علي الشدوي - الانعطاف الذي أحدثته ألف ليلة وليلة في السرد العربي

من الممكن إعطاء صيغة مبسطة إلى حد ما توضح الانعطاف الذي أحدثته ألف ليلة وليلة في السرد العربي القديم ، حيث كل شئ فيها يمكن أن يكون ، وكل الأشياء واردة ومحتملة في حكايات لا يوجد فيها مسافة أو زمن ،حكايات ينسج فيه الخيال أنماطا مبتكرة من معطيات واقعية أو من ذكريات أو من أفكار وانطباعات .

بشر أسوياء يعلمون إبليس المكر ، لصوص يسرقون الكحل من العين ، شطار يمارسون شطارتهم على السحرة والجن ، أعاجم يكتبون شعرا عربيا فصيحا ، مختارون وأولياء يمشون على الماء ببركة الأسماء المكتوبة على خواتمهم ، عشاق يعشقون من أول نظرة وإن لم يجدوا امرأة عشقوا صورة أو امرأة موصوفة لهم ، ملوك يتنازلون عن كراسي ملوكهم معروفا أو من أجل حكاية ، حكايات سحرة لا تسرد على قارعة الطريق ، إنس وجن أخوه في الرضاعة يلعبون الشطرنج في قصور مهجورة تقع في أمكنة غير مرئية ، غيرة شديدة فلا يزوجون بناتهم ، خيول مستثارة و متوترة وشرايينها مرسومة بدقة إن سارت طارت وإن طارت لا يلحقها الغبار ، أمكنة لا يكذب فيها أحد وإن كذب أحدهم فيكذب في كل سنة كذبة .

طيور رائعة تفضح المحبين ، بحار تخرج قرودا بدلا من السمك ، أعواد تعزف برقة فتئن لأمكنتها القديمة ، وتتذكر المياه التي سقتها حينما كانت أشجارا ، أعواد تتذكر النجارين الذين قطعوها ، والدهانين الذين دهنوها ، والتجار الذين جلبوها ، والمراكب التي حملتها .

بشر لا مثيل لهم يقفون صفوفا طويلة كي يتفرجوا على حسن منديل صنعته امرأة ، أو على وجه غلام فائق الجمال ، يتداوون من غير أن يتناولوا الدواء ، يشرفون على الدنيا من أعلى كالطيور ويوسوس لهم الشيطان كي ينفذوا قضاء الله وقدره ، بشر يتشظون كالقنبلة في كل الأمكنة صغارا وإذا التقوا كبارا يتزوجون محارمهم من غير أن يبحثوا عن برهان يثبت عكس ذلك معبرين عن ولعهم بالجمال ، يقابل أحدهم معشوقته فتنتابه حالة لا يعلم فيها أي جزء منه يتصل بالحلم ولا أي جزء يتصل بالحقيقة ، يقبلون أفواه الأسود لأنها أكلت معشوقاتهم ويقيمون الحروب من أجل امرأة ويستمعون إلى إبليس وهو يغني كي يصلوا إلى قاع الأمور وقرارها .

أشعار واضحة فيها متع حسية تقترب من التدين ، وتشبيهات تنجز الأشياء بضخامة كي تشكل خلفية كل حكاية بصدى ضجتها وضجها ، واستعارات تمثل للقارئ أفقا جماليا يصبح خطا أزرق كالبحار التي يرتادها منشدو هذه الأشعار ، ألفاظ يسمع صداها ضمن دائرة أنفاس المعشوقة ،وشعراء يتناولون من أنفاس الجميلات كل الذرات المتناهية الصغر التي تنبعث من أفواههن أثناء التأوه ، أشعار لا يعرف قائلوها ولا تعرف بهم الحكايات كي تتسرب أثناء السرد وأثناء تقديم البراهين المحمومة المتلهفة لجهدهم ومثابرتهم في العشق ، أشعار تشكل حتى ولو كانت في هامش السرد بؤرة جذب واستقطاب لذلك لا يمكن إلغاؤها فهي أشعار كالوجود الذي لا يمكن إلغاؤه من الكون .

حكايات بالغة البساطة في التمهيد للخطيئة وترتيبها ، تبرهن على أن أعماق الإنسان يمكن اختراقها وتجويفها حتى تغدو كالقصبة ، قاعدة هذه الحكايات لولا الذنب ما كانت المغفرة لذلك امتزجت المتع حسية بالإيمان الذي لا يحده حدود .

في حكايات شهرزاد صعوبات تتحدى مخيلة القارئ ووحشية تفوق خياله ، بشر في مختلف الهيئات يفعلون كل شئ لاجتذاب الشقاء لأنفسهم ، يواصلون حركتهم برفق مثل حلم عميق ، مولعون بالسفر ويحبون السير في البراري والقفار والسهول والأوعار وجزائر البحار ، يسافرون في العماء من غير أي مرجعية سوى الأفق الممتد بين البحر والسماء ، يشعرون بالغبطة لأنهم سيصلون إلى أرض نائية وحينما يصلون إلى الحواف والحدود والحواجز والنهايات القصوى يعودون إلى نقطة انطلاقهم كي يسردوا ما رأوه أو سمعوه فينشؤون في سردهم صلة زائفة بين الكلمات التي يعرفونها والأشياء التي رأوها أو سمعوها ، يسكنون في الأمكنة التي سافروا إليها كائنات خيالية ومهولة بحيث يكون أضخم من الحياة وأكبر مما يستطيع أي إنسان أن يكونه .

هكذا إذن هي حكايات شهرزاد تتمتع بخصوصية كبيرة ، وتتحدد بمهمة فنية لم تكن مألوفة في أنواع سردية كالخرافة والحكاية الشعبية هي : السفر ثم العودة لسرد ما يشاهد أو يسمع من العجائب والغرائب في أمكنه شاسعة وبعيدة لا يكاد الواقع فيها سوى خطوط نحيلة وباهته .

حاول بعض الدارسين ( عبد الله إبراهيم، السردية العربية .. 1992 ص 93 وما بعدها ) الذين أذعنوا للبنية السردية للخرافة أن يدخل حكايات ألف ليلة وليلة تحت مظلة الخرافة متناسيا الفرق الجوهري بينها ، إن الربط بين الحكاية العجيبة والغريبة وبين الخرافة ربط غير ملائم ومنعدم الفائدة ؛ ذلك أن الخرافة التي يعرفها القارئ في الثقافة العربية نوع سردي لا يتلاءم مع الحكاية العجيبة والغريبة كما يعرفها في كتاب ألف ليلة وليلة ، صحيح أنهما حديثان غير جديين ( ابن منظور ، لسان العرب ، ج 9 ص 66 ) ويشيران إلى نوعين من السرد لا تحدث فيه الأشياء كما تحدث في الواقع ، غير أن ما ينسج الخرافة يختلف عن ما ينسج الحكاية العجيبة والغريبة ، فلكي توجد خرافة ينبغي الانطلاق من معطيات أي ينبغي أن تتوافر في الخرافة عناصر أولية يتم من خلالها استنباط منطقها الخاص ، هذه العناصر ليست موضوع اختيار بل هي قائمة قبل تأليف أي خرافة لأنها إن لم تكن متوفرة لما أمكن الشروع في خرافة ، باختصار كي تكون الخرافة خرافة يجب أن تتوفر فيها عناصر محددة تجعلها مختلفة عن الحكاية العجيبة والغريبة .
الفرضية التي تستند إليها الخرافة يمكن صياغتها في سؤال هو : كيف سيتمكن البشر من الوصول إلى عبرة أو حكمة من غير أن يدسوها في كلام حيوان يستمعون إليه أو يقرؤونه ، إن أجمل ما في الخرافة هو أن البشر يمتنعون عن أخذ العبرة أو الحكمة مالم توضع على ألسنة غير بشرية ، الخرافة فيما أتصور تمثل نوعا أدبيا يقوم على التوازن بين عناصر ظاهرة وبين ما هو أبعد من هذا الظاهر ويجب أن تكون نتيجة هذا التوازن على قدر أكبر من التماسك بحيث يصبح الحقيقي والمحلوم به واحدا ولن يستطيع البشر أن يعرفوا ما يكمن في بطن الخرافة إلا حين يعرفون ظاهرها .
ظاهر الخرافة عالم خيالي لا شئ فيه معقول أبدا غير أن هذا العالم دليل على أن التخيل وتصور ما ليس له وجود هو إحدى حاجات البشر الأساسية من أجل أن يفتحوا إمكانية حلول لأقسى هزائمهم ومخاوفهم ، " هكذا يبدو التخييل طريقه لجعل مضامين عسيرة تصير ممتعة " ( كيليطو، الغائب ، 1993 ص 107 ) .
إن مبرر وجود الخرافة هو توفير مرآة يتأمل فيها البشر أفعالهم وممارساتهم وصورهم وهكذا فالخرافة تهدف إلى التعليل أو التعليم أو تمرير الحكمة أو تقديم العبرة ، إذن تولد الخرافة من حكمة أو من عبرة أو من رسالة على اعتبار أن معنى خرافة ما يعتمد أساسا على ما يخرج به القارئ أو السامع بعد سردها أو قراءتها ، " إن الحكمة في الخرافة توضع على ألسنة الحيوانات ، الخرافة تحاكي القيمة الرمزية التي يجسدها كل حيوان ضمن مجموع الحيوانات وكل خطاب ينطق به حيوان يكون مطابقا للموقع الذي يحتله هذا الأخير في مجمع الحيوان والدور الذي يلعب فيه يختلف دور الأسد عن دور ابن آوى أو الثعلب أو التمساح " ( نفسه ص 133 / 134 ) .
مبرر وجود الخرافة هو الحكمة والحكمة معرفة عميقة لذلك يجب أن تفهم فيما هو أبعد من ظاهرها أي أن يذهب القارئ أو السامع من ظاهر النص إلى ما يقال عبره وبدون هذا الذهاب ستبقى الحكمة كامنة داخلها .
الحكمة قد تكون موجودة في حكايات ألف ليلة وليلة لكنها لا توضع على ألسنة الحيوانات أوفي أفواه الطير والسباع بل توضع على ألسنة البشر وهذا يعني أنها بكاملها تستند إلى الطبيعة البشرية بينما تستند الخرافة إلى الطبيعة غير البشرية ، وهذا دليل في غاية الأهمية على عدم صلاحية مفهوم الخرافة للحكاية العجيبة والغريبة لأن هذه لا تهدف إلى التعليل أو التعليم أو تمرير الحكمة ، إن الخرافة لا الحكاية العجيبة والغريبة هي الأرض الموعودة التي تمرر فيها الحيوانات رسائل إلى البشر ، الحيوانات في خرافات كليلة ودمنه تعيش مثل البشر في حكايات ألف ليلة وليلة وهذا يعني أن المحاكاة الرمزية متوفرة في الخرافة وليست متوفرة في الحكاية العجيبة والغريبة .
لا يقتصر الاختلاف على ما أوضحته إلى الآن أعني المحاكاة الرمزية والطبيعة غير البشرية المتوفرة في الخرافة بل يمتد الاختلاف إلى الشخصيات والأحداث واللغة والطبقة الاجتماعية فالخرافة ليست أكثر من حيوانين أو ثلاثة تولج شيئا ما فيما هو واقعي ومن هنا أن تخرف يعني أن يصبح غير الممكن تصوره والتفكير فيه ممكنا تصوره والتفكير فيه لأخذ العبرة والحكمة ، أما أحداث الخرافة فهي في غاية البساطة أي أنها ليست معقدة أو متشابكة وانشغالات الخرافة اللغوية الجمالية واضحة بل إن بعض الخرافات كخرافات كليلة ودمنه نظمت شعرا وشاعت في صورتها الشعرية أو السردية بين أوساط الخاصة الذين لم يكونوا يتقبلون أبدا الحكاية الغريبة والعجيبة التي ربطوها بعامة الناس ، يوجد إذن اختلاف واضح بين الخرافة وبين الحكاية العجيبة والغريبة وهو فيما أتصور اختلاف كاف لجعلهما نوعين سرديين مختلفين وإن حدث في لحظة ما في حكايات ألف ليلة وليلة أن لجأت إلى الخرافة فإن ذلك لكي تكون في خدمتها أي أن تكون الخرافة في خدمة الحكاية العجيبة والغريبة .

ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
* من كتاب جماليات العجيب والغريب ، مدخل إلى كتاب ألف ليلة وليلة .





* aljsadcom
 
أعلى