نقوس المهدي
كاتب
إن محاولة القراءة الجديدة للكتاب العجائبي " ألف ليلة وليلة " لا بد أن تتوقف عند المقدمة كمدخل ضروري , ولا بد منه , لفهم ما يحدث من قصص وأسبابها , حيث تعد المقدمة حكاية خاصة ومهمة تحتوي مجموعة من التفرعات والشخوص إلى أن يتم زواج شهريار من شهرزاد .
فإنه وفي الزمان القديم – دون تحديد – حكم الأَخوان بالعدل لمدة عشرين عاما ( شهريار في بلاد ساسان ) و( شاه زمان في سمرقند العجم ) ويستمر هذا العدل إلى أن يتم الكشف عن الخيانة وما تسببه من قلق واضطراب نتيجة تهور المرأة – الزوجة , واحتدام شهواتها .
فبعد عودة الملكان – ورؤية الخيانة التي حصلت للعفريت من الصبية المخطوفة ليلة زفافها , وقد وضعها العفريت في علبة داخل صندوق له سبعة أقفال ورماها في قاع البحر .. ومع هذا فقد خانته (575 مرة) إضافة إلى شاه زمان وشهريار .. ثم عودة شهريار إلى بلاده ووطئه لصبية بكر وقتلها , وهكذا وبشكل يومي ولمدة ثلاث سنوات , إلى أن هربت العائلات ببناتها ولم يلق الوزير ذات يوم بنتا جديدة وذهب إلى بيته مهموما وغضبانا حيث له ابنتان (الكبيرة العارفة شهرزاد والتي جمعت ألف كتاب من التواريخ والأخبار للأمم والملوك السالفة , ودنيازاد الصغرى العادية ) .
وأن تطلب شهرزاد من أبيها الوزير تزويجها بالملك شهريار وهي تقول في مقدمة " ألف ليلة وليلة " " فإما أن أعيش وإما أن أكون فداء لبنات المسلمين وسببا لخلاصهم من بين يديه " ص 5 ( من طبعة صادر – بيروت – مقابلة وتصحيح العلامة الشيخ محمد قطه العدوي المطبوعة في بولاق عام 1252 هـ ) .
إن الكثير من الحكايات التي تعتز بالعروبة والإسلام لها سطوة عباسية – رشيدية ما يرجِّح نسجها ضمن صيغتها العربية في هذه الفترة التي تعود إلى 1250 سنة على أبعد تقدير .
إذن الغيظ والخيانة سبب قتل شهريار للنساء , ثم أن السأم والضجر والفضول سبب أولي وجوهري كي يكتمل نصاب الكتاب , ويبدأ شهريار بسماع الحكاية الأولى التي تعتبر " الفخ " الذي أودى بأوهامه مؤقتا لتبدأ سيرة الأوهام بقالبها الفني الحكائي الذي يعتمد التشويق أولا وآخرا ضمن حذره وفهمه للحظة إنقطاع الحكاية الحرج .. تلك اللحظة التي لا يستطيع الفضول تجاوزها , وقد يكون هذا هو مرجع لكل الأعمال الدرامية المسلسلة التي تقطع عند عقدة مثيرة ليكتمل الحدث في الحلقة القادمة – الليلة القادمة .. ولن يكتمل ! فالتداعيات في الفضول عند المتلقي ( المشاهد , القارئ , المستمع .. ) ستؤدي به من حكاية " مسلسل درامي مثلا " إلى مسلسل آخر يكمل الحكاية .. ولا يكملها , يتقاطع معها ويشبهها .. وهو ليس كذلك , إنما حالة الفرجة , أو الإصغاء وبالمعنى النفسي الأعمق , هي الحالة الأساس التي تقوم عليها فكرة التداعي والرويّ , وهي التي تحكم المناخ العام للتلقي الفضولي والذي يعمل على تشذيب الروح والجسد والارتقاء بهما إلى فضاءات أوسع .. كما حصل لشهريار المتلقي على يدي شهرزاد .
ودائما كان الصباح يدرك شهرزاد فتتوقف عن الكلام المباح , وهنا نلحظ التعمد في الإطالة حتى يطلع الصبح الذي ينعدم معه فعل القتل الذي يتم في الظلام بالنسبة لشهريار .. كما أننا نتوقف عند " الكلام المباح" وارتباطه بالليل أيضا , حيث يكون النهار إذن للكلام المحرم وغير المباح , ( ولا بد من تداعياتنا التي تذكرنا هنا بالمثل الشعبي القائل " كلام الليل يمحوه النهار ") حيث الليل يقفز عن المحرمات ويتناساها , ولكل هذا دلالات علينا التوقف عندها قبل أن نلج متاهات الحكايا ومتن الكتاب السحري المدهش .
ومنذ الليلة الأولى وحكاية " العفريت والتاجر " نلاحظ التآمر الذي تصنعه شهرزاد بمشاركة أختها دنيازاد , فعندما يقبل الصباح , تخرج دنيازاد من تحت السرير لتخاطب أختها قائلة " ما أطيب حديثك وألطفه وألذه وأعذبه " وكل هذا المديح لا يعني إلا أن تقول شهرزاد مجيبة إن هذا ليس بشيء إذا ما سمعتم " نلاحظ هنا أن توجيه الحكاية غير محصور بشهريار فقط " , ما يمكن قوله في الليلة القابلة – المقبلة – ليشعر الملك السفاح شهريار بالفضول ينخزه ولسان حاله يقول : " والله ما أقتلها حتى أسمع بقية حديثها " ولأهمية هذا الفضول فإنهم باتوا تلك الليلة " ؟! " " متعانقين " بسبب الود الذي صنعه الخيال والحكايا بينهم , أما التكتيك الذي ستسير شهرزاد , وبشكل استراتيجي ودائم , بهديه فهو عدم إتمام أي من حكاياها في ليلة , إلا لتربط الأمر والحدث , وتبدأ بحكاية جديدة تنسف إدراكات شهريار , وتطرحه في حجيم من انتظار تتمة الحدث الذي سيكون بالنسبة إليه علاجا من غيظ كبير ومكبوت , وتعويضا عن الخيانة , والقصاص منها بالقصاص من الزمن – الوقت , وتزجيته وهو مشدود الأعصاب إلى الروي الذي يشعره بلذة لن يكون للقتل والانتقام دور قربها .. فهو يقتل ويسافر ويبطش ويحكم بالعدل ويطأ النساء ويكتشف الخيانات والممالك , وهو مضطجع في مخدعه يتقمص دور البطل .. أو شخصية أخرى في كل من حكايا شهرزاد , فالتصعيد الحاصل هنا من خلال الفن " القصة " يعيد إليه حالة التوازن , وهذه هي الوظيفة التي قد – تكون الأساس للفن وأهدافه , وهنا يمكننا التوقف عند وظيفة الفن التطهيرية التي تنبهت إليها شهرزاد في معالجتها لقصصها , وأشكال سردها والتعبير عن أحداثها , وأقول شهرزاد , وأنا أقصد الكاتب , أو مجموعة الكتاب الكثر الذين تواتروا على نسج هذه الحكايا ليقدموا أكبر وأدهش كتاب – سفر للإنسانية .
إذن الوظيفة التطهيرية – الأرسطية هي التي تسمح للكتاب بالالتئام , وذلك من خلال تشذيب وتهذيب انفعالات شهريار لصالح الحكاية وإتمامها .. أي لصالح الاستمرار في الحياة بالنسبة لشهرزاد .. والذي سيعني أن الإبداع كفيل باستمرار مبدعه , واستمرار التصاقه بالحياة .. وإن رحل فتبقى إبداعاته – حكاياه "هنا " مشيرة إليه بحرارة الشارة الأولى ..
ثم إن شهرزاد , وبتحريض متفق عليه من أختها دنيازاد , التي تطلب منها الروي في الليلة الأولى وأن تكمل في الليلة الثانية تمارس تهذيبا يرضي نزعة التسلط عند شهريار , فهي لا تتحدث مباشرة إلا وتسبقها عبارة " حبا وكرامة إن أذن لي الملك المهذب " في الليلة الأولى , أو " حبا وكرامة إن أذن لي الملك في ذلك" .. حتى إذا اطمأنت لكلامه " احكي " تقول اللازمة التي ستتخذها بعد ذلك دون حرج " إذا أذن لي .. " وهي تنغمس في حكايتها انغماسا واعيا متوازنا لتحقيق وإدراك لحظة الانقطاع " بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد ... " ثم لتكتفي في الليالي القادمة بــ " بلغني أيها الملك السعيد " وتبدأ بإكمال حكايتها أو إلحاقها وربطها – كما أسلفنا – بحكاية مباغتة جديدة , حيث تقول في نهاية حكايتها الأولى .. وقرب انتهاء الليلة الثالثة " وما هذه بأعجب من حكاية الصياد " لتحكم وتطبق على الملك شهريار وتتركه مشدودا إليها وهو يقول , وما هي حكاية الصياد ؟ .. هذا السؤال الذي يؤجل القتل ويفتح أفق الليالي .
ولا بد من الإشارة إلى أن الفضول الذي سيحكم التلقي الشهرياري كان قد أشير إليه وبشكل واضح ومكثف , وذلك من خلال حكاية " الثور والحمار " التي يرويها الوزير والد شهرزاد لابنته في مقدمة الكتاب , ليوضح لها بأن الفضول قد يؤدي بصاحبه هذا الفضول الذي سمح لشهرزاد " المثقفة " أن تختار المغامرة والمراهنة متكئة على العقل والفن وبشكل واع لدورهما الكبير في تجاوز العنت الشهرياري .. حتى لو كانت الضريبة هي الموت , وهذا سيعني إلغاء قناعاتها بالعقل والفن ووظائفهما .. وهذا افتراض مستبعد شهرزاديا.
إن الحكاية الأولى في الليالي " التاجر والعفريت " تحكمها معادلة شديدة الدقة في صياغة نهج الكتاب كاملا .. أو لطرح مبادرة – فخ , يقوم عليه كامل العمل , وخاصة البعد النفسي عند شهريار الأكثر فضولا وحضورا وغيابا في متن الكتاب – السفر .
سنلاحظ فيما سيأتي الدقة العالية , رغم التشابكات , في صياغة أولى الحكايا الغريبة من " ألف ليلة وليلة "
إن فضول العفريت – كبير ملوك الجان – في الحكاية الأولى سمح له بسماع الحديث العجيب للشيخ صاحب الغزالة المسحورة , والشيخ الثاني صاحب الكلبتان السلوقيتان , والثالث صاحب البغلة الزرزورية .. كل هذا الكلام العجيب على لسان الشيوخ الثلاثة أثار فضول العفريت الذي ترك التاجر أخيرا وأخلى سبيله لقاء استمتاعه بالكلام العجيب , وهذا ما سنراه لاحقا في تاريخنا وإرثنا العربي الإسلامي وأشكال الصفح اللامتناهية التي يقدمها الخلفاء والولاة للرواة والأذكياء وسريعي البديهة الذين كانت زوّادتهم الوحيدة للعيش الرغيد , طرفة أو عظة أو موقفا مفارقا يجعلهم في خانة المعفي عنهم , والمقربين والحكواتية والمنشدين والندماء !! , إنه فعل الفن ثانية , وفعل التركيب الخيالي الغريب والبسيط للدماغ ولأشكال الحياة وأحداثها بقالب غريب يزجي الزمن ويحرق مكامن الضجر والملل .. تلك المتعة – تزجية الوقت – التي نبحث عنها جميعا , وبأشكال مختلفة , وربما الطغاة بشكل أكثر وضوحا , وهنا لن نتحدث عن التراجيديا ودورها في تهذيب الأمم .. والمستبدة تحديدا , حيث تسود وتنتشر هذه التراجيديات والمآسي .
علينا أيضا , التنبه إلى أن التداعيات في القص تقوم على الروي المدور – بالمعنى الرياضي , الرقم اللامتناهي – وأيضا على التراكمات العددية والمتواليات , حيث يولد القص .. القص الآخر .
ففي الحكاية الثانية " حكاية الصياد " التي تبدأ قبيل انتهاء الليلة الثالثة نستمع إلى الحكاية من شهرزاد التي تسمع شهريار , ثم يحصل التداخل والتعقيد في القص ليكون الراوية الآن هو بطل الرواية التي تقدمها شهرزاد عن الصياد , حيث يأخذ الصياد الآن دور شهرزاد ويحكي للمارد , وبعد أن أرجعه بحيلته البسيطة إلى القمقم , حكاية وزير الملك يونان والحكيم رويان , وهنا يبدأ فصل جديد في الحكاية التي تشبه ما يمكن أن يصنعه الراوي , أو , رجل المسرح في الأعمال المعاصرة حيث يشير " الحكواتي " الراوي , رجل المسرح " إلى الحدث الذي يجسده الممثلون أمامه كشخصية حيادية .. ولكنه في نفس الآن ممثل وشخصية تدخل في نسيج اللعبة المسرحية .. أو الروائية المنظورة .. وهنا يمكن لـ " بريشت " المسرحي الألماني أن يكون مدركا , ولا أعتقد بالتخاطر , إلى هذه الأدوار المتناوبة والتغريبية والمعقدة في إيصال الحدث المبتغى وتطلعاته الجوانية .. وأيضا لنلحظ التأكيد على الإجماع العام واللهفة الشاملة للإصغاء وسماع الحكايا " الفن " التي تعد حاجة – لأن الفنون حاجة وليست فضولا نفسيا متخلصا من معارفه وحسب - ونحن نلحظ أن المتحدث هنا هو الصياد , ثم تتراكب القصص وتتعقد حتى يروي الملك أيضا لوزيره يونان حكاية " ندم الملك السندباد على قتله الباز " ويستفيض في الروي , فمقاليد الرواية متشابكة , متعددة الأطراف , وقد تكون شرارتها الأولى شهرزاد .. أما جذر الشرارة القصصية فهو التداعي الأول الذي يتحدث به "شاه زمان" إلى أخيه " شهريار " عن خيانة زوجته له ليتخذ شهريار فيما بعد – أي بعد كشفه لخيانة زوجته له , أيضا , مع العبد الأسود – مصدرا جوهريا لحكاية قتله للصبايا التي تدوم ثلاث سنوات لتدخل بعدها شهرزاد إلى الحكاية مؤلفة حكايا جديدة أكثر حيوية ودهشة تساندها في القص والروي أغلب شخصياتها التي تروي عنها.
ونرى أن كل من يحاول أن يبدأ الروي : يقول : أنت تريد أن يكون , أو يحصل كما حصل مع .. "كذا مقابل فلان .. " ونرى استرخاء ورضى وحبا وفطريا بالاستماع لما يعرفه الراوي حيث يكون تعليق المتلقي : وكيف كان ذلك ؟ ليبدأ الراوي ويندمج متخذا من كل انفعالاته شخصية الراوي الأصيل .. متناغما ومجبولا في الأحداث التي – حتما – يتقمصها متخيلا شهريار كمتلق أول .
وأيضا يأخذ الوزير " يونان " بالقص على الملك مجيبا على قصته عن " ندم الملك السندباد على قتله الباز " بقصة يسمعها الملك من وزيره يونان حول " ابن ملك مولع بالصيد " , ثم عندما يقرر الملك يونان قتل الحكيم رويان بعد دسيسة وزيره , وقبل تنفيذ الإعدام , يقول رويان الحكيم للملك وهو يستجير ويبكي : "أيكون هذا جزائي فتجازيني بمجازاة التمساح " فيسأله الملك : " وما حكاية التمساح ؟! " وهنا يمتنع الحكيم عن سرد حكايته لأنه – كما قال للملك – لا يمكنني أن أقولها , أي حكاية التمساح المفترضة , وأنا في هذا الحال , وهنا تحديدا ولحكمة رويان البالغة تفوتنا حكاية التمساح – كما تفوت شهريار – ولا يرويها لنا وتبقى معلقة ولا تشبه الاسترخاءات والاستجابات التي نلحظها عند الرواة بمجرد سؤالهم .. وما تلك الحكاية ؟ أو , كيف حصل ذلك ؟ لتعود الرواية إلى قيادها من خلال الصياد الذي يروي للمارد القابع داخل القمقم , ذلك الصياد الذي تروي حكايته شهرزاد لشهريار المأخوذ القابع في مخدعه ..
إنها عمارة متعددة المداخل والمتاهات , ومحبوكة بعناية تبدو لوهلة أنها تداعيات بسيطة ضمن رواية أحادية , بينما هي رواية رواتها كثر وأبطالها وشخوصها الثانويين رواة – بالضرورة أحيانا – أيضا .
وعلينا أن نلاحظ , أيضا , أن الحكايا جميعا – الأولى والثانية هنا تحديدا – هي حض على الامتناع عن فعل القتل والتمهل والتأمل في هذا الخطأ الفادح الذي يمكن ارتكابه , وكل هذا تفعله شهرزاد بروية وحكمة من أجل اجتثاث رغبة القتل المعششة في الملك شهريار , فكل من مارس القتل كان مخطئا .. والجميع يصفح ( ملك الجن , الصياد , عفريت ومارد القمقم ) أما المتعجلون والقتلة المدانون فهم حتى الآن ( شهريار , الملك يونان , الملك سندباد .. ) وهذه رؤية نفسية – إكلينيكية , سريرية – لمعالجة شهريار من قبل العارفة والخبيرة شهرزاد التي تطهره بالحكاية وشكلها , وبمضمون الحكاية وأحداثها المحرضة على فعل الصفح .. والتروي .
ومرة ثانية يرجع الروي إلى المارد الذي يصغي إليه الصياد بدوره في حكاية المارد عن " أمامه وما عمله مع عاتكة " وهنا أيضا يقول الصياد : " وما شأنهما ؟ " ليبدأ المارد بالروي والقص .. وكأن شهرزاد تتكئ على شخوصها وتستنطقهم بحكاية تبدو مرتجلة من أجل حيازة أكبر قدر من الوقت , أكبر قدر من الحياة , أكبر قدر من إمكانية التأثير على شهريار وغسله من أحقاده عبر وظيفة الفن الأساس – كما أسلفنا – ومع هذا يعتذر المارد عن الروي بموقف مشابه لموقف الحكيم رويان لأنه يقول للصياد بأنه لا يستطيع أن "يحكي , يروي , يقص " طالما هو محبوس في القمقم , وتفوتنا ثانية فرصة الإصغاء إلى حكاية جديدة ونحاول أن ننسجها ضمن السياق وما يترتب عليه من تفاصيل وعظات تسعف الموقف , وتحسم موقفنا تجاه الحدث , وهذا تطور كبير , أن يشارك القارئ , نحن , شهريار , في تأليف حكاية .. وعلى طريقة البنيوية المعاصرة وقراءتها للقارئ كمشارك أساس في تصنيع النص وإكمال تأليفه حيث يكون هناك غياب , أو موت للمؤلف صاحب النص الأولي لحساب القارئ المشارك الباعث للنص من رقاده وبعده الضمني العصي على مؤلفه الأول .. وهذا ليس اجتهادا , وإن كان يحتاج في سياقنا لوقفة أشد هدأة لقراءة بعد كهذا في " ألف ليلة وليلة " والملك الذي يأخذ السمك الملون من الصياد الذي يحصل عليه من البركة بين الجبال الأربعة التي أرشده إليها المارد , ولهذا الملك في رحلته للبحث عن سر السمك أن يدخل قصرا غريبا وعظيما , وأن يسأل الشاب الذي نصفه الأسفل حجر والأعلى بشر عن سره وسر البركة والقصر والسمك وله – أي الملك – أن يستمع الآن إلى حكاية جديدة من هذا الشاب الذي سيحدثه عن أبيه وعن سلطانه وعن زوجته الزانية – وكل هذا سيصب برموزه وشاراته إلى الزنى الأول الذي تعرض له شهريار وأخيه , ومن خلال فعل الخيانة , ليخلص شهريار من كوارثه وسخطه وانفعالاته القتالة , وهنا سنلاحظ حتما أن فعل الخيانة يتم مع عبد أسود .. ما يجعل شهرزاد – إن صدقت حكاياها وتأثرت بها – أن تميل إلى مسعود مستقبلا , وما يجعل شهريار خائفا ومذعورا – ثانية , وضمن الحكاية – من سيافه مسعود العبد !! .
إن حكاية الصياد , وهي ثاني الحكايا , تتداخل فيها مجموعة كبيرة من الحكايا الفرعية والتي تشكل , وكل على حدة , حكاية لها متنها المستقل عن جسدها الأول وهو علاقة الصياد بالمارد ... ومع هذا ستستمر حكاية الصياد رغم التشابكات الهائلة حتى الآن .. والتي لن تكون عصية على الإحصاء , ودائما ترجع شهرزاد في أول ليلتها لتأخذ مقاليد الروي إلى أن تتعب – ربما – فتعطي قياد الحديث إلى أحد شخوصها .. وهي تدخل وتخرج وتمسك بالرواية من جميع أطرافها وخيوطها وتلابيبها كلاعب دمى , " ماريونيت " , ماهر ودقيق .
في الحكاية الثالثة وهي حكاية " الحمال " تتداخل الأمور بشكل عجيب ومدهش ويظهر الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد ووزيره جعفر عند النساء الثلاث – كما ظهر الحمال والصعاليك الثلاثة - .. وبعد خطئهم يجلس كل من الصعاليك ليروي حكايته الغريبة العجيبة , وعندما يأتي دور الصعلوك الثاني – الأعور يسارا كأقرانه – تأخذ مقاليد الرواية منه الإنسية المخطوفة من قبل العفريت وجرجريس وتتناوب وشهرزاد والصعلوك القص .
في هذه الحكاية ومداخلاتها التي تكشف الكثير من الوضع الاجتماعي والسياسي القائم آنذاك – حكم الرشيد – نستطيع أن نعرف الأمين وسلوكياته ونكتشف بغداد وسراديبها وتجارها وما يحاك أثناء الحكم العباسي وهناك تحديدا – ومنذ هده الحكاية – نستطيع أن نطل هادئين على ما نحاول اقتراحه .
* عن موقع الف لحرية الكشف في الكتابة والانسان
فإنه وفي الزمان القديم – دون تحديد – حكم الأَخوان بالعدل لمدة عشرين عاما ( شهريار في بلاد ساسان ) و( شاه زمان في سمرقند العجم ) ويستمر هذا العدل إلى أن يتم الكشف عن الخيانة وما تسببه من قلق واضطراب نتيجة تهور المرأة – الزوجة , واحتدام شهواتها .
فبعد عودة الملكان – ورؤية الخيانة التي حصلت للعفريت من الصبية المخطوفة ليلة زفافها , وقد وضعها العفريت في علبة داخل صندوق له سبعة أقفال ورماها في قاع البحر .. ومع هذا فقد خانته (575 مرة) إضافة إلى شاه زمان وشهريار .. ثم عودة شهريار إلى بلاده ووطئه لصبية بكر وقتلها , وهكذا وبشكل يومي ولمدة ثلاث سنوات , إلى أن هربت العائلات ببناتها ولم يلق الوزير ذات يوم بنتا جديدة وذهب إلى بيته مهموما وغضبانا حيث له ابنتان (الكبيرة العارفة شهرزاد والتي جمعت ألف كتاب من التواريخ والأخبار للأمم والملوك السالفة , ودنيازاد الصغرى العادية ) .
وأن تطلب شهرزاد من أبيها الوزير تزويجها بالملك شهريار وهي تقول في مقدمة " ألف ليلة وليلة " " فإما أن أعيش وإما أن أكون فداء لبنات المسلمين وسببا لخلاصهم من بين يديه " ص 5 ( من طبعة صادر – بيروت – مقابلة وتصحيح العلامة الشيخ محمد قطه العدوي المطبوعة في بولاق عام 1252 هـ ) .
إن الكثير من الحكايات التي تعتز بالعروبة والإسلام لها سطوة عباسية – رشيدية ما يرجِّح نسجها ضمن صيغتها العربية في هذه الفترة التي تعود إلى 1250 سنة على أبعد تقدير .
إذن الغيظ والخيانة سبب قتل شهريار للنساء , ثم أن السأم والضجر والفضول سبب أولي وجوهري كي يكتمل نصاب الكتاب , ويبدأ شهريار بسماع الحكاية الأولى التي تعتبر " الفخ " الذي أودى بأوهامه مؤقتا لتبدأ سيرة الأوهام بقالبها الفني الحكائي الذي يعتمد التشويق أولا وآخرا ضمن حذره وفهمه للحظة إنقطاع الحكاية الحرج .. تلك اللحظة التي لا يستطيع الفضول تجاوزها , وقد يكون هذا هو مرجع لكل الأعمال الدرامية المسلسلة التي تقطع عند عقدة مثيرة ليكتمل الحدث في الحلقة القادمة – الليلة القادمة .. ولن يكتمل ! فالتداعيات في الفضول عند المتلقي ( المشاهد , القارئ , المستمع .. ) ستؤدي به من حكاية " مسلسل درامي مثلا " إلى مسلسل آخر يكمل الحكاية .. ولا يكملها , يتقاطع معها ويشبهها .. وهو ليس كذلك , إنما حالة الفرجة , أو الإصغاء وبالمعنى النفسي الأعمق , هي الحالة الأساس التي تقوم عليها فكرة التداعي والرويّ , وهي التي تحكم المناخ العام للتلقي الفضولي والذي يعمل على تشذيب الروح والجسد والارتقاء بهما إلى فضاءات أوسع .. كما حصل لشهريار المتلقي على يدي شهرزاد .
ودائما كان الصباح يدرك شهرزاد فتتوقف عن الكلام المباح , وهنا نلحظ التعمد في الإطالة حتى يطلع الصبح الذي ينعدم معه فعل القتل الذي يتم في الظلام بالنسبة لشهريار .. كما أننا نتوقف عند " الكلام المباح" وارتباطه بالليل أيضا , حيث يكون النهار إذن للكلام المحرم وغير المباح , ( ولا بد من تداعياتنا التي تذكرنا هنا بالمثل الشعبي القائل " كلام الليل يمحوه النهار ") حيث الليل يقفز عن المحرمات ويتناساها , ولكل هذا دلالات علينا التوقف عندها قبل أن نلج متاهات الحكايا ومتن الكتاب السحري المدهش .
ومنذ الليلة الأولى وحكاية " العفريت والتاجر " نلاحظ التآمر الذي تصنعه شهرزاد بمشاركة أختها دنيازاد , فعندما يقبل الصباح , تخرج دنيازاد من تحت السرير لتخاطب أختها قائلة " ما أطيب حديثك وألطفه وألذه وأعذبه " وكل هذا المديح لا يعني إلا أن تقول شهرزاد مجيبة إن هذا ليس بشيء إذا ما سمعتم " نلاحظ هنا أن توجيه الحكاية غير محصور بشهريار فقط " , ما يمكن قوله في الليلة القابلة – المقبلة – ليشعر الملك السفاح شهريار بالفضول ينخزه ولسان حاله يقول : " والله ما أقتلها حتى أسمع بقية حديثها " ولأهمية هذا الفضول فإنهم باتوا تلك الليلة " ؟! " " متعانقين " بسبب الود الذي صنعه الخيال والحكايا بينهم , أما التكتيك الذي ستسير شهرزاد , وبشكل استراتيجي ودائم , بهديه فهو عدم إتمام أي من حكاياها في ليلة , إلا لتربط الأمر والحدث , وتبدأ بحكاية جديدة تنسف إدراكات شهريار , وتطرحه في حجيم من انتظار تتمة الحدث الذي سيكون بالنسبة إليه علاجا من غيظ كبير ومكبوت , وتعويضا عن الخيانة , والقصاص منها بالقصاص من الزمن – الوقت , وتزجيته وهو مشدود الأعصاب إلى الروي الذي يشعره بلذة لن يكون للقتل والانتقام دور قربها .. فهو يقتل ويسافر ويبطش ويحكم بالعدل ويطأ النساء ويكتشف الخيانات والممالك , وهو مضطجع في مخدعه يتقمص دور البطل .. أو شخصية أخرى في كل من حكايا شهرزاد , فالتصعيد الحاصل هنا من خلال الفن " القصة " يعيد إليه حالة التوازن , وهذه هي الوظيفة التي قد – تكون الأساس للفن وأهدافه , وهنا يمكننا التوقف عند وظيفة الفن التطهيرية التي تنبهت إليها شهرزاد في معالجتها لقصصها , وأشكال سردها والتعبير عن أحداثها , وأقول شهرزاد , وأنا أقصد الكاتب , أو مجموعة الكتاب الكثر الذين تواتروا على نسج هذه الحكايا ليقدموا أكبر وأدهش كتاب – سفر للإنسانية .
إذن الوظيفة التطهيرية – الأرسطية هي التي تسمح للكتاب بالالتئام , وذلك من خلال تشذيب وتهذيب انفعالات شهريار لصالح الحكاية وإتمامها .. أي لصالح الاستمرار في الحياة بالنسبة لشهرزاد .. والذي سيعني أن الإبداع كفيل باستمرار مبدعه , واستمرار التصاقه بالحياة .. وإن رحل فتبقى إبداعاته – حكاياه "هنا " مشيرة إليه بحرارة الشارة الأولى ..
ثم إن شهرزاد , وبتحريض متفق عليه من أختها دنيازاد , التي تطلب منها الروي في الليلة الأولى وأن تكمل في الليلة الثانية تمارس تهذيبا يرضي نزعة التسلط عند شهريار , فهي لا تتحدث مباشرة إلا وتسبقها عبارة " حبا وكرامة إن أذن لي الملك المهذب " في الليلة الأولى , أو " حبا وكرامة إن أذن لي الملك في ذلك" .. حتى إذا اطمأنت لكلامه " احكي " تقول اللازمة التي ستتخذها بعد ذلك دون حرج " إذا أذن لي .. " وهي تنغمس في حكايتها انغماسا واعيا متوازنا لتحقيق وإدراك لحظة الانقطاع " بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد ... " ثم لتكتفي في الليالي القادمة بــ " بلغني أيها الملك السعيد " وتبدأ بإكمال حكايتها أو إلحاقها وربطها – كما أسلفنا – بحكاية مباغتة جديدة , حيث تقول في نهاية حكايتها الأولى .. وقرب انتهاء الليلة الثالثة " وما هذه بأعجب من حكاية الصياد " لتحكم وتطبق على الملك شهريار وتتركه مشدودا إليها وهو يقول , وما هي حكاية الصياد ؟ .. هذا السؤال الذي يؤجل القتل ويفتح أفق الليالي .
ولا بد من الإشارة إلى أن الفضول الذي سيحكم التلقي الشهرياري كان قد أشير إليه وبشكل واضح ومكثف , وذلك من خلال حكاية " الثور والحمار " التي يرويها الوزير والد شهرزاد لابنته في مقدمة الكتاب , ليوضح لها بأن الفضول قد يؤدي بصاحبه هذا الفضول الذي سمح لشهرزاد " المثقفة " أن تختار المغامرة والمراهنة متكئة على العقل والفن وبشكل واع لدورهما الكبير في تجاوز العنت الشهرياري .. حتى لو كانت الضريبة هي الموت , وهذا سيعني إلغاء قناعاتها بالعقل والفن ووظائفهما .. وهذا افتراض مستبعد شهرزاديا.
إن الحكاية الأولى في الليالي " التاجر والعفريت " تحكمها معادلة شديدة الدقة في صياغة نهج الكتاب كاملا .. أو لطرح مبادرة – فخ , يقوم عليه كامل العمل , وخاصة البعد النفسي عند شهريار الأكثر فضولا وحضورا وغيابا في متن الكتاب – السفر .
سنلاحظ فيما سيأتي الدقة العالية , رغم التشابكات , في صياغة أولى الحكايا الغريبة من " ألف ليلة وليلة "
إن فضول العفريت – كبير ملوك الجان – في الحكاية الأولى سمح له بسماع الحديث العجيب للشيخ صاحب الغزالة المسحورة , والشيخ الثاني صاحب الكلبتان السلوقيتان , والثالث صاحب البغلة الزرزورية .. كل هذا الكلام العجيب على لسان الشيوخ الثلاثة أثار فضول العفريت الذي ترك التاجر أخيرا وأخلى سبيله لقاء استمتاعه بالكلام العجيب , وهذا ما سنراه لاحقا في تاريخنا وإرثنا العربي الإسلامي وأشكال الصفح اللامتناهية التي يقدمها الخلفاء والولاة للرواة والأذكياء وسريعي البديهة الذين كانت زوّادتهم الوحيدة للعيش الرغيد , طرفة أو عظة أو موقفا مفارقا يجعلهم في خانة المعفي عنهم , والمقربين والحكواتية والمنشدين والندماء !! , إنه فعل الفن ثانية , وفعل التركيب الخيالي الغريب والبسيط للدماغ ولأشكال الحياة وأحداثها بقالب غريب يزجي الزمن ويحرق مكامن الضجر والملل .. تلك المتعة – تزجية الوقت – التي نبحث عنها جميعا , وبأشكال مختلفة , وربما الطغاة بشكل أكثر وضوحا , وهنا لن نتحدث عن التراجيديا ودورها في تهذيب الأمم .. والمستبدة تحديدا , حيث تسود وتنتشر هذه التراجيديات والمآسي .
علينا أيضا , التنبه إلى أن التداعيات في القص تقوم على الروي المدور – بالمعنى الرياضي , الرقم اللامتناهي – وأيضا على التراكمات العددية والمتواليات , حيث يولد القص .. القص الآخر .
ففي الحكاية الثانية " حكاية الصياد " التي تبدأ قبيل انتهاء الليلة الثالثة نستمع إلى الحكاية من شهرزاد التي تسمع شهريار , ثم يحصل التداخل والتعقيد في القص ليكون الراوية الآن هو بطل الرواية التي تقدمها شهرزاد عن الصياد , حيث يأخذ الصياد الآن دور شهرزاد ويحكي للمارد , وبعد أن أرجعه بحيلته البسيطة إلى القمقم , حكاية وزير الملك يونان والحكيم رويان , وهنا يبدأ فصل جديد في الحكاية التي تشبه ما يمكن أن يصنعه الراوي , أو , رجل المسرح في الأعمال المعاصرة حيث يشير " الحكواتي " الراوي , رجل المسرح " إلى الحدث الذي يجسده الممثلون أمامه كشخصية حيادية .. ولكنه في نفس الآن ممثل وشخصية تدخل في نسيج اللعبة المسرحية .. أو الروائية المنظورة .. وهنا يمكن لـ " بريشت " المسرحي الألماني أن يكون مدركا , ولا أعتقد بالتخاطر , إلى هذه الأدوار المتناوبة والتغريبية والمعقدة في إيصال الحدث المبتغى وتطلعاته الجوانية .. وأيضا لنلحظ التأكيد على الإجماع العام واللهفة الشاملة للإصغاء وسماع الحكايا " الفن " التي تعد حاجة – لأن الفنون حاجة وليست فضولا نفسيا متخلصا من معارفه وحسب - ونحن نلحظ أن المتحدث هنا هو الصياد , ثم تتراكب القصص وتتعقد حتى يروي الملك أيضا لوزيره يونان حكاية " ندم الملك السندباد على قتله الباز " ويستفيض في الروي , فمقاليد الرواية متشابكة , متعددة الأطراف , وقد تكون شرارتها الأولى شهرزاد .. أما جذر الشرارة القصصية فهو التداعي الأول الذي يتحدث به "شاه زمان" إلى أخيه " شهريار " عن خيانة زوجته له ليتخذ شهريار فيما بعد – أي بعد كشفه لخيانة زوجته له , أيضا , مع العبد الأسود – مصدرا جوهريا لحكاية قتله للصبايا التي تدوم ثلاث سنوات لتدخل بعدها شهرزاد إلى الحكاية مؤلفة حكايا جديدة أكثر حيوية ودهشة تساندها في القص والروي أغلب شخصياتها التي تروي عنها.
ونرى أن كل من يحاول أن يبدأ الروي : يقول : أنت تريد أن يكون , أو يحصل كما حصل مع .. "كذا مقابل فلان .. " ونرى استرخاء ورضى وحبا وفطريا بالاستماع لما يعرفه الراوي حيث يكون تعليق المتلقي : وكيف كان ذلك ؟ ليبدأ الراوي ويندمج متخذا من كل انفعالاته شخصية الراوي الأصيل .. متناغما ومجبولا في الأحداث التي – حتما – يتقمصها متخيلا شهريار كمتلق أول .
وأيضا يأخذ الوزير " يونان " بالقص على الملك مجيبا على قصته عن " ندم الملك السندباد على قتله الباز " بقصة يسمعها الملك من وزيره يونان حول " ابن ملك مولع بالصيد " , ثم عندما يقرر الملك يونان قتل الحكيم رويان بعد دسيسة وزيره , وقبل تنفيذ الإعدام , يقول رويان الحكيم للملك وهو يستجير ويبكي : "أيكون هذا جزائي فتجازيني بمجازاة التمساح " فيسأله الملك : " وما حكاية التمساح ؟! " وهنا يمتنع الحكيم عن سرد حكايته لأنه – كما قال للملك – لا يمكنني أن أقولها , أي حكاية التمساح المفترضة , وأنا في هذا الحال , وهنا تحديدا ولحكمة رويان البالغة تفوتنا حكاية التمساح – كما تفوت شهريار – ولا يرويها لنا وتبقى معلقة ولا تشبه الاسترخاءات والاستجابات التي نلحظها عند الرواة بمجرد سؤالهم .. وما تلك الحكاية ؟ أو , كيف حصل ذلك ؟ لتعود الرواية إلى قيادها من خلال الصياد الذي يروي للمارد القابع داخل القمقم , ذلك الصياد الذي تروي حكايته شهرزاد لشهريار المأخوذ القابع في مخدعه ..
إنها عمارة متعددة المداخل والمتاهات , ومحبوكة بعناية تبدو لوهلة أنها تداعيات بسيطة ضمن رواية أحادية , بينما هي رواية رواتها كثر وأبطالها وشخوصها الثانويين رواة – بالضرورة أحيانا – أيضا .
وعلينا أن نلاحظ , أيضا , أن الحكايا جميعا – الأولى والثانية هنا تحديدا – هي حض على الامتناع عن فعل القتل والتمهل والتأمل في هذا الخطأ الفادح الذي يمكن ارتكابه , وكل هذا تفعله شهرزاد بروية وحكمة من أجل اجتثاث رغبة القتل المعششة في الملك شهريار , فكل من مارس القتل كان مخطئا .. والجميع يصفح ( ملك الجن , الصياد , عفريت ومارد القمقم ) أما المتعجلون والقتلة المدانون فهم حتى الآن ( شهريار , الملك يونان , الملك سندباد .. ) وهذه رؤية نفسية – إكلينيكية , سريرية – لمعالجة شهريار من قبل العارفة والخبيرة شهرزاد التي تطهره بالحكاية وشكلها , وبمضمون الحكاية وأحداثها المحرضة على فعل الصفح .. والتروي .
ومرة ثانية يرجع الروي إلى المارد الذي يصغي إليه الصياد بدوره في حكاية المارد عن " أمامه وما عمله مع عاتكة " وهنا أيضا يقول الصياد : " وما شأنهما ؟ " ليبدأ المارد بالروي والقص .. وكأن شهرزاد تتكئ على شخوصها وتستنطقهم بحكاية تبدو مرتجلة من أجل حيازة أكبر قدر من الوقت , أكبر قدر من الحياة , أكبر قدر من إمكانية التأثير على شهريار وغسله من أحقاده عبر وظيفة الفن الأساس – كما أسلفنا – ومع هذا يعتذر المارد عن الروي بموقف مشابه لموقف الحكيم رويان لأنه يقول للصياد بأنه لا يستطيع أن "يحكي , يروي , يقص " طالما هو محبوس في القمقم , وتفوتنا ثانية فرصة الإصغاء إلى حكاية جديدة ونحاول أن ننسجها ضمن السياق وما يترتب عليه من تفاصيل وعظات تسعف الموقف , وتحسم موقفنا تجاه الحدث , وهذا تطور كبير , أن يشارك القارئ , نحن , شهريار , في تأليف حكاية .. وعلى طريقة البنيوية المعاصرة وقراءتها للقارئ كمشارك أساس في تصنيع النص وإكمال تأليفه حيث يكون هناك غياب , أو موت للمؤلف صاحب النص الأولي لحساب القارئ المشارك الباعث للنص من رقاده وبعده الضمني العصي على مؤلفه الأول .. وهذا ليس اجتهادا , وإن كان يحتاج في سياقنا لوقفة أشد هدأة لقراءة بعد كهذا في " ألف ليلة وليلة " والملك الذي يأخذ السمك الملون من الصياد الذي يحصل عليه من البركة بين الجبال الأربعة التي أرشده إليها المارد , ولهذا الملك في رحلته للبحث عن سر السمك أن يدخل قصرا غريبا وعظيما , وأن يسأل الشاب الذي نصفه الأسفل حجر والأعلى بشر عن سره وسر البركة والقصر والسمك وله – أي الملك – أن يستمع الآن إلى حكاية جديدة من هذا الشاب الذي سيحدثه عن أبيه وعن سلطانه وعن زوجته الزانية – وكل هذا سيصب برموزه وشاراته إلى الزنى الأول الذي تعرض له شهريار وأخيه , ومن خلال فعل الخيانة , ليخلص شهريار من كوارثه وسخطه وانفعالاته القتالة , وهنا سنلاحظ حتما أن فعل الخيانة يتم مع عبد أسود .. ما يجعل شهرزاد – إن صدقت حكاياها وتأثرت بها – أن تميل إلى مسعود مستقبلا , وما يجعل شهريار خائفا ومذعورا – ثانية , وضمن الحكاية – من سيافه مسعود العبد !! .
إن حكاية الصياد , وهي ثاني الحكايا , تتداخل فيها مجموعة كبيرة من الحكايا الفرعية والتي تشكل , وكل على حدة , حكاية لها متنها المستقل عن جسدها الأول وهو علاقة الصياد بالمارد ... ومع هذا ستستمر حكاية الصياد رغم التشابكات الهائلة حتى الآن .. والتي لن تكون عصية على الإحصاء , ودائما ترجع شهرزاد في أول ليلتها لتأخذ مقاليد الروي إلى أن تتعب – ربما – فتعطي قياد الحديث إلى أحد شخوصها .. وهي تدخل وتخرج وتمسك بالرواية من جميع أطرافها وخيوطها وتلابيبها كلاعب دمى , " ماريونيت " , ماهر ودقيق .
في الحكاية الثالثة وهي حكاية " الحمال " تتداخل الأمور بشكل عجيب ومدهش ويظهر الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد ووزيره جعفر عند النساء الثلاث – كما ظهر الحمال والصعاليك الثلاثة - .. وبعد خطئهم يجلس كل من الصعاليك ليروي حكايته الغريبة العجيبة , وعندما يأتي دور الصعلوك الثاني – الأعور يسارا كأقرانه – تأخذ مقاليد الرواية منه الإنسية المخطوفة من قبل العفريت وجرجريس وتتناوب وشهرزاد والصعلوك القص .
في هذه الحكاية ومداخلاتها التي تكشف الكثير من الوضع الاجتماعي والسياسي القائم آنذاك – حكم الرشيد – نستطيع أن نعرف الأمين وسلوكياته ونكتشف بغداد وسراديبها وتجارها وما يحاك أثناء الحكم العباسي وهناك تحديدا – ومنذ هده الحكاية – نستطيع أن نطل هادئين على ما نحاول اقتراحه .
* عن موقع الف لحرية الكشف في الكتابة والانسان