نقوس المهدي
كاتب
كان عليّ أن اخترق أول التابوهات مطوّقة بخوفي وحده، فكيف لمخترق المحظور أن يكفّ عن الخوف وهو أمام كشف مدهش ؟؟ شهوة مواجهة المجهول هي ما يجعل الخوف وليس الإقدام دافعا لاختراق المحرّمات، الحواسّ البكر تنقذف في التجربة وتجعلنا نبصر ونشمّ ونسمع ونتذوق ونلمس وفي الغالب نشم ّأكثر في الصمت، الخوف من الانفضاح هو ذاته سرّ لذتنا في الاكتشاف، الانفضاح وحده لا يكفي. مع أوّل كتاب لمسته يداي- غير كتب المدرسة – فغمت أنفي رائحة التبغ الخام، ممتزجة برائحة الكتب الصفراء - الورق الهشّ والطباعة الحجرية، مزيج من روائح كانت تفور من نبع سرّيّ في حجرة معتمة تسلّلت إليها ذات ظهيرة صيف أنا الصبية الصغيرة التي تتصبّب عرقا وترتعش وهي تعبر الغرفة إلى كشوفها الأولى لتمزق أوّل الحجب ..
الخوف من انكشاف تسلّلي إلى حجرة المحرّمات يرعش يديّ النحيلتين وهما تقلبان الكتب الشهيّة في بصيص نور يتسلل من كوة وسط السقف يدعونها (السماية) -والكلمة تصغير عامّي لصفة منسوبة للسماء.. كانت السماء سندي في الانغماس بالخطيئة الأجمل : استراق قراءة الممنوع والمحظور.
مفارقة جعلتني وأنا صبية أتمزق بين أشواق أرضية ونزوع سماوي، فدخلت ظلال الكلمات وأطياف المعاني وترحلّت في خفاء الحلم دون أن أفقد ظلي .. أبي كان ماركسيا حالما باليوتوبيا والعدالة موهوما - شأنه شأن الكثيرين- بالنظرية التي سحرتهم وعودها الفردوسية . هو وصحبه كانوا يتداولون كتبا ومجلات وصحفا تعذر عليّ- وأنا ابنة التاسعة- أن أعي مضامينها، وكانوا يتعمدون إغوائي بقراءتها، وما كنت أحفل بها آنئذ، أقلبها بعجالة وأهجرها إلى أحلامي وقصصي الطفولية التي كنت اكتبها وأرسم أحداثها في الصفحة المقابلة وأتمتع بخلق شخصيات لا وجود لها في عالم الكبار المقنن، حتى ملأت دفاتري المدرسية كلها بالحكايات والرسوم ونلت عقابا من معلماتي وزجرا من الوالدين .. مقابل ضلال أبي الماركسي - كما كان يقال – كان زوج خالتي تاجر التبغ المتدّين يحظى باحترام العامة ونفور المتعلمين والمثقفين، ومقابل كتب أبي التي تتخطّى فضاء المقدس إلى مدى حرية الفكر وتفنيد ما هو مستقرّ وثابت من الأحكام – كان زوج خالتي يقيم أذكارا دينية كل ليلة جمعة في داره أو في خان البلدة القديم، ويؤمّ الذكر دراويش ومشرّدون ومتصوّفة ومشايخ وجياع ولصوص يتقمصون توبة لليلة واحدة -وكان يرقي المرضى والمصروعين ويعوّذ الأطفال بالأحجبة ويقوم هو وجمع من المريدين وعوائلهم بزيارات لمراقد الأولياء لتقديم الولاء والصدقات وفك أسر المأخوذين واستنزال الخصب لأرحام النساء العواقر..
وأنا الصبية مهدورة الروح بين الإلحاد الذي وصم به الأب المارق في أوساط المتدينين وبين ليالي الذكر والمدائح النبوية وتمجيد الرسل وصيحات الوجد : حي ..حي، كنت أتبدد ما بين الرفض والقبول لكلا الأمرين وابحث عن منجى في الركون لملاذ أجهل بلوغه.. لكني كنت أتوق إلى حضور ليالي الذكر وسماع النقر على الدفوف ومشاهدة انخطاف المتصوفة في حالات الوجد والتوحد بخالقهم، كان الأمر مثيرا لخبرات طفولتي، وكنت أرافق أمي في أماسي الذكر ونجلس مع النساء على سطح البيت لدى السياج الحديديّ المطلّ على الفناء ونتفرج على مجريات الليلة من أول طقوسها حتى اكتمالها .. في الوقت ذاته كان إحساسي بالانفصال عن العالم الواقعي يدفعني إلى تصور نفسي طفلة ضالة أتت من عالم آخر لا تعرفه هي نفسها، كنت أحّسنيّ بلا أب ولا أم ولا أهل وأعدو في النهارات إلى البساتين وضفاف الأنهار بعد الدروس، وفي الليل أرقب نجوما بعيدة وأحاور أصدقائي من الشجر والطير والزهور والقطط..
ذات ظهيرة والكل نيام في قيلولة الصيف سقط عصفور صغير من عشّه في نخلة تتوسط فناء بيت الخالة، ودخل نافذة إحدى الحجرات المحيطة بالفناء. تسللت وراءه من باب الحجرة التي كانوا يحرمون علينا دخولها نحن البنات الصغيرات - وهي مخزن لغلة التبغ التي يأتون بها من بلدة راوندوز في جبال الشمال من بلاد الأكراد - فرأيت حزما كبيرة من أوراق التبغ المجفّفة بعروقها الخشنة معلقة على الجدران، التبغ الناعم كان معبأ في أكياس الجوت الكبيرة، سلال أخرى كانت ترصّ فيها كميات من التبغ الخشن وعلى الجدار المقابل للباب كانت عشرات الدفوف التي تستخدم في الطقوس الدينية معلقة هناك. قفز العصفور ما بين تلال التبغ وجدار الدفوف ولاحقته وهو يقف على إطار دف عملاق. مددت يدي، فارتطمت ذراعي بالدف وسقط على الأرض محدثا ضجة مجلجلة حسب ما أوهمني خوفي، وطار العصفور من النافذة. ولبثت هناك سجينة مغامرتي وفضولي، رأيت قبالتي خزانة كتب، كان هناك سرّ الأسرار ومجمع الغوايات كلها، ولهذا حظر على البنات دخولها، مددت يدي إلى أكبر الكتب حجما، كان كتابا أصفر الغلاف وقد تبقع بضوء الكوة السماوية: ألف ليلة وليلة، قرأت الاسم وأنا في رعبي أتخيل حشدا من الليالي السود تحيط بي وتضغط على قلبي الراعش، فيسقط في الظلمات. ألف ليلة من الليل الذي كان يرعبني بأشباحه وغيلانه المنبثقة من كهوف المخيلة.. كيف تكون هذه الآلاف من الليالي؟ تساءلت ابنة السنوات التسع وشرعت تبحث عن إجابة ..
تصفحت الكتاب السميك الذي تمزقت حافات أوراقه الهشة، وتضافرت رائحة التبغ ورائحة الورق العتيق وعبق الظلمة ورائحة الجلد الرقيق المشدود على أطر الدفوف في صنع جوّ من الغرابة للصبية الخائفة، ولكي أتجاوز خوفي المركب من دخول الغرفة واكتشاف الكنز المحرّم خطفت ورقة تبغ ومضغتها فلذعني مذاقها المرّ الحارق والتهبت شفتاي .. في هذه البرهة الخارجة من سياق زمن الطفولة، كنت أتعرّف إلى لذّة المحرّم المجهول وأنا أقلب صفحات سفر الحكايات وألج باب الخيال والرؤى في مطاردتي لطائر صغير وأنغمر في لجج من روائح متنافرة : عبق التبغ المرّ وخفة شذى ماء الورد ورائحة الجلد والخشب وأوراق الكتب العتيقة وغبارها الشهيّ ورائحة البسط الصوفية المنقوشة بموتيفات سومرية وبدوية ..
وبدأت أقرأ وتسمرت أمام أحداث الحكاية –الإطار لألف ليلة ودفعني فضولي لمواصلة القراءة وملاحقة مصير الفتاة التي اختارت المجازفة بحياتها لتكشف سر الملك الفاتك قاتل النساء وترجئ موتها وموت البنات المضحى بهن على مذبح شهوات ملك عاجز .. أصابني الدوار وأنا أتوغل في النص ورائحة التبغ تفغم حواسي .. كنت قد شهدت ليلة الأذكار الصوفية بالأمس وأرهفت السمع للأناشيد الدينية ينشدها مغنّ ضرير مع بطانته من المنشدين على إيقاع نقر الدفوف، كان الدراويش ينودون برؤوسهم ويتحركون على الإيقاع المتواتر المتسارع ويهمهمون بكلمات مبهمة، حتى إذا تعالى صوت المنشد بالمدائح النبوية وهاجت مشاعر المنصتين وقفت مجموعة منهم وتحركت الأجساد النحيلة حركات مترنحة وتمايلت على وقع النقر في سماع روحاني، بغتة رأيت أحد الدراويش مأخوذا بحالة الوجد-يسقط وسط حلقة الرجال الذاهلين في الغياب، حملت خالتي مرشاشا من الفضة ونثرت ماء الورد على وجهه الشمعي وانحنى عليه أحد الدراويش وصاح : حيّ .. حيّ .. أفاق المأخوذ من غيابه وتعالت ضربات الدفوف فنهض الرجل بعينين ذابلتين وفم راعش وهو يحدق في العدم بنظرات مما وراء الوجود. من تلك اللحظة أدركت ماهية السماع وقوة الموسيقى التي ارتبطت لاحقا مع النص الغرائبي لألف ليلة، وكان مصير الكاتبة اللاحق قد بدأ يشكل بذرته الأولى على نواة صغيرة من المجازفات والاندهاش بالسماع الذي صيرني عاشقة للموسيقى من طراز خاص..
في غرفة المحرمات وجدت كتبا لم أدرك مبانيها الغامضة، كتبا لابن عربي والشيخ عمر السهروردي ( الذي كان مدفن والده المتصوف الأشهر شهاب الدين السهروردي يتوسط بلدتنا قرب مدفن الولي أبي الغيث ). وثمة إلى جانب هذه الكتب الغامضة، كانت كتب صغيرة أدهشتني مخيلة كتابها المجهولين كلما تسللت إلى حجرة المحرمات كنت اقرأ واحدا منها على عجل: كتاب الإسراء والمعراج والكائن المجنّح الذي حلّق بين مدارج السماوات، وكتاب الزير سالم وتغريبة الهلاليين وكتاب رصد النجوم وقصص الأنبياء، غواية زليخا ومحنة أيوب وصبر يونس في جوف الحوت ومعجزات موسى والمسيح الذي شفى الأبرص والأكمه وأحيى لعازر بلمسة من يده .. كان أبي يحذرني من الانجراف في لذة الخرافة والكتب التي توقف اشتغال العقل ويحضر لي كتبا من مكتبة صديقه عبد الوهاب الرحبي مؤسس التنظيم الشيوعي في بلدتنا (بهرز ) التي تحولت الآن إلى مقر قيادة فصائل (القاعدة )في زمن الاحتلال الأمريكي للعراق..
أحضر لي أبي عددا هائلا من روايات الهلال ومجلة الهلال وأعدادا من مجلة (كتابي ) ورواية الأم لمكسيم غوركي وروايات أخرى لتورجنيف وديوان الجواهري وأدهشتني قصيدته عن (أرسطو) وقصائده التي تهجو الحكام ويتداولها المعارضون ويبشرون بها .. كنت أهرب بين قراءاتي المتناقضة للكتب الدينية والتراثية في بيت خالتي وبيت جدي لأبي وكتب والدي إلى اللعب مع صديقتي اليهودية دوريس وأختيها مادلين ونادرة، نمضي الظهيرات على شاطئ نهر ديالى نصطاد أسماكا وسلاحف صغيرة ومحارا ونبني من الرمال الرطبة بيوتا وجسورا ونغيب عن زمن الآخرين مأخوذات بأحلام وتخيلات، وسرعان ما يتذكرنا الكبار ويبحثون عنا فيجدنا شقيقهن ( باروخ) مدرّس اللغة الإنكليزية ونحاول هربا، لكنه يصحبنا بنظرة آمرة من عينيه الزرقاوين إلى بيتهم مقابل بيت خالتي ويدير جلسة لتعليمنا مقتطفات من لينين وأناشيد ثورية ومقولات لكتاب وشعراء، وبعدها يذاكر لنا درس اللغة الإنكليزية ويوزع علينا كتبا صغيرة ويخصص جائزة لمن تقرأها وتفهمها منا، جوائزه كانت أقلاما ملونة وثمار رمّان شهية وقطع حلوى، كان باروخ يحاول صنع نواة من البنات الصغيرات لتنظيم شيوعي فتيّ سوف يغير من أوضاع النساء في القرية كما كان يردد أمامنا، لكن مشروع تثقيفنا انهار فجأة عندما أعتقل باروخ وأبي وعبد الوهاب وطالب الطب نبيل يعقوب ومثقف القرية الأشهر حميد ناجي، ووالد صديقتنا حنة، إسحق الخياط ومدرس آخر هو يوسف عبد المسيح ثروة الذي صار مترجما مشهورا ..
لبثت مأخوذة بغواية القصّ وشخصية القاصة البارعة شهرزاد وخصوبة مخيلتها - حتى كتبت عنها فيما بعد أقصوصة معاصرة بعنوان - ما لم يقله الرواة - وظهرت في كتاب حمل اسم القصة ذاتها .. وعندما لم أحتمل كشوفاتي الممتعة الصادمة الغريبة ولبثت أنوء تحت وطأة السر، اعترفت لأمي بأمر الكتاب الغريب ودخولي إلى الغرفة المحظورة .. دعت أمي صديقاتها إلى بيتنا وهيّأت الشاي والكعك وطلبت مني أن أروي لهن كل مساء حكاية من ألف ليلة وليلة بعد أن هربّنا الكتاب سرا من غرفة المحرمّات في غفلة من رقابة خالتي الصارمة .. ارتبطت معرفة خفايا النساء والجنس وحكايات العشق العجيبة بين غزالة وفتى وبين قرد وأميرة وإوزة وملك بروائح التبغ ونقر الدفوف وأشذاء ماء الورد والزعفران، وكلما ذكر كتاب ألف ليلة وليلة فغمت أنفي تلك الرائحة واستعادت حواسّي غبطة الكشف الأول لمعارفي الجديدة عن النساء والرجال والجنس والسلطة والمكائد والحيل العجيبة للعشاق وهشاشة الملوك ووحشية السيّاف مسرور وترف هارون وغنج زبيدة وزوال الدول وخراب البلدان أمام “هادم اللذات ومفرق الجماعات : الموت..” بعد سنوات وأنا في سنّي مراهقتي أتعرف إلى توفيق الحكيم وطه حسين وجبران خليل جبران واسكار وايلد وأكتب دراسة جريئة عن رواية توفيق الحكيم ( الرباط المقدس) وأنا في المرحلة المتوسطة أنال عليها أوّل جائزة في حياتي هي كتاب للحكيم أيضا . قبل أن أنغمس في هوس القراءات الوجودية – أهداني الشاعر الراحل رشدي العامل كتاب ( قوت الأرض ) لأندريه جيد الذي تحول لدى جيلنا إلى إنجيل يبشر بالمتع الأرضية والرؤية الصوفية الممتزجة بالنزوع المادي لاقتناص المتع من سخاء الطبيعة، من الشجرة والزهرة والجسد والعطر والشذى البري ومذاق التوت والثمار التي بوركت بكشوف الإنسان لملذاتها. سارتر وألبير كامو وسيمون دوبوفوار كانوا يشكلون الثالوث المقدس لبناة الحرية ورعاتها..وكانت المسرحيات الشهيرة والروايات التي ترجمت لهؤلاء الكتاب - زادنا اليومي.ومدار أحاديثنا وأحلامنا، نمط عيشهم وأفكارهم وطروحاتهم طبعت بطابعها المشهد الثقافي بأكمله تقليدا أو اعتناقا حرا، (قوة الأشياء ) لدوبوفوار مع (الإنسان المتمرد) لكامو و(سجناء التونا) لسارتر مع رواية ( المثقفون) لدوبوفوار و(كاليغولا ) كامو... تعرفت بعدهم إلى همنغواي ويوجين أونيل وهنري ميللر واليخاندرو كاسونا وشارلز ديكنز وتوماس هاردي وفولكنر وإفتشنكو واللورد بايرون ود.ه. لورنس ولوركا وبوشكين وتولستوي وأراغون وأنطونيو غالا وأزوالد اشبنغلر وهيغل وغرامشي، وبين كل هؤلاء كان أنطوان دي سانت أكسوبيري يتألق بروائعه: الأمير الصغير وأرض البشر وطيران الليل وبريد الجنوب والقلعة ..ومازلت أحتفظ في مكتبتي المهجورة ببغداد بنسختين من الأمير الصغير بالعربية والإنكليزية.. أعود بحميمية جارفة إلى قراءة التراث العربي والإسلامي والكلاسيكي العالمي وأقتني ألف ليلة وليلة بجزأين مجلدين ضخمين – طبعة بولاق الشهيرة، وأبدأ بالجاحظ والتوحيدي وابن عربي والسهرودري وإبن سينا وإبن خلدون وابن رشد والفارابي والكندي ورسائل إخوان الصفا وتراث المعتزلة وفريد الدين العطار ودوستوفسكي وتوماس مان وهيرمان هيسة وغوته وأعيد تشكيل شخصيتي من مجموع هذه المؤثرات كلها وانعكاساتها على وعيي وأعمالي ..
من أهم المفكرين الذي أغنوا رؤيتي الشخصية للحياة والإنسان في مرحلة ما ( إيريك فروم ) عالم النفس والاجتماع الذي لقح الماركسية بالفرويدية وبعض مفهومات دينية واقترح طريقا خاصة للإنسان المعاصر تتلخص في عبارة : أن نملك أو أن نكون : To have or to be
انصرفت على مدى سنوات إلى قراءة التراث الرافديني من الملاحم والقصائد والنصوص السومرية والبابلية، وصار من طقوسي السنوية قراءة ملحمة كلكامش التي أملك منها نحوا من ثماني ترجمات مختلفة عن البابلية- وهي النصّ الوجوديّ الفاتن الذي شغل كاتبه المجهول سؤال الموت وعبثية الحياة وشهوة الخلود .. وكتبت مسرحية (الليالي السومرية ) بقراءة معاصرة للملحمة ورؤية من منظور نقدي نسوي، قدمت مرتين في عامين متتالين 1994 و 1995 على مسارح بغداد وأوقف عرضها في المرة الثانية بعد الليلة الأولى، إذ أثارت شخصية المستبدّ الدمويّ في قناع كلكامش ردود فعل على السماح بعرضها .. وحتى اللحظة لا يزال للملحمة السومرية العظيمة تأثيرها الفلسفيّ في أعمالي وموقفي من الوجود الإنساني إزاء معضلة الموت والحياة الإنسانية ، فهي نصّ حيويّ محرّض يصلح لكل عصر
* لطفيّة الدليمي
ألف ليلة وقوت الأرض.. المتع الأرضية وعصيان الوصايا - شهادة عن المؤثرات الأدبية وأوّل الكتب..
الخوف من انكشاف تسلّلي إلى حجرة المحرّمات يرعش يديّ النحيلتين وهما تقلبان الكتب الشهيّة في بصيص نور يتسلل من كوة وسط السقف يدعونها (السماية) -والكلمة تصغير عامّي لصفة منسوبة للسماء.. كانت السماء سندي في الانغماس بالخطيئة الأجمل : استراق قراءة الممنوع والمحظور.
مفارقة جعلتني وأنا صبية أتمزق بين أشواق أرضية ونزوع سماوي، فدخلت ظلال الكلمات وأطياف المعاني وترحلّت في خفاء الحلم دون أن أفقد ظلي .. أبي كان ماركسيا حالما باليوتوبيا والعدالة موهوما - شأنه شأن الكثيرين- بالنظرية التي سحرتهم وعودها الفردوسية . هو وصحبه كانوا يتداولون كتبا ومجلات وصحفا تعذر عليّ- وأنا ابنة التاسعة- أن أعي مضامينها، وكانوا يتعمدون إغوائي بقراءتها، وما كنت أحفل بها آنئذ، أقلبها بعجالة وأهجرها إلى أحلامي وقصصي الطفولية التي كنت اكتبها وأرسم أحداثها في الصفحة المقابلة وأتمتع بخلق شخصيات لا وجود لها في عالم الكبار المقنن، حتى ملأت دفاتري المدرسية كلها بالحكايات والرسوم ونلت عقابا من معلماتي وزجرا من الوالدين .. مقابل ضلال أبي الماركسي - كما كان يقال – كان زوج خالتي تاجر التبغ المتدّين يحظى باحترام العامة ونفور المتعلمين والمثقفين، ومقابل كتب أبي التي تتخطّى فضاء المقدس إلى مدى حرية الفكر وتفنيد ما هو مستقرّ وثابت من الأحكام – كان زوج خالتي يقيم أذكارا دينية كل ليلة جمعة في داره أو في خان البلدة القديم، ويؤمّ الذكر دراويش ومشرّدون ومتصوّفة ومشايخ وجياع ولصوص يتقمصون توبة لليلة واحدة -وكان يرقي المرضى والمصروعين ويعوّذ الأطفال بالأحجبة ويقوم هو وجمع من المريدين وعوائلهم بزيارات لمراقد الأولياء لتقديم الولاء والصدقات وفك أسر المأخوذين واستنزال الخصب لأرحام النساء العواقر..
وأنا الصبية مهدورة الروح بين الإلحاد الذي وصم به الأب المارق في أوساط المتدينين وبين ليالي الذكر والمدائح النبوية وتمجيد الرسل وصيحات الوجد : حي ..حي، كنت أتبدد ما بين الرفض والقبول لكلا الأمرين وابحث عن منجى في الركون لملاذ أجهل بلوغه.. لكني كنت أتوق إلى حضور ليالي الذكر وسماع النقر على الدفوف ومشاهدة انخطاف المتصوفة في حالات الوجد والتوحد بخالقهم، كان الأمر مثيرا لخبرات طفولتي، وكنت أرافق أمي في أماسي الذكر ونجلس مع النساء على سطح البيت لدى السياج الحديديّ المطلّ على الفناء ونتفرج على مجريات الليلة من أول طقوسها حتى اكتمالها .. في الوقت ذاته كان إحساسي بالانفصال عن العالم الواقعي يدفعني إلى تصور نفسي طفلة ضالة أتت من عالم آخر لا تعرفه هي نفسها، كنت أحّسنيّ بلا أب ولا أم ولا أهل وأعدو في النهارات إلى البساتين وضفاف الأنهار بعد الدروس، وفي الليل أرقب نجوما بعيدة وأحاور أصدقائي من الشجر والطير والزهور والقطط..
ذات ظهيرة والكل نيام في قيلولة الصيف سقط عصفور صغير من عشّه في نخلة تتوسط فناء بيت الخالة، ودخل نافذة إحدى الحجرات المحيطة بالفناء. تسللت وراءه من باب الحجرة التي كانوا يحرمون علينا دخولها نحن البنات الصغيرات - وهي مخزن لغلة التبغ التي يأتون بها من بلدة راوندوز في جبال الشمال من بلاد الأكراد - فرأيت حزما كبيرة من أوراق التبغ المجفّفة بعروقها الخشنة معلقة على الجدران، التبغ الناعم كان معبأ في أكياس الجوت الكبيرة، سلال أخرى كانت ترصّ فيها كميات من التبغ الخشن وعلى الجدار المقابل للباب كانت عشرات الدفوف التي تستخدم في الطقوس الدينية معلقة هناك. قفز العصفور ما بين تلال التبغ وجدار الدفوف ولاحقته وهو يقف على إطار دف عملاق. مددت يدي، فارتطمت ذراعي بالدف وسقط على الأرض محدثا ضجة مجلجلة حسب ما أوهمني خوفي، وطار العصفور من النافذة. ولبثت هناك سجينة مغامرتي وفضولي، رأيت قبالتي خزانة كتب، كان هناك سرّ الأسرار ومجمع الغوايات كلها، ولهذا حظر على البنات دخولها، مددت يدي إلى أكبر الكتب حجما، كان كتابا أصفر الغلاف وقد تبقع بضوء الكوة السماوية: ألف ليلة وليلة، قرأت الاسم وأنا في رعبي أتخيل حشدا من الليالي السود تحيط بي وتضغط على قلبي الراعش، فيسقط في الظلمات. ألف ليلة من الليل الذي كان يرعبني بأشباحه وغيلانه المنبثقة من كهوف المخيلة.. كيف تكون هذه الآلاف من الليالي؟ تساءلت ابنة السنوات التسع وشرعت تبحث عن إجابة ..
تصفحت الكتاب السميك الذي تمزقت حافات أوراقه الهشة، وتضافرت رائحة التبغ ورائحة الورق العتيق وعبق الظلمة ورائحة الجلد الرقيق المشدود على أطر الدفوف في صنع جوّ من الغرابة للصبية الخائفة، ولكي أتجاوز خوفي المركب من دخول الغرفة واكتشاف الكنز المحرّم خطفت ورقة تبغ ومضغتها فلذعني مذاقها المرّ الحارق والتهبت شفتاي .. في هذه البرهة الخارجة من سياق زمن الطفولة، كنت أتعرّف إلى لذّة المحرّم المجهول وأنا أقلب صفحات سفر الحكايات وألج باب الخيال والرؤى في مطاردتي لطائر صغير وأنغمر في لجج من روائح متنافرة : عبق التبغ المرّ وخفة شذى ماء الورد ورائحة الجلد والخشب وأوراق الكتب العتيقة وغبارها الشهيّ ورائحة البسط الصوفية المنقوشة بموتيفات سومرية وبدوية ..
وبدأت أقرأ وتسمرت أمام أحداث الحكاية –الإطار لألف ليلة ودفعني فضولي لمواصلة القراءة وملاحقة مصير الفتاة التي اختارت المجازفة بحياتها لتكشف سر الملك الفاتك قاتل النساء وترجئ موتها وموت البنات المضحى بهن على مذبح شهوات ملك عاجز .. أصابني الدوار وأنا أتوغل في النص ورائحة التبغ تفغم حواسي .. كنت قد شهدت ليلة الأذكار الصوفية بالأمس وأرهفت السمع للأناشيد الدينية ينشدها مغنّ ضرير مع بطانته من المنشدين على إيقاع نقر الدفوف، كان الدراويش ينودون برؤوسهم ويتحركون على الإيقاع المتواتر المتسارع ويهمهمون بكلمات مبهمة، حتى إذا تعالى صوت المنشد بالمدائح النبوية وهاجت مشاعر المنصتين وقفت مجموعة منهم وتحركت الأجساد النحيلة حركات مترنحة وتمايلت على وقع النقر في سماع روحاني، بغتة رأيت أحد الدراويش مأخوذا بحالة الوجد-يسقط وسط حلقة الرجال الذاهلين في الغياب، حملت خالتي مرشاشا من الفضة ونثرت ماء الورد على وجهه الشمعي وانحنى عليه أحد الدراويش وصاح : حيّ .. حيّ .. أفاق المأخوذ من غيابه وتعالت ضربات الدفوف فنهض الرجل بعينين ذابلتين وفم راعش وهو يحدق في العدم بنظرات مما وراء الوجود. من تلك اللحظة أدركت ماهية السماع وقوة الموسيقى التي ارتبطت لاحقا مع النص الغرائبي لألف ليلة، وكان مصير الكاتبة اللاحق قد بدأ يشكل بذرته الأولى على نواة صغيرة من المجازفات والاندهاش بالسماع الذي صيرني عاشقة للموسيقى من طراز خاص..
في غرفة المحرمات وجدت كتبا لم أدرك مبانيها الغامضة، كتبا لابن عربي والشيخ عمر السهروردي ( الذي كان مدفن والده المتصوف الأشهر شهاب الدين السهروردي يتوسط بلدتنا قرب مدفن الولي أبي الغيث ). وثمة إلى جانب هذه الكتب الغامضة، كانت كتب صغيرة أدهشتني مخيلة كتابها المجهولين كلما تسللت إلى حجرة المحرمات كنت اقرأ واحدا منها على عجل: كتاب الإسراء والمعراج والكائن المجنّح الذي حلّق بين مدارج السماوات، وكتاب الزير سالم وتغريبة الهلاليين وكتاب رصد النجوم وقصص الأنبياء، غواية زليخا ومحنة أيوب وصبر يونس في جوف الحوت ومعجزات موسى والمسيح الذي شفى الأبرص والأكمه وأحيى لعازر بلمسة من يده .. كان أبي يحذرني من الانجراف في لذة الخرافة والكتب التي توقف اشتغال العقل ويحضر لي كتبا من مكتبة صديقه عبد الوهاب الرحبي مؤسس التنظيم الشيوعي في بلدتنا (بهرز ) التي تحولت الآن إلى مقر قيادة فصائل (القاعدة )في زمن الاحتلال الأمريكي للعراق..
أحضر لي أبي عددا هائلا من روايات الهلال ومجلة الهلال وأعدادا من مجلة (كتابي ) ورواية الأم لمكسيم غوركي وروايات أخرى لتورجنيف وديوان الجواهري وأدهشتني قصيدته عن (أرسطو) وقصائده التي تهجو الحكام ويتداولها المعارضون ويبشرون بها .. كنت أهرب بين قراءاتي المتناقضة للكتب الدينية والتراثية في بيت خالتي وبيت جدي لأبي وكتب والدي إلى اللعب مع صديقتي اليهودية دوريس وأختيها مادلين ونادرة، نمضي الظهيرات على شاطئ نهر ديالى نصطاد أسماكا وسلاحف صغيرة ومحارا ونبني من الرمال الرطبة بيوتا وجسورا ونغيب عن زمن الآخرين مأخوذات بأحلام وتخيلات، وسرعان ما يتذكرنا الكبار ويبحثون عنا فيجدنا شقيقهن ( باروخ) مدرّس اللغة الإنكليزية ونحاول هربا، لكنه يصحبنا بنظرة آمرة من عينيه الزرقاوين إلى بيتهم مقابل بيت خالتي ويدير جلسة لتعليمنا مقتطفات من لينين وأناشيد ثورية ومقولات لكتاب وشعراء، وبعدها يذاكر لنا درس اللغة الإنكليزية ويوزع علينا كتبا صغيرة ويخصص جائزة لمن تقرأها وتفهمها منا، جوائزه كانت أقلاما ملونة وثمار رمّان شهية وقطع حلوى، كان باروخ يحاول صنع نواة من البنات الصغيرات لتنظيم شيوعي فتيّ سوف يغير من أوضاع النساء في القرية كما كان يردد أمامنا، لكن مشروع تثقيفنا انهار فجأة عندما أعتقل باروخ وأبي وعبد الوهاب وطالب الطب نبيل يعقوب ومثقف القرية الأشهر حميد ناجي، ووالد صديقتنا حنة، إسحق الخياط ومدرس آخر هو يوسف عبد المسيح ثروة الذي صار مترجما مشهورا ..
لبثت مأخوذة بغواية القصّ وشخصية القاصة البارعة شهرزاد وخصوبة مخيلتها - حتى كتبت عنها فيما بعد أقصوصة معاصرة بعنوان - ما لم يقله الرواة - وظهرت في كتاب حمل اسم القصة ذاتها .. وعندما لم أحتمل كشوفاتي الممتعة الصادمة الغريبة ولبثت أنوء تحت وطأة السر، اعترفت لأمي بأمر الكتاب الغريب ودخولي إلى الغرفة المحظورة .. دعت أمي صديقاتها إلى بيتنا وهيّأت الشاي والكعك وطلبت مني أن أروي لهن كل مساء حكاية من ألف ليلة وليلة بعد أن هربّنا الكتاب سرا من غرفة المحرمّات في غفلة من رقابة خالتي الصارمة .. ارتبطت معرفة خفايا النساء والجنس وحكايات العشق العجيبة بين غزالة وفتى وبين قرد وأميرة وإوزة وملك بروائح التبغ ونقر الدفوف وأشذاء ماء الورد والزعفران، وكلما ذكر كتاب ألف ليلة وليلة فغمت أنفي تلك الرائحة واستعادت حواسّي غبطة الكشف الأول لمعارفي الجديدة عن النساء والرجال والجنس والسلطة والمكائد والحيل العجيبة للعشاق وهشاشة الملوك ووحشية السيّاف مسرور وترف هارون وغنج زبيدة وزوال الدول وخراب البلدان أمام “هادم اللذات ومفرق الجماعات : الموت..” بعد سنوات وأنا في سنّي مراهقتي أتعرف إلى توفيق الحكيم وطه حسين وجبران خليل جبران واسكار وايلد وأكتب دراسة جريئة عن رواية توفيق الحكيم ( الرباط المقدس) وأنا في المرحلة المتوسطة أنال عليها أوّل جائزة في حياتي هي كتاب للحكيم أيضا . قبل أن أنغمس في هوس القراءات الوجودية – أهداني الشاعر الراحل رشدي العامل كتاب ( قوت الأرض ) لأندريه جيد الذي تحول لدى جيلنا إلى إنجيل يبشر بالمتع الأرضية والرؤية الصوفية الممتزجة بالنزوع المادي لاقتناص المتع من سخاء الطبيعة، من الشجرة والزهرة والجسد والعطر والشذى البري ومذاق التوت والثمار التي بوركت بكشوف الإنسان لملذاتها. سارتر وألبير كامو وسيمون دوبوفوار كانوا يشكلون الثالوث المقدس لبناة الحرية ورعاتها..وكانت المسرحيات الشهيرة والروايات التي ترجمت لهؤلاء الكتاب - زادنا اليومي.ومدار أحاديثنا وأحلامنا، نمط عيشهم وأفكارهم وطروحاتهم طبعت بطابعها المشهد الثقافي بأكمله تقليدا أو اعتناقا حرا، (قوة الأشياء ) لدوبوفوار مع (الإنسان المتمرد) لكامو و(سجناء التونا) لسارتر مع رواية ( المثقفون) لدوبوفوار و(كاليغولا ) كامو... تعرفت بعدهم إلى همنغواي ويوجين أونيل وهنري ميللر واليخاندرو كاسونا وشارلز ديكنز وتوماس هاردي وفولكنر وإفتشنكو واللورد بايرون ود.ه. لورنس ولوركا وبوشكين وتولستوي وأراغون وأنطونيو غالا وأزوالد اشبنغلر وهيغل وغرامشي، وبين كل هؤلاء كان أنطوان دي سانت أكسوبيري يتألق بروائعه: الأمير الصغير وأرض البشر وطيران الليل وبريد الجنوب والقلعة ..ومازلت أحتفظ في مكتبتي المهجورة ببغداد بنسختين من الأمير الصغير بالعربية والإنكليزية.. أعود بحميمية جارفة إلى قراءة التراث العربي والإسلامي والكلاسيكي العالمي وأقتني ألف ليلة وليلة بجزأين مجلدين ضخمين – طبعة بولاق الشهيرة، وأبدأ بالجاحظ والتوحيدي وابن عربي والسهرودري وإبن سينا وإبن خلدون وابن رشد والفارابي والكندي ورسائل إخوان الصفا وتراث المعتزلة وفريد الدين العطار ودوستوفسكي وتوماس مان وهيرمان هيسة وغوته وأعيد تشكيل شخصيتي من مجموع هذه المؤثرات كلها وانعكاساتها على وعيي وأعمالي ..
من أهم المفكرين الذي أغنوا رؤيتي الشخصية للحياة والإنسان في مرحلة ما ( إيريك فروم ) عالم النفس والاجتماع الذي لقح الماركسية بالفرويدية وبعض مفهومات دينية واقترح طريقا خاصة للإنسان المعاصر تتلخص في عبارة : أن نملك أو أن نكون : To have or to be
انصرفت على مدى سنوات إلى قراءة التراث الرافديني من الملاحم والقصائد والنصوص السومرية والبابلية، وصار من طقوسي السنوية قراءة ملحمة كلكامش التي أملك منها نحوا من ثماني ترجمات مختلفة عن البابلية- وهي النصّ الوجوديّ الفاتن الذي شغل كاتبه المجهول سؤال الموت وعبثية الحياة وشهوة الخلود .. وكتبت مسرحية (الليالي السومرية ) بقراءة معاصرة للملحمة ورؤية من منظور نقدي نسوي، قدمت مرتين في عامين متتالين 1994 و 1995 على مسارح بغداد وأوقف عرضها في المرة الثانية بعد الليلة الأولى، إذ أثارت شخصية المستبدّ الدمويّ في قناع كلكامش ردود فعل على السماح بعرضها .. وحتى اللحظة لا يزال للملحمة السومرية العظيمة تأثيرها الفلسفيّ في أعمالي وموقفي من الوجود الإنساني إزاء معضلة الموت والحياة الإنسانية ، فهي نصّ حيويّ محرّض يصلح لكل عصر
* لطفيّة الدليمي
ألف ليلة وقوت الأرض.. المتع الأرضية وعصيان الوصايا - شهادة عن المؤثرات الأدبية وأوّل الكتب..