار المدينة. كنا عدة رجال، فأدارت أولريكا ظهرها لنا، اقترب رجل منها و عرض عليها شرابا، فرفضته.
قالت:" أنا امرأة، و لا أحبذ التشبه بالرجال، أنا أكره تبغهم و كحولهم"
بدا من كلامها أنها تحاول أن تبدو ذكية. و خمنت أنها لم تكن المرة الأولى التي تقول فيها ما قالت، لكني اكتشفت، فيما بعد، أن ذلك ليس إحدى صفاتها الشخصية، فليس كل ما نقوله، يجب أن يعكس صورتنا بالضرورة. قالت إنها وصلت المتحف متأخرة، إلا أنهم سمحوا لها بالدخول، لمّا علموا أنها نرويجية.
علق أحد الحاضرين:
" ليس هذه المرة الأولى الذي يدخل فيها النرويجيون إلى مدينة يورك"
ردت:
" هذا صحيح، فإنكلترا كانت، ذات مرة لنا، و إذا كان لأحد أن يمتلك شيئا و يضيعه، فنحن أضعناها".
و هنا نظرت إليها. ثمة بيت شعري لـ (بليك) يشير فيه إلى فتيات مجبولات من لجين معتدل، أو ذهب غاضب. أولريكا كانت الغضب و الاعتدال معا.
ممشوقة القد طويلة كانت، ملامح حادة و عيون رمادية. أسرني وجهها أكثر من هيئتها الموحية بسر هادئ. كانت تبتسم بسهولة و يسر، و تبدو ابتسامتها كما لو أنها تبعدها عن الآخرين. و كانت ترتدي السواد، لباس غريب على أهل الشمال الذين يحاولون أن يستروا ألوان البيئة الكئيبة بألوان البهجة و الحيوية. و تتحدث بإنجليزية طليقة، محاولة أن تنطق بالراء ناعمة. هذه الملاحظات توصلت إليها عبر مراحل، إذ أني لست ملاحظا جيدا.
تبادلنا مقدمات التعارف. و قلت لها أنني كنت أستاذا في جامعة آندز في بوغوتا، و أنني كولومبي.
و بطريقة فاحصة، سألتني:
" و ما معنى أن تكون كولومبيا؟"
أجبت:
" لست أدري، فالمسألة معقدة"
فأعقبت:
" مثلما تكون نرويجيا"
هذا كل ما أتذكره مما قيل في تلك الليلة.
في اليوم التالي، نزلت مبكرا إلى غرفة الطعام. و من خلال النافذة تبين لي أن الثلج تساقط بغزارة. لم يكن ثمة أحد غيرنا، فدعتني أولريكا إلى مائدتها. و علمت منها أن تحب أن تخرج للنزهة وحيدة؛ فتذكرت واحدة من طرائف شوبنهور، و قلت:
" و أنا أيضا. بإمكاننا أن نخرج سوية".
تركنا النزل، و مشينا فوق الثلوج المتساقطة حديثا. و لم تكن ثمة حركة أو نأمة، فاقترحت عليها أن نذهب إلى "ثورغيت" على بعد بضعة أميال من النهر. كنت أحس بأني بدأت أعشق أولريكا، فوددت أن أكون وحيدا معها.
و فجأة، تناهى إلى سمعي عواء ذئب في البعيد. لم أسمع من قبل ذئبا يعوي، لكني عرفت أنه ذئب. غير أن أولريكا ظلت هادئة. فترة، بعد ذلك، قالت، كما لو أنها تفكر بصوت مسموع:
" لقد أثرت فيّ السيوف القليلة البائسة التي شاهدناها أمس في يورك مينستر، أكثر مما هزتني السفن الهائلة في متحف أوسلو"
في ذلك المساء، كانت قد تقاطعت سبلنا، فأولريكا كانت تريد أن تواصل رحلتها إلى لندن، و أنا كنت أروم أدنبره.
قالت لي:
" سأقتفي أثر خطى " ديك وينسي" في شارع أكسفورد بحثا عن حبيبته (آن) التائهة في زحمة لندن".
أجبت:
" ديك وينسي توقف عن البحث عنها. لكني أنا لن أتوقف عن البحث ما دمت حيا".
قالت أولريكا بصوت خفيت:
" ربما وجدتها"
أدركت أن لا شيء اللحظة يعيق حركاتي ، فقبلتها في الفم و العينين. سحبت نفسها بوقار و بلطف أيضا و قالت:
" سأكون لك في نزل ثورغيت. و حتى ذلك الحين لا تلمسني رجاء، فذلك أفضل"
وافقت. فالحب بالنسبة لأعزب وحيد لسنوات، منة من السماء غير متوقعة، و لها الحق في أن تفرض شروطها. عادت بي الذاكرة إلى شبابي الأول في بوباين و إلى فتاة في تكساس في طول و جمال أولريكا، كانت قد أنكرت حبها لي.
لن أرتكب خطأ إن أنا سألت أولريكا إن كانت تحبني. و أنا أعلم أني لست حبها الأول و لن أكون الأخير. أما بالنسبة لي فهذه المغامرة ستكون الأخيرة، أما بالنسبة لها فهي مغامرة من مغامرات تلميذة إبسن المتألقة و الصارمة العديدة. و سرنا يدا في يد..
قلت:
"أشعر كما لو أني في حلم، أنا الذي لا أحلم أبدا"
ردت:
" مثل ذلك الأمير الذي لم يحلم أبدا، إلى أن نوّمه أحد السحرة في زريبة خنازير.."
و أردفت:
" اسمع ، ثمة طائر سيغني".
لحظات بعد ذلك، سمعنا طائرا يغني.
قلت:
" يعتقد الناس في هذه المنطقة أن من يصبح قادرا على قراءة المستقبل يكون موته وشيكا"
" و أنا على وشك الموت"
نظرت فيها بدهشة و قلت:
" فلنسلك طريقنا وسط الغابة كي نصل ثورغيت سريعا".
قالت:
" الغابة محفوفة بالمخاطر"
فواصلنا طريقنا بمحاذاة المناطق المقفرة.
دمدمت:
« كم أتمنى لو تطول هذه اللحظة إلى الأبد"
قالت:
" إلى الأبد...عبارة محرمة على الإنسان". و لكي تخفف من ثقل اللحظة، طلبت مني أن أسمعها اسمي مرة أخرى، ذلك أنها لم تسمعه، في المرة الأولى جيدا.
أجبت:
" خافير أوتالودا"
حاولت أن تلفظ باسمي، فلم تتمكن، كما لم أتمكن أنا أيضا من لفظ اسم أولريكا.
قالت مبتسمة:
"سأسميك سيغورد"
أجبت:
"إذا كنت أنا سيغورد فأنت برنهيلد"
تثاقلت خطاها.
سألتها هل تعرفين الأسطورة الآيسلاندية؟".
ردت:
" طبعا أعرفها. تلك التي شوهها الألمان بـ (نيبلونغ).
لم أشأ أن أثير المسألة مع أولريكا، فقلت لها:
" برنهيلد، تسيرين كما لو أنك ترغبين في أن يفصل بيننا سيف".
و بغتة، توقفنا أمام نزل. لم أستغرب أن يكون كالأول يدعى النزل الشمالي. من أعلى السلم نادتني أولريكا:
" هل سمعت عواء ذئب؟.لم يعد في انكلترا ذئاب. هيا اصعد بسرعة".
عند صعودي إلى الطابق الأعلى، لاحظت أن الجدران مغطاة بورق أحمر غامق على طريقة وليم موريس، تتخلله فواكه و طيور. دخلت أولريكا إلى الغرفة. الغرفة كانت مظلمة سقفها واطئ، صورة السرير انعكست في مرآة عتيقة فقدت ألقها. و ذكرني الخشب الصقيل بعدسة القراءة و الكتاب المقدس. خلعت أولريكا ما عليها من ثياب. دعتني باسمي الأصلي: خافير. شعرت أن الثلج ينزل بوثيرة أسرع من ذي قبل فاختفت المرايا والأثاث، و لم يعد بيننا سيف. تناثر الزمن كالرمال. و في عتمة عشرات القرون تدفق الحب، و للمرة الأولى و الأخيرة امتلكت صورة أولريكا.
 
أعلى