عبد النور إدريس - أدبية الجسد الأنثوي في حكايا ألف ليلة وليلة

مدخل:

إن حكايا ألف ليلة وليلة بوصفها نموذجا وفعلا ولغة ساهمت في تشكيل صورة المرأة العربية، فوضعت النموذج على سكة اللغة والفعل باعتبارها:

أولا : نصا سرديا متميزا، عَبَّرت جل عصور الذوق الفني والأدبي عن الإعجاب بها، باعتبارها مرآة لذوق المجتمع العربي من المحيط للخليج، وقد عبّر الأدب القروسطي، ولا سيما كتاب :"ألف ليلة وليلة" بكل وضوح وحماسة وحيوية كما تقول ليلى أحمد،" وبدون رقابة، عن تراث من الشهوة الجنسية والجنسانية النسوية بكل ما يميزها من فاعلية ونشاط [...] ومن المعروف أن هذه الحكايات في رواياتها وإعادة رواياتها تعبر على أقل تقدير عن أوهام وخيالات ونزوات اخترعتها النساء إضافة إلى الرجال، أما كيف تعبر مجموعة القصص هذه عن الجسد والجنسانية فمازال موضعا بحاجة للإستكشاف والتقصي"(1).

ثانيا : ثقافة عابرة للحدود الجغرافية للعالم العربي، وتشكل الجذع المشترك لكل سرد نسائي، وقد تحدثت الكاتبة فاطمة المرنيسي في كتابها " نساء على أجنحة الحلم" عن الكيفية التي تمكن المرأة من مغازلة السلطة مع بداية الليلة الثانية بعد الألف حين صمتت شهرزاد عن الكلام المباح تقول :" بكيت حين صمتت أمّي عن حكاية شهرزاد، ولكن كيف نتعلم الحكي لكي ننتزع إعجاب الملك؟، همست والدتي وكأنها تخاطب نفسها بأن ذلك قدر النساء، إنهن يقضين حياتهن في إتقان مثل هذه الأشياء، فلم يسعفني هذا الجواب الغامض بشيء، أضافت أمّي بأن سعادتي في تلك اللحظة رهينة بمهارتي في استعمال الكلمات" (2)، ويشكل الوقوف على عالم ألف ليلة وليلة ملخصا لزمن المرأة التاريخي والاعتباري بوصفها فعلا ولغة، بالرغم من اتصافها بكونها نموذجا.

ولعل الأهمية التي يتفق حولها النقد الحديث هي كون حكايا ألف ليلة وليلة تُعد من بين أرقى آداب القرون الوسطى التي تطرقت للجسد الأنثوي بالعلاقة مع النوع الاجتماعي داخل مظاهر الايروتيكية العربية القديمة بنصوصها وأدبياتها، كما سجّلها الفقهاء والشيوخ الأجلاء في مؤلفاتهم القديمة (3)، ذلك ما دفعنا لمقاربة هذا العمل الجماعي باعتباره أدب عام يشترك فيه كل التراث الأدبي العربي والغربي والعالمي. وخاصة ما تضفيه هذه الملحمة السردية من مكونات السحر والتخيل والأسطورة من خلال جماليات الجسد الأنثوي المسرود، الذي يبدو هو الآخر أكثر سحرا وأكثر جاذبية، وأكثر حضورا في بنية الحكاية سردا ووصفا وحوارا.

1- مدونة الجسد أو عند الجذور الأولى للسرد النسائي

لقد عرفت أقاليم المعنى مع شهرزاد أن الجسد الفيزيقي للمرأة نظرا للثـقب الحاصل في ذاكرته، والانفضاض الحاصل في تمفصلاته، لا يستطيع بتاتا مقاومة هذيان السلطة، من حيث أن نضجه لم يستطع أن يضمن للأنثى سوى حياة ليلة واحدة مع شهريار: " فجو الجنس بسحره، وفضائه، كما تصوره الليالي غير قادر على تبديد أرق السلطة الذكورية" (4)، بينما استطاع الجسد المعرفي للجسد أن يضحي بالجسد الفيزيقي، ويبقى حاضرا بنضجه الجنسي عبر نسيج الحكي، وهو الفن الذي تمتلك شهرزاد ناصيته، نظرا لطريقة روايتها للحكاية التي تشد انتباه السامع وتغريه بالمتابعة والإنصات، خاصة وأن القتل هو أحد محركات الحكي الذي يملك هنا خاصية تعطيل فاعلية القتل ذاته بعرضه لقصص متشعبة مسترسلة عن القصة الأساسية، " إحك حكاية وإلا قتلتك"، استغلت فيها شهرزاد مستويات عدة، تبدأ بمستوى اللذة الذي يدفع المتلقي لاكتشاف بقية الأحداث في الحكاية، وتنتهي بمستوى الفعل الجنسي المُحرض على التلقي والموجود في معظم الحكايات بشكل مباشر أو غير مباشر.

وقد جاء في كتاب كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، ما يؤكد خروج المرأة إلى دوائر الضوء بعدما كانت رهينة الجسد الخام لتصبح رهينة الكتابة، فسُمح لها ما بين هذين المكونين بالتربع على عرش الحكي، يقول العلامة مولاي مصطفى بن عبد الله القسطنطيني " ومن الكتب المصنفة فيه [أي علم الباه] كتاب الألفية والشلفية، قال أبو الخير يحكي أن ملكا بطلت عنه قوة المباشرة بالكلية وعجز الأطباء عن معالجته بالأدوية فاخترعوا حكايات عن لسان امرأة مسماة بالألفية لما أنها جامعها ألف رجل فحكت عن كل منهم أشكالا مختلفة فعادت باستماعها قوة الملك" (5) .

لقد أضافت شهرزاد لمتعة الجسد متعة الكلام وما به من عقل ومعرفة، لكن الأذن العربية حولت ثقافة ألف ليلة وليلة إلى ثقافة إمتاع، بما أنها مستترة ومختبئة وليلية، أي ثقافة جارية ، فاستطاعت إثر ذلك تحويل وعي الرجل من شهوة الجسد إلى شهوة الكلام ) الكتابة( ، فكان النص "الألفي " نصا للحياة في مواجهة الموت، نصا سرديا يحول عملية السرد إلى تعاقد ضمني أو علني بين راو ومستمع، "فجل الحكايات تبين أنه مهما اتّسعت الهوة بين الشخصين، فإن بالإمكان تحويل العلاقة المبنية على العنف والقهر إلى علاقة مبنية على الرقة والوداعة، بفضل العقل والإقناع" (6). فشهرزاد تروي كي لا تُقتل، تتلمس من عملية السرد أن تنتقل حالتها السيئة إلى حالة محمودة، وشهريار يُصغي لكي يتمتع بحكاية شيقة، ويضمد جراحه النفسية التي تركتها خيانة زوجته الحرة عندما اكتشف مذهولا علاقتها بخصيه الأسود، فالإرسال السردي ينتظم في سياق تأجيل الموت، فيما ينتظم تلقيه في سياق الاستغراق في المتعة، وقد اعتمدت شهرزاد في أدائها السردي على خطاب الجنس كمصدر لقوتها، فشكلت به، مع قدرتها على الحكي، نسيجا خاصا يأسر المتلقي ويُدخله فضاء الافتتان والاستمتاع الشبقي بالحكي، بينما لجأت إلى إبراز مفاتن الجسد الأنثوي المتخيل حتى يستطيع جسدها أن يمدها بطاقة التحدي والتفوق على ضعفها، لتمتص غضب فحولة شهريار المطعونة والمجروحة في كبريائها والمركبة خاصة من نرجسية السلطة التي تعتقد أنها أزلية وكلية، وهي تدرك أن العبد لم يتقمص حالة الاشتهاء الدائم لجسد سيدته أو بنت سيده أو جسد زوجته إلا رغبة في التنفيس عمّا يتعرض له من دونية ومهانة في قصر سيده. فالعبد لا يستطيع الإحساس بحضور حريته ووجودها إلا عندما تستثيره سيدته وتحرضه على الفعل الجنسي الكامن والمقموع عند حضور الرجل وقربه من مخدعه، وقد أثبتت شهرزاد أنها بارعة في الحكاية بأجمل جسد أنثوي "سلطاني"، تارة تصف نظام الأشياء كمعطى تابع، وتارة أخرى تؤسس لمعنى التحرر من فكرة المطلق الموجودة فيما سبقها من حكي الأولين .

هذا الاحتفال بأدبية الجسد المحكي لن ينسينا طرح العديد من الأسئلة على التخوم الفنية لحكايا ألف ليلة وليلة التي تتأسس على الكلام والسماع بدل القراءة، قصد فهم المنطق الداخلي لهذه الثقافة التي تستوطن تمثلاتنا.

· هل استطاعت شهرزاد الحاكية تحويل شهريار من آلة جنسية إلى عاشق حقيقي؟

· هل اعتبر شهريار أن معاشرته لشهرزاد استحكمتها كتابة جسدية، بمعنى أن أطفاله الثلاث منها بمثابة صفحات كتبت بمائه الخاص، ماء يستطيع محو آثار سابقيه؟

نلاحظ من خلال البناء السردي لألف ليلة وليلة أن بنية الحكاية تجعل العلاقات الإنسانية تنخرط في خضم التحويل المبني على علاقة سردية ثابتة ،حيث يتّجه فعل الحكي ويستقر من الضعيف في اتجاه القوي: " فالسرد وليد توتر بين قوي وضعيف، حين يشد القوي بخناق الضعيف لا يجد هذا الأخير خلاصه إلا بسرد حكايته أو حكاية أشخاص آخرين. الحكاية مرادفة للتوسل والرجاء، إنها القربان الذي يذبح لتهدئة غضب الشخص المتسلط وتقريبه من الشخص الذي يوجد تحت رحمته." (7)، وهكذا استعملت شهرزاد حكمتها ودهاءها لاقتلاع جذور الهمجية والضغينة من نفسية شهريار: " فجل حكايا ألف ليلة وليلة تشير إلى أنه مهما اتسعت الهوة بين شخصين، يبقى بالإمكان تحويل العنف والقهر إلى الرقة والوداعة، يبقى بالإمكان، بفضل العقل والإقناع، تحويل علاقة القوة إلى علاقة المساواة" (8).

إن امرأة الليالي تعيش في زمن النهار حالة فراغ كينوني تكون فيه موضوعا لرغبة الرجل، بينما في زمن الليل تعيش حالة ملء ملتصق بسرد ينطلق من الإمكانات التي يتيحها مخزون الذاكرة، والمقتطع من نسق التدليل الاجتماعي الذي يعمل من خلال آلياته على استحضار قانون النسق العام، عملت شهرزاد على إخضاعه لعملية انتقاء في بناء نص مهادن، أعزل في إمكانية انفتاحه على ذاته، مُشَكَّل بإرادة سابقة على فعل الحكي الذي يأتي فقط شارحا لرؤية معطاة سلفا، وقابلة للاستهلاك من طرف المتلقي (شهريار).

إن شهرزاد تتحرر في زمن الحكي من كل القيود وتستعمل خطابا يتحكم في الوحدات الدلالية والمضمون القيمي الذي تبني به النص السردي. ولما كان الواقع يُشَيِّءُ جسدها، لم تُحْدِث الحكاية عندها قطيعة مع الخطاب الذي تتغذى عوالمه المخيالية المشرعة على حجم التأويلات، جعلت الراوية من الجسد الأنثوي جسدا منقوعا مُصَفَّى، يحاول النص عبره بناء نفسه من خلال هذه الإستراتيجية، دون التنصيص على بؤر التوتر التي تدعو توليد معان موازية للنص الأصلي، فتحضر امرأة الليالي في النص أحيانا دون الوضع الاجتماعي للعبد، وتقدَّم أسيرة لشهوتها الجنسية لدرجة الشذوذ الجنسي، فهي لا تميز بين الذكر الآدمي والذكر الحيواني، إذ تضاجع الدب في حكاية "وردان الجزار والمرأة والدب"، بالليلة 354، وتضاجع القرد في حكاية "بنت السلطان والقرد"، بالليلة 356، وكأنها تتخلص بذلك من إكراهات القيم الذكورية التي تعتبر العبد شيئا، يقول النص في الليلة 356:" ومما يحكى أيضا أنه كان لبعض السلاطين ابنة، وقد تعلق قلبها بحب عبد أسود فافتض بكارتها وأولعت بالنكاح، فكانت لا تصبر عنه ساعة واحدة. فكشفت أمرها إلى بعض القهرمانات فأخبرتها أنه لا شيء ينكح أكثر من القرد. فاتفق أن قرّادا مر تحت طاقتها بقرد كبير فأسفرت عن وجهها ونظرت إلى القرد وغمزته بعيونها، فقطع القرد وثاقه وسلاسله وطلع لها فخبأته في مكان عندها، وصارا ليلا ونهارا على أكل وشرب وجماع. ففطن أبوها بذلك وأراد قتلها" (9).

واستطاعت شهرزاد من خلال هذا الانتقاء السردي أن تتحكم في جزئيات المحكي فسربت للنسق الثقافي العام عناصر ثقافية جديدة متسلحة بسلطة المتخيل، فبنت تصوراتها عن النسق القيمي، وأدانت فيه تقسيمه جسد المرأة إلى (جارية-بكارة) و(زوجة- رحم للولد) حيث " الشخوص داخل الحقل السلطوي، ترى في بكارة الجارية أو الوصيفة مجرد حالة استمناء لقتل الأرق والفراغ، أما إذا كان مقصد الشخوص الزواج من الجارية وفق شرائط إنسانية، فإن ذلك مرفوض، إذ لا يكون هذا الزواج إلا من بنت ملك أو وزير، أو كبير قوم " (10)، ولما تم خرق هذا المعيار الاجتماعي في الحكايتين رقم 45 و46 ، بدأ التوظيف الأيديولوجي للسلطة بالتلويح بالقتل لمّا : "عشقت ابنة السلطان عبدا أسودا، وبهذا فقد مجتمع الحكاية مرجعيته الثقافية، انهدَّ التمايز بين الطبقتين فاستقطب "تاريخ" الحكاية تاريخ المجتمع"(11)، تقول الحكاية :" ففطن أبوها لذلك وأراد قتلها" (12)، فكان لتشهّي ابنة السلطان لذكورة العبد توظيفا أداتيا فتحت به حضارة المنع كل المحظورات، من حيث أن إخصاء العبيد المكلفون بحراسة النساء في القصور كان يُنظر له على أنه تحويل للهوية الجنسية من الذكورة إلى جنس خارج النظام الجندري الثنائي، لكن بقاء الرغبة الجنسية العارمة لدى الخصيان كانت مصدرا آخر للاضطراب التراتبي الجندري، ويبدو أن العبيد في مجتمع ألف ليلة وليلة كانوا محل إعجاب النساء لأنهم على حد قول الجاحظ:" سريعو الإفاقة طويلو الإراقة، مأمونون من اللقاح" (13)، كما رجعت ابنة السلطان لطبيعتها الحيوانية مع استدعاء الفعل الجنسي للقرد الذي جسد صورة عنيفة لشهوة شبقية مجنونة يصفها المرجع الديني بالشهوة البهيمية، وهي شهوة حيوانية تتجاوز الطاقة البشرية .

وقد بلغ الوصف السردي إلى حد انشطاره عن المقدس، الشيء الذي جعل البنية اللغوية للسرد تخترق البنية اللغوية والمعرفية للوسط الإسلامي، من ذلك إبراز الفعل الجنسي وتوظيفه لمصطلحات تنتمي لدائرة المقدس الإسلامي: كالإمام والمحراب والركوع والسجود والتسبيح. نجد في حكاية "علي شار وزمرد الجارية"، تشبيها لعلي شار بالأسد إمعانا في تصوير الفعل الجنسي ببعده الحيواني، يقول " قالت : أنا جاريتك زمرد. فلما علم ذلك قبّلها وعانقها وانقض عليها مثل الأسد على الشاة وتحقق أنها جاريته بلا اشتباه، فأغمد قضيبه في جرابها. ولم يزل بوابا لبابها وإماما لمحرابها، وهي معه في ركوع وسجود وقيام وقعود، إلاّ أنها تتبع التسبيحات بغنج، في ضمته حركات ..." (14)

كان حكي شهرزاد مستساغا للسمع ليلا، أما في الصباح فكان السكوت عن الكلام المباح من بين أهم الطقوس المصاحبة للحكي. ولم يكن يُسمح لها بالكلام في النهار إلا وهي وراء ستار مخدعها مانحة للسلطان جسدها الفاتن وجرعة الجنس والرعشة وجمرة الجسد الملتهبة، بعد أن حركت مواطن الشهوة لديه من خلال جرعة الحكي وإيقاظ التمثلات الايجابية والمثالية عنده حول العشق والحب والجنس والرعشة البوهيمية التي تُفقد الوعي، فشهرزاد تحتمي بأنزيمات السرد وعجائبيته وانفتاحه على الشهوة الجنسية واللذة المتخيلة التي يحققها تفاعل شهرزاد واندماجه في شخصية المقتحم والفاعل الجنسي، تلك الصورة الفحلية التي خلقتها الساردة لتحقيق الرعشة الجسدية لشهريار، وهي تستدعي ثبوثية النسق الثقافي بتركيزها على الفعل الجنسي بما هو فعل إنساني، وما الاستثناء الخارج عن هذه القاعدة فينتمي إلى عالم الحيوان، يقول سارد حكاية بنت السلطان والقرد وقد التجأ إلى إحدى العجائز اللائي يحمين النسق من الداخل: " ثم أمرتني بنكاح الصبيّة فنكحتها إلى أن غشي عليها، فحملتها العجوز وهي لا تشعر وألقت فرجها على فم القِدر فصعد دخانه حتى دخل فرجها، فنزلت من فرجها شيء فتأملته فإذا هو دودتان: إحداهما سوداء والأخرى صفراء، فقالت العجوز: الأولى تربت على نكاح العبد والثانية تربت عن نكاح القرد" (15)، ومن ذلك فقد حددت العجوز باعتبارها ناطقة باسم النسق الثقافي أهمية وغلبة دودة الانسان وتميزها على باقي الدود الأسود والأصفر فتجاهلت تعداد الفعل الجنسي التي يأتي بالغشي الذي وصل إلى عشرة تردادات المقرونة بوطء القرد، تقول الحكاية :" ثم أنها أحضرت خمرا وشربت منه وسقت القرد، ثم واقعها القرد نحو عشر مرات حتى غشي عليها" (16)، ثم تقول الحكاية عن وطئ الدب :" ثم وثب عليها وواقعها ولما فرغ جلس واستراح، ولم يزل كذلك حتى فعل ذلك عشر مرات ثم وقع كل منهما مغشيا عليه وصارا لا يتحركان"(17) فجعلت من العلاقة الجنسية البشرية مُعادلة تفوق كل المعادلات، ففي حين يتم الإغماء إثر العلاقة الجنسية مع الحيوان (القرد والدب) عبر تكرارها إلى عشر مرات، لا يتعدى الوصول لحالة الإغماء في العلاقة البشرية إلا لعلاقة واحدة كي تفي بالغرض، وبذلك أراد النص، أن يعيد الاعتبار إلى الفعل الإنساني من جهة، وأن يبهر المتلقي من جهة ثانية، وذلك بإقراره أنه لا توجد متعة جنسية ممكنة بدون بلوغ حالة فقدان الوعي (الإغماء).

إن شهرزاد حكت استجابة لسمر نسائي، وبطلب من أختها دنيا زاد بعد أن حاكت "سيناريو" توديع أختها من أجل فتح عالم حكي النساء على عالم الرجال، "بالله عليك يا أختي حدّثينا حديثا نقطع به سَهَرَ ليلنا " (18)، فدخل شهريار متسللا إلى الفُرجة ناظرا إلى ذاته ومُتفرجا عليها، كي يشاهد الفعل الجنسي من زاوية نظر أخرى ليتحقق له عري ذاته، حيث يأتي دائما فعل المشاهدة من الأعلى في اتجاه الأسفل " وكان في قصر الملك شبابيك تطل على بستان أخيه.فنظر..." (19) وكأننا بحضور فعل التلصص على الفعل الجنسي من أعلىن كل ذلك يرمز إلى تشبيه الفعل الجنسي بالعمل الحيواني لدونيته " فوجدت صفة صغيرة بها طاقة تشرف على قاعة، فنظرت في القاعة فوجدت امرأة .." (20).

لم تدوّن شهرزاد حكاياتها بنفسها، بل دوّنها رجال أضافوا للحكايات تفاصيل لم تذكرها، واغلبها نصوص تحمل أفكارا تخدم الفكر الذكوري المسيطر، جعلوا فيها الرجل هو السيد الآمر الناهي والمرأة هي المسودَة والخاضعة، وبذلك وقياسا لحجم الأبعاد الرمزية التي مثلتها آنذاك، استطاعت شهرزاد تحويل الجسد من الموضوعة الجنسية إلى موضوعة التخييل الجنسي، أي من تجربة الحب الحسية إلى التجربة الفنية، حيث يستدعي الحب عالم المخيلة التي تدخل في صراع مع العوالم الفنية وتخلق حركة درامية في تطور شخصية السارد(ة) حيث :" يوجد بين التجربة العشقية والتجربة الفنية رابط، هو في نفس الوقت متشابه ومتضاد، فالحب كما الفن محكومان بالرؤية الذاتية، بما أن الخيال يخلق موضوعه" (21).

يشكل هذا النمط من إعادة إنتاج التمثل العام للمجتمع حول الجسد، خطوة جعلته بمثابة سلطة لتعطيل العنف السلطاني ليس بالمفهوم العلاجي النفسي- لأن النص السردي ليس أطروحة بسيكولوجية محضة - فانتقال شهريار إلى سلطة الإنصات أفسح المجال لتجلي سلطة الحكي الأنثوي الذي يمنح للقيم الذكورية، والفحلية منها، فاعلية وجودها كما جاءت في كشف الظنون.

إن صدق الخطاب الذي امتازت به شهرزاد جعل خطاب شهريار ينتقل من مبدئه الجوهري الذي تغطيه السلطة الزمنية "إحك حكاية وإلاّ قتلتك" إلى خطاب يتعايش فيه الموت والحكاية ويتنادمان من أجل تأجيل الوعد بالقتل على أساس عذوبة القص وانحباسه في عقد سردية تستوجب استرسال التلقي من أجل تجليتها، وبالرغم من أن الحكايات تستمر متأثرة بفعل الخيانة التي لم يستطع القتل أن يمحوها ويُشفي الفاعل من جراحاتها، فقد انتقل دافع القتل عند شهريار من القتل الجسدي للمرأة إلى رغبته في استمرار القص بدافع القتل المعنوي لكل النساء: " فاللذة العجيبة التي كان يجدها شهريار في قتل نساء مدينته تعادل لذة الليالي الحمراء التي ترويها شهرزاد"(22)، أو الليالي البيضاء التي يقول فيها عبد الكبير الخطيبي حيث :" تتعرض شهرزاد لخطر الموت، فإنها ترفع عنصر الليلة البيضاء إلى مستوى أبيض نظري، وإلى مستوى نظرية باذخة من حكايات سلسلة من الليالي." (23) ، فالسرد هنا يلغي ويمحو فعل القتل، ويعطل فاعليته، ويشيد تلقيه على أجساد النساء ويميل إلى مبادلة القتل بالحكي والجنس، فالمبدأ الشهرياري يعطي الأسبقية للحكي على القتل "احك حكاية وإلا قتلتك" حيث يجعل الجسد الأنثوي الفدية المثلى للتنازل عن القتل والتعويض عن فعل الخيانة الذي فجر غضب شهريار " احك حكاية وإلا قتلتك، ثم امنحيني جسدك" (24)، الشيء الذي يحول شهرزاد من ساردة لفن قصصي إلى معشوقة باعتبارها فنانة محبوبة .
 
أعلى