سعاد مسكين - خزانة شهرزاد

مقتطف

مقدمـة

يشكِّل نصّ "ألف ليلة وليلة" نموذجًا حيًّا من نماذج التراث العربي، إذ يمثِّل مصدرًا تاريخيًّا قيّمًا لهويتِنا، كما يُعتبر حاجة فكرية وثقافية استوعبها العقل الإنساني، وصيرها أداة لفهم العالم واستكناه خباياه. لذلك استطاعت "الليالي" العربية أن تحاكي الواقع العربي بجلِّ مظاهره وأشكاله عبر خطاباتها المختلفة والمتباينة. خطابات تتجانس فيها الحقيقة بالوهم، الواقع بالخيال، المقدّس بالمدنّس، الجد بالهزل...الشيء الذي جعلنا نقف عند المكونات البنيوية لليالي باعتبارها شكلاً كتابيًا "مدوَّنًا" يخضع لمقاييس ومعايير "نوعية" تميِّزه عن باقي الأشكال والنصوص الأخرى سواء منها التاريخية، أو الجغرافية، أو الكونية.
إنَّ مقاربة التكوُّن النّوعي للحكايات داخل هذا النص، سيمكِّننا من الكشف عن طبيعة الأنظمة والأنساق التي تحكم تكوُّنه الحكائي إن على مستوى البناء، أو على مستوى المحتوى. وإن كان الناظم بين جلِّ حكاياته هو منطق الحكي عند شهرزاد )الراوية( التي استطاعت أن تجعل من هذا العمل عملاً متكاملاً ومنسجمًا يحِقُّ أن ندرجه ضمن "المصنفات الجامعة للأنواع السردية".

* * * * * * *

ينطلق عملنا من افتراضين اثنين:

1- ألف ليلة وليلة "خزانة" للأنواع السردية العربية، أنواع مختلفة التجلي النصي من حيث صيغ الخطاب، و من حيث الوظائف الجمالية والدلالية.

2- إنَّ دراسة اللّيالي باعتبارها "خزانة" للأنواع السردية تستوجب النظر في كيفية تشكُّل حكاياتها انطلاقًا من الحكاية الإطار، مرورًا بالحكايات المتضمَّنة لمعرفة معماريتها النّصية، ومحاولة خلق" فهرسة" جديدة لها على ضوء التصنيف" النّوعي".
يرتبط بهذين الافتراضين العديدُ من الأسئلة التي سنجعلها محور اشتغالنا، والتي من شأنها أن تحفّزنا على الاستمرار في البحث، والاحتكاك أكثر بموضوع عملِنا. موضوع يظلُّ محكومًا بالهاجس النظري، ومرتبطًا بتحقيق وعي جديد بالتراث العربي عبر التطور في تقديم بعض الإشكالات، والإجابة عنها:

غلاف مصغر كتاب سعاد مسكين= هل يمكن لتجلٍّ نصيٍّ مثل "ألف ليلة وليلة" أن يولِّد لنا نظرية في الأنواع السردية؟

= بأي منظور يمكننا أن نعالج الأنواع السردية؟ وضمن أي إطار نظري؟
= ما الخصائص التي تجعل خطابًا ما يندرج ضمن نوع معين؟
= ما القوانين والقواعد الضابطة للنوع السردي في اللّيالي؟
= هل يمكننا حصر الأنواع السردية، عبر دراستنا للَّيالي، في عدد محدود ومحدَّد؟
= أين يحضر النوع هل في المادة؟ أم في البناء؟
= هل تكفي صياغة وتحديد معيار للنوع كي نؤسس منطقًا للأنواع السّردية العربية؟

* * * * * * *

إنَّ البحث في الأنواع السّردية بحث في اشتغال مكوّنات الخطاب و ارتباطٌ بقوانين وضوابط "السرديات" باعتبارها عِلمًا يُعنى بمظاهر الخطاب السردي أسلوبًا، وبناءً، ودلالةً؛ لذلك تُوجِب عملية الاشتغال على التمثيل الخطابي داخل "اللّيالي" البحث في خصوصياته البنيوية التي ستظل خارقة لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، ومنفلتةً عن كلّ جمود أو ثبات، تعيش في تجدُّد مستمرٍّ بتجدد الفكر الإنساني بشكل عام، والعقل العربي بشكل خاص.

وقد اتخذنا من مقولة "الصيغة" (le mode) إجراءً يُعيننا على وصف الكلام، وعلى تحديد أقسامه وأصنافه، وهو إجراء يراعي، في الآن نفسه، شروط ونسق تكوُّن النوع السردي الذي لا يمكن الفصل فيه بين "الصيغة" وباقي المكونات المتعلقة أساسًا بمُكوِّنَي "الموضوعة" (thème)، و"المقصدية"، لأنه يصعب وصف أيّ تجلٍّ لفظيّ دونَ وصفٍ للحدث/ الفعل، ودون معرفة بمقاصد هذا الفعل/ أو القول: التعليم/ العُجب/ التسلية/ السخرية/ الترميز إلخ. لذلك سنحاول التعامل بمرونة مع هذا "الإجراء" كي نستطيع التوفيق بين الرغبة في تجريد النص إلى مقولات متعالية، وبين الرغبة في الحفاظ على جماليته النصية.

* * * * * * *

يتخذ بحثنا في الأنواع السردية مسارًا يزاوج بين ما هو تنظيري وما هو تجريبي إذ سينطلق من نظرية الأجناس الأدبية وما تُقدِّمه من قضايا تُظهر تباين المرتكزات النظرية إن على مستوى تصورها العام لمفهوم الجنس الأدبي وموقعه داخل النظرية الأدبية، أو على مستوى مختلف العلاقات والروابط التي يعقدها الجنس مع النّص ككيان يتجسّد داخل الممارسة الأدبية كي نحدّد موقعًا للنّوع السردي ضمن هذه النظريات، يُمكِّننا من طرح تصور نظري بخصوصه، ومن تمّ نستطيع توليد تصورات عامة حول الأنواع السردية.

سيعمل مشروعنا أيضا على إظهار الخصائص الجوهرية للنّوع السردي، صفاتُه المتحولة والمتغيرة عبر تفكيك البنيات الحكائية للّيالي وتجريدها إلى ضوابط عامة تقدَّم تصورًا نظريًّا للأنواع السردية العربية، وتُؤسِّس لمشروع نظري محكوم بمقاصد وطموحات نرمي الوصول إليها، من بينها:

1- وضع اقتراح نظري للأنواع السردية يُسهم في تمثُّل نظريات الأجناس القديمة
والحديثة، ويُسعف بالحدّ من معضلة الأجناس في الأدب العربي.

2- ضبط قوانين وميكانيزمات النَّوع السردي لضبط تسميته، وللحدّ من الخلط في المصطلحات الدالة عليه.

3- فتح المجال أمام أبحاث متخصِّصة في دراسة "اللّيالي" بتحديد موضوعاتها أو أشكالها وفق مناهج محدَّدة، وتصورات نظرية مضبوطة.

4- محاولة إعادة تصنيف اللّيالي من منظور التقسيم "النوعي" للحكايات ووضع "فهرسة" جديدة تُدرِج كل حكاية ضمن نوع سردي معين.

* * * * * * *

لاشك أن مثل هذه المقاصد والأهداف لا يحكمها إلا هاجس واحد ووحيد، هو هاجس جدّة الدراسة، نأمل أن تكون في فرضياتها، أو في نتائجها، أو في طريقة استخدام منهج محدَّد وتَمثُّله. مع وعينا التام بأن عملنا هذا لا يخلو من صعوبات وعراقيل نجملها في سعة واتساع المتن المقترح للدراسة الذي يجعلنا، في أحيان كثيرة، ننجذب إلى لذته النصية ونتغافل عن الرّصانة العلمية والمنهجية. ولا يفوتنا ذكر صعوبة منهجية ساهمت بشكل كبير في التحفيز على الاحتكاك أكثر بموضوع الاشتغال والمتمثلة في كيفية التوفيق بين النظريات والمناهج وبين المتن المدروس دون أن نقع في التطبيق أو المحاكاة.
أخيرا نأمل في أن يكون هذا "المشروع" افتتاحا لأبحاث معرفية مستقبلية، ترى في "الليالي" بحرًا غويصًا يحتاج إلى المزيد من الاستكشاف والكشف عبر طرح الأسئلة المتجدِّدة بتجدد القراءة، ما دام كل نص هو "موضوع مبني" بواسطتنا نحن القراء.
 
أعلى