عبد الله البياري - الجارية تودُّد أو «الثورة التي لا تُؤنَّث لا يُعوَّل عليها»

على امتداد أربعٍ وثمانين ليلة من «ألف ليلة وليلة»، في ظلال الحكي الشهرزادي (الأنثوي) في أُبَّهة الحضور الذكوري لشهريار الثقافة/ السلطة/ الذكر (وكما سيتضح تباعاً الذكر/ اللغة)، في حضور السطوة «المسرورة» للسيف المذكَّر أيضاً، وعلى ركام إناثٍ/ حكيٍ سابقٍ على شهرزاد، ظلَّت تلك القاصّة، تسرد على مسامع الأمير قصة الجارية تودُّد، متخذة من انتصاراتها السردية، حماية لها من بطش السيف الأميري الـ«مسرور»، مراكمة الليالي سردية فوق سردية، مؤسِّسة لتأنيث السرد الحكائي ألفاً من الليالي وليلة، لا قبلاً ولا بعداً، في ظرف ثقافي دائم الانتصار للذكورة.

أما تودُّد، التي دفعت الموت عن شهرزاد كل تلك الليالي الـ84 من الألف وواحدة، فقد كانت جارية لشاب يدعى «أبو الحسن»، ولذلك الأخير قصة تترواح فصولها بين العبث والفشل، وحيد والديه، ذو جاه عريض وثراء عظيم، ولم يكن لوالده من الذرية إلاه، ولكن على خطوط يد هذا الشاب، أُهدر الجاه وتبدَّد الثراء، وصولاً به إلى حافة الفقر والإفلاس والإملاق، ولم يتبقَّ له إلا تودُّد الجارية.

وعلى مشارف يوم جديد، في بيت خال من الزاد والماء، قالت له: «يا سيدي احملني إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، واطلب ثمني منه عشرة آلاف من الدنانير، فإن استغلاني فقل له يا أمير المؤمنين وصيفتي أكثر من ذلك فاختبرها يعظم قدرها في عينك لأن هذه الجارية ليس لها نظير ولا تصلح إلا لمثلك». ثم قالت له إياك أن تبيعني بدون ما قلت لك من الثمن فإنه قليل في مثلي، وكان سيد الجارية لا يعلم قدرها ولا يعرف - ولذلك دلالته فالأشياء لا تقاس إلا ببعدها المادي كـ«كونها ملك يمين» - أنها ليس لها نظير في زمانها.

طَرَقات على باب الخليفة العالي، يفتح الحراس للقادم وما ملك، وفي حضرة الخليفة، يتعجب الرشيد من ارتفاع الثمن، ولكنَّ أبا الحسن يطلب من الخليفة الرشيد «امتحان» ما ملك ليعرف قيمتها فيملك، وهنا تعرض على الرشيد تودُّد عرضاً فيه من التحدّي ما يكفي لإثارة الخليفة، وهز بابه العالي... ما يكفي لجلب علماء الخلافة من البصرة، وعلى رأسهم إبراهيم بن سيار النظام، ومعه الفقهاء والفلاسفة والراسخون في العلم في زمنهم، وتدخل معهم تودُّد في مناظرة، لتخرجهم مهزومين واحداً واحداً من المجلس، عراة من ثيابهم ومن وجيه معنوياتهم ومنزلتهم.

إذ تتقابل الأنوثة عَرَضاً ضعيفاً في مقابل القوي الذكر الدائم، فالأنثى ها هنا جارية –لا سيدة - لا حرية لها، فتاةٌ/ شيءٌ/ ملكٌ وحيدة لا أهل لها، بلا سند أسري أو اجتماعي أو مادي، صغيرة السن، غضة الجسد فاتنته، وصاحبها لا مال له ولا أمل، ومنزوع الجاه والثراء والمنزلة، وكل ذلك - ويزيد - عوامل ضعف.

وفي مقابل ذلك يأتي الذكر/ الخليفة، متسلحاً بذكورته المُلك والسطوة، وذكوره الرواسخ في العلم والفلسفة والدين والجاه والسلطة والبطش، لتجتمع الدولة بسلطانها السياسي والمالي والحضاري والديني والثقافي، لتواجه تودُّد، سلطان راسخ، فحولة مكتملة ومثقفة وممنطقة ومشرعنة في مواجهة جسد غض وعمر صغير وأنوثة مملوكة.

وتتهاوى الأحداث على مسمع شهريار، وها هي تودُّد تبارز الرجال واحداً تلو الآخر، لا تناظر أحدهم إلا بعد هزيمة الأول علانية، أمام الخليفة ورهطه من راسخي المكانة وعلماء الزمان الدوّار. يبدأ سائلاً، فتجيب تودُّد بإفحام، فتهدّد مواطن التمكين فيه، شخصاً ومنطقاً فيلجأ للحيلة للإيقاع بها، بمنطق الذكر الغرور، تهزمه رجاحة الأنثى ودهاؤها الأنيق، فيلعن الرواسخ راسخاً راسخاً هزيمتهم، مستسلمين لخروج العلم عن ذكورته إلى أنثوتها، وفصيح لسانها.

ويأتي دور تودُّد حينها لتسأل الراسخ بعدها أسئلة في ظل علمه، تنتهي على الدوام بعجز إجاباته، وانفضاحه أمام سلطانه «الرشيد»، فتعاقبه الأنوثة الحكم، بأن تُنزع عنه ثيابه، ويهرب عارياً خذلاً. ولعل إصرار السرد على الإشارة إلى اصرار كل راسخ من الرواسخ على التعامي عما صار بسابقه له من الدلالة الكثير، فها هم يتهاوون في منطق التأنيث، واحداً تلو الآخر، المقرئ ثم الطبيب وقبلهما الفقيه – بأمر من السلطان بعد ممانعة-، والمنجم في الخاتمة إذ يقول للجمع: «اشهدوا على أنها أعلم مني» وانصرف مغلوباً، هو دلالة على ذاتية الفحولة في منطق كلّ ممن سبق وتلى.

ولورق التوت على عوراتهم منطق الفكاهة بعد الهزيمة، فها هو الـ«حكيم» يسأل تودُّد: «أخبريني عن الجماع...؟ فلما سمعت ذلك أطرقت رأسها واستحيت إجلالاً لأمير المؤمنين، ثم قالت: «والله يا أمير المؤمنين ما عجزت بل خجلت وإن جوابه على طرف لساني».

فلم يكن إلا التندُّر والسخرية حلاً لتلك المحاولة «الحكيمة» (!!)، بعد الإطراق الصامت على استحياء منتصر، ثم أتت الخاتمة عندما أقرَّ «النظام» قوة تلك الثقافة الأنثوية جسداً ومعنىً في تودُّد، حينما سألها عما هو أحدّ من السيف؟ فقالت: اللسان.

***

للرمز في قصة تودُّد كل البطولة، فبعيداً عن مسرحة السرد وساخره في بعض المواقف، إلا أن البطولة في تلك القصة هي للرمز، بداية من الاسم، فـتودُّد اسم يعود إلى نسب دلالي ثري، فالودّ هو أحد أبواب الحب ومداخله، وهو باب من خمسة وخمسين باباً للعشق ذكرها ابن القيم الجوزية، فالود «خالص الحب وألطفه وأرّقه وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة»، ويقول ابن القيم هو «أصفى الحب وألطفه».

ويتضمَّن الود معنى «الجلب»، فتودُّده تعني اجتلب ودَّه، ومن هنا كان لاسم الجارية تودُّد مسافة ثورية، رافضة لمنطق العام والسائد لغةً، بالذات حينما تتواطأ الثقافة مع اللغة لقهر تودُّد الأنثى، فهي جميلة، وصغيرة السن بلا حسب ولا نسب، والظرف قاهر. ذلك يعني تحرُّر الجسد الأنثوي من سلطة اللغة وصفاً وتحوُّله من قيمة جسدية إلى ثقافية وفكرية رغماً عن الثقافة نفسها، فالأنوثة تُعرِّي الرجولة وتهزمها، وهي غاية المفارقة وأقصى مداها، وفيها قلب للسائد الاجتماعي والثقافي، إذ تدفع المرأة ها هنا بنفسها إلى صدارة المقام الاجتماعي فتقف أمام الخليفة وفي مجلسه، ويتم إحضار أباطرة العصر من راسخيه في العلم وغيره، وهو ما يمثل ذروة الهرم الاجتماعي، لتنتصر.

للرمز أيضاً دور، عندما نجد أن حكاية تودُّد لم تحقق ثقافة «نسائية» ذاتية، كما يرنو الكثير مما يُسمَّى «الحركات النسوية»، التي تنادي بالمساواة من باب الخروج على النسق الثقافي، وهو ما يُعتبر في ذاته اعترافاً «جنوسياً» بالتفوق أو «الغيرية» الذكرية، إن الثقافة المجازية في القصة هي:

- ثقافة جسد مقابل عقل.
- سادة في مقابل جارية.
- ثقافة كتاب ثابت في مقابل إبداع متمرّد.

وهي ثقافة الرجل بلغة الرجل وعقل الرجل، ولكنها في ذاكرة الأنثى وعلى لسان الجارية، مما يمثل استلاباً أنثوياً لكل ما هو رجولي/ ذكوري/ فحولي، فالأنثى تخطف سلاح الرجل وأدواته السلطوية والمعنوية والدينية والثقافية وتُصوِّبها نحوه لتهدم صنم الفحولة والذكورة من عليائه.

لجمالية جسد تودُّد دورها، فالامتلاك المادي الأول لأبجديات وصفية جنوسية كالجسد الغض الفاتن المصحوب بصغر السن، لم يتوقف على حدود ماديته، إذ كان من الممكن لذلك الجسد أن يكون مصدر ضعف لصاحبته بوصفه اغراءً جنسياً مشاعاً، بحكم أن صاحبته «جارية»، إلا أن تحوُّل الجسد من قيمة مادية إلى قيمة ثقافية زاده قوةً فاقت ثوابت و«رواسخ» عصره البالغة الفحولة والذكورة، إذ وصلت قوته أن أنقذت «شهرزاد» بعد توسُّل لم يكتب له النجاح، بذكورها البنين الثلاثة، من مصير «شهريار»ـي محسوم و«مسرور» لمدة أربع وثمانون ليلة، فتحوَّلت سردية تودُّد إلى انتصار أنثوي ممتدّ.

لملك اليمين ها هنا دلالة، أيمكننا أن نتخيَّل استواء المعنى والدلالة لو كانت تودُّد سيدة، حرة؟

أيمكن أن تُعرض تودُّد في سوق النخاسة هذا - على تفرّده - من دون تدخُّل الرجل الذكر في المواجهة أو التقييم إن كانت سيدة حرة؟

إن شخصية الجارية جاءت بصفتها قناعاً بلاغياً أو تورية، الهدف منه تحرير كامل الجسد الأنثوي ثقافياً، من بطش اللغة والمجتمع والثقافة، وكل أولئك هم نتاج لعلاقات القوى والسلطة، ذلك التحرير لا يأخذ بعده التام إلا بالوعي بالمسافة بين النص والحكي.

ولعل الثقافة في مجتمعاتنا، القديمة والحديثة، هي فعل ذكوري محض، ولعلَّ الأعراف الاجتماعية في بلادنا تكشفها إحصائيات «الأمّية بين الإناث» و«التعليم الأساسي للإناث» و«التعليم العالي للفتيات» و«حملة الشهادات العليا بين النساء» و«النساء في العمل العام» و«عدد الرجال الذين يعتبرون الدراسة والأكاديميا والعمل العام أهم من البيت ومسؤولياته في شريكة العمر» وغيرها من الإحصائيات. وهو ما لا يختلف كثيراً عن العصر القديم مما أشار إليه - مثلاً - السيوطي في كتابه «نزهة الجلساء وأشعار النساء» من أن الثقافة النسوية تُعتبر معادلاً مضاداً للحرّية والسيادة (!!)، والمرأة الحرة لا تمارس الثقافة، سوى استثناءات يسيرة لا تُشكِّل نسبة ذات اعتبار وكثيراً ما يحدث التكتُّم على اسم المرأة الحرة إذا ما صارت على قدر من الثقافة مثل حال علية بنت المهدي صاحبة المجلس الثقافي الذي لا تجرؤ على تقديمه باسمها الحقيقي، التي ادَّعت الثقافة باسم منتحل، لأنها - وإن ادَّعت القدرة على مواجهة الثقافة الذكورية للمجتمع - فهي لا تملك من شجاعة الرمز إلا القليل، ذلك القليل الذي لا يُحرِّرها تماماً - كما هو الحال مع تودُّد - من التصميم الاجتماعي والثقافي للأنوثة، كمتاع ذكوري. فالثقافة إذا صدرت من أنثى، فهي ليست تحرُّرية كما تقرُّ الدساتير والعقائد الثقافية، فـعلية أخت هارون الرشيد التي قالت الشعر وأعلنت الحب وجاهرت بالغناء، سبَّبت لأخيها حرجاً ثقافياً كبيراً، من دون مواجهة مع سلطته المعنوية ولا السياسية ولا الثقافية ولا الاجتماعية كما هو الحال مع تودُّد ومعركتها الدلالية والرمزية مع فحول الرسوخ في ذاك العصر، إذ وجد الرشيد - وهو المعروف بحبه للشعر والطرب - نفسه لا يقبل تداخل جنوسة الأنساق الثقافية بهذا الشكل المهدِّد للذكورة والفحولة الثقافية السائدة، بأفعال أخته التي هي في نهاية الأمر أفعال جَوارٍ - كما وصفها الأصفهاني في كتاب «الأغاني» - وقد كانت علية سيدة من بلاط راقٍ ومتطوّر ثقافياً ويحيط بها الفن والجاه والثقافة من كل مكان، فأمّها مغنية وجارية في أصلها، ولها أداء شعري ولحني راقَ الخليفة المعتصم يوماً، ولما سأل عن قائله غضب غضباً شديداً حينما قالوا له إنه لعمَّته علية، وتلك غضبة ذكورية على الحمَّى الثقافي، مدفوع ومشروط بجنوسية ثقافية، وإلا فما الذي يجيز للجواري ما هو حرام على السيدات؟

لذا، كان أكثر ما يوضح ذلك هو الجذر الدلالي لكلمة تودُّد، الذي يحيلنا على ما ورد في معنى المودة حيث جاءت الإشارة إلى أن معناها «الكتاب» - القاموس المحيط: مادة «ود»، وبه فسَّر بعض المفسّرين القول القرآني {تلقون إليهم بالمودَّة} أي بالكتب. وذلك ما يقيم علاقة جذرية بين اسم الجارية ومفهوم الكتاب، وكأن تودُّد قد برزت أمامنا بوصفها كتاباً أو موسوعة معارف من المحفوظات العصرية.
وهنا نعيد التذكرة للجميع بأول آية في القرآن، إذ أنها مع تودُّد تُعرِّي زبانية الدين، ووثنيي السلطة وعسكريوها، في هذا العصر فتقول لنا على أعتاب جسد تودُّد الثقافي الثوري: اقرأ؟
فيردون: «نحن نيام»، وكلنا - ذكوراً وإناثاً - تودُّد بلا دلالة تحرّرنا، مالم نتحرّر قبلاً بدلالتهنَّ.

***

للثقافة ملحمة ذكورية أخرى في الشأن الأنثوي، فها هو جلجامش تصدره الثقافة محارباً عن الإنسانية والطموح الإنساني الأزلي للخلود والتوق للآلهة، دون أن تذكر شيئاً أو حتى اسماً عن الأنوثة المنتهكة في الطريق إلى السماء. إذ كانت الأنوثة أداة للسلطة، لها «وظيفة» تتحدَّد بالمنطق البيولوجي، حيث يرد في بداية النص الملحمي المسماري:

«وأنبئْ جلجامش عن بأس هذا الرجل
وليعطِك بغياً مومساً تصحبها معك أيها الصيّاد
دعها تسيطر عليه وتُروِّضه
وحينما يأتي ليستقيَ مع الحيوان مورد الماء
دعها تخلع ثيابها وتكشف عن عورتها ومفاتن جسدها
فحالما يراها فإنه سيقترب منها وينجذب إليها
وعندئذ ستنكره حيواناته التي ربيت معه في التربة».


تتعامل الثقافة المسرودة ها هنا مع الأنوثة بالمنطق الوظيفي الأداتي، مغطيةً على طول السردية على الكينونة الأنثوية، محوِّلةً إياها إلى ملموس ذاتي، ولا يعرف لها اسم - باعتبار أن الاسم أولى أدوات تعريف الشخصية المؤثرة في بناء الحبكة للسرد- إذ تقدّمها الثقافة سرداً بالتعريف الوظيفي لها، إذ أنها على طول السردية «بغي» و«مومس»، لتقيد الجمالية الأنثوية بحدود الهدف السلطوي، لتأكيد أن الجمال عورة وفتنته بداية السلاح والشَّرك، إذ يرد في موضع آخر:

«هذا هو أيتها البغي فاكشفي عن نهدَيك
اكشفي عن عورتكِ لينال من مفاتن جسدكِ
لا تحجمي بل راوديه وابعثي فيه الهيام
فإن متى رآك انجذب إليكِ
انضي عنك ثيابك ليقع عليكِ
علِّمي الوحشَ الغرَّ فنَّ (وظيفة) المرأة».

أي أن الثقافة السردية ها هنا تحدد الأنوثة «وظيفياً»، وهو ما يعيد التأكيد على أن التأسيس الثقافي للأنوثة لا يخرج على:

1- الغواية الجمالية مادياً، وليس قيمياً، وهو ما تحدّده الكثير من المواريث الدينية والاجتماعية وما تعارف عليه العرف والجمع، بالتواطؤ مع اللغة.

2- التناسل، إذ يرد تعريف «الأنوثة» في كتاب النحو الواضح بالقول: «المؤنث» الحقيقي هو الذي يلد ويتناسل، ولو كان تناسله عن طريق البيض والتفريخ.

أي أن التأنيث محصور في وظيفتين، لهما نطاقهما الزمني، المحصور في فترة من بضع وعشر من السنين ما بين سن البلوغ: اتضاح الشكل غواية بيولوجية إلى ما قبل الكهولة: انطفاء القدرة التناسلية بيولوجياً، أما ما قبل ذلك وما بعده، فليس من «حقيقة» الأنوثة في شيء، ولذلك دلالته حتى في الثقافة الدينية إذ تحتجب المرأة على مشارف البلوغ أو ما قبل، ولا تلزم به في ما بعد، في تخصيص لجغرافية الجسد البيولوجية، تحقيقاً لفكرة الحور العين، ملك اليمين الذكوري في الجنان، ليتماهى الجسد والبيولوجيا دينياً وثقافياً.

وبالعودة إلى الملحمة المسمارية نقرأ:
«لبث أنكيدو يتصل بالبغي ستة أيام وسبع ليالٍ
وبعدما شبع من مفاتنها
وجَّه وجهه إلى ألفة من حيوان الصحراء
فما أن رأت الظباء أنكيدو حتى ولَّت عنه هاربة
وهربت من قربه وحوش الصحراء
ذُعر أنكيدو ووهنت قواه
خذلته ركبتاه لما أراد اللحاق بحيواناته
أضحى أنكيدو خائر القوى لا يطيق العدو كما كان يفعل من قبل
ولكنه صار فطناً واسع الحسّ والفهم
رجع وقعد عند قدمَي البغي
وصار يطيل النظر إلى وجهها
ولما كلَّمته أصاخ بأذنَيه إليها
كلَّمت البغي أنكيدو وقالت له:
صرتَ تحوز الحكمة يا أنكيدو وأصبحت مثل إله
فعلام تجول في الصحراء مع الحيوان؟
تعال آخذك إلى أوروك ذات الأسوار
إلى البيت المقدّس، مسكن آنو وعشتار
حيث يعيش جلجامش الكامل الحول والقوة
المتسلّط على الناس كالثور الوحشي».
ينبني التعامل الثقافي مع الأنثى في النص المسماري على توظيف الدلالة الجسدية للمرأة، أو حيّزها الوحيد المعترف به في الفضاء الثقافي، توظيفاً في الحبكة سلطوياً، إذ يراد بها نزع القوة عن أنكيدو، في منطق معادل ومقابل لذلك الذي حدث مع تودُّد ولكن الدلالة واحدة.
إن تحديد الحيّز الوجودي للمرأة في الملحمة - إلى الآن - هو مجرد أداة وظيفية للثقافة الذكورية، ولكن تلك الثقافة هزمتها الأنوثة - جزئياً - وهي تحرّر أنكيدو من همجيته وبدائيته، رافعة إياه لمنزلة أعلى من تلك التي كان بها، وهو ما يمثل أحد أهم مفاصل ومواقع النصر الأنثوي في الحكي على الثقافة الذكورية، بتحرير أنكيدو والتأسيس لحالة من الندّية والمساواة بين سليل الآلهة، وسليل الطبيعة المؤنثة (فأنكيدو من أمٍّ لم يرد ذكرها، وثقَّفته أنثى). تلك الأنوثة التي انتصرت انتصاراً تالياً على السابق، حيث علَّمت البغي/ المومس أنكيدو أحد أهم تمثيلات الثقافة وطقوسها: الأكل، إذ تقول الملحمة:

«ربيَ على رضاع لبن الحيوانات البرّية
ولما وضعوا أمامه طعاماً تحيَّر واضطرب،
وصار يطيل النظر إليه
أجل لا يعرف أنكيدو كيف يُؤكل الخبز
لأنه شبَّ على رضاع لبن حيوان البرّ
ولم يعرف كيف يؤكل الخبز
ولا كيف يُشرب الشراب القوي
ففتحت البغي فاها وخاطبت أنكيدو:
«كُلِ الطعامَ يا أنكيدو، فإنها سنَّة الحياة
واشربْ من الشراب القوي، فهذه عادة البلاد»
فأكل أنكيدو من الطعام حتى شبع
وشرب من الشراب القوي سبعة أقداح
فانطلقتْ روحه وانشرح صدره وطرب لبُّه ونوَّر وجهه
نظَّف جسده المشعر ومسحه بالزيت
وأضحى إنساناً، لبس اللباس وصار كالعريس».
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، فالنصر الأنثوي لأنكيدو وبه، مكَّنه بما حباه من الحكمة، والحس والنباهة والثقافة، أن يمنع طقس «الزواج المقدس»، والذي تقوم فيه كاهنة بدور الآلهة لتحقيق الاتصال الجنسي مع الملك (وما يحققه ذلك أيضاً من دلالة النفي والإخفاء للأنثى الآلهة، حيث لا يمكن حتى للآلهة من تخطي حدود وقيود المنع والتخصيص الجسدي الأنثوي ثقافياً للذكر/ الإله/ الملك أو سليله، بل تحتاج لوسيط يُمثِّل القيمة الجسدية الأنثوية ذاتها، وإن كان ذا مرتبة أقل قداسة، فالقدسية لا تحرّر من الذكورة في حالة الآلهة المؤنثة أيضاً)!

وها هو أنكيدو الذي حرَّرته الأنوثة، يتصدَّى لجلجامش ويمنعه من دخول المعبد (الحيّز الذكوري الجنسي المقدس، الذي لا تحضر فيه الأنثى كاملة إلا محض متاع وخفاء وتخصيص)، فتنشب معركة بين البطلَين، ودلالتهما «مصارعة» تنتهي بهزيمة أنكيدو، بعد طول مقاومة واستماتة. وكما أي سلطة، تتجمَّل «الثقافة» بالمهزوم، وها هو جلجامش الرمز والسلطة والثقافة الذكورية والمؤلَّه (في ثلثيه)، المنتصر الذي لم تحرك فيه الأنوثة إلا حسّ التجبُّر والتسلُّط والقهر (تقول الملحة وتركز على أن جلجامش كان يُواقع الفتيات ليلة زفافهنَّ قبل أزواجهنَّ ولم يترك فتاة لأمّها، ولا صبية لبعلها)، يُنعم على أنكيدو الذكر - أيضاً - الذي حرَّرته الأنوثة فتمرَّد على الثقافة والسلطة، بنعمتَين، ليسا إلا منَّةً من الثقافة/ الذكر:

1- تسمية شهر آب في التقويم البابلي بـ«شهر جلجامش»: الذكر المنتصر.
2- ربط صداقة أنكيدو/ المهزوم لـجلجامش/ المنتصر باعتراف الأول بغلبة خصمه له، الذي يتحلَّى بالملوكية المقدَّسة، في طقس أقرب ما يكون إلى الإيروسية والذكر المسيطر.

***

في حراكنا الثوري العربي، نجد كثيراً من ظلال تودُّد وعلية بنت المهدي والبغي/ المومس ورمزيتهنَّ التي لا تستعصي إلا على مذكَّر سلطوي/ ثقافي/ اجتماعي/ ديني فهماً. فمن الحراك الثوري المصري مثلاً، ها هي «فتاة التحرير» التي عراها جنود «المجلس العسكري المصري»، تترادف في رمزيتها مع تودُّد، بجسدها الواقع تحت سطوة قوتَين قمعيتَين ظاهرتَين:

- العسكر: في ما يمثّل البنية السياسية (علاقات القوى).

- الدين (تأويلاً): في ما يمثّل جزءاً حيوياً من البنية الثقافية (علاقات المعرفة).

أما القوى غير الظاهرة والتي ساهمت في قمع الفتاة، فيمكن القول إنها قوى «مركَّبة» من التفاصيل المجتمعية والأعراف والتقاليد وغيرها، ولكن الجدير بالذكر أن كل تلك الأنساق لا تنفصل عن علاقات القوى السياسية (والتي يملكها العسكر ومن تواطأ معه) والبنية الثقافية (وما يمثّله التأويل الديني وتفسيراته والمعرفة من عنصر أساسي في تكوين تلك البنية).
الجسد المؤنّث في الكثير من التأويلات الدينية - وليس النصوص - هو امتداد للتعريف اللغوي للمؤنث، إذ يعتبر رمزية الجسد لا تخرج على كونها رمزية غواية جنسية، ومثير يفقد من يقع تحت سطوة الغواية إنسانيته وقيمته ويحوّله إلى حيوان يُقاد بالغريزة لا عقل له، أي أن الجسد المؤنث ها هنا يصيب من يراه بدونية تعتريه، وتفصل بينه وبين «ألفته» - من البشر أو الأتباع أو أصحاب نفس الدين والتأويل - وهي الوظيفة ذاتها التي أريدت للبغي/ المومس في تعاملها مع أنكيدو بادئ الأمر، ولهذا وجب على الدوام إما «حجبه» وإما «تنقيبه»، أي أن الشحنة التي أُعطيت للجسد الأنثوي ها هنا هي شحنة تنفي عن الجسد وجوده القيمي الإنساني، وتحصره في الوجود البيولوجي وتبعاته.

فإن كانت «الأجساد كيانات مختلفة طبيعياً (...) فهي كذلك ظاهرة طيّعة إلى حدّ كبير، ويمكن شحنها بمختلف أشكال القوة المتغيّرة» - بحسب فوكو - فعلينا أن نتذكر أن الجسد وحركته هما رسم على إحداثيي الزمان والمكان، ولعل غياب التعبير الجسدي هو في الأصل رديف - تعبيري في ذاته - لمشكلة غياب الحرّية والديموقراطية، إذ أن حرية الجسد تتحقق في الوجود والازدهار تعبيرياً، أي أن للجسد فنوناً أوسع من تعاريفنا الظرفية والشرطية لكلمة فن، وأقرب إلى التعبير «الرمزي»، كما الحال في بطلاتنا أعلاه، أي أن الجسد وُجد لتحقيق قيمة: الرمز، وهي في أصلها - بحسب غلبير دوران - «تأكيد الاتجاه للحرّية الشخصية»، وهو الدور الذي لا يتحقق إلا في بوتقة الحرية - التي يُسمِّيها دوران «محرك الرمزية» أو «جناحي الملاك» - تلك البوتقة التي أعطت لفتاة التحرير قدرتها التحرّرية والثورية المهمة: فتلك الفتاة أُريد قمعها (جسدياً ورمزياً) في حيّزها العام والخاص، فوجودها معترضة على سياسات الطبقة الحاكمة في ذلك الظرف (المجلس العسكري) استلزم نفياً وطرداً لها ولبقية المتظاهرين المعتصمين معها من الحيّز الجامع لهم بصفتهم مواطنين لهم آراؤهم التي قد تختلف مع السلطة الحاكمة، ولعلها الصورة الأكبر والأكثر رمزية من حيث التعبير الجسدي عن رفض تلك السلطة وسياساتها باستخدام الجسد البشري في «اعتصام» في مكان وزمان معيَّنَين.

أما الحيّز الخاص لها (الجسد الأنثوي) والواقع تحت تأويل ديني ما (النقاب) فيتعامل مع جسدها باعتباره ملك يمين لا شأن لها به ولا يعبّر عنها في حيّزها العام، فهو مغطى لا لها ولكن لصاحبه، في صورة شهوانية وجنوسية عن فكرة الحور العين الجنانية وقصرها على التعريف المادي الجنسي.

بكلمات أخرى، فإن مواجهة تلك الفتاة لذلك القمع الجسدي الواقع عليها هو قمة التعبير والفعل الثوري الرافض والحسام في رفضه لمسألة «قمع المختلف/ الرافض لسياسات المجلس العسكري».

وهو ذلك الحسم الذي عرَّى - تماماً كما حدث مع تودُّد - كلَّ مَن قنن له وأسَّس وشرعن له. ويزيد الأمر وضوحاً، ورود علية بنت المهدي في السياق الثوري نفسه، وهي الفتاة التي تمرَّدت، كما تدَّعي، على الأنساق المجتمعية والثقافية والدينية في مجتمعها بأن عرضت العاري من جسدها على وسائط الإنترنت، وهو نوع من التمرّد - كما قد يراه البعض - كشف ازدواجية المجتمع في التعامل مع القوى القامعة له، فنرى أن علية (أو عالية) المهدي - كما تُسمِّي نفسها - قد جذبت إليها رفضَ وقبولَ من لا يمكنه أن يتحرّر من الأنساق الثقافية والسياسية والمجتمعية القامعة له (كما في في حالة فتاة التحرير)، ليصبح أغلب من يهاجمونها يملكون الحمية ذاتها في «الخرس» و«الصمت» و«التواطؤ» وأخيراً «الهجوم» على فتاة التحرير التي عراها «عسكرهم/ سياستهم» و«دينهم/ تأويلهم».
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، ليظهر لنا فيصل ثقافي آخر وهو سميرة إبراهيم التي تقترب من «فتاة التحرير» وتودُّد من بغي/ مومس أنكيدو التي حرَّرته بجسدها، فسميرة بنت الصعيد، بنت النسق الاجتماعي والثقافي البالغ الذكورة في التعامل مع المرأة تتحدَّى نظرة المجتمع والثقافة:

- للفتاة التي تقتحم مجال العمل السياسي العام بصفته حقلاً ذكورياً، وتقضي كما العديد من الثوار والثائرات ليلها في الحيّز الجامع (ميدان التحرير) باعتباره حيّزاً جامعاً للمناضل السياسي المذكر أولاً، ولا مكان للفتاة خارج بيتها ثانياً.
- للفتاة التي وقعت ضحية اعتداء جنسي مبرّر أوغير مبرّر، باعتبار أن الدارج في المجتمعات الذكورية (والمحافظة) أن الأنثى لها نصيب كبير من اللوم.
- للفتاة بنت المجتمع والثقافة المحليَّين اللذين يعتبرانها جزءاً لا يتجزأ من فضاء ذكوري لا تكون كاملة إلا به.

والأهم أن القيمة التي تُحدِّدها «فتاة التحرير» وصولاً إلى سميرة إبراهيم، واقترابهما من رمزية بغي/ مومس أنكيدو، هي قيمة في أصلها قيمة ثورية، قامت - كما الثورة - لرفض استلاب الإنسان في الثقافة والمجتمع العربيين، باعتبارهما تمثيلاً أولياً وتراكمياً لعلاقات القوى السياسية والمعرفية (مخطئ من يظن أن الثورة قامت لتغيير في الكروش القابعة على الكراسي فقط).

وأول الإنسان الأنثى، باعتبارها الاستثمار الأسمى إنسانياً، وهو ما ظهر جلياً في أثر «مظاهرات السيدات/ حرائر مصر»، وتبعاتها على الحسّ الثوري والحراك الثوري.

ولعل أهم مقتل للثورة وحراكها الرفضوي لما قبله، هو إعادة موضعة المرأة في القوالب المجتمعية والثقافية والسياسية ذاتها والتي كانت عليها قبل الثورة، وبالذات في كل الإجراءات المؤسساتية التي تقدّم للعامة ويتعامل معها الخطاب على أنها نتاج ثوري، هي أقرب ما تكون لإعادة موضعة للأنساق والمؤسسات المتحكمة في إنتاج معارفنا وفضاءاتنا السياسية، كما في «برلمان ما بعد الثورة» وهو الأقرب إلى ما قبل الثورة، وما انبثق منه من جمعيات تأسيسية كل ما ستفعله أن تعيد مأسسة النفي المجتمعي والثقافي والسياسي والجسدي للأنثى دستورياً (مثال: التعامل مع فرض الحجاب وتقنينه، وقوانين الزواج للقاصرات، والقنوات الإباحية وغيرها).
أترانا نسمع تودُّد وسميرة وبغي/ مومس أنكيدو، وهنَّ يقلنَ بصريح البيان والمجاز: اقرأوا. ونردّ: نحن نيام.

وكلنا - ذكوراً وإناثاً - انتهاك ونفي بلا دلالة تحرّرنا، ما لم نتحرَّر قبلاً بدلالتهنَّ.


* «الغاوون»، العدد 56، 1 آب 2013
 
أعلى