زياد فايد - النقد الأدبي الإنجليزي يقع في سحر «ألف ليلة وليلة»

هل كان سببًا مباشرًا في اهتمام النقد الأدبي الإنجليزي بـ «ألف ليلة وليلة»؟. ذاك هو موضوع رسالة الدكتوراه التي حصل عليها الباحث العراقي محسن جاسم الموسوي من جامعة دالهوزي «الكندية» والتي صدرت في كتاب باللغة العربية عن الهيئة العامة للكتاب يشمل علي ستة فصول من القطع المتوسط تحتوي علي 370 صفحة يناقش خلالها الاتجاهات الحديثة في دراسة ألف ليلة وليلة وأشكال التجارب النقدية لجماليات شهرزاد. الليالي العربية تعد «ألف ليلة وليلة» أو الليالي العربية كما أطلق عليها مترجمها الإنجليزي المجهول في مطلع القرن الثامن عشر من بين الكتب الفريدة في تأثيراتها في القراء والرواج الذي حظيت به.. بالرغم من أن الحكايات مازالت تقرأ في أوروبا ومازال الناشرون يعنون بإعادة طبع أو اختصار مختارات منها رغم التطور الحالي في تبادل المعلومات وخدمات الإنترنت والذي كان من شأنه تحجيم عادة القراءة، أيضا أن الكثيرين من الأدباء المحدثين قد استفادوا منها في إبداعاتهم ومنهم علي سبيل المثال «جون بارث» شأن سابقيهم، رغم اختلاف الأساليب والرؤية. لكن التعامل مع الحكايات العربية في هذا العصر يتميز بتجرد شخصي وموضوعية بعد ما بدت العوالم الجديدة بكشوفاتها المتميزة تجسيدا تحقيقا لما عددناه أوهاما وشطحات خيال وعن تتابع تأملات الرواة في المأثورات الشعبية والخوارج والأحلام، لكن الدارسين الجدد لم ينصفوا الحكايات بعد ومازالت أجواؤها الوسيطة تطالب بمزيد من البحث والتنقيب الذي يعتمد علي الطرق العلمية في التفسير والاستقصاء.

كما أن قدرات شهرزاد الفنية وإن حظيت بملاحظة «تودروف» وغيره، لكنها تبقي أكثر من أن تحتويها دراسة واحدة، فشهرزاد لم تكن مجرد ابنة الوزير التي طلبت من أبيها أن يسمح لها بالتزوج بذلك السلطان المتغطرس شهريار فبعد غدر زوجته الأولي قرر شهريار أن يتزوج واحدة كل ليلة ليقضي عليها في صباح اليوم التالي، حيث لم يعد يثق بالنساء ورأي في هذا الأسلوب خلاصه الوحيد من غدرهن، ولم تكن شهرزاد علي شاكلة غيرها من النساء، فهي تعتمد كثيرا علي فطنتها ودرايتها بوضعه شاكلة، لذا فقد جاءته بمجموعة من القصص تشغله بها علي ليلة فاعلة فيه فعل السحر والدواء، جارحة إياه تارة ومداوية جروحه وآلامه تارة أخري، فقصصها لا تخلو من إشارات إلي غدر النساء، لكنها وهي تكسب ثقته بذلك كانت تذكر أقاصيص أخري عن وفائهن وذكائهن أثارت عنده ولعا بهذا الفن ولمدة «ألف ليلة وليلة»، ولكن والعهدة علي من روي.

كما يقول المؤرخون في أمور كهذه تحتمل الصدق والافتراء، كانت شهرزاد قد أصبحت أما آنذاك، وكان الملك قد تحرر عن سوداويته، أما موقفنا نحن كقراء أدب من هذه القصة فإننا قد نجد أنفسنا مجبرين علي القبول بتخريج جاء به الناقد الإنجليزي المعروف G.K.Chesterton فهو يري أن شهرزاد شاهد علي الاستقلالية الذاتية للفن، فلم يحصل في كتاب آخر كما يقول في كتابه «بهارات الحياة» ص56 ـ 60 أن يقدم اعترافا لهذا بمعجزة الفن ومكانته الكلية، فمتسلط كشهريار قد تأتمر بإمرته الجيوش ولكن لزم عليه أن يستمع إلي رواية.

لقد كان الفن وحده بديل الحياة والحكايات متداخلة غنية متنوعة فيها قصص الحب والمغامرة والنوادر التاريخية والمقطوعات الفلسفية والأخلاقية، وشأن أغلب النتاجات الأدبية المتنوعة المنشأ والمتباينة الاتجاه والمؤتلفة في النمو، فإنها مرت في سلسلة من التنقيحات والإضافات منذ بداية ولادتها في القرن التاسع الميلادي، حيث انطبعت علي عدد كبير منها سمات بغدادية وقاهرية وسورية، في الوقت الذي لم يستدل فيه علي أصولها رغم توفر العديد من المخطوطات، فإن باحثي القرن العشرين ودارسيه لم يكونوا أفضل من سابقيهم في تسليط الضوء علي سلالة «ألف ليلة وليلة» لكن الفكتوريين الذين يعنينا أمرهم في هذه الدراسة كانوا ميالين إلي التنقيب عن هذه التي سحرتهم، كما سحرت الذين من قبلهم. البحث والتنقيب كان المستشرقون متأثرين كثيرا بنزعة البحث والتنقيب في الدراسات المقارنة وعلي شاكلة هواة القديم كانوا يبحثون عن الدليل المحفوظ أو المدون ولهذا كان ارتياحهم عظيما عندما قرأوا في «فهرست ابن النديم» وفي مروج الذهب للمسعودي عن أثر يدعي «ألف ليلة أو ألف حكاية». ومهما بلغت الاجتهادات في هذا المجال إلا أن هذه الحكايات الأساسية أي حكاية الملك وابنه الوزير لم تكتسب ذيوعها من جانب ولا سماتها التي وضحت في نسخة غالان إطارها العباسي، حيث الخلق العربي من جانب والديانة الإسلامية من جانب آخر، فمثيلات شهرزاد كثيرات في حضور الخلافة آنذاك، حيث الجمال لم يعد يعني حسن الخلقة وحدها، بل يشتمل جمال الروح وعذوبة اللسان وبلاغة الحديث وعمق الإحساس والفطنة وغزارة المعرفة وبراعة الاجتهاد هذه هي المواصفات التي جعلت من الجارية «تودد» جارية مرموقة في المجالس، وهي التي رفعت إلي الحظوة والصدارة كثيرات.

كما تشير كتب التاريخ إلي ذلك. وكما يذهب محرر مجلة الاثنيم قبل غيره بقرابة قرن من الزمان فإن الجزء الكبير من الحكايات هو عربي المنشأ وأنه استمر في النمو والتفاعل والتداخل مع أقاصيص مختلفة ومتنوعة حتي النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي، وإذا عرضنا طبيعة الديانة الإسلامية من حيث كونها محررة من جانب ومستجيبة لاحتياجات الشعوب التي دخلتها من حيث خلوها من الغطرسة وغناها الروحي والمعنوي من جانب آخر لتبين لنا أيضا أن ما كان لدي الشعوب من ثقافات أصهرت في بوتقة الدين المحرر الجديد، ليكون هو نفسه السمة الأساسية لطبيعة الحياة الجديدة لدي هذه الشعوب.

وبرغم ذلك كان المؤرخون والباحثون حريصين علي تسمية مؤلف أو مجموعة مؤلفين للحكايات، وكان بالإمكان تسمية واحد أو أكثر خلال عصر تكون الحكايات في بغداد، لكن مرورها في عملية «متصلة تاريخيا» من التنقيح، والإضافة والحذف يجعل من الصعب الادعاء أن ما يتوفر لدينا الآن يعود لمؤلف دون غيره ويبقي الحل الوحيد أمامنا هو البحث عن المخطوطات، فهذه وحدها يمكن أن تهدينا إلي الرواة والمنقحين والمحررين وهم الذين نهتم بهم بدرجة رئيسية، فهؤلاء هم الذين أضافوا للحكايات ألوانا وسمات متميزة تكشف لنا عن روح عصورهم وبلدانهم أي عن كل ما يهم مؤرخ الأدب وناقده. كانت أوروبا قد تعرفت علي الحكايات متفرقة منذ الحروب الصليبية لكن هذا التعرف لم يحقق رواجا أو يترك أثرا كالذي خلفته الليالي العربية وهي تدخل فرنسا وإنجلترا في آن واحد في العقد الأول من القرن الثامن عشر.

أما الذي يدعوني إلي دراسة اتجاهات النقد الأدبي الإنجليزي «ألف ليلة وليلة» فهو ذلك الإغفال المتعمد الذي تعرض به هذا الأثر الأدبي علي الرغم من سعة تأثيره في أوساط الثقافة الإنجليزية فمازال الحديث، كما يذكر الناقد والكاتب الإنجليزي جامبرز مفتقرا علي الآثار اللاتينية واليونانية في الأدب الإنجليزي، أما خط الثقافة الشرقية فلا يتعدي الإشارات إلي الكتب المقدسة بعدما صودرت تكون غربية قلبا وقالبا حتي بات مؤرخو الأدب ينسون أنها هي الأخري نتاجات شرقية!

فمنذ ظهور الترجمة الإنجليزية الخالية من التوقيع لنسخة غالان الفرنسية في مطلع القرن الثامن عشر لم تتوفر دراسة ناضجة متكاملة لطبيعة الاستقبال الشعبي والأدبي النقدي لهذه الحكايات في إنجلترا وبرغم شيوعها الكبير وتأثيرها الواضح في الحياة الأدبية هناك فإن شهرة الحكايات الأدبية لم تثمن بشكل موضوعي بعده بعام نشرت «مارثا بابك كونانت» كتابها الرائع القصة الشرقية في إنجلترا في القرن الثامن عشر، منشورات نيويورك عن دار مطبعة جامعة كولمبيا 1908 منبهة العديدين إلي طبيعة إسهام شهرزاد في تطوير الرؤية الحديثة في بداياتها وتشير الكاتبة إلي أن الحكايات لا يمكن أن تتمتع بهذا النجاح الكاسح لولا أنها لبث بعض الحاجات والرغبات الأدبية والشعبية، فأدواتها الرومانسية وحبكتها الحديثة وروحها المغامرة كانت تجهز الرواية الإنجليزية غير المتطورة آنذاك بما كانت تحتاجه لكي تتجاوز تلك الممارسة المملة الشائعة في رسم الشخوص قصصيا للمجلات وغيرها. لكن هذه الدراسة لها حدودها أيضا فبرغم التركيز علي النقد الرومانسي والفكتوري لليالي لا سيما نقد الصحف والمجلات الذائعة في العصرين الماضيين، فإن هذا الكتاب لم يتناول بشيء من التفصيل الكتابات عن أصول الحكايات الشعبية والميتولوجيا المقارنة.

من جانب آخر اشتملت فصول الكتاب علي آراء بعض النقاد الألمان والفرنسيين والأمريكان لأن وجهات نظرهم كانت شائعة آنذاك في إنجلترا.

بقلم : زياد فايد


alkaheranews*
 
أعلى