جريدة النهار - شـهـرزادنـا الفرنسية

هل تستحق "شهرزاد الفرنسية" أن نخصص لها عدداً كاملاً من"الملحق" ونحشد لها الكتّاب والأفكار والرسوم والصور، ليقال لنا في النهاية إننا، نحن العرب، لا نقيم وزناً لخلق وخلاّق ولا لكاتب وكتاب إلاّ إذا أعطانا "الغرب" كلمة السر ودعانا الى أن نحذو حذوه فنكون الصدى للصوت بدل ان نكون الصوت للصدى؟

سبب هذا السؤال بالتحديد، هو التكريم الأدبي المعنوي، الأقصى والأعلى، الذي حظي به حديثاً كتاب "ألف ليلة وليلة"، عندما قررت دار "غاليمار" الفرنسية أن تضعه في "حلقة الثريا" (منشورات لابلياد)، أي في رتبة "الأعمال الخالدة"، فتجعله مطبوعاً بالورق الحرير المصفّى الذي تُطبع فيه الأمهات من الكتب أو تلك المهدِّدة لـ"الأمومة" كي لا نقول أيضاً تلك المهدِّدة لـ"الألوهة". لا يحتاج كتاب "ألف ليلة وليلة" الى أن يخلده أحد أو جهة أو شيء. فهو يخلّد نفسه بنفسه من كونه أنه موجود فحسب. وإذ تطبعه سلسلة "لابلياد" الآن وتضعه على الرفوف نفسها التي سبق لها أن وضعت عليها كتب فيكتور هوغو وبودلير ورامبو ودانتي وغوته وثرفانتس وسواها من كنوز الكتب التي يفخر بها الأدب العالمي الحي، فإنها بذلك تضع خلود الكتاب نفسه في الموضع الذي يشرّفها ويشرّف الأدب العالمي.

ليست هي المرة الأولى تتنبه فيها البوصلة الفرنسية الى الأعمال الخالدة بذاتها. وهي إذ تصدر هذا الكتاب فإنها تكون أمينة للمهمة التي انتدبت نفسها لأجلها. وهذا يعني في جملة ما يعني، إنتشال مراكب الأدب العالمي السكرى من غرق النسيان وإرشادها الى ميناء الخلود على مستوى النشر. ولا هي المرة الأولى تعكف هذه البوصلة على ترجمة كتاب عربي موليةً إياه الإهتمام الذي ترى أنه مستحق له."ألف ليلة وليلة" بالذات شهد ترجمات فرنسية عدة منذ ريادة أنطوان غالان في بداية القرن الثامن عشر. إلاّ ان هذا العمل الرائع المبصر النور منذ شموس قليلة، والذي تولى تدبير ولادته في كواليس العمل الدؤوب، منذ سنوات وسنوات، بلياليها ونهاراتها، بكوابيسها وأحلامها، كلٌّ من العلاّمة الجزائري، الشاعر والباحث والأكاديمي والمترجم جمال الدين بن شيخ، والمستعرب الفرنسي، العلاّمة هو الآخر، الأستاذ "الشرقي" في الكوليج دو فرانس والعارف الخبير المتضلع من الأدب العربي أندره ميكال، يمكن اعتباره حقاً، مع ألبوم الرسوم "الاستشراقية" المرفقة به، حدثاً أدبياً بامتياز.

لماذا يُدرس "ألف ليلة وليلة" في فرنسا و"بلاد الغرب"، ويكرَّم، في حين أنه يبقى في بلادنا أسير الذاكرة وخارج المبنى العام، ويُضطهد ويُقمَع ويُحذَف من صفحاته ويُصادَر أو يُلقى في زنزانة النسيان والإهمال؟ بل لماذا اعتبره الكثر من الأدباء والكتّاب والنقاد و... الرسامين العرب، في تاريخ الأدب العربي، عملاً "مبتذلاً" لا يستحق الاهتمام الذي حظيت به الكتب الأخرى؟ ألأنه كتاب بلا أب؟ ام لأنه كتاب ركيك؟ أم لأنه كتاب "غير أخلاقي"؟ أم لأنه، يا ترى، كتاب يخترق حجب العقل ليخاطب الأكثر من العقل، أي الخيال المحرِّر من المحرّم والمكبوت، والمستبيح الأعراف والطقوس والقوانين وجدران الرقابة المنتصبة في أعماقنا الأخلاقية والثقافية واللاهوتية؟

الآن، و"بسبب" هذا الاهتمام الفرنسي بالذات، نريد ان نبدي شيئاً من التكريم المعنوي لهذا الكتاب الذي كرّمته شهواتنا وخيالاتنا وعقولنا الباطنة ومقدساتنا المكبوتة، ولم نعرف أن "نعترف" بـ"شرعيتها"، بل لم نتجاسر على إعلان هذه "الشرعية"، أو احتقرنا أنفسنا لأننا "فعلناها" في السر.

ثمة سبب إضافي وأساسي ليته لم يكن زادنا تصميماً على إنجاز هذا العدد. فقد غيّب الموت قبل أيام صديقنا وحبيبنا جمال الدين بن شيخ الذي لولاه لما كانت هذه الترجمة، بل لما كان للأدب العربي، ولا للثقافة العربية والشرقية، المكانة اللتين يحظيان بها الآن في فرنسا. مات بن شيخ غداة صدور الجزء الأول من هذا العمل العظيم، وكان "يعرف" ان عدد "الملحق" هذا سيكون عدده بالذات، وقد "ساعدنا" و"أرشد" بوصلة زملائنا هناك وهنا الى الكثير مما يستحق العرفان لجميله والحزن عليه معاً. فإليه خصوصاً، والى شهرزادنا الفرنسية، نقدّم هذا العدد، لعل في هذا ما يدفع الثقافة العربية الى أن تستعيد شهرزادها هذه وكل شهرزاداتها المنسية والمقموعة --، فتطرح الأسئلة التي تعيد النظر في محرّماتها ومقدساتها. أو لعل في هذا ما يبرر الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في مستهل هذه الافتتاحية.

* الملحق
 
أعلى