كامي بزيع - الحمّام نعيم الدنيا كما يظهر في «ألف ليلة وليلة»

«حمامك نعيم دائم» بهذه العبارة التي تقال للخارج من الحمام يختصر مفهوم الحمام في الثقافة العربية، ذلك أن الحمام هو مكان مؤقت للجنة بحسب ما يوصف، لما يقدمه من راحة وسرور ومتعة بانتظار النعيم الدائم والجنة الأبدية.

يمثل الحمام الانتقال من حال إلى حال، من النجاسة إلى الطهارة، من القذارة إلى النظافة، من الحزن إلى الفرح، من المرض إلى العافية، من المشقة إلى الراحة، وأيضاً قبل العرس لا بد من دخول الحمام ليشكل بالتالي فاصلاً ما بين العزوبية والزواج.

وإذا كانت زيارة الحمام العام من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية في المدن العربية تاريخياً, فإنها لم تكن تقتصر على الحكام والملوك والسلاطين أو وزرائهم وحسب، وإنما امتدت ايضاً إلى الطبقة العامة، فهو يشكل أحد مظاهر الرفاهية والترف.

ويمكن أن نلحظ أهمية الحمام العام في ذاك الزمن من خلال إطلاق أسماء الملوك والسلاطين والحكام على هذه الحمامات.

في كتاب «ألف ليلة وليلة» تتمثل جميع مظاهر الحمام ووظائفه، لتعكس بالتالي دوره في التقاليد والثقافة العربية عموماً.

مواصفات الحمام

تميز الحمام بهندسته المريحة.. وألوانه الزاهية من الداخل ونقوشه البديعة ، وبنيت أرضيته من الرخام أو السيراميك وجدرانه من الموزاييك، وقببه التي تذكر بالسماء، وأبوابه الصغيرة، مما يتلاءم مع حفظ الحرارة.. وتزخر فيه السلسبيلات والفسقيات والمغاطس والبرك الباردة، حيث تتعدد أجواؤه من البرودة إلى السخونة.. فالحمام المثالي هو الذي تجتمع فيه الفصول كلها: الخريف بجفافه، الصيف بحرارته والشتاء ببرده والربيع بنداوته وطراوته.

ويتألف الحمام من خلوات تتميز كل واحدة منها بجوها الخاص وهي تؤمن العزلة عن الغرف الأخرى، وبالتالي عن الآخرين، فلا يرى الناس بعضهم إذا لم يكونوا معارف أو أهلاً، إضافة إلى المصاطب المخصصة للجلوس والاسترخاء بعد الاستحمام.

وعادة ما كان يتولى الغلمان أمر الخدمة في الحمامات حيث يتم تدريبهم على يد الحمامي نفسه.

الدخول إلى الحمام

عند الدخول إلى الحمام يتم تسليم جميع المقتنيات إلى الحارس وتوضع في صندوق خاص، ثم خلع الثياب، وتوضع بدلاً منها المناشف، يلي ذلك الدخول إلى أول غرفة حيث تبدأ درجة حرارة الماء بالارتفاع قليلا ، والبخار يملأ الجو وفيها الفسقية التي يتناثر منها الماء على جميع الجوانب، وبعدها يدخل الليوان حيث البخار يملأ الجو فيأتي البلان ليدلك الجسم ويكبسه ويطقطق الأطراف، وعظام الظهر والأذنين طبعًا بعد خلع المناشف. وبعد ذلك يدخل غرفة أخرى مياهها ساخنة جدًا ويُفرك الجسم بالليفة والماء والصابون المعطر، ثم فرك الرجلين بحجر الحمام لإزالة القشرة الميتة عن القدمين.

بعد ذلك يُصب عليه الماء عدة مرات، وتترافق هذه الممارسات مع شعائر الأدعية والصلوات التي لا تزال إلى الآن سائدة عند الاستحمام.. ثم يدخل إلى قسم داخلي في الحمام حيث بركة الماء الساخن، التي يمكن أن يجلس فيها مسترخيًا وبعد الخروج يرش عليه ماء الورد ويلف بمناشف جديدة.

وهناك رجل مختص بإشعال النار وهو «الوقاد» الذي عليه أن يبقي النار مشتعلة حتى إقفال الحمام. وفي الحمام يجد المرء الحلاق، والحجام والمكييس.

بعد الانتهاء من الحمام يجلس المستحمون على مصطبة، يقدم لهم الشراب المنعش والقهوة والفاكهة، وبعد ذلك يرتدي أبهى ثيابه. ولا بد من نظرة إلى المرآة حيث يجد المرء حاله قد تغير ويغادر الحمام فرحا وسعيدا بالنعمة التي حصل عليها.

دخول الحمام للنظافة

كان دخول الحمام يتم في الصباح «فلما أصبح الصباح...دخلوا الحمام وتنظفوا وأخذوا غاية حظهم» إذ من شروط الدخول إلى الحمام الحصول على النظافة وقد قال النبي.. « نعم البيت الحمام، ينظف الجسد ويذكر النار» هذا ما تورده الجارية تودد في إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، مضيفةً أن أحسن الحمامات هو ما عذب ماؤه واتسع فضاؤه وطاب هواه.

ووجود الحمامات العامة في تلك الفترة إنما يدل على الأهمية التي كان يوليها الناس للنظافة.

فالاغتسال يتم صباحاً من النجاسة ، خصوصاً وأنه بعد الاستحمام تُلبس الثياب النظيفة التي لا يمكن أن توضع على جسد متسخ، وفي الحمام تتم الحلاقة أيضاً حيث الحلاق الخاص الموجود منذ الصباح في هذه المهمة، وربما عادة الاستحمام الصباحي الشائعة اليوم إنما هي مستمدة من تلك الأيام.

غسل يوم الجمعة

أما النظافة المثالية للرجل فهي كما تظهر من خلال حكايات «ألف ليلة وليلة» فتتضمن الوصايا التالية: «افرق الشعر وقص الشارب، وقلم الأظفار، وانتف الإبط واحلق العانة وادم المسواك، إضافة إلى أن غسل الجمعة هو كفارة لما بين الجمعتين».

إذن كان دخول الحمام أيضًا للطهارة، وخصوصًا يوم الجمعة: «اغتسل غسل الجمعة» وذلك قبل الذهاب للصلاة.

الحمام يضفي الجاذبية

إن الاستحمام وإزالة الأوساخ والتدليك، كان يترك أثره على الوجه والجسد، فالمستحم يبدو «كالقمر ليلة البدر» وهو يزيد من الإغراء والإغواء «فالحمام يعطي جاذبية خاصة بعد الخروج منه «نهضت على قدميها وهي من أثر الحمام» مما يدل على بروز جمال المرأة بعد خروجها من الحمام.

ويبدو المستحم في أجمل صورة بعد الخروج من الحمام، وقد توردت وجنتاه واحمرت شفتاه ولمع جلده.

فالتدليك كان يترك أثره على الجسد، والحمام يضفي الإشراق والرونق والحيوية على من يدخله.

الحمام واحة السعادة

من حكايات ألف ليلة وليلة أنها «لما رأت أختيها في هيئة شحادتين..أرسلتهما إلى الحمام وألبست كل واحدة حلة جديدة».

فأجواء الحمام تبعد القلق والضيق ، وتترك الإنسان في حالة من الاسترخاء والنشوة، لذلك بعد الانتهاء من الاستحمام يقوم المستحم بالاستلقاء والتمدد، لهذا خصصت قاعات خاصة لهذا الأمر كانت مفروشة بالبسط والأرائك والمساند الوثيرة.

ولأن الحمام مكان للراحة فإن الملوك ينصحون به «قال الملك للوزير: رح إلى بيتك واسترح...وأدخل الحمام» فإرساله إلى الحمام إنما يدل على الموقع المميز الذي حظي به الحمام في ذاك الزمن.

بعد المرض

ويلعب الحمام دوراً علاجياً أيضاً «وبعد أن تعافى الملك من مرضه لا بد من دخول الحمام، ثم أدخله الحمام وغسل جسده وأخرجه فصار جسمه مثل قضيب الفضة.. وعاد لما كان عليه من الصحة وردت له العافية أحسن ما كانت أولاً». وفي قصة أخرى «لما خرج الملك من الحمام نظر إلى جسده فلم يجد فيه شيئاً من البرص وصار نقياً مثل الفضة البيضاء». وفي الحمام لا بد من وجود المشروبات المنعشة والروائح الزكية.

والمرأة أيضاً تدخل الحمام بعد المرض، ودخولها الحمام إنما يؤكد على شفائها، فالحمام هو المحطة الفاصلة ما بين المرض والشفاء، كما تدخله المرأة بعد مرور أربعين يوما على الولادة.

وفيه تتم الحجامة، حيث يتم سحب الدم الفاسد من الجسد، وبعد المرض لا بد من دخول الحمام فيدل ذلك على أن المرء شارف على الشفاء، وتكون مناسبة دخوله الحمام فرصة يستعيد فيها المريض عافيته وهكذا، فالعافية إنما تسترد في الحمام «إن الحمام نعيم الدنيا... جعله الله لك ولأولادك عافية».

بعد الحزن

ومادام الإنسان في فترة حداد، بعد فقدان شخص عزيز فإنه لا يدخل الحمام، وقد تطول هذه المدة أو تقصر، ولكن غالباً ما يصر أقارب المحزون على تعزيته ويلحون عليه للخروج وخصوصا... إلى الحمام.

وقبول المحزون بالدخول إلى الحمام يعني أنه قد فك حداده «ولم يزالوا به (المحزون) حتى دخل الحمام وفكوا حزنه» وهكذا فإن المحزون عندما يدخل الحمام معناه أن حداده قد انقضى.

«دخلت الحمام وغيرت أثوابي» وذلك أن نزع الأثواب إنما يدل أيضاً على نزع الحزن، والماء الذي يغسل الجسد من الأوساخ انما هو أيضاً يغسله من الأحزان والهموم، فالغسل يتم من الخارج ومن الداخل أيضاً.

وإذن فلا بد من دخول الحمام للإنتقال من فترة الحزن إلى فترة الحياة العادية. وحتى بالنسبة للملوك «لا طفوه وسلوه - أحد الملوك - وبعد ذلك أدخلوه الحمام، فلما خرج من الحمام لبس بدلة فاخرة منسوجة من الذهب مرصعة بالجوهر والياقوت، ووضع تاج الملك على رأسه وجلس على سرير ملكه». فبعد الخروج من الحمام كانت بداية جديدة.

بعد السفر

وتحفل قصص ألف ليلة وليلة بسرد أخبار الملوك وأبنائهم لدخول الحمام بعد السفر، ولا يقتصر الأمر على ذلك فحتى الجواري كن يدخلن الحمام بعد السفر، قبل تقديمهنّ للملوك

«أمر الملك الجواري.. أن يدخلوها الحمام ويجهزوا لها الحلي وأخرجوها من الحمام كأنها البدر التمام».

وعندما يكون المرء مسافراً في أحد البلاد، فإنه لا بد من ان يدخل فيها الحمام

«قم بنا نتفرج على المدينة وندخل الحمام»، والمدن التي ليس فيها حمام، انما تعتبر مدناً غير مكتملة.

دخول الحمام قبل العرس

والأفراح لا تكتمل إلا بدخول الحمام... إن كان للعريس أو للعروس، فالعريس يدخل الحمام مع أصحابه وأقاربه وأهله حيث يستأجره ليوم أو أكثر قبل العرس، وبعد الاستحمام يلبس أفخر ثيابه ويأخذه من الحمام إلى بيته محمولاً على الأكتاف.والذهاب إلى الحمام، إنما يدل على العز والثراء الذي ينعم به العريس.

أما العروس فالذهاب إلى الحمام يكون مناسبة لها لتستعرض ما لديها من مجوهرات وثياب فاخرة، لذلك فإن العروس تجلب معها إلى الحمام الفوط والطاسات ومجامر البخور والأغطية والشموع وغيرها من الأشياء مما يدل على ثرائها.

وكان الحمام يخلو من جميع الناس عند زيارة العروس فهو يقتصر على أهلها وأصدقائها وأقاربها وبعد الاستحمام ترتدي العروس الثياب المضمخة بالطيب وتزف إلى عريسها.

دخول الحمام للمتعة

كان يمكن للملك أن يحجز الحمام له ولحاشيته، وإذا أراد فلا يدخله أحد غيره

«أمر بإخلاء الحمام فأخلي ودخلا جميعاً» مما يدل على أهمية زيارة الحمام حتى بالنسبة للملوك. وفي بعض قصص ألف ليلة وليلة نجد أن الجلسة لم تكن لتكتمل بين الرجل والمرأة إلا بدخول الحمام. وفي بعض الحكايات تطلب المرأة من الرجل أن يخلوا لوحدهما في الحمام وتقول شعراً:

إلى الحمام قم يا نور عيني = نري الفردوس في وسط الجحيم
ونعبقها بعود الند حتى يفوح = الطيب في القطر الصميم
ونصفح عن ذبوب الدهر طراً = ونشكر فضل مولانا الرحيم
وأنشد إذ أراك هناك فيها = هنيئاً يا حبيبي بالنعيم

ففي الحمام ينسى المرء همومه، وهواجسه، ويعيش لحظاته مستمتعاً بالماء والحرارة مما يؤمن له الاسترخاء، طبعاً لأن من شروط الحمام خلع الثياب، وهو ما يؤمن جزءاً من الحرية.. التي تسلبه إياها الثياب.

المرأة في الحمام

لم يكن الحمام يقتصر على الرجال فقط بل إنه أيضاً أثار رغبة النساء بالخروج من المنزل، ولهذا كان أصحاب الحمامات يقسمون دوام الحمام، بعض الأيام للرجال وبعضها للنساء، أو من الصباح إلى الظهر للرجال ومن الظهر إلى المساء للنساء، وكانت توضع إشارة على الباب تدل على ان الحمام محجوز للنساء.

وكانت زيارة الحمام أحد النشاطات المهمة للمرأة، وهي إحدى المناسبات التي تجتمع فيها المرأة بغيرها من النساء، ويتبادلن الأحاديث.. بل كانت مناسبة لتستعرض فيها المرأة مالديها من مجوهرات وثياب فاخرة، وهذا مادفع «بالخاطبات» إلى قصد الحمام ، والاقتراب من الصبايا ومعرفة مقاييسهن ومواصفاتهن ونقلها لعرسان المستقبل، خصوصًا أن بعض الخلوات في الحمام تكون فيها النساء عاريات الا من منشفة الوسط.

وعندما يكون الحمام للنساء، يكون جميع العاملين فيه من النساء: البلانة، المكييسة، الحجامة والحارسة.

ولم يكن الرجل ليمنع زوجته من زيارة الحمام، بل على العكس كان يشجعها، لأن ذلك إنما يدل على تقدمه وارتقائه، وتشبها بزوجات الملوك والحكام، وكانت تحمل معها الأغراض التي تستعد لتحضيرها قبلا، وكذلك الأكل والمشروبات وغيرها.

نعيم الدنيا: عيشا وشعرا

إن لحظات الهناء الذي يعيشها المرء داخل الحمام، إنما تذكره بالجنة، فالحمام ليس إلا الجنة الأرضية لما فيه من بهجة وسرور وراحة، فأطيب عيش ذاك الذي ينقضي في الحمام، والوقت فيه ممتع ولذيذ لكنه قصير، لابد له من انتهاء.

إن عيش الحمام أطيب عيش = غير أن المقام فيه قليل
جنة تكره الإقامة فيه = وجحيم يطيب فيها الدخول

وحرارة الحمام إنما تذكر أيضا بالجحيم، ولكن هذا الجحيم مرغوب ومطلوب ويمكن الإقامة فيه مؤقتا.

وبيت له من جلمد الصخر أزهار = أنيق وإذا ما أضرمت حوله النار
تراه جحيما وهو في الحق جنة = وأكثر ما فيها شموس وأقمار

ولا شك أن الحمام كان يتميز بسيراميكه الجميل ومزاييكه البديع، وأجوائه المريحة،

التي تفرح المستحم، إضافة إلى هندسته التي تسمح بالاحتفاظ بالحرارة والنظافة والسلامة.

ياحسن نار والنعيم عذابها = تحيى به الأرواح والأبدان
فأعجبت لبيت لا يزال نعيمه = غضا وتوقد تحته النيران
عيش السرور لمن ألم به وقد = سفحت عليه دموعها الغدران

وهكذا يشكل الحمام مفصلا، حيث تغسل الماء الإنسان وتطهره، وفي وقت تكون فيه الحرارة مرتفعة تعمه بالدفء والامان.

والعمال في الحمام هم من أصحاب الخبرة في التدليك والتكييس والحلاقة والحجامة، وعلى عاتقهم تقوم إراحة المستحمين.

وافيت منزله فلم أر حاجبا = إلا ويلقاني بوجه ضاحك
ودخلت جنته وزرت جحيمه = فشكرت رضوانا ورأفة مالك

فكل ما في الحمام إنما يدخل السعادة إلى الإنسان، الاستحمام والنظافة والاسترخاء والراحة والجلوس والمعاملة والحديث والأكل.

لكن هذه الجنة هي الجحيم أيضًا، نظرا لناره المستعرة ومياهه الساخنة، إنما هذا الجحيم مرغوب.

فالحمام يحمل معنى آخر بالرغم من أهمية النظاقة في هذه الحياة، لكن الحمام يذكر أيضا بالحياة الأخرى، إنه يضع الإنسان أمام مصيره هو، فهناك الجنة وهناك النار.

أطيب طيبات الدنيا

حظي الحمام بعز ومجد في مرحلة مهمة من تاريخنا، مترافقا مع ثقافة عامة، تؤيد الحس الجماعي المشترك، ومع بروز الفردية والخصوصية انتقل الحمام إلى داخل البيت، وأصبح من الأمكنة الخاصة التي من غير المسموح للغرباء انتهاكها.

ويمكن أن يكون الشعور المترافق بالذهاب إلى الحمام قديما يشبه اليوم شعورنا عندما نريد الذهاب إلى البحر، نحن نسترخي تحت الشمس وهم يسترخون في اجواء البخار المتصاعد من المياه الساخنة المندلقة من الفسقيات والصنابير.

وحفلت الحمامات الغابرة بأجواء الفرح والسعادة، خصوصا عندما تكون للنساء، حيث كانت تترجم غناء وطربا ورقصا .. وإلى الآن كم يحلو الغناء تحت الدش والرقص تحت حبات الماء.

ولأن الحمام لا يعطي إلا هذا الشعور بالنعيم، نقول للجميع: «نعيماً».
 
أعلى