عبدالمجيد عبدالحميد - ألف ليلة وليلة.. السحر إلى أقصاه حكاياتها البحرية رسمت للشرق صورة غرائبية

حكايات الليالي العربية الشهيرة “ ألف ليلة وليلة” ذات شجون وشؤون، كتاب سمر شعبيّ فيه أسماء يتناقلها الروّاة وتستمع إليها الآذان بلغة عربية قريبة من اللهجة العامية الدارجة، يتخللها شعرٌ مصنُوع في نحو 1420 مقطوعة. وحكايات ألف ليلة وليلة سِفْرٌ تاريخيّ وفلسفي يعكس بصدقٍ وأمانة، الملامح الاجتماعية والسياسيّة والاقتصادية والثقافيّة والعسكريّة للمجتمع الشرقيّ ولمجتمعنا العربيّ والإسلاميّ بخاصّة خلال القرون الوسيطة. وبنفس ذلكُم التحديد نجدُ أنّ للحكايات هذهِ صوراً تاريخيّة صادقة لحياة المجتمع الشرقيّ في القرون الوسطى، وما كان عليه أصلُ هذا المجتمع مِن طبائع وعادات وأخيلة وأفكار. وأنّ حكايات الليالي العربيّة تُصوِّرُ للقارئ حياة البَلاط والطبقّات الحاكِمَة.. والتجّار المُترَفِيْنَ، وما هم عليهِ مِن أُبَهّةٍ وبَذْخٍ وَرَفَاهٍ.. يغُوص في أعماقها وكيف يحكُمُون؟. كما يجد قارئ هذه الحكايات الساحرة بلياليها بعيدةً في لُغتها ومضامينِِ حكاياتِها عن القصص الأرستقراطيّ المُتَرْجَم والمُؤلَف بلغةٍ أدبيّةٍ راقيّة وهذا سِرُّ جَمَالٍ وخُلُودِ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ...

إذن حكايات الليالي العربية ألف تُمثِّل لدارسها ومُطالِعها بيئاتٍ شتّى خياليّة وواقعيّة، وأكثر البيئات الواقعيّة بروزاً مِصْرَ ثم العراق وسوريّة، وقد عاشت حكاياتنا العربيّة هذه قُروناً مُتتاليّة يتحكّم فيها ذوقُ السّامعينَ فلا يجِدُ هذا التحكُّم مِنَ القّاصِ أقلّ حَرجٍ مِن التلاعُبِ بالأصلِ بأقصى ما يُمكن أن يَكون التَلاعب. ولقد ساعدت على هذا طبيعة الأثَرِ نفسهِ.. كان القَصدُ مِن كِتابتِها تَسليّة العّامة شِفَاهاً وتَسْمِيعاً.

حكايا البحر

يأتي كتاب “صورة الشرق الأقصى والعالم في حكايات ألف ليلة وليلة البحريّة” لمؤلفه شمس الدين الكيلاني الصادر ضمن منشورات اتحاد الكُتّاب العرب بدمشق، الذي يتألف من محورين وأبحاث، في 104 من القطع الوسط. تناول الكيلاني في المحور الأول “حكايا البحر في ألف ليلة وليلة” الذي بدأه بتمهيد عن الحكايات الساحرة التي كان يلقيها القصاص والمسامر بصوت جهوري معبّر، في مقهى الحارة، وفي مضافة القرية أو القبيلة، يستمع للراوي رجال المحلة وهم يرتشفون القهوة العربية، ينتقل بهم إلى عصور أبطالها، وفي الغالب إلى عصر هارون الرشيد، يأخذهم في مغامراتهم، فتأخذهم الحماسة والنشوة إذا وقع البطل أسيراً، أو عاشقاً فيقف القاص عند هذا الحدّ، ليرجع إليهم في الليلة التالية ليُكمل حكايته...

وأشار المؤلف إلى الاهتمام العالمي بالليالي العربية بعد أن ترجمه “أنطوان جالاند” على الرغم من تصرفه بها، وأوضح أن الليالي اشتملت على موضوعات شتّى، منها الحكايات التاريخية، وتلك التي تعنى بشخوص فعليين، والحكايات الرومانسية التي توزعت بين حكايا الخوارق، والتي مزجت الواقعي بالخيالي، واشتملت أيضاً على حكايات الشطار والعيارين، وقصص المغامرات البحرية وغيرها...

ثم عرّج شمس الدين الكيلاني على القصص البحرية موضوع المحور الأول لكتابه التي يراها قد تأثرت إلى حدّ كبير، بالرحلات البحرية العربية، كرحلة سليمان التاجر والرحلات التي سجلها برزك بن شهريار في كتابه “عجائب الهند” عن بحار الشرق الأقصى، وجُزرها وبمؤلفات الجغرافيين العرب أمثال ابن حوقل، والأصطخري، والغرناطي، والإدريسي، وابن الفقيه، وأيضاُ مؤلفات الكوزمغرافيين كابن الوردي، والقزويني، والدمشقي، إذ تضمنت تلك المُعطيات الأولية اللازمة لأيّ أدب قصصي كي يبني منها حكاياته البحرية، في قالب فنيّ يرفعها إلى مستوى الأدب القصصي، وهو ما نجده في الكثير من الحكايات التي يدخل البحر كعامل حاسم، أو ثانوي في حياة أبطالها، وعكست التصورات العامة للجغرافية العربية وللرحلات العربية.

عرض مؤلف الكتاب لحكايتين طويلتين للغاية، استغرقت الراوية شهرزاد في سرد حوادث كل منهما، أكثر من ستين ليلة، أولهما: “حكاية قمر الزمان بن الملك شهرمان”، وهو من ملوك أقصى المغرب. تبدأ من الليلة “137” وتنتهي بالليلة “249”، ويدور قسم من حوادثها في الصين وبحارها، والأخرى “حكاية سيف الملوك بن عاصم”، ملك مصر أيام النبي سليمان عليه السلام، التي يدور قسم من حوادثهما في بلاد الصين، وفي بلاد الهند، ويلعب البحر في الحكايتين دوراً مهماً، غير أنّه لا يصل إلى حدّ تقرير مصير أبطالهما، إذ كان لا بُدّ لقمر الزمان، وسيف الملوك كي يصلا إلى حبيبتيهما اللتين تقطنان في بلاد الصين، من أن يركبا البحر، ويمخُرا عباب المحيط الهندي كي يصلا إلى مُبتغاهما، ويخوضان مغامرات خطرة بين الجُزُر والسواحل القصيِّة!.

وعرض لحكاية سيف الملوك وبديعة الزمان، التي تستغرق روايتها ثمانيا وستين ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة، وتدور حول سيف الملوك ابن ملك مصر في زمان النبي سليمان عليه السلام، ثم تناول حكاية الصعلوك الثالث “الملك عجيب بن خصيب” وهي جزء من حكاية “الحمّال مع البنات”، ثم عرض لحكاية حسن البصريّ، التي استغرقت شهرزاد في روايتها للملك شهريار ما يقارب الخمسين ليلة، وبطلها شاب بصريّ بدأ مغامرته مع البحار وغرائبها وعجائبها، وأهوالها وأفراحها وصراعاتها، وهو في ريعان الشباب، حيث ساقته عوامل خارجية، إلى تلك المغامرات، سوقاً، ثم ما إن انخرط في خضمها حتى واجه مخاطرها حتى النهاية المُقدرّة، التي أسهم هو في صنعها.

السندباد البحريّ

بعدها قدّم لحكاية جانشاه التي رأى المؤلف التشابه بينها وبين حكاية حسن البصريّ رغم التباينات المظهرية بينهما، أعقبها بحكاية عبدالله البريّ وعبدالله البحريّ التي سردتها في الليلة المائة التاسعة، واختتم المؤلف المحور الأول من كتابه بحكاية السندباد البحريّ وهي الحكاية البحرية الكُبرى في الأدب العربيّ، بل تعدّ من أهم قصص البحر في آداب العالم بأسرهِ، وتشترك مع حكاية عبدالله البريّ وعبدالله البحريّ، وحكاية حسن البصريّ، في كونها قصة بحرية مُكتملة، أو أنموذجاً متكاملاً للحكاية البحرية...

لقد رسمت واختزنت وعكست الليالي العربية صورة الثقافة العربية في العصر الوسيط عن الشرق الأقصى، في برّه وبحره، إذ تناول شمس الدين الكيلاني في المحور الثاني لكتابه صورة الشرق الأقصى في المُتخيّل العربيّ، من خلال كل من: الجغرافيين، الرحالة وأصحاب العجائب، أعقبه الحديث عن “صورة الشرق الأقصى في الليالي” من خلال: النظرة الايجابية عن الصين والهند، وظواهر كونية - جغرافية كُبرى، وهو ما تداولته المدونات الثقافية العربية، المتمثلة في “جبل قاف، وجبل المغناطيس” كما تناول غرائب البحر، والحديث عن تخُوم العالم المعمور الغامضة “حدود، جُزُر، وتجارة” كالنحاس والتخوم القصوى، وأخيراً التجارة الصامتة على تخوم العالم المعمور.


- ألف ليلة وليلة.. السحر إلى أقصاه - جريدة الاتحاد
 
أعلى