نقوس المهدي
كاتب
(1)
تخرجين من فَجوات التاريخ ، ملفَّعة بالسُّور العتاق، مضمَّخة بحكايا العشيرة ، مكفَّنة باليماني المقصَّب ، والدمشقيّ الحرير . من ثناياك تفوح توابل الغوايات التي نسجتها الجدّات من أجل أن تطيِّب جسدكِ لليلة افتتاحكِ الجليلة ، على مذبح ذكرٍ يشتري رياضكِ اليانعات بجواهر الصين ، وكنوزكِ الفائرات بألماس المدارات ، ومفاتن جسدكِ برمل الصحارى !
وتخرجين من حُطام تاريخ الذكَرِ المُعفّر بالعار ، المٌثقل بالهزائم ، المُشبّع حتى النخاع بالفساد والانحلال ، والقمع والطغيان ، واستنزاف الأرض والسماء ، واستغلال مزرعة لإتخام البطون .
و تطلعين من معتقل الزمان الذي سجنكِ فيه الذكَرُ قروناً طوالاً ، باسم الآلهة والدينِ حيناً ، وباسم الأنوثة فيكِ حيناً ، وادعاء لشفقة عليك ورعايةِ لكِ حيناً ، و صيانةً لكنوزكِ الثمينة ولشرفه الموشوج بها حيناً .
لكنكِ تخرجين دونما ضغينة ، نقيةً من الحقد ، متحررةً من روح القبيلة التي يغلي في دمها طلب الثأر ، تلوبين من أجل أن تحرّري نفسكِ ، وتُحرري سجّانكِ أيضاً ـ ضحية لتُراث من الاستبداد ، بقدر ما ترين نفسكِ ضحية لهذا التُراث وللرجل الذي قضى الدهور يلعب دور الحارث لميراث هو سجّانكِ وسجّان نفسه فيه .
تخرجين وأنتِ ترين حولكِ أتراباً لكِ يرزَحْنّ في سلاسل الكبت ، يلفَعْنَ الأجساد عُنوة بأقماط مغموسة في مستنقعات التاريخ ، أصواتهن عورة في آذان سجّانيهنّ ، وجدائلهنّ المفتولة شراك غواية تنصبها شياطين الشهوة للذكور الهائجين.
(2)
بلى، من فجوات التاريخ تشرقين، وإليّ تأتين: صبية تخطر كما ناقة بيضاء في صحارى من الشهوة وبوادٍ من الكبت واحتراق العروق في تعاليم صحف الأنبياء .
غير أني الآن أرى لكِ ألقاً لم أعهده فيكِ من قبل، ووهجاً لم يُشرقْ مرّة في فضاء العيون، وعزيمة انخطافٍ إلى مدارات الوعي والحرية والإنجاز لم تَبُحْ مرة بمثلها شفتاكِ. لكأنكِ تأتين إليّ مسربلةً بعُريك، مدثرة بكِ، ولا شيء آخر، في رفّة الأهداب بين أملٍ كان وحلم سيكون. وكذا جديدة تولدين في زمن شدّ ما أجهضتْ فيه الولادات الجديدة .
ذاك أنكِ لم تتلوثي بكل ما غمرتْ به مستنقعاتُ الحياة هياكل الرجال، ولم تبتُرْ أغصان دوحتكِ البكر سيوف الطغيان، ولم تفسد النسغ الذي يغذي أعراقكِ النابضات ـ كما أفسدت نسغهم ـ قرونٌ من التآمر والدسيسة، والنفاق والرياء والتقية والتمويه، والتذلل للسلطان، والخنوع للقهر، والتنمّر على الضعيف والانكسار أمام القوي .
وأراكِ، فيهدهدني وعدٌ، ويمرع في عروقي حلمٌ وتنبضين أنت بالشبق للحياة في كلا الوعد والحلم.
أراك في المصانع والسهول، في مقالع الجبال ومنابت المزارع ، وفي معارك الصراع من أجل مستقبل أكثر بهاء وحرية وكرامة . وأبصركِ في ردهات المصارف ومكاتب التجارة، وفي مدرجات الجامعات وعبر مُختبرات العلم، وفي مشارح المستشفيات ورياض الأطفال، وفي نوادي المترفات وخيام البداة الراحلين إلى مساقط الغيث .
أراكِ تهندسين السدود، وتشقين الطرقات وترسمين السياسات وتغوصين في منابع الفكر وتقوضين التصورات التي ورثناها وتغرفين من خضمّ المعرفة التي تكتظ بها الحواسيب ن وتديرين المتاجر الأنيقة، وتُصمّمين الأزياء الفاتنة، وتشعّين على شاشات التلفاز، وتأتلقين في الصحف والمجلات، وتحنّين على طفلٍ رضيع، وتواسين عجوزاً معدمة، وتميلين شفقة على قامة ذكر حنَتْها السنون، وأثقلتها أعباءُ عمر قضَمَتْه سنواتُ البحث عن لقمة العيش .
وفي كل شيء أراكِ فيه، وفي كل هيئة بها تتجلّين، أعشق في سيمائكِ القدرة على الخلق وحدّة الذكاء، ونقاء السريرة، وصفاء العطاء، وروعة التفاني، والوله بالابتكار، والصبر على المكاره ، والإباء على الضيم، والتضحية بكل نفيس من أجل ما هو حقٌّ وخير وجمال. وأحسُكِ حرّة تجوع ولا تأكل بثدييها من شراسة الضنَك، وفي زحمة الكفاح .
وأزهو بكِ ابنة، وحبيبةً، وأختاً، وأماً، وزوجةً، وعشيقةً، وصديقة ً، وزميلةً، ومنافسةً، وسبّاقةً، وطالبة ومعلمة، ومُلهمةً، وفاتنة مفتونة ، و قائدة داعمة، ورائدة ورفيقة طريق بكر .
(3)
وأراكِ تخلعين عباءة التاريخ المزركشة بذهب الهند، المُثقلة بلآلئ ديمون، والمنقوشة بالفيروز والكهرمان، كما أراك تخلعين الملاءة الموشومة بدم البكارات، وترفضين بيع بهاءكِ لتُجار العذارى، وسماسرة المتعة التي يسمونها " زواجاً " وأشهدكِ تحتفين برغبات جسدكِ وتوقه للحب، وباتلاق شهوتكِ للارتواء، وبنداء أعضائكِ اللاهفة للُجَج جسدٍ مُستفز، وأبارككِ تجمحين في إصراركِ العنيد على أن يكون لكِ كل شيء حق أن تختاري ما تشائين، وحرية أن تجهدي لتنالي ما إليه تصبين .
وأراكِ قامة لا تكبُلها السلاسل التي صنعها الذين ترتعد فرائضهم خوف أن تفتحي عينيكِ على آفاق الحرية، وتندفعي في مسالك المشاركة والريادة، والاكتناه والاكتشاف، والذين يرعبهم أن يكون جسدكِ طليقاً، وعقلكِ وقّاداً، وذكاؤكِ فعّالاً، ويداكِ قادرتين على الهدم كما هما قادرتان على البناء. فيقمّطونكِ بتراث العشيرة، ويقنعونكِ بحُجُب الكتب الصفراء، وآيات الكبح والإقصاء، وترانيم الهياكل الوثنية. وعلى شرفات نهديكِ يعلقون تمائمَ خوفهم على ما يسمونه " الشرف " كأنما جسدُكِ صنمهم المُقدس، وهيكلُ عباداتهم الراعفة .
وتبصركِ مقلتاي، فأبصر ما لا تراه الأحداق؛ ذاك أني لا أراكِ رؤيةَ عينٍ، بل أغور فيكِ إلى ما تستشفه البصائر التي تتقرى الباطن الخفي، المستتر الذي ما يزال في رحم الغيوب .
بلى، أبصركِ في ما لم يكن، موقناً أنه سيكون :
امرأة تنتصب في مسالك الرحيل، مكتظة بشهوة الاكتشاف، ونشوة العبور إلى معارج الصراع، ومفازة البحث عن مفاتن المعرفة. امرأة لا تهاب حميّا العراك، ولا يرف لها جفن في مغاور التيه، حين يفتنها نداء الحقيقة، وتعصف بأعراقها رغبة الولوج إلى مغاور المبهمات، ودهاليز المحرمات. امرأة تحتفي بجسدها ، برغباته وشهواته، وببهائه ومعارجه، و بغياهبه وأسراره، مثلما تحتفي الطبيعة كل يوم بولادة فجرٍ جديد / وشفقٍ خضيل .
ثم أراكِ في ما تجئ به السنون، نافرةَ الصدرِ، مزهوَ الجيد، عالية الرأس، سامقة الجبين، والنسيم يعابث شعركِ الفائر، طليقةً في رياح المسافات، تخلعين عنكِ ربقةَ الوصاية ونيرَ الحماية، بأيَ اسم نقشهما لكِ الرجال في تاريخ الاستعباد الذي من أجلك ابتنوه و صاغوه. وكذا تمضينَ وحدَكِ في ما أراكِ عليه من نشوة الانفلات نحو كرامة العيش، لا وصي عليكِ ولا قَوّام ـ سوى ما تقيمينه أنتِ لنفسكِ من حدود، وما تُجلِّينه من قيم و مفاهيم، وما يزدهر في حدائق مشاعركِ النقية من أوراد ـ ولا حامل سياط يهُش بها عليكِ في المخادع، أو يفرقعها إرهاباً، لكي يُنيخَكِ فريسةً لسطوته المتلذذة بانصياعَكِ لوحش رغباته الأثيمة .
بلى، أراكِ في ما لا يُرى رؤية العين، بل تدركه البصيرة التي تتمتع بنعمة النفاذ إلى أغوار الأعماق، وملَكة التشوّف والاستشفاف، تنتصبين بين أسراب من صبايا يُهَمهمن أناشيدَ لعالم سيكون: عالم يكتظ بقامات ترهج في صفوفها سناء محيدلي، ترهف العين لتستحضر صورة الدمار الجميل قبل أن يكون، وتبصر راية الحرية تخفق مركوزة في أضلاعها الفتيّة وَ توشوش الموت بنعومة عاشقة ٍ رأت حبيبها فجأة يتعرى على شاطئ النهر، فغمغمت على صدره بلغة العشق وشجن الوداع .
وتضيء بينها نوّار، الصبية التي دثرت جسدها ببرودة البقاء، حين راودتْ مناضلاً عن عباءته البيضاء التي رفرفت آية انتصار على قمم الجنوب .
و تغني في كتابها الصاعدات أم بيسارها تهزّ السرير لطفل وليد ، وبيمينها ترسم الخطط التي تضيء الطريق لمئات العاملين في شركة استثمار تشيّد مستقبلاً للوطن .
(4)
وكذا أراكِ: تولدين من توق أرضٍ إلى العطاء، وحنين تربةٍ لمطر الربيع، ولهفة غِراس لآلهة الخصب. و تولدين من لهفتي لأن أكون، فتكونين كلما اشتعلت نفسي لهفةً إليه .
لكن ما من ضلوعي تخرجين، ولا من خيال ذكر تتشكلين، بل تكونين من طينة البدء، ومن رحم الأرض، وتنبثقين بفعل شهوة ذاتكِ للوجود، فتكونين لي رفيقةً على دروب البقاء، إلى جانبكِ أمشي، وعلى إيقاع خطواتكِ الواثقة أخطو، وبألق الخلق في عينيك النبيتين أهتدي .
وأراكِ حفيدةً فاتنة لشهرزاد، غير أنكِ لا تغاوين شهريار بألعوبة الكلام ، وأحابيل الحكايات المتعثولة كشرانق الموت، بل تجبهين إرادة الطاغية بِألمعية الرؤية، وصلابة الشجاعة، وتقلِّمين براثنه بحدّة الفهم، ورهافة الذكاء، وصلابة اليقين، وفيض المعرفة، وروعة التقدير، ودقّة التحليل، وسلاسة الكلمات، فتكونين في كل شيء كما نصلِ سيفٍ صقلته أنامل الله ليكون صارماً يبتر الطغيان، ويجُبُّ رأس الأفعوانِ الذي يُكبّل بكلاكله حُريّة الإنسان ، ويلتف خانقاً و مستنزفاً ، على صدور الأوطان .
(5)
وكذا أراكِ في ما يأتي، لا في ما هو كائن الآن، ولا في ما كان، فأهلل لكِ أيّما تهليل .
وفي احتفائي بتفتُّح براعمَكِ الواعدة ، و إطلالة فجركِ الوليد ، أعمّدَكِ بماء الحبّ ، و أسربل جسدك الفارع بغلالة الجلال ، و يمجدكِ الآتي أحتفي بغبطة رفيقٍ ، معكِ يحرث ويغرس ، و يروي ويربّي لتكون دوحةُ الحياة في مُقبل أيامكما أكثر اخضلالاً ، وأسمى قامةً ، وأوفر ظلالاً ، وأحلى ثماراً ، وأنبلُ رؤى و تطلعات ، وأشدّ عزيمة و صبراً على النائبات .
و تأخذ بي شهوة لأن أسمِّيكِ ، فأهبَ لمجدكِ الأسماء حُسنى ، ولبهائكِ أنحني ، وأستجيركِ أنْ : خذي بيدي ، و كوني منارة لهذا الظلام الذي أسدلته زنود الرجال على شغاف القلوب ، و نوافذ الأحداق .
وفي بهجة العماد ، قد أسميكِ وقد لا ، وقد يكون ما به أسميكِ ضلالاً أو لا يكون ، وسواء أعرفتِ أنت اسمكِ أو لم تعرفيه ، وسواء أأدرككِ الآخرون أو لم ، فإنكِ ستكونين ما حلُمْتُ لكِ أن تكونيه :
صافيةً تترقرقين كما نبع في الجبال ، خارجاً من نقاء الصخور البيض ، ومن ثلوج شتاءٍ أنيق.
نقيةً لأنكِ لم تتلوّثي بجرائر الاستعمار وعقلية المستعمرين ، فلقد حمَتكِ من شواظ سعيرها عزلتُكِ وراء جدران القمع ، فظللتِ ينبوعاً للأصيل الأصيل ، تصونين روح الحياة ، و كنوز الثقافة ، مكنونة في غياهب ذاتك ، طاقةً رائعة لاستعادة غبطة الوجود ، و حيوية التغيير ، وجماليات الإبداع ، وبشائر الخلاص .
و نوراً جديداً تكونين ، وسفراً بكراً إلى ما لم تره من قبلُ عينٌ ، ولم تشنَّفْ بطلاوة أحرفه أذن ، ولم تطأ ثراه قدمان ، أفلم تكوني أنتِ أصلاً أولَ الفعل ، ورائدة الرحيل ، والرحِم الأولى للخلق والإبداع ، حين فتحتِ عينيه على مفاتن جسدَكِ البدائي متقنّعاً بشجرة المعرفة ؟
بلى ، لقد كنتِ ،
أيتها التي لا تستنفد بحارَ روعتها محيطاتُ الكلام ،
ولا ينضب فيضُ عطائها أني عصفت بها الأنواء .
يا التي قد يكون اسمها بثينة شعبان ،
وقد يكون اسمها دلال السليمان ،
وقد يكون اسمها غيداء عبد اللطيف ،
وقد يكون اسمها سحر خليفة ،
وقد يكون اسمها لُبنى عبد الله
وقد يكون اسمها هدى وصفي ،
وقد يكون اسمها ريما خلف ،
وقد يكون اسمها خالدة سعيد ،
وقد يصير اسمها ، في لحظة انخطاف ٍ و سحر ، أمية ورهام و حنان ، أو ليلى ونُعْم و عزّة ، أو أسماء و رابعة ، أو زينب و بلقيس .
وقد يكون اسمها ما يزال جمرة في رحم الغيب .
وقد لا أسميها باسم ، ولا أسمِها بوسْمٍ ، لتظلَّ أكبر من الأسماء كلها ،
جميلةً لا تُحيط بها الكلمات ،
نبيلةً لا تستنفد رحابة فضاءاتها الحدود .
وأيَّا كان اسمها فإنها امرأتي الجديدة .
قد تكون امرأة جديدة .
وقد تكون امرأة وحسب .
امرأة لا تليق بأوصافها التسميات .
صافيتا و دمشق
تموز ـ آب 2008 م
تخرجين من فَجوات التاريخ ، ملفَّعة بالسُّور العتاق، مضمَّخة بحكايا العشيرة ، مكفَّنة باليماني المقصَّب ، والدمشقيّ الحرير . من ثناياك تفوح توابل الغوايات التي نسجتها الجدّات من أجل أن تطيِّب جسدكِ لليلة افتتاحكِ الجليلة ، على مذبح ذكرٍ يشتري رياضكِ اليانعات بجواهر الصين ، وكنوزكِ الفائرات بألماس المدارات ، ومفاتن جسدكِ برمل الصحارى !
وتخرجين من حُطام تاريخ الذكَرِ المُعفّر بالعار ، المٌثقل بالهزائم ، المُشبّع حتى النخاع بالفساد والانحلال ، والقمع والطغيان ، واستنزاف الأرض والسماء ، واستغلال مزرعة لإتخام البطون .
و تطلعين من معتقل الزمان الذي سجنكِ فيه الذكَرُ قروناً طوالاً ، باسم الآلهة والدينِ حيناً ، وباسم الأنوثة فيكِ حيناً ، وادعاء لشفقة عليك ورعايةِ لكِ حيناً ، و صيانةً لكنوزكِ الثمينة ولشرفه الموشوج بها حيناً .
لكنكِ تخرجين دونما ضغينة ، نقيةً من الحقد ، متحررةً من روح القبيلة التي يغلي في دمها طلب الثأر ، تلوبين من أجل أن تحرّري نفسكِ ، وتُحرري سجّانكِ أيضاً ـ ضحية لتُراث من الاستبداد ، بقدر ما ترين نفسكِ ضحية لهذا التُراث وللرجل الذي قضى الدهور يلعب دور الحارث لميراث هو سجّانكِ وسجّان نفسه فيه .
تخرجين وأنتِ ترين حولكِ أتراباً لكِ يرزَحْنّ في سلاسل الكبت ، يلفَعْنَ الأجساد عُنوة بأقماط مغموسة في مستنقعات التاريخ ، أصواتهن عورة في آذان سجّانيهنّ ، وجدائلهنّ المفتولة شراك غواية تنصبها شياطين الشهوة للذكور الهائجين.
(2)
بلى، من فجوات التاريخ تشرقين، وإليّ تأتين: صبية تخطر كما ناقة بيضاء في صحارى من الشهوة وبوادٍ من الكبت واحتراق العروق في تعاليم صحف الأنبياء .
غير أني الآن أرى لكِ ألقاً لم أعهده فيكِ من قبل، ووهجاً لم يُشرقْ مرّة في فضاء العيون، وعزيمة انخطافٍ إلى مدارات الوعي والحرية والإنجاز لم تَبُحْ مرة بمثلها شفتاكِ. لكأنكِ تأتين إليّ مسربلةً بعُريك، مدثرة بكِ، ولا شيء آخر، في رفّة الأهداب بين أملٍ كان وحلم سيكون. وكذا جديدة تولدين في زمن شدّ ما أجهضتْ فيه الولادات الجديدة .
ذاك أنكِ لم تتلوثي بكل ما غمرتْ به مستنقعاتُ الحياة هياكل الرجال، ولم تبتُرْ أغصان دوحتكِ البكر سيوف الطغيان، ولم تفسد النسغ الذي يغذي أعراقكِ النابضات ـ كما أفسدت نسغهم ـ قرونٌ من التآمر والدسيسة، والنفاق والرياء والتقية والتمويه، والتذلل للسلطان، والخنوع للقهر، والتنمّر على الضعيف والانكسار أمام القوي .
وأراكِ، فيهدهدني وعدٌ، ويمرع في عروقي حلمٌ وتنبضين أنت بالشبق للحياة في كلا الوعد والحلم.
أراك في المصانع والسهول، في مقالع الجبال ومنابت المزارع ، وفي معارك الصراع من أجل مستقبل أكثر بهاء وحرية وكرامة . وأبصركِ في ردهات المصارف ومكاتب التجارة، وفي مدرجات الجامعات وعبر مُختبرات العلم، وفي مشارح المستشفيات ورياض الأطفال، وفي نوادي المترفات وخيام البداة الراحلين إلى مساقط الغيث .
أراكِ تهندسين السدود، وتشقين الطرقات وترسمين السياسات وتغوصين في منابع الفكر وتقوضين التصورات التي ورثناها وتغرفين من خضمّ المعرفة التي تكتظ بها الحواسيب ن وتديرين المتاجر الأنيقة، وتُصمّمين الأزياء الفاتنة، وتشعّين على شاشات التلفاز، وتأتلقين في الصحف والمجلات، وتحنّين على طفلٍ رضيع، وتواسين عجوزاً معدمة، وتميلين شفقة على قامة ذكر حنَتْها السنون، وأثقلتها أعباءُ عمر قضَمَتْه سنواتُ البحث عن لقمة العيش .
وفي كل شيء أراكِ فيه، وفي كل هيئة بها تتجلّين، أعشق في سيمائكِ القدرة على الخلق وحدّة الذكاء، ونقاء السريرة، وصفاء العطاء، وروعة التفاني، والوله بالابتكار، والصبر على المكاره ، والإباء على الضيم، والتضحية بكل نفيس من أجل ما هو حقٌّ وخير وجمال. وأحسُكِ حرّة تجوع ولا تأكل بثدييها من شراسة الضنَك، وفي زحمة الكفاح .
وأزهو بكِ ابنة، وحبيبةً، وأختاً، وأماً، وزوجةً، وعشيقةً، وصديقة ً، وزميلةً، ومنافسةً، وسبّاقةً، وطالبة ومعلمة، ومُلهمةً، وفاتنة مفتونة ، و قائدة داعمة، ورائدة ورفيقة طريق بكر .
(3)
وأراكِ تخلعين عباءة التاريخ المزركشة بذهب الهند، المُثقلة بلآلئ ديمون، والمنقوشة بالفيروز والكهرمان، كما أراك تخلعين الملاءة الموشومة بدم البكارات، وترفضين بيع بهاءكِ لتُجار العذارى، وسماسرة المتعة التي يسمونها " زواجاً " وأشهدكِ تحتفين برغبات جسدكِ وتوقه للحب، وباتلاق شهوتكِ للارتواء، وبنداء أعضائكِ اللاهفة للُجَج جسدٍ مُستفز، وأبارككِ تجمحين في إصراركِ العنيد على أن يكون لكِ كل شيء حق أن تختاري ما تشائين، وحرية أن تجهدي لتنالي ما إليه تصبين .
وأراكِ قامة لا تكبُلها السلاسل التي صنعها الذين ترتعد فرائضهم خوف أن تفتحي عينيكِ على آفاق الحرية، وتندفعي في مسالك المشاركة والريادة، والاكتناه والاكتشاف، والذين يرعبهم أن يكون جسدكِ طليقاً، وعقلكِ وقّاداً، وذكاؤكِ فعّالاً، ويداكِ قادرتين على الهدم كما هما قادرتان على البناء. فيقمّطونكِ بتراث العشيرة، ويقنعونكِ بحُجُب الكتب الصفراء، وآيات الكبح والإقصاء، وترانيم الهياكل الوثنية. وعلى شرفات نهديكِ يعلقون تمائمَ خوفهم على ما يسمونه " الشرف " كأنما جسدُكِ صنمهم المُقدس، وهيكلُ عباداتهم الراعفة .
وتبصركِ مقلتاي، فأبصر ما لا تراه الأحداق؛ ذاك أني لا أراكِ رؤيةَ عينٍ، بل أغور فيكِ إلى ما تستشفه البصائر التي تتقرى الباطن الخفي، المستتر الذي ما يزال في رحم الغيوب .
بلى، أبصركِ في ما لم يكن، موقناً أنه سيكون :
امرأة تنتصب في مسالك الرحيل، مكتظة بشهوة الاكتشاف، ونشوة العبور إلى معارج الصراع، ومفازة البحث عن مفاتن المعرفة. امرأة لا تهاب حميّا العراك، ولا يرف لها جفن في مغاور التيه، حين يفتنها نداء الحقيقة، وتعصف بأعراقها رغبة الولوج إلى مغاور المبهمات، ودهاليز المحرمات. امرأة تحتفي بجسدها ، برغباته وشهواته، وببهائه ومعارجه، و بغياهبه وأسراره، مثلما تحتفي الطبيعة كل يوم بولادة فجرٍ جديد / وشفقٍ خضيل .
ثم أراكِ في ما تجئ به السنون، نافرةَ الصدرِ، مزهوَ الجيد، عالية الرأس، سامقة الجبين، والنسيم يعابث شعركِ الفائر، طليقةً في رياح المسافات، تخلعين عنكِ ربقةَ الوصاية ونيرَ الحماية، بأيَ اسم نقشهما لكِ الرجال في تاريخ الاستعباد الذي من أجلك ابتنوه و صاغوه. وكذا تمضينَ وحدَكِ في ما أراكِ عليه من نشوة الانفلات نحو كرامة العيش، لا وصي عليكِ ولا قَوّام ـ سوى ما تقيمينه أنتِ لنفسكِ من حدود، وما تُجلِّينه من قيم و مفاهيم، وما يزدهر في حدائق مشاعركِ النقية من أوراد ـ ولا حامل سياط يهُش بها عليكِ في المخادع، أو يفرقعها إرهاباً، لكي يُنيخَكِ فريسةً لسطوته المتلذذة بانصياعَكِ لوحش رغباته الأثيمة .
بلى، أراكِ في ما لا يُرى رؤية العين، بل تدركه البصيرة التي تتمتع بنعمة النفاذ إلى أغوار الأعماق، وملَكة التشوّف والاستشفاف، تنتصبين بين أسراب من صبايا يُهَمهمن أناشيدَ لعالم سيكون: عالم يكتظ بقامات ترهج في صفوفها سناء محيدلي، ترهف العين لتستحضر صورة الدمار الجميل قبل أن يكون، وتبصر راية الحرية تخفق مركوزة في أضلاعها الفتيّة وَ توشوش الموت بنعومة عاشقة ٍ رأت حبيبها فجأة يتعرى على شاطئ النهر، فغمغمت على صدره بلغة العشق وشجن الوداع .
وتضيء بينها نوّار، الصبية التي دثرت جسدها ببرودة البقاء، حين راودتْ مناضلاً عن عباءته البيضاء التي رفرفت آية انتصار على قمم الجنوب .
و تغني في كتابها الصاعدات أم بيسارها تهزّ السرير لطفل وليد ، وبيمينها ترسم الخطط التي تضيء الطريق لمئات العاملين في شركة استثمار تشيّد مستقبلاً للوطن .
(4)
وكذا أراكِ: تولدين من توق أرضٍ إلى العطاء، وحنين تربةٍ لمطر الربيع، ولهفة غِراس لآلهة الخصب. و تولدين من لهفتي لأن أكون، فتكونين كلما اشتعلت نفسي لهفةً إليه .
لكن ما من ضلوعي تخرجين، ولا من خيال ذكر تتشكلين، بل تكونين من طينة البدء، ومن رحم الأرض، وتنبثقين بفعل شهوة ذاتكِ للوجود، فتكونين لي رفيقةً على دروب البقاء، إلى جانبكِ أمشي، وعلى إيقاع خطواتكِ الواثقة أخطو، وبألق الخلق في عينيك النبيتين أهتدي .
وأراكِ حفيدةً فاتنة لشهرزاد، غير أنكِ لا تغاوين شهريار بألعوبة الكلام ، وأحابيل الحكايات المتعثولة كشرانق الموت، بل تجبهين إرادة الطاغية بِألمعية الرؤية، وصلابة الشجاعة، وتقلِّمين براثنه بحدّة الفهم، ورهافة الذكاء، وصلابة اليقين، وفيض المعرفة، وروعة التقدير، ودقّة التحليل، وسلاسة الكلمات، فتكونين في كل شيء كما نصلِ سيفٍ صقلته أنامل الله ليكون صارماً يبتر الطغيان، ويجُبُّ رأس الأفعوانِ الذي يُكبّل بكلاكله حُريّة الإنسان ، ويلتف خانقاً و مستنزفاً ، على صدور الأوطان .
(5)
وكذا أراكِ في ما يأتي، لا في ما هو كائن الآن، ولا في ما كان، فأهلل لكِ أيّما تهليل .
وفي احتفائي بتفتُّح براعمَكِ الواعدة ، و إطلالة فجركِ الوليد ، أعمّدَكِ بماء الحبّ ، و أسربل جسدك الفارع بغلالة الجلال ، و يمجدكِ الآتي أحتفي بغبطة رفيقٍ ، معكِ يحرث ويغرس ، و يروي ويربّي لتكون دوحةُ الحياة في مُقبل أيامكما أكثر اخضلالاً ، وأسمى قامةً ، وأوفر ظلالاً ، وأحلى ثماراً ، وأنبلُ رؤى و تطلعات ، وأشدّ عزيمة و صبراً على النائبات .
و تأخذ بي شهوة لأن أسمِّيكِ ، فأهبَ لمجدكِ الأسماء حُسنى ، ولبهائكِ أنحني ، وأستجيركِ أنْ : خذي بيدي ، و كوني منارة لهذا الظلام الذي أسدلته زنود الرجال على شغاف القلوب ، و نوافذ الأحداق .
وفي بهجة العماد ، قد أسميكِ وقد لا ، وقد يكون ما به أسميكِ ضلالاً أو لا يكون ، وسواء أعرفتِ أنت اسمكِ أو لم تعرفيه ، وسواء أأدرككِ الآخرون أو لم ، فإنكِ ستكونين ما حلُمْتُ لكِ أن تكونيه :
صافيةً تترقرقين كما نبع في الجبال ، خارجاً من نقاء الصخور البيض ، ومن ثلوج شتاءٍ أنيق.
نقيةً لأنكِ لم تتلوّثي بجرائر الاستعمار وعقلية المستعمرين ، فلقد حمَتكِ من شواظ سعيرها عزلتُكِ وراء جدران القمع ، فظللتِ ينبوعاً للأصيل الأصيل ، تصونين روح الحياة ، و كنوز الثقافة ، مكنونة في غياهب ذاتك ، طاقةً رائعة لاستعادة غبطة الوجود ، و حيوية التغيير ، وجماليات الإبداع ، وبشائر الخلاص .
و نوراً جديداً تكونين ، وسفراً بكراً إلى ما لم تره من قبلُ عينٌ ، ولم تشنَّفْ بطلاوة أحرفه أذن ، ولم تطأ ثراه قدمان ، أفلم تكوني أنتِ أصلاً أولَ الفعل ، ورائدة الرحيل ، والرحِم الأولى للخلق والإبداع ، حين فتحتِ عينيه على مفاتن جسدَكِ البدائي متقنّعاً بشجرة المعرفة ؟
بلى ، لقد كنتِ ،
أيتها التي لا تستنفد بحارَ روعتها محيطاتُ الكلام ،
ولا ينضب فيضُ عطائها أني عصفت بها الأنواء .
يا التي قد يكون اسمها بثينة شعبان ،
وقد يكون اسمها دلال السليمان ،
وقد يكون اسمها غيداء عبد اللطيف ،
وقد يكون اسمها سحر خليفة ،
وقد يكون اسمها لُبنى عبد الله
وقد يكون اسمها هدى وصفي ،
وقد يكون اسمها ريما خلف ،
وقد يكون اسمها خالدة سعيد ،
وقد يصير اسمها ، في لحظة انخطاف ٍ و سحر ، أمية ورهام و حنان ، أو ليلى ونُعْم و عزّة ، أو أسماء و رابعة ، أو زينب و بلقيس .
وقد يكون اسمها ما يزال جمرة في رحم الغيب .
وقد لا أسميها باسم ، ولا أسمِها بوسْمٍ ، لتظلَّ أكبر من الأسماء كلها ،
جميلةً لا تُحيط بها الكلمات ،
نبيلةً لا تستنفد رحابة فضاءاتها الحدود .
وأيَّا كان اسمها فإنها امرأتي الجديدة .
قد تكون امرأة جديدة .
وقد تكون امرأة وحسب .
امرأة لا تليق بأوصافها التسميات .
صافيتا و دمشق
تموز ـ آب 2008 م