علي الشدوي - مولد ألف ليلة وليلة .. الحياة الأخرى للإمبراطورية العربية

ولدت حكايات ألف ليلة وليلة في القرن التاسع الميلادي الذي شهد تصدع الإمبراطورية العربية الإسلامية، ونضجت في القرن الثاني عشر الذي ارتبط بانهيارها، وربما ألقى التتار بعضا من نسخها في نهر دجلة إن حدث ذلك فعلا. وجمعت وطبعت وهذبت وعدلت وصححت وتوقف نموها في القرن التاسع عشر حين اختفى مفهوم مملكة الإسلام وإمبراطوريته العربية.

نسي هذا الفعل الخلاق لحكايات ألف ليلة وليلة، ونسيت تأسيساتها البعدية مع كل جيل من الأجيال العربية التي استعادت فيه التأسيس الأصلي للحكايات وعدلتها، و أعيدت مضامين مترسبة ونشطت لتشكل خلفية لكل تأسيس إلى تأسيسها الأخير كما هو بين أيدينا الآن.

سأحاول في حدود الإشارة التمهيدية أن أوضح العلاقة بين حكايات ألف ليلة وليلة وبين الإمبراطورية العربية مستخدما صورة الجزيرة العربية التي رسمها فلهوزن. وبالرغم من أن المقارنة التي سأجريها فيما بعد غير دقيقة إلا أنها تعبر بالقدر الكافي عما أريد توضيحه.

يتحدث فلهوزن عن تدني منزلة الجزيرة العربية التي كانت لها قبل الإسلام. فقد هجرها العرب أثناء الفتوحات، ولحقها من تلك الهجرة خراب وجد صدى له في أشعار المرحلة التاريخية التي هاجروا فيها مع الفتوحات الإسلامية. لم تعد المدينة المنورة عاصمة الدولة، وكل الجهود التي بذلت لاسترداد مجدها ذهبت سدى، ولم يبق للجزيرة العربية سوى أنها أصبحت دارا للتراث الإسلامي الذي صار فيما بعد موضوعا تاريخيا وجغرافيا وشعريا لمصنفات العلماء.

إن التاريخ يغاير الواقع. إنه أدب ولا شيء أكثر. لكن التاريخ كان حياة واقعية في الوقت الذي لا يمكن أن نسميه فيه تاريخا. وهكذا كانت الجزيرة العربية مكانا طيبا وزمانا محمودا، ولم يكن يحتاج أن يؤلف عنها؛ لأنها تعاش، لكن بعد أن هجرت وخربت استعيدت في مصنفات العلماء.

تكشف هذه المصنفات عن حالة من حالات الشعور اتخذت شكلا من عامل طارئ هو الهجرة التي اجتاحت الجزيرة العربية مع الفتوحات العربية، وتركبت مادتها من قديم الجزيرة الذي تأثر بطارئ عليه؛ أي الهجرة التي خربت الجزيرة العربية.. وما أريد قوله هو إن خلف تلك المصنفات عن الجزيرة العربية بهوا من المرايا، يعكس الخيال فيها خيالا آخر يصعب فيه أن نهتدي إلى الأصل.

على شاكلة العلاقة بين مصنفات العلماء والجزيرة العربية بعد هجرها أقترح العلاقة بين حكايات ألف ليلة وليلة والإمبراطورية العربية.. هناك إمبراطورية تصدعت وانهارت لتستعاد في حكايات يمكن أن ندعوها إمبراطورية الخيال. وفي إمبراطورية كهذه لا شيء يستحدث، ولا شيء يفقد، إنما كل شيء تستفيد منه إمبراطورية الخيال مما كانت عليه إمبراطورية الواقع.

ولدت إمبراطورية الخيال هذه بهدوء ومن دون ضجة. قبل ذلك كان ثمة إجراءات طويلة ومعقدة حدثت على نحو هادئ وغير ملحوظ في المجتمع العربي القديم. وقد توجت حكايات ألف ليلة وليلة الجهد العربي الذي بذل على مدار القرون الثلاثة الأولى من الهجرة لكي يشعر الناس بإمبراطوريتهم العربية، ويشعروا معها بالسرد الذي سيعبر عنها بعد انهيارها.

قبل أن تنشأ حكايات ألف ليلة وليلة كان السرد العربي بدائيا مثلما كانت حياتهم السياسية التي تمثلها القبيلة. تتبادل القبائل الحكايات التي تشير إلى حاجات عملية في حكاياتهم اليومية. وتتكرر الحكايات بصورة دائمة، ويلجأ إليها لتترسخ أنماط سلوكية مرغوبة في إطار مجتمع قبلي سياسي. وقد ضاهى فقر الحكايات فقر الأفكار والكائنات والأفعال التي تتضمنها.
لم يكن الراوي العربي قد وجد ما يكفي من الأفكار، أو أنه لم يكن يعرف بعد كيف يعمق ما هو موجود، وهو لا يعرف سوى القليل من العلاقات والأشكال الحيوانية والإنسانية، ولم يختبر من أفعال الوجود سوى الأفعال التي تكرس وتؤكد قيم القبيلة، وقبول الأفعال التي ترتبط بها.

نزل القرآن الكريم في القرن السابع الميلادي فتجاوز السرد الذي تضمنه مستوى السرد المعروف آنذاك، وأحدث قطيعة جمالية مع القصص المعاصر له والسابق عليه. فالقرآن هو القاص الأول، وما يقصه هو أحسن القصص، ولا يقارن مع غيره. قصه صادق من الوجهة التاريخية، وقصصه تخضع القارئ أو السامع، وتجسد تعاليم أو نواهِي ووعدا أو وعيدا أو عبرة واتعاظا.

لم تسرد قصص القرآن الكريم لكي تعجب القارئ أو السامع، إنما تسرد لكي تخضعه. يقرأ القارئ، أو يستمع السامع إلى القصص القرآني وهما مضطران إلى أن يصرفا انتباههما عن القصة المسرودة ليتجها إلى العبرة منها.

وهكذا كسر القرآن الكريم القانون الأساسي للتعامل مع القصص؛ أي أن يعرف القارئ أو السامع أن ما يسرد ليس سوى قصص متخيلة ( أساطير )؛ لذلك لا يتظاهر قصص القرآن الكريم بأنه حدث، إنما يؤكد حدوثه من الوجهة التاريخية.

أصبح السرد في العصر الإسلامي الأول شريكا للسلطة، وقد ترتب على ذلك أن أصبحت قيمته الحقيقية لا تظهر إلا عندما يكون مع أو ضد. ترتب على ذلك أن انقسم إلى قسمين أولهما استمر شريكا للسلطة يكرس ويساند التنظيم المعد سلفا، والآخر تخلص من هذا العبء، وأصبحت مهمته الحرية التي يفتحها السرد؛ ليحقق بها روح الإنسان النقدية ويحولها إلى ثقافة وفكر جماعي.

قاوم السرد المتواطئ مع السلطة التغيير، وحافظ على ما هو معروف وموثوق، وكان كل راو ينتمي إليه يصبغ بتعاليمه؛ ولأن طلاب العلم آنذاك يهاجرون باستمرار من إقليم عربي إلى آخر، ويتنقلون من مسجد إلى مسجد، فقد كان لهؤلاء وللمسجد تأثير كبير في المحافظة على التشدد في السرد..

ومن يقرأ الآن كتاب «الوعاظ والمذكرون» لابن الجوزي سيعرف إلى أي حد قاوم هؤلاء السرد الذي لا ينتمي إلى الدين، وكيف فصلوا بين راوي النخبة، وبين راوي الحياة.

يقع في مقابل الوضع الذي أوجزته أعلاه حكايات ألف ليلة وليلة التي نمت في الفضاءات التي لم يملأها السرد الشريك للسلطة. وقد فهم الدارسون في العصر الحديث أن هامشية ألف ليلة وليلة و «عزلتها» تلك هو ما أعطاها أصالتها الفنية، وأن خصائصها الصنفية والتكوينية الفريدة استمدت من الحرية التي لم يتمتع بها آنذاك السرد العربي المشارك في السلطة.

وخلافا للسرد المشارك للسلطة الذي رعته شخصيات ثرية تتمتع بالثراء والسلطة والنفوذ رعت حكايات ألف ليلة وليلة مجموعات بشرية لا تتطابق أفكارها مع أفكار الأفراد الذين يتمتعون بالسلطة، لذلك فتاريخها صنع من طرف عامة البشر، وليس من طرف النخبة منهم.

استقر في مشروع حكايات ألف ليلة وليلة ما لا يمكن أن يقوله السرد المتواطئ مع السلطة، وما لفظته النخبة العربية وطردته من مجالاتها الثقافية، وما حذف بدافع أخلاقي إما تحريما أو حظرا. وقد أعطى مشروع الحكايات صوتا لهذا المسكوت عنه في اللاوعي الجماعي والفردي.

لم تعادِ حكايات ألف ليلة وليلة الدين، ولم تكن مناقضة له؛ إنما كانت فتحا جديدا لآفاق جديدة للعقل العربي، ومع مرور الوقت أنهت احتكار الدين للسرد، ودعمت القدرة الخلاقة والإبداعية للأجيال العربية، ومع أن هدفها لم يكن قط إضعاف السرد الديني إلا أن تأثيرها كان مقوضا.

رفض النخبة والعلماء القدامى الذين انحازوا للسرد المتواطئ مع السلطة حكايات الليالي، فلم تدرج في المنتخبات الأدبية القديمة، ولا في المؤسسات التربوية، ولم تشرح أو تفسر أو تؤول. اعتبرت مهنة غير مرغوبة ولا فائدة منها. تسلية وضياع وقت، وهو عائق آخر لاستقبالها عند فئة عريضة من متعلمي المؤسسات التربوية والعلمية والمنتمين إليها، فلم تقدر بما تستحق من تقدير.

وفي زمن قريب بمقياس حياتها في التاريخ عرف النخبة العرب أن حكايات ألف ليلة وليلة خطوة لا مثيل لها، لا بالنسبة لتطور السرد العربي وحده، إنما لتطور السرد العالمي والتفكير الفني لكتاب البشرية العظام حتى أنها أصبحت أشهر كتاب عربي بعد القرآن الكريم.

مفيد، لا أشك في ذلك، أن يكون لدينا النسخة الدستور لحكايات ألف ليلة وليلة أي؛ الأصل الوحيد الذي تعود إليه آخر الأمر كل نسخها الخطية كما هي نسخة محسن مهدي. بيد أني أذهب إلى أنها نسخة مضللة، فحكايات ألف ليلة وليلة ليست تأليفا مبتكرا، لكي يكون لها تلك النسخة، بقدر ما هي حالة تطور معقد ينطوي على عناصر ثقافية واقتصادية وجمالية إضافة إلى عنصر الجمهور.

تكمن أهمية كتاب ألف ليلة وليلة في أن كل جيل يغني حكاياته، ويضمنه حكايات جديدة. دائما هناك حكايات جديدة، أو تحسين حكايات موجودة أصلا. يأتي جيل ليزيد أو يحسن ما زاده وحسنه الجيل الأقدم منه. تقود الأشكال المثالية تحسين الأجيال إلا أنه كمال لا يمكن بلوغه..

هكذا إذن فإن كل مخطوط يمثل لحظة من لحظات حياة الكتاب الخالدة.

وقد حدد الجمهور والثقافة والجمال والاقتصاد النسخ التي ظهرت في مختلف الأزمان والأمكنة، قبل أن تطبع ويتوقف تطورها. لقد اندثرت التعددية في نسخة محسن مهدي، وعدلت اللغة في نسخة الشيخ العدوي، وبزعم المبدأ الديني والأخلاقي ظهرت طبعات كثيرة ذات قيمة أدبية رديئة جدا.
 
أعلى