صهيب عنجريني - ألف ليلة وليلة: شهرزاد الكاتبة وقطيعتها مع « حكايات شهرزاد »

يكاد يكون من الثابت أنه لم يحظَ كتابٌ جامعٌ بمثل ما حظي به “ألف ليلة وليلة” من ذيوع الصيت والتأثير في كتَّاب ينتمون إلى ثقافاتٍ وعوالم مختلفة، ولعلَّ العامل الأساسي في هذا الباب هو التنوع في العوالم التي طرقتها حكايات شهرزاد، فقد انتمت تلك الحكايات إلى ثلاثة تراثات على الأقل هي “الفارسي والهندي والعربي”.

الجذور:

يُرجع المستشرق إينو ليتمان E. Littmann المصادر الأولى لحكايات ألف ليلة وليلة الى أصول هندية وفارسية، ونجدُ في كتب المؤرخين العرب ما يؤيد هذا القول، إذ نجد المؤرخ “أبو الحسن المسعودي” يقول في “مروج الذهب” إن هناك حكايات شائعة بين العامة يروونها ويتناقلونها تعرف باسم “هزار افساه - افسان” أي ألف حكاية.

كما أشار الى ذلك “ابن النديم” في “الفهرست” حيث يقول إن “أول من صنف في الخرافات هم الفرس وأول كتاب عمل في هذا المعنى هو كتاب هزار افسان ومعناه ألف خرافة”، ويذكر ابن النديم أن أول محاولة لتدوين “ألف ليلة وليلة” كانت على يد الوزير العباسي “عبد الله بن عبدوس الجهشياري” مؤلف كتاب “الوزراء والكتاب”.

“الف ليلة وليلة”.. مستويات التأثير:

تنوعت التأثيرات التي تركتها حكايات “ألف ليلة وليلة” على الفن الانساني بشكل عام، وأشيرُ هنا إلى ثلاثة مستويات أظن انها تركت بصماتها على الفن الانساني بشكلٍ متوازٍ:

1-تأثيرات عوالم الحكايات: وهذا المستوى تتجلى ملامحه لدى معظم الكتَّاب الغربيين الذين تأثروا بـ “ألف ليلة وليلة”، إذ يحضر العجائبي بقوةٍ في عوالم تلك الحكايات، ويختلط الواقعي بالمتخيَّل، ويتداخل المعقول باللامعقول راسماً مشاهد تأسر القارئ بسحريتها، وقد تركت هذه العوالم أثراً بارزاً تجاوز التأثير في تجربة كاتب او مجموعة كتَّاب ليصبحَ تأثيراً في نشأة مدرسة أدبية بارزة هي “الواقعية السحرية” التي أرى انها اتخذت من سحرية “ألف ليلة وليلة” نموذجاً يُحتذى مع مراعاة اختلاف أدوات العصر، فإذا كان إقحام الجن والعفاريت في السرد الحكائي أدى -كما لاحظ تودوروف Todorove- إلى ظهور حكاية جديدة تأسر شهريار، وتؤجل موت السارد شهرزاد، فربما كان إقحام العجائبي لدى كتاب الواقعية السحرية وسيلةً لأسر القارئ وتأجيل موت المسرود – الرواية.

2-تأثيرات مضامين الحكايات: وتتجلى ملامحه بشكل أكبر لدى الكُتَّاب العرب، الذين حاكوا “ألف ليلة وليلة” أو أعادوا إنتاجها مقترحينَ نهاياتٍ مختلفةً لها، ومُسقطينَ إياها على الراهن العربي سيَّما شقه السياسي، مدفوعين – ربَّما – بالرغبة في تحاشي سطوة الرقيب، وقد استفاد من هذا الباب الكُتَّاب المسرحيون أكثر من سواهم، وربما كان مردُّ ذلكَ إلى أن المسرح فنٌّ جماهيري يثيرُ حفيظة الرقيب/ السلطة، فوجدَ الكاتبُ ضالَّته في رمزية حكايات “ألف ليلة وليلة” وإسقاطاتها “سعد الله ونوس نموذجاً في عدة نصوص مثل: الفيل يا ملك الزمان – مغامرة رأس المملوك جابر”.

3-تأثيرات أبطال الحكايات ورمزيتهم: حيثُ تحوَّل أبطال الكتاب الأساسيون إلى رموز ودلالات حضرت أكثرَ ما حضرت في الشعر العربي، حيث “شهريار” رمز للدكتاتورية، و”شهرزاد” رمز الأنثى الساحرة شكلاً وعقلاً، و”مسرور” رمزٌ لآلة القتل.

“ألف ليلة وليلة” والأدب العالمي:

يحضر تأثير حكايات وشخصيات “ألف ليلة وليلة” بشكلٍ كبير لدى عددٍ من أبرز الكتاب العالميين، وقد أمست تلك الحكايات معادلاً لدى البعض لسحر الشرق، وها نحنُ نجد “غابرييل غارسيا ماركيز” يؤكد أنه لو لم يعثر على “الف ليلة وليلة” صدفةً في مكتبة جده لما صار أديباً، يقول: “هو ما صنع مني أديباً، بعد أن سحرتني الحكايات داخله، وأكثر ما شُغِفت به هو دور الراوي”، ويقول أيضاً: “تعلّمت من ألف ليلة وليلة ما لن أنساه أبداً؛ وهو أنه يجب أن نقرأ فقط الكتب التي تُجبرنا على أن نعيد قراءتها”.

أما “غوته” فقد أعلن أنه شغف بألف ليلة وحفظ حكاياتها وعاش فيها، ومن ظلال تأثره نجد بطل “آلام فرتر” يتحدث عن حكايات الجدة المشوقة، وعن جبال المغناطيس، والسفن التعسة التي تتفكك... كما استلهم الكتاب في عمله “فيلهلم مايستر”.

ويكاد لا يخلو حوار مع الأرجنتيني الساحر “خورخي لويس بورخيس” من إشارةٍ إلى “ألف ليلة وليلة” وأثره.. يقول مثلاً: “نحن نعرف انه بدخولنا في هذا الكتاب يمكننا أن ننسى قدرنا الانساني البائس”.

كما يقرُّ “بوشكين” بأن عمله الشعري “رسلان ولودميلا” قد تأثر بألف ليلة وليلة، ومن القائمة الطويلة نجد أيضاً ملحمة “”الديكاميرون” أو “الليالي العشر” للإيطالي “جيوفاني بوكاتشيو”، و”حكايات كانتربري” لجيفري تشوسر.

“ألف ليلة وليلة”.. حضورٌ أساسي

في ولادات السرد العربي:

بات من المسلَّم به أن السردَ حالة طارئةٌ على الأدب العربي على عكس الشعر، ولعلَّ روَّادَ السَّرد العربي قد رأوا في “ألف ليلة وليلة” معيناً يتكئون عليه في تشكيل ملامح البدايات لسردهم، فإذا نظرنا إلى بدايات المسرح العربي سنجدُ محاولاتٍ عديدة لمسرحة تلك الحكايات، مثلما فعل مارون النقاش (1817-1855م) في مسرحيته “أبو الحسن المغفل” التي استلهمت من حكاية “النائم واليقظان”، وأبو خليل القباني (1835-1902م) في مسرحية “هارون الرشيد مع الأمير غانم وقوت القلوب”، “الأمير محمود ونجل شاه العجم”، كما نجد ذلك عند مسرحيين لاحقين، مثل “توفيق الحكيم” في مسرحيته “شهرزاد”... وصولاً إلى “حكايات الملوك” لممدوح عدوان.

أما الرواية العربية فيرجع اتصالها بحكايات ألف ليلة وليلة إلى أواخر القرن التاسع عشر، ويرى “محمد رياض وتار” في كتابه “توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة” أن الروائيين العرب الأوائل “عمدوا إلى مراعاة ذوق القراء الذين كانوا من أنصاف المثقفين، والذين وجدوا في أعمال هؤلاء الكتاب ما يمتعهم ويسليهم، بوصفها بديلاً للمؤلفات الشعبية التي عاشت في وجدانهم فترة طويلة من الزمن. وقد بلغ تأثير حكايات ألف ليلة وليلة في الروايات الأولى حد التشابه، فخضعت الأحداث للمغامرات، والغرائب والعجائب، والمصادفات، والاستطراد، والتوسل بالحيل لبلوغ الغايات، والاستشهاد بالشعر، وتأثرت الشخصيات بشخوص ألف ليلة وليلة، فبدت إما خيرة، وإما شريرة، لا يؤثر فيها الزمن ولا البيئة”.

ومن الأمثلة التي تكثر في اشتغال الروائيين العرب على “ألف ليلة وليلة” نجد رواية “أحلام شهرزاد” لطه حسين، و”ليالي ألف ليلة” لنجيب محفوظ، و”الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” لأميل حبيبي، و”سلطان النوم وزرقاء اليمامة” لمؤنس الرزاز، و”ألف ليلة وليلتان” لهاني الراهب، ورواية “رمل الماية، فاجعة الليلة السابعة بعد الألف” لواسيني الأعرج التي تحاول الاشتغال على ما بعد توقف شهرزاد عن قص الحكايات، وهذا أمرٌ فعله سابقاً “إدغار ألان بو” (1809/1849) سنة 1845 في “الليلة الثانية بعد الألف” (The Thousand ـ and ـ Second Tale of Scheherazede)، كما فعله “مارك توين” (Mark Twain (1835/1910.

“ألف ليلة وليلة”.. حضور قليل في الأدب النسوي!!

ولعلَّ الأمر الذي يثير الاستغراب للوهلة الأولى أنَّ عدد الكاتبات اللواتي تأثرنَ بشكل واضح بالف ليلة وليلة قليلٌ جداً قياساً بنظرائهنَّ من الكتَّاب، فإذا نظرنا إلى الكاتبات العالميات سنجدُ أن العلامة البارزة – والتي تكاد تكون الوحيدة في هذا المضمار – هي التشيلية “إيزابيل الليندي” في روايتها “حكايات إيفا لونا - Les Contes d’Eva Luna”، وتضم هذه الرواية ثلاثاً وعشرين حكاية مدبجة بحكاية إطار، ولا يمكن فهم الإطار العام الذي بُنيت عليه هذه الرواية إلا بالرجوع إلى الرواية السابقة (Eva Luna) التي تتناول حياة هذه البطلة في بلدتها الصغيرة أكوا سانتا (Agua Santa)، حيث تلتقي بالتاجر رياض الحلبي الذي يقدم لها كتاب ألف ليلة وليلة في أربع مجلدات كبيرة مغلفة بجلد أحمر، قرأت بطلة الرواية هذه المجلدات عدة مرات، ونشأت بينهما علاقة حميمية، وقد عبّرت عن ذلك صراحة: لا أدري كم مرة قرأت هذه الحكايات... (6) وتشعر بعد القراءة بحدس غريب، سيكون قدرها أن تحكي قصصاً تشبه قصص شهرزاد، وستتمكن من إحداث لقاء بين عالمين (عالم ألف ليلة وعالم أمريكا اللاتينية) لتكون شهرزاد أمريكا اللاتينية كما هو مدوّن في الغلاف الخارجي للرواية.(7) وفي الوقت نفسه تجمع بين هذه البطلة وبين الصحفي الألماني رولف كارلي (Rolf Carl) القادم إلى بلدتها علاقة عشق مميزة. وتُواصل الكاتبة تفاصيل هذه العلاقة المميزة في رواية حكايات إيفا لونا؛ حيث يتحول الصحفي إلى شهريار والبطلة إيفا إلى شهرزاد، وتبدأ تفاصيل حكايات جديدة تشبه حكايات الليالي العربية، ولكن تحكيها شهرزاد أمريكا اللاتينية*.

كما سنجدُ ملامحَ من التأثر بعوالم “الف ليلة وليلة” لدى كاتبة روايات “هاري بوتر” البريطانية “ج. ك. رولينج”.

وإذا انتقلنا إلى الأدب النسوي العربي سنجدُ أنَّ التأثر لم يكن كبيراً أيضاً، ورغم أن بعض الكاتبات قد استخدمن المعنى الدلالي لشهرزاد بطلة “ألف ليلة وليلة” في بعض المواطن إلا أنَّ حضور أثرٍ حقيقي لألف ليلة وليلة يبقى أقلَّ من المتوقع في مجمل النتاج، ومن الأمثلة القليلة نجد “ليلة المليار” لغادة السمان، و”ليلة الليالي” للروائية التونسية “مسعودة أبو بكر”، كما نجدُ أمثلةً أشارت في عناوينها إلى ملامح لألف ليلة وليلة ومنها “دنيازاد” لمي التلمساني، و”غير المباح” لسعاد سليمان

“شهرزاد الكاتبة” وقطيعتها

مع “شهرزاد الحكاية”:

يبدو أن الكاتبة الأنثى ورغم تأثرها برمزية “شهرزاد” بوصفها امرأة ذكية وصاحبة وعي ومعرفة إلا أنها دخلت في قطيعةٍ مع ما أنتجته شهرزاد من حكايات - وقد استوقفتني هذه الجزئية التي أطمحُ أن أشتغل عليها يوماً بطريقةٍ بحثية منهجية – وربما كانت النقطة المفصلية في أسباب هذه القطيعة كامنةً في أنَّ “ألف ليلة وليلة” بمجمله هو عالمٌ شهرياري رغم أن شهرزاد شريكة في بطولته بل هي أساسيةٌ بما يفوق شهريار، غيرَ أننا لا نستطيع تجاهل حقيقة أن ما فعلته “شهرزاد” كان في سبيل كسب رضا “شهريار” وعفوه عن ذنبٍ لم ترتكبه، وربما كان في ذلك ما يثير نفوراً لا إرادياً لدى المبدعة التي تتوق للانعتاق من قيودٍ كثيرة ربما كان أولها الانعتاق من سطوة الذكورية سيما في عالمنا العربي، وربما كان أيضاً من العوامل الأساسية لتلك القطيعة أن “الف ليلة وليلة” قد أظهرَ المرأة بالمجمل في صورة “شيء” من ممتلكات الرجل، بل من أدوات متعته على وجه الخصوص، وهي في أفضل الأحوال كانت جاريةً شاطرة “تودد الجارية مثلاً” بل وحتى “شهرزاد” ذاتها.

وإننا نجدُ أنَّ “الف ليلة وليلة” قد حدَّد منذ البداية موقفاً شبهَ ثابت من المرأة التزمه على امتداد الحكايات، فالخيانة الأنثوية التي تصل حدَّ العهر كانت أسَّاً للكتاب، وما رواه الكتاب عن حكاية “شهريار” وشقيقه “شاه زمان” وفجيعة كلٍّ منهما بعهر زوجته أوجزه الكتاب بعد قليلٍ في حكايةٍ سبقت دخول “شهرزاد” على الخط وهي ما وقع لهما مع العروس التي احتجزها العفريتُ ليضمن انها ملكٌ له فحسب، وأقتطفُ هنا ما أزعمُ انه يوجزُ موقف الكتاب بأكمله من المرأة: “فخافا ونزلا إليها فقامت لهما وقالت ارصعا رصعاً عنيفاً وإلا أنبه عليكما العفريت”.... فقالا لها: لا ندري فقالت لهما: أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت فأعطياني خاتميكما أنتما الاثنان الأخران فأعطياها من يديهما خاتمين فقالت لهما أن هذا العفريت قد اختطفني ليلة عرسي، ثم أنه وضعني في علبة وجعل العلبة داخل الصندوق ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلني في قاع البحر العجاج المتلاطم بالأمواج، ولم يعلم أن المرأة منا إذا أرادت أمراً، لم يغلبها شيء كما قال بعضهم:

لا تأمنن إلى النـسـاء = ولا تثق بعهـودهــــــن
فرضاؤهن وسخطهن = معلق بفـروجـــهــــــن
يبدين وداً كـاذبـــــاً = والغدر حشو ثيابهـن
بحديث يوسف فاعتبر = متحذراً من كيدهــــــن
أوَمــا تــــرى إبـلــيس = أخرج آدماً من أجلهــن”

وبالمجمل فإن الموقف الأخلاقي للكتاب من المرأة قد وضعها في مرتبةٍ دونية، ورغم أنَّ الخلاعةَ كانت صفةً أيضاً لكثير من الذكور الذين ورد ذكرهم في الحكايات إلا أن الكتاب وبطريقةٍ غير مفهومة لي حتى الآن يمرر الأمر وكأنَّ خلاعة الرجل حقٌّ طبيعي لا ضير فيه، أما خلاعة المرأة فهي عهر وفجور “وربما كان للاوعي الجمعي الذي يفرضه عليَّ مجتمعنا الشرقي دورٌ في فهمي للأمر على هذه الصورة”.

أخيراً:

لا تزعم هذه الوريقات القليلة أنها قدَّمت اشتغالاً نقدياً حقيقياً، بل ولا أنها اقتربت من ذلك، وإنما هي محاولات بسيطةٌ لتقديم رؤية انطباعية عامة، يقود إلى ذلك هول الموضوع، وما يحتاجه من وقت ومعرفةٍ ودرايةٍ ومنهجيةٍ لا أجرؤ على زعم امتلاكها، كما يسهم في ذلك ضيقُ المقام عن الإطالات.

إشارة:

تمت الاستفادة في هذه الوريقات من بعض المراجع:

1- توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة، د.محمد رياض وتار - منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق 2002.
2- الجهود الروائية ما بين سليم البستاني ونجيب محفوظ، د. عبد الرحمن ياغي.
3- ثارت شهرزاد، فن السرد العربي الحديث، ط1، د. محسن جاسم الموسوي- دار الآداب، بيروت 1993.
4- ألف ليلة وليلة في أمريكا اللاتينية حكايات إيفا لونا لإيزابيل الليندي أنموذجا ـ د.نظيرة الكنز – “مادةٌ عثرتُ عليها إلكترونياً”.
5- الموروث وصناعة الرواية: كتاب الليالي2، د. معجب العدواني - مقال منشور في العدد 16019 من صحيفة الرياض السعودية.
6 - حديثٌ عبر “فيسبوك” مع الناقد السوري د.نضال الصالح.
 
أعلى