نقوس المهدي
كاتب
سأحاول في هذه القراءة السريعة الإطلال والتعليق على إضاءتين قدمهما الكاتبان سامي مهدي ومنصف الوهايبي، في مقاربتين لنص تأسيسي في الثقافة العربية \ هذا النص واحدٌ من النصوص المؤسِّسة للنفسية العربية في مرحلتها الثانية ( ما بعد الإسلام ) ألا وهو ” ألف ليلة وليلة “.
قبل البدء بالتعليق علينا أن نٌميِّز بين مستويين من الثقافة \ الثقافة الجمعية الشعبية العامَّة، والثقافة بمعناها النخبويِّ الخاص .
إن منصف الوهايبي إيجاد مقارنة بين إحدى حكايات ألف ليلة وليلة وأسطورة أوديب، هي بداية لقراءة شاملة للتأسيس الأسطوري لهذه الحكايات، وقراءة مقارنة مع أساطير مؤسِّسة لشعوب أُخرى (محاولة لاستيعاب الفوارق التأسيسية بين المكونات العميقة لسلوك الشعوب والحضارات من خلال النصوص التأسيسية العميقة لها) بخطابٍ يُكرِّس العقلية الانهزامية، والارتكان للقدرية والمصادفات غير الطبيعية التي لا تحمل دوراً للإنسان في صُنعها وذات الطبيعة الخارقة للعادة .
فالقارئ لهذه الحكايات (حكايات ألف ليلة وليلة ) سيُلاحظ أن بُنيتها قائمة على قَصٍّ ينقل بعض المفارقات الحياتية واليومية، وعندما تصل هذه الحكايات إلى نقطة تحدٍ وإلى عُقدة، تتوقف عناصر الفعل البشري عن محاولة إيجاد حل لهذه العقدة، ويتم تسليم القرار إلى قوى غيبية، ويكون الحل عجائبياً خارقاً للطبيعة (تحييد وتهميش الجُهد والفعل البشري )، ويظهر الحل من خلال الجن والملوك والمصادفات التي يقف خلفها قوى غير منظورة وغير مرتبطة بالفعل البشري المتأزم، وذلك بخلاف الأسطورة اليونانية المؤسِّسة للفكر الغربي وحضارته، حيث أن الحل يأتي من الصراع والكفاح ضد قوى الظلام ويقود هذا الصراع البشر بما هم بشر للتغلّب بأنفسهم على أزماتهم وليس الاستعانة بقوى غيبية ، قد تُساعد في تهيئة عناصر طبيعية تُساعد البشر في اجتراح الحلول لمأزقِهم وأزماتهم.
مُفارقة أُخرى بين الأسطورتين المؤسِّستين أن البطل في “ألف ليلة وليلة” عاشق مهزوم ينحُلُ جسم،ه يغيب عن الوعي ويقترب من الموت، دون أن يبذل أية محاولة واقعية للوصول إلى مُبتغاه (إلا في حالات محدودة في الحكايات وتدخل فيها أيضاً غرائبيات غير بشرية ولكن بمشاركة بشرية ) بينما يخوض البطل اليوناني غِمار المعارك والأهوال، ويُحارب التنانين والميدوزات وقُوى الطبيعة العاتية حتى ينتصر عليها بقواه الذاتية، فهو يقود المعارك وينتصر بها ويحقق ما يريد بينما البطل الشرقي يُغشى عليه وينتظر أن يأتيه الحل من الجن والملوك والذهب الذي يهبط عليه فجأةً والأميرات اللواتي يتهافتن عليه ويشفقن عليه .
باختصار تؤسِّس “ألف ليلة وليلة” لقطيعة عميقة وقاسية مع الواقع وتفاعلاته، وقدرته على إيجاد الحلول البشرية الواقعية للمشاكل التي يواجهها المجتمع والناس، وهي قطيعة أيضاً مع البطل العربي الجاهلي، الذي كان يقود المعارك ويخوض المتاهات والمغامرات للوصول إلى حبيبته وتخليصها من الأعداء والعودة منتصراً ، بينما بطل “ألف ليلة وليلة” ضعيف مستسلم ينتظر المعجزات غير الطبيعية لتقوم بدوره، وبهذا يسلَّم أسلحته كلها إلى قُوى غيبية، وتُمنّيه “ألف ليلة وليلة” بأن هذه القوى ستنصره وهو نائم، وأنها ستقوم بالفعل بدلاً عنه فاستمرأ هذا الحل واتكأ عليه حتى وصل إلى هذا الاتكاء القاتل، حيث تخلَّت عنه كل هذه القُوى وها هو مُلقى كجيفةٍ لا يستطيع حَراكاً .
هذه المقالة القصيرة دعوة لإعادة قراءة الانتكاسة التي قادتها “ألف ليلة وليلة” في الشخصية العربية، حيث سلبته قُواه الفعلية التي كان يُقاوم بها أعداءه وأسلمته إلى قُوى غيبية دمّرته عبر التاريخ ( حيث باع أسلحته الحقيقية في مواجهة الواقع في سوق الخرافة، وعاد ذليلاً منكسراً ،عاجزاً ،نازفاً ومغشيّاً عليه ).
وها هو يجلس نحيلاً عاجزاً في سائر المدن والقرى والبوادي العربية، في انتظار الجنيّات وهارون الرشيد والذهب الذي يهبط عليه فجأةً. وربما تكون بعض هذه المفارقة قد تحققت في بعض الصحارى العربية من خلال النفط ولكن هذه المرة بفعل فاعل (الغرب الاستعماري) فأعادت إنتاج وإحياء “ألف ليلة وليلة” بإطارٍ جديد وبصور أكثر مأساوية حيث أصبح الوصول إلى هذا العالم ( الصحراوي النفطي ) بديلاً آخر عن العمل ضمن الظروف التي يحياها وعليه مواجهة مشاكلها، هذا الإنسان العربي المهزوم الذي يُمثِّل الجانب السلبي لأسطورة ستولد وتُضاف إلى أساطير التراث البشري كحكايات حزينة ومفارقات مُضحكة ومُرعبة في آنٍ واحد، إذا استمرأ هذا الإنسان واستمرَّ في اجترار أساطيره ونصوصه المؤسِّسة كأصنامٍ جامدة، دون أن وينقِّحها يُحاورها ويُحوِّرها ويُضيف إليها ويُحجِّم هيمنتها الشُّعوريَّة واللاشعوريَّة الطاغية والقاتلة .
بقيت هناك ثلاثُ ملاحظات :
في محاولة الكاتب سامي مهدي في البحث عن أصل وتطور “ألف ليلة وليلة” مداخل كثيرة للبحث في التحوّلات التيطرأت على الحكايات، وكيف تمَّ تحويرها وآليات هذا التحول، إلى أن وصلتْ إلى هذا النصِّ القَدَريِّ الذي يبثُّ العجز والتخلَّف السائد حالياً في هذه الشخصيَّة المهزومة والمأزومة .
والملاحظة الثانية تتعلق بالسلطة التي مارسها هذا النص عبر التاريخ، من خلال سرده شفاهياً في المجالس والمقاهي والمواقف والسَمر، ومن ثَمَّ تناقله الشفاهي المنتشر بكثافة عالية في مجتمعاتنا العربية على اختلاف مواقعها .
والملاحظة الثالثة تتصل بإعادة إنتاج ألف ليلة وليلة في الفضائيات العربية بصيغة أقرب ما تكون لصيغها الأولى (كأن هناك إصراراً أعمى على بقاء هذا النص مسيطرا بإعادة إنتاجه بصيغٍ مختلفة، بدلاً من دخول آليات معرفية جديدة عليه تُعلي من قيم الجهد البشري ومواجهة التحدّيات).
هذا لا يُلغي ما حمله النص من فنتازيا وسخرية وغرائب ورحلات، والحثِّ على التنقل والارتحال، وما أخبرت به عن نمط الحياة في بغداد والأمصار العربية والإسلامية، وما حملته من أشعار وأجواء شعريَّة ومفارقات، وشخصيَّات تاريخيَّة ولاتاريخيَّة والتي تُقرأ في إطارٍ ثقافيٍّ نخبويٍّ، لا في الإطار العاجز الذي تنصبَّت فيه شعبيَّاً ، فكلُّ نصٍّ مؤسِّس له قراءتان , قراءة ثقافية واعية قادرة على التقاط مفارقاته وتأويلاته ومحمولاته العميقة، وقراءة جماعية أو مجتمعيَّة عامة تخضع لثيماته، وتمنحه سلطات لا شعوريَّة مسيطرة على مستوى أعلى من مستويات اللغة والنص .
* شاعر وكاتب من الأردن
قبل البدء بالتعليق علينا أن نٌميِّز بين مستويين من الثقافة \ الثقافة الجمعية الشعبية العامَّة، والثقافة بمعناها النخبويِّ الخاص .
إن منصف الوهايبي إيجاد مقارنة بين إحدى حكايات ألف ليلة وليلة وأسطورة أوديب، هي بداية لقراءة شاملة للتأسيس الأسطوري لهذه الحكايات، وقراءة مقارنة مع أساطير مؤسِّسة لشعوب أُخرى (محاولة لاستيعاب الفوارق التأسيسية بين المكونات العميقة لسلوك الشعوب والحضارات من خلال النصوص التأسيسية العميقة لها) بخطابٍ يُكرِّس العقلية الانهزامية، والارتكان للقدرية والمصادفات غير الطبيعية التي لا تحمل دوراً للإنسان في صُنعها وذات الطبيعة الخارقة للعادة .
فالقارئ لهذه الحكايات (حكايات ألف ليلة وليلة ) سيُلاحظ أن بُنيتها قائمة على قَصٍّ ينقل بعض المفارقات الحياتية واليومية، وعندما تصل هذه الحكايات إلى نقطة تحدٍ وإلى عُقدة، تتوقف عناصر الفعل البشري عن محاولة إيجاد حل لهذه العقدة، ويتم تسليم القرار إلى قوى غيبية، ويكون الحل عجائبياً خارقاً للطبيعة (تحييد وتهميش الجُهد والفعل البشري )، ويظهر الحل من خلال الجن والملوك والمصادفات التي يقف خلفها قوى غير منظورة وغير مرتبطة بالفعل البشري المتأزم، وذلك بخلاف الأسطورة اليونانية المؤسِّسة للفكر الغربي وحضارته، حيث أن الحل يأتي من الصراع والكفاح ضد قوى الظلام ويقود هذا الصراع البشر بما هم بشر للتغلّب بأنفسهم على أزماتهم وليس الاستعانة بقوى غيبية ، قد تُساعد في تهيئة عناصر طبيعية تُساعد البشر في اجتراح الحلول لمأزقِهم وأزماتهم.
مُفارقة أُخرى بين الأسطورتين المؤسِّستين أن البطل في “ألف ليلة وليلة” عاشق مهزوم ينحُلُ جسم،ه يغيب عن الوعي ويقترب من الموت، دون أن يبذل أية محاولة واقعية للوصول إلى مُبتغاه (إلا في حالات محدودة في الحكايات وتدخل فيها أيضاً غرائبيات غير بشرية ولكن بمشاركة بشرية ) بينما يخوض البطل اليوناني غِمار المعارك والأهوال، ويُحارب التنانين والميدوزات وقُوى الطبيعة العاتية حتى ينتصر عليها بقواه الذاتية، فهو يقود المعارك وينتصر بها ويحقق ما يريد بينما البطل الشرقي يُغشى عليه وينتظر أن يأتيه الحل من الجن والملوك والذهب الذي يهبط عليه فجأةً والأميرات اللواتي يتهافتن عليه ويشفقن عليه .
باختصار تؤسِّس “ألف ليلة وليلة” لقطيعة عميقة وقاسية مع الواقع وتفاعلاته، وقدرته على إيجاد الحلول البشرية الواقعية للمشاكل التي يواجهها المجتمع والناس، وهي قطيعة أيضاً مع البطل العربي الجاهلي، الذي كان يقود المعارك ويخوض المتاهات والمغامرات للوصول إلى حبيبته وتخليصها من الأعداء والعودة منتصراً ، بينما بطل “ألف ليلة وليلة” ضعيف مستسلم ينتظر المعجزات غير الطبيعية لتقوم بدوره، وبهذا يسلَّم أسلحته كلها إلى قُوى غيبية، وتُمنّيه “ألف ليلة وليلة” بأن هذه القوى ستنصره وهو نائم، وأنها ستقوم بالفعل بدلاً عنه فاستمرأ هذا الحل واتكأ عليه حتى وصل إلى هذا الاتكاء القاتل، حيث تخلَّت عنه كل هذه القُوى وها هو مُلقى كجيفةٍ لا يستطيع حَراكاً .
هذه المقالة القصيرة دعوة لإعادة قراءة الانتكاسة التي قادتها “ألف ليلة وليلة” في الشخصية العربية، حيث سلبته قُواه الفعلية التي كان يُقاوم بها أعداءه وأسلمته إلى قُوى غيبية دمّرته عبر التاريخ ( حيث باع أسلحته الحقيقية في مواجهة الواقع في سوق الخرافة، وعاد ذليلاً منكسراً ،عاجزاً ،نازفاً ومغشيّاً عليه ).
وها هو يجلس نحيلاً عاجزاً في سائر المدن والقرى والبوادي العربية، في انتظار الجنيّات وهارون الرشيد والذهب الذي يهبط عليه فجأةً. وربما تكون بعض هذه المفارقة قد تحققت في بعض الصحارى العربية من خلال النفط ولكن هذه المرة بفعل فاعل (الغرب الاستعماري) فأعادت إنتاج وإحياء “ألف ليلة وليلة” بإطارٍ جديد وبصور أكثر مأساوية حيث أصبح الوصول إلى هذا العالم ( الصحراوي النفطي ) بديلاً آخر عن العمل ضمن الظروف التي يحياها وعليه مواجهة مشاكلها، هذا الإنسان العربي المهزوم الذي يُمثِّل الجانب السلبي لأسطورة ستولد وتُضاف إلى أساطير التراث البشري كحكايات حزينة ومفارقات مُضحكة ومُرعبة في آنٍ واحد، إذا استمرأ هذا الإنسان واستمرَّ في اجترار أساطيره ونصوصه المؤسِّسة كأصنامٍ جامدة، دون أن وينقِّحها يُحاورها ويُحوِّرها ويُضيف إليها ويُحجِّم هيمنتها الشُّعوريَّة واللاشعوريَّة الطاغية والقاتلة .
بقيت هناك ثلاثُ ملاحظات :
في محاولة الكاتب سامي مهدي في البحث عن أصل وتطور “ألف ليلة وليلة” مداخل كثيرة للبحث في التحوّلات التيطرأت على الحكايات، وكيف تمَّ تحويرها وآليات هذا التحول، إلى أن وصلتْ إلى هذا النصِّ القَدَريِّ الذي يبثُّ العجز والتخلَّف السائد حالياً في هذه الشخصيَّة المهزومة والمأزومة .
والملاحظة الثانية تتعلق بالسلطة التي مارسها هذا النص عبر التاريخ، من خلال سرده شفاهياً في المجالس والمقاهي والمواقف والسَمر، ومن ثَمَّ تناقله الشفاهي المنتشر بكثافة عالية في مجتمعاتنا العربية على اختلاف مواقعها .
والملاحظة الثالثة تتصل بإعادة إنتاج ألف ليلة وليلة في الفضائيات العربية بصيغة أقرب ما تكون لصيغها الأولى (كأن هناك إصراراً أعمى على بقاء هذا النص مسيطرا بإعادة إنتاجه بصيغٍ مختلفة، بدلاً من دخول آليات معرفية جديدة عليه تُعلي من قيم الجهد البشري ومواجهة التحدّيات).
هذا لا يُلغي ما حمله النص من فنتازيا وسخرية وغرائب ورحلات، والحثِّ على التنقل والارتحال، وما أخبرت به عن نمط الحياة في بغداد والأمصار العربية والإسلامية، وما حملته من أشعار وأجواء شعريَّة ومفارقات، وشخصيَّات تاريخيَّة ولاتاريخيَّة والتي تُقرأ في إطارٍ ثقافيٍّ نخبويٍّ، لا في الإطار العاجز الذي تنصبَّت فيه شعبيَّاً ، فكلُّ نصٍّ مؤسِّس له قراءتان , قراءة ثقافية واعية قادرة على التقاط مفارقاته وتأويلاته ومحمولاته العميقة، وقراءة جماعية أو مجتمعيَّة عامة تخضع لثيماته، وتمنحه سلطات لا شعوريَّة مسيطرة على مستوى أعلى من مستويات اللغة والنص .
* شاعر وكاتب من الأردن