نقوس المهدي
كاتب
أميّز بين نوعين من علاقات الصداقة الأدبية: شخصية عاطفية، وصداقة جيليّة عابرة للأجناس والأزمان. والنوع الأول مما يمسه الذبول والنسيان، والوهم والادعاء، كصداقة ميّ وجبران، وغسان كنفاني وغادة السمان، وخليل حاوي وديزي الأمير. أما النوع الثاني فلا ينتهي أثره إلا بتدهور الأخلاق والقيم، وتبدل وسائط العلاقة، كصداقة الجيل المهجري الأول وصداقة الجماعات الفنية وصداقة الجيل الأدبي في ستينيات القرن المنصرم، وصداقات عالمية كصداقة غوركي مع تشيخوف وهنري ميلر وأناييس نن وجون كوتزي مع بول أوستر.
وقد لا نعبأ هنا بصداقة الأخويات السياسية، فهي من نوع الصداقات التي تقوم على انفصام العاطفة عن الأخلاق، وتقديم الصراع على الحب. أفهم كيف تدوم علاقة قائمة على الفهم المشترك لقيمة العمل ونعمة العقل وخفة الروح، كعلاقة جبران بميخائيل نعيمة ومحمود درويش بسميح القاسم وعبد الملك نوري بفؤاد التكرلي، ولا أفهم كيف لا تنهار علاقة تحكمها كبرياء الطبقة وشهوة السلطة والمال، كالعلاقة التي تربط رؤساء الدول فيما بينهم، وبعضهم يدعي الأدب وصداقة الأدباء، ومثلها صداقة الناشرين للأدباء ممن ينشرون كتبهم.
لم أستمتع في حياتي بصداقة كتلك التي وصلتني بنفوس لم ألتقها إلا مرات قليلة، وقد استهوتني أحاديثها التي خلفتها لقاءاتها النادرة. وما زالت في ذاكرتي عبارة كتبها يوسف الصائغ عن لقاء صحفي له بديزي الأمير، وقد خلفت هذه الأديبة بعد مغادرتها مكان اللقاء "رائحة الطلع". وما يزيد المتعة ويؤجج الرائحة أن يتخلف مثل ذلك الانطباع، في غياب الاثنين، عند من استتبع آثار الفرار والهجرة وراءهما. كيف لي ألا أقيم صداقتي على آثار تلك الرائحة، وألا تلفني الكآبة لفقدان تلك الآثار؟
أزعم مع نفسي أنّ "الغياب" الذي تملؤه "رائحة" ما، رائحة الصورة أو النص المقروء لرجل أو امرأة، التقيتهما يوماً، ثم فقدت أثريهما، هو رابط عاطفي وعقلي، يصلني بأقوى دلالات الصداقة المفقودة، بسبب تدهور الأخلاق وتدني القيم وانقطاع الروائح، في عصر الميديا الحديثة. غالباً ما أقيم صلة أدبية بأصدقاء متفرقين حول العالم، لكني أفتقد دوماً انطباعاً قوياً يتبقى بعد انقطاع الرسالة المنقولة عبر الشبكة التواصلية. وهناك من يقتنع بهذا القدر التواصلي الذي يقطع الأوصال قبل أن يزيف الرسائل ببرودته وحياده. وقد ينبع هذا الشعور البارد من الصلات الجسدية التي تجمع أدباء القرن الحالي في بقعة جغرافية واحدة، حيث يزيد الانعزال وسوء الفهم والغرور من هوة الصداقة في ظل وجود "الغول الخفي" الذي يترصد الأخلاء ويفرق شملهم.
عندما نتأمل المصير الكئيب لصداقة الجيل الأدبي، وقد خرقتها الأقدار الحتمية، أكثر من ذي قبل، لا يعود لنا أن نعجب من غلبة الكآبة على المتعة ذات الرائحة الحميمة، والاتصال الافتراضي على التلازم الحقيقي؛ وإنه لقدر لا مرد له أن يصنع لنا "الغياب" حضورا خاليا من الروائح والأحاديث الحية، شبكة من الافتراضات البديلة عن صداقة الجيل، فنقبل متلهفين على نوع من التواصل الإلكتروني مع أصدقاء افتراضيين، نعوض به عن رائحة رسالة ورقية تجعدت في حافظة الرسائل المهملة في زوايا أيامنا. أما أولئك المزدرين بهذا النوع المصطنع من الصداقات، القانعين بكآبتهم المزمنة، فحسبهم انتظار رسالة ينقلها إليهم البريد القديم من حبيب قديم أو صديق غير مقيم تصلهم بعد ضياع، مملوءة بما يعتبرونه أختاما دالة على نوع أصيل من الصداقات الأدبية.
لا أعرف إن بقي أصدقاء شفافون كثيرون في عصرنا الحاضر، لكن كتابا اقتنيته أخيرا بعنوان (هنا والآن) يحوي الرسائل المتبادلة بين أديبين مرموقين هما جون كوتزي (حائز نوبل) وبول أوستر (مرشح نوبل) يعيد للأذهان الدلالة الضائعة على رابطة حميمة تقويها رسالة منقولة بالبريد التقليدي. تُفتتح رسائل الكتاب (ترجمة أحمد شافعي) بمناقشة نوع الصداقة القائم على الاعجاب الجسدي والانجذاب المثالي بين أصدقاء الأدب والسياسة، فضلا عن رأي الصديقين في علاقة الصداقة بين رجل وامرأة.
كتب كوتزي في الرسالة الأولى بتاريخ 14 يوليو 2008: "لو صح بالفعل أنه من الصعب قول أي شيء مثير للاهتمام في الصداقة، فبالإمكان المضي إلى نظرة أبعد فنقول: إن باطن الصداقة يتفق وظاهرها _ خلافا للجنس والسياسة اللذين لا يتفق باطنهما مطلقا مع ظاهرهما _ أي إن الصداقة شفافة".
ورد أوستر على كوتزي مطمنا إياه: "هل يمكن ان تقوم صداقات بين الرجال والنساء؟ أعتقد أنه ممكن. ما لم يكن ثمة انجذاب جسدي. ولا يكاد الجنس يدخل المعادلة، حتى يتوقف قبول الرهانات".
(جريدة الصباح)
28/5/2017
وقد لا نعبأ هنا بصداقة الأخويات السياسية، فهي من نوع الصداقات التي تقوم على انفصام العاطفة عن الأخلاق، وتقديم الصراع على الحب. أفهم كيف تدوم علاقة قائمة على الفهم المشترك لقيمة العمل ونعمة العقل وخفة الروح، كعلاقة جبران بميخائيل نعيمة ومحمود درويش بسميح القاسم وعبد الملك نوري بفؤاد التكرلي، ولا أفهم كيف لا تنهار علاقة تحكمها كبرياء الطبقة وشهوة السلطة والمال، كالعلاقة التي تربط رؤساء الدول فيما بينهم، وبعضهم يدعي الأدب وصداقة الأدباء، ومثلها صداقة الناشرين للأدباء ممن ينشرون كتبهم.
لم أستمتع في حياتي بصداقة كتلك التي وصلتني بنفوس لم ألتقها إلا مرات قليلة، وقد استهوتني أحاديثها التي خلفتها لقاءاتها النادرة. وما زالت في ذاكرتي عبارة كتبها يوسف الصائغ عن لقاء صحفي له بديزي الأمير، وقد خلفت هذه الأديبة بعد مغادرتها مكان اللقاء "رائحة الطلع". وما يزيد المتعة ويؤجج الرائحة أن يتخلف مثل ذلك الانطباع، في غياب الاثنين، عند من استتبع آثار الفرار والهجرة وراءهما. كيف لي ألا أقيم صداقتي على آثار تلك الرائحة، وألا تلفني الكآبة لفقدان تلك الآثار؟
أزعم مع نفسي أنّ "الغياب" الذي تملؤه "رائحة" ما، رائحة الصورة أو النص المقروء لرجل أو امرأة، التقيتهما يوماً، ثم فقدت أثريهما، هو رابط عاطفي وعقلي، يصلني بأقوى دلالات الصداقة المفقودة، بسبب تدهور الأخلاق وتدني القيم وانقطاع الروائح، في عصر الميديا الحديثة. غالباً ما أقيم صلة أدبية بأصدقاء متفرقين حول العالم، لكني أفتقد دوماً انطباعاً قوياً يتبقى بعد انقطاع الرسالة المنقولة عبر الشبكة التواصلية. وهناك من يقتنع بهذا القدر التواصلي الذي يقطع الأوصال قبل أن يزيف الرسائل ببرودته وحياده. وقد ينبع هذا الشعور البارد من الصلات الجسدية التي تجمع أدباء القرن الحالي في بقعة جغرافية واحدة، حيث يزيد الانعزال وسوء الفهم والغرور من هوة الصداقة في ظل وجود "الغول الخفي" الذي يترصد الأخلاء ويفرق شملهم.
عندما نتأمل المصير الكئيب لصداقة الجيل الأدبي، وقد خرقتها الأقدار الحتمية، أكثر من ذي قبل، لا يعود لنا أن نعجب من غلبة الكآبة على المتعة ذات الرائحة الحميمة، والاتصال الافتراضي على التلازم الحقيقي؛ وإنه لقدر لا مرد له أن يصنع لنا "الغياب" حضورا خاليا من الروائح والأحاديث الحية، شبكة من الافتراضات البديلة عن صداقة الجيل، فنقبل متلهفين على نوع من التواصل الإلكتروني مع أصدقاء افتراضيين، نعوض به عن رائحة رسالة ورقية تجعدت في حافظة الرسائل المهملة في زوايا أيامنا. أما أولئك المزدرين بهذا النوع المصطنع من الصداقات، القانعين بكآبتهم المزمنة، فحسبهم انتظار رسالة ينقلها إليهم البريد القديم من حبيب قديم أو صديق غير مقيم تصلهم بعد ضياع، مملوءة بما يعتبرونه أختاما دالة على نوع أصيل من الصداقات الأدبية.
لا أعرف إن بقي أصدقاء شفافون كثيرون في عصرنا الحاضر، لكن كتابا اقتنيته أخيرا بعنوان (هنا والآن) يحوي الرسائل المتبادلة بين أديبين مرموقين هما جون كوتزي (حائز نوبل) وبول أوستر (مرشح نوبل) يعيد للأذهان الدلالة الضائعة على رابطة حميمة تقويها رسالة منقولة بالبريد التقليدي. تُفتتح رسائل الكتاب (ترجمة أحمد شافعي) بمناقشة نوع الصداقة القائم على الاعجاب الجسدي والانجذاب المثالي بين أصدقاء الأدب والسياسة، فضلا عن رأي الصديقين في علاقة الصداقة بين رجل وامرأة.
كتب كوتزي في الرسالة الأولى بتاريخ 14 يوليو 2008: "لو صح بالفعل أنه من الصعب قول أي شيء مثير للاهتمام في الصداقة، فبالإمكان المضي إلى نظرة أبعد فنقول: إن باطن الصداقة يتفق وظاهرها _ خلافا للجنس والسياسة اللذين لا يتفق باطنهما مطلقا مع ظاهرهما _ أي إن الصداقة شفافة".
ورد أوستر على كوتزي مطمنا إياه: "هل يمكن ان تقوم صداقات بين الرجال والنساء؟ أعتقد أنه ممكن. ما لم يكن ثمة انجذاب جسدي. ولا يكاد الجنس يدخل المعادلة، حتى يتوقف قبول الرهانات".
(جريدة الصباح)
28/5/2017