نقوس المهدي
كاتب
ــ 1 / 2 -
في مرحلة ما من حياتنا كانت الليالي العربية حلما أكثر من كونها قصة. عندما كنا في ظل ذلك الامتزاج المضبب للهوية الذي لم نزل نحياه في الأحلام. ليس أنفسنا بل علاء الدين, ولكن ليس علاء الدين بل أنفسنا الذي يحدق في شجرة الفاكهة المحملة بالمجوهرات ويتزوج ابنة الوزير ويهيمن علي مقادير المصباح وطاقاته, نعاني وننتصر مع السندباد ونتذوق التقلبات ونحياها مع قمر الزمان, ونتمتع بالمحبة المتناقضة ونبحر فوق البساط المسحور ونمتطي الحصان الطائر.
هذه السطور المترجمة تمثل اقتباسا واحدا من بين اقتباسات عديدة, يستعين بها الناقد والباحث الكبير الدكتور محسن جاسم الموسوي في إنجاز مشروعه الضخم عن ألف ليلة وليلة المتمثل في كتابه الجديد ـــ المثير للتأمل العميق وجدل الحوار والمتعة معا ــ مجتمع ألف ليلة وليلة. وهي مهمة لايتصدي لها غير أمثاله من الباحثين الجادين, المزودين بعمق الرؤية ونفاذ البصيرة وحداثية المنهج واتساع أفق المعرفة, والاحتشاد الطويل لموضوع يستغرق من صاحبه سنوات متصلة من المقاربات البحثية والنقدية تمثلت في كتابيه السابقين: ثارات شهرزاد: فن السرد العربي الحديث والوقوع في دائرة السحر: ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي وفي العديد من مقالاته ودراساته التي تتابعت عبر السنوات العشرين الأخيرة وكأنها كانت بمثابة التهيئة لهذا المشروع الضخم المتمثل في كتابه الجديد مجتمع ألف ليلة وليلة, من بينها مقالاته:ليس بالحكي وحده تشتغل شهرزاد وصيغ الكتابة في ألف ليلة وليلة والفضاء المباشر لحكايات ألف ليلة وليلة ــ وقد نشرت جميعها في مجلة فصول القاهرية, وتقديم مجتمع ألف ليلة وليلة ــ في مجلة الحياة الثقافية الفرنسية, والخارق في ألف ليلة وليلة
ــ في مجلة الفكر العربي المعاصر, وألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي ــ في مجلة الأقلام العراقية.
نحن إذن مع باحث من طراز فريد. يحتشد لموضوعه بكل ما يتسع له الجهد والوقت, ويستوعب ـــ من قبل أن يخط حرفا واحدا ــ ماقام به السابقون عربا وأجانب. مصادره العربية تبدأ بطبعة بولاق لألف ليلة وليلة(1252 هجرية) مقابلة وتصحيح الشيخ محمد قطة العدوي ولاتغفل الطبعتين: اليسوعية والشعبية, وألف ليلة وليلة في أصوله العربية الأولي تحقيق الدكتور محسن مهدي, وعشرات المصادر الأخري التي تضم الأمهات من كتب التراث العربي فضلا عن المراجع الحديثة التي لاتغفل الدراسة المهمة للدكتورة سهير القلماوي عن ألف ليلة وليلة( دار المعارف1966)., ثم المصادر الأجنبية وفي مقدمتها دراسة الدكتورة فريال غزول التي تتضمن تحليلا بنيويا لليالي العربية وميا جيرهارد وستانلي لين بول وتودورف. وهو ما جعل من كتاب محسن الموسوي ــ كما يقول عنه الدكتور حمادي صمود أستاذ البلاغة والأدب في الجامعة التونسية, محاولة عميقة جادة لبناء مجتمع ألف ليلة وليلة, بما يعتمل داخله من سلط متصارعة وقوي خفية متنازعة تحرك الحكي فيه وتبني كيانه السردي وتحرك وراء ذلك كله المجتمع الذي هو سياقه الحاضن والفضاء الذي يرتع فيه.
وهي محاولة رجل عالم بأسرار الحكي في أمهاتها النظرية, له بألف ليلة وليلة إلف قديم نعرفه عنه بما كان نشر باللسانين الإنجليزي والعربي من كتب ومقالات أصبح بعضها مراجع لاغني عنها وممرات إلي هذا الأثر المدهش لامناص من اجتيازها.
إنه مساهمة جادة في بيان الصلة الدقيقة المضنية بين الوقع والواقع والنص وحياته. ولاشك عندنا ــ يقول حمادي صمود ــ أن دراسة كهذه لاتستقيم لصاحبها إلا بالخبرة الراقية والسنوات الطويلة.
وهي عندنا اضافة حقيقية إلي ما نعرف عن ألف ليلة وليلة وإلي بعض قضايا الأدب النظرية كقضية التحويل ــ مثلا ــ التي تعتني بالكيفيات التي بموجبها يحول الأدب الموجودات إلي هيئات, قد أخرجها صاحبها إخراجا لايغرق في الأكاديميات الكابحة أحيانا لمغامرة الكتابة ولذة الافتراض وحرية التعامل مع النص والذهاب في تأويله مذاهب مخصبة.
ولعل من أطرف ما في هذا الكتاب سعة اطلاع صاحبه علي النقد الحديث, علي نهج المدرسة الأنجلوسكسونية, وهي تتعامل مع النصوص تعاملا يختلف اختلافا كبيرا عما تعودنا عليه في المدرسة الفرنسية, ثم إنه قدم كل ذلك في لغة سهلة دالة مطمعة لما قد يبدو علي التحليل من بساطة ظاهرة لم تتأت لصاحبها إلا بالخبرة والألفة.
وهي شهادة لها قيمتها من ناقد وباحث تونسي كبير, كان قريبا من المؤلف وهو يعمل علي إنجاز كتابه خلال إقامته في تونس وعمله أستاذا بالجامعة الفرنسية, قبل أن ينتقل مؤخرا للعمل في الجامعة الأمريكية بإمارة الشارقة.
والطريف أنني التقيت بالدكتور محسن الموسوي في القاهرة منذ ثلاث سنوات عندما جاء مدعوا للمشاركة في مهرجان القاهرة الأول للرواية العربية, وكان اللقاء مناسبة لحوار ثقافي وأدبي في برنامج لإذاعة لندن العربية.
يومها كان مشغولا جدا بكتابه الذي لم يكن قد رأي النور مجتمع ألف ليلة وليلة والمنهج الذي استراح إليه في تأليفه, والقضايا العديدة والخطيرة التي سوف يثيرها, والجهد الذي استغرق منه سنوات متصلة لإنجاز الكتابة بالصورة التي ارتضاها له. وعندما تفضل بإهدائي نسخة من كتابه فور صدوره, أدركت جسامة ما كان مقدما عليه, وقدرته الفذة علي استدعاء موهبته الروائية وقدرته علي الحكي ــ وهو الذي أصدر ثلاث روايات يتضمنها سجل مؤلفاته باللغة العربية هي العقدة(1988) ودرب الزعفران(1989) وأوتار القصب(1990) ــ مما مكنه من روعة البناء الأدبي لمجتمع ألف ليلة وليلة,وأضيف إليها من مجموعات القصص المدونة علي مر العصور الشيء الكثير وأن الجزء المترجم عن الهزار افسانة البهلوية أقل الأجزاء شأنا وأحقرها حجما. ومن القصص مالها أصول هندية قديمة معروفة, ومنها ماهو مأخوذ من أخبار العرب وقصصهم الحديثة نسبيا. ثم هناك موضوع الموطن حيث تمثل القصص بيئات شتي خيالية وواقعية. وأكثر البيئات الواقعية بروزا مصر ثم العراق وسورية.
واختلف الباحثون حول تقسيم القصص حسب الموطن.
وقد أظهرت الدراسة اختلاف أساليب القصص وطرق المعالجة باختلاف الموضوع لاصطباغه بالمنبع الذي عنه أخذ. ويقسم ليتمان الليالي إلي موضوعات ــ في آخر نسخة من دائرة المعارف الإسلامية ــ علي أساس مختلف.
كذلك تدرس من حيث النسخ والترجمات دراسة دقيقة.
ومازالت الليالي عند الغرب تدل علي كثير من خيال الشرق وسحره ومازالت عند الغرب كتابا من كتب العامة.
لم يكن الدكتور محسن الموسوي بعيدا عن هذا كله, وهو يؤكد منذ السطور الأولي في كتابه أن حكايات ألف ليلة وليلة تكتسب أهمية متزايدة كلما تعقدت أوجه الحياة وسبلها وتنوعت وسائل الاتصال المسموعة والمرئية, وهي تبحث في خزينة الحكاية وأشكالها ومادتها في صورة جياشة بالتدفق والحياة والقدرة علي التلوين والتوقف عند الدلالات العامة والتفاصيل الجزئية, فامتزج التاريخ بالتخيل, والحضور العجائبي بالعناصر الخارقة كالعفاريت والجن والمردة, جامعا بين الطلاسم في الفضاء والمحكي والاثار إلانسية في مملكة العفاريت والفجيعة الجسدية ــ والجنسية علي وجه الخصوص ــ ومبدأ المصادفة بين المقدر والمكتوب, والمنامات, والأزقة والمتاهات ووسطاء العشق, والمعيش والخارق وتبادل الأدوار لنيل المعشوق, والعشق بين العامة والخاصة, والكتابة الطلسمية, وأصول اسفار السندباد والوجوه الكثيرة للحكي, وغيرها من المداخل التي تشكل اقتحاما جسورا لفضاء هذا العالم الذي يعيد المؤلف تكوينه وتشكيله, مستعينا بخبرة السنوات, ومخزون المعرفة والوعي, والمرجعية الثقافية: السياسية والاجتماعية والسيكلوجية, والرؤية النقدية النافذة التي لاتتوقف عن التساؤل, والتحليق بالقاريء إلي آفاق العديد من الاحتمالات والتوقعات.
ألف ليلة وليلة هو الكتاب العربي في الذاكرة الإنسانية شرقا وغربا, عبر العديد من الآداب والثقافات,
تقول عنه الموسوعة العربية الميسرة: نسخ الكتاب المعروفة مرتبة علي هذا النحو: كلكتا الأولي, ثم بولاق, ثم كلكتا الثانية, ثم برسلاو وأخيرا بولاق الثانية. وكلها حديثة لاترجع إلي أقدم من أول القرن التاسع عشر مما جعل البحث في أصلها عسيرا للغاية. وقد شغل المستشرقون ببحث هذا الأصل والعثور علي نص قديم يذكرها مثل نص ابن النديم في الفهرست الذي يعد مفتاحا للبحث.
ذكر ابن النديم أنها مترجمة عن أصل بهلوي ( أي فارس قديم) اسمه الهزار إفسانة أي الألف خرافة.
ولما كان هذا الأصل نفسه غير موجود فإن البحث عن أصل الليالي يزداد غموضا. منذ ترجمها بتصرف كبير الكاتب الفرنسي أنطوان جالان ذاي في أوروبا وترجمت عن جالان مرارا طوال القرن الـ18, وفي آخر القرن19 ترجمت عن الأصل ومازالت إلي اليوم تصدر لها ترجمات مصورة فاخرة. أهم من ترجمها برتون ولين وليتمان ومردروس قلدت الليالي بصور كثيرة واستنفدت في تأليف القصص ــ وبخاصة للأطفال ــ وكذلك المسرحيات الحديثة, وألهمت رسامين وموسيقيين.
ثم تتعرض الموسوعة لأهم نقاط البحث حول ألف ليلة وليلة وفي مقدمتها الأصل باعتبار أنها ألفت علي مراحل, وفضاءاتها لتعيد إخراجها في هذا الثوب أو ذاك. ثم حين يعلق علي التأثير الذي تركته ترجمة أنطوان جالان إلي الفرنسية في القاريء الأجنبي: سرعان ما اجتاحت الحكاية ببدايتها ونهايتها المعروفة وسطا كان يتلهف إلي ما يعوزه ويحتاج إليه من روي وغرابة وطرافة وحيلة واجتهاد وخليط من الشخوص والحرفيين والوسطاء والتجار والصاغة والسراق والخلفاء والأمراء والقوادين والنخاسين والرقيق والجن الطيب والشرير, وكأن الحكايات ليست غير قمقم من قماقم النبي سليمان انفتحت لتوها عن مردة يملأون الفضاء الخارجي حضورا, دخانا أولا, قبل استردادهم لأنفسهم مخلوقات لا مرئية تستجيب لصاحب السر كلما استدعت الحاجة إلي ذلك. ويبدو أن جالان قد فتح القمقم وامتلك السر وأصبح المردة في عهدته يأتمرون بأمره, فأوقعوا العباد في قبضته يحركهم كيف يشاء, ولكن فوق كل ذي علم عليم.
وفي محاولة من المؤلف للتنقيب عن مؤلفين لألف ليلة, فإنه يقوم بعملية مسح شاملة و مراجعة نقدية للموقف من المحكي في العصر الوسيط متعرضا لأشكال السرد في العصر العباسي التي تجمع بين المقامة والروي والقصص والتندر وفي مقدمتها الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي الذي سامر به أبو حيان الوزير أبا عبدالله الحسين بن أحمد بن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي سبعا وثلاثين ليلة: كانت مسامرته فيها محاولة للاستجابة لرغبة ما أو نزولا عند تساؤل أو مسعي من أبي حيان لعرض مالديه من نوادر وملح وطرائف مختلفة كتلك التي تناولتها الجارية تودد في ألف ليلة وليلة.
خاصة أن أبا حيان يظهر معرفة واسعة بالقينات والإماء والشواعر في بغداد حين يقول: ولقد أحصينا ــ ونحن جماعة في الكرخ ــ أربعمائة وستين جارية في الجانبين, ومائه وعشرين حرة, وخمسة وتسعين من الصبيان البدور, يجمعون بين الحذق والحسن والظرف والعشرة هذا سوي من كنا لانظفر به ولا نصل إليه لعزته وحرسه ورقبائه, وسوي ماكنا نسمعه ممن لايتظاهر بالغناء وبالضرب إلا إذا نشط في وقت, أو ثمل في حال, وخلع العذار في هوي قد حالفه وأضناه, وترنم وأوقع, وهز رأسه وصعد أنفاسه وأطرب جلاسه..فهل كان أبو حيان التوحيدي ــ علي هذه الصورة التي نطالعها في كتاب الإمتاع والمؤانسة ــ واحدا من المؤلفين المجهولين لألف ليلة وليلة أم هم الآخرون من أمثال الجاحظ وثعلب والمسعودي والأصمعي والثعالبي وابن الجوزي والجهشياري والإبشيهي والطقطقي والبيهقي وقدامه بن جعفر وغيرهم؟
****
فاروق شوشة
قراءة جديدة لألف ليلة وليلة
ـ2 ـ
ليس أولي من الباحثين العراقيين بالاهتمام بألف ليلة وليلة قراءة ودراسة وتحليلا, وتوقفا أمام العديد من الموضوعات والقضايا التي ستظل الليالي العربية وهو الاسم الذي عرفت به ألف ليلة في الكتابات الأجنبية, تثيرها وتدفع بالحوار الدائر من حولها الي ساحات جديدة من الرؤي, ومناهج جديدة من الدراسة والتناول أحدثها علي الاطلاق هو هذا البحث النقدي الضخم للناقد العراقي الدكتور محسن جاسم الموسوي الأستاذ بالجامعة الأمريكية في الشارقة تحت عنوان:مجتمع ألف ليلة وليلة.
ذلك أن قراءة ألف ليلة تثير فينا علي الفور تصورات مختلفة للحياة في بغداد, بددا من حياة القصور حتي مدارج الحياة الاجتماعية الدنيا, مرورا بمجتمع الجواري والغلمان وخدم القصور, ومجتمع التجارة والتظرف والشراكة في السلطة ـ كما تسميها الدراسة ـ وندماء الخليفة والقوادين, والعشاق, وشعراء اللهو والمجون, كل هذه العناصر تتكامل في بانوراما هائلة تجسد للقاريء صورة بغداد المتخيلة أو المتوهمة ـ خاصة خلال العصر العباسي ـ حين كانت حاضرة الدنيا, ومطلع شموس الثقافة العربية والحضارة العربية, ولايمكن النظر الي شخصية شهرزاد الا بوصفها البغدادية الفائقة الذكاء والحيلة, التي استطاعت بقدرتها الهائلة علي القص والرواية أن تبني هذه المملكة الشاسعة من الأحلام والحكايات الممكنة والمستحيلة, وأن تجعل من غواية الخيال وفضول المعرفة اغراء لاتنفد أساليبه أو عجائبه, في انتظار أن يحدث التطهير المطلوب فعله في وجدان شهريار, ويعود الي طبيعته السوية بعد أن تم علاجه علي يدي شهرزاد.
وفي هذه الدراسة الجادة والممتعة للدكتور محسن الموسوي ـ وهو يحاول بناء مجتمع ألف ليلة وليلة ـ فان معرفته العميقة ببغداد تاريخا وعمرانا ومجتمعا وبيئات وطبقات, وقدرته علي استدعاء التفاصيل الكثيرة المتناثرة في الكتب الأمهات للتراث العربي, ولربط الأجزاء والعناصر بعضها الي بعض, وصولا الي مايسميه: الطعام في الحياة الاجتماعية والطعام في تكوينات السرد ودراسته من ثم لصنعة الطبيخ وأكلات العرب وقصف الخليفة(من لهو الملذات) والأكلات الموصوفة وفعلها داخل المحكي, والطعام والمرتبة الاجتماعية والتطفيل ـ الدخول علي موائد الخاصة, ولغة ارستقراطية المجتمع, ومرجعيات ترف المدينة, والمدينة: الأزقة والسراديب والموت, والكلام والسلعة: تبادل الأدوار لنيل المعشوق ودلالات الحركة في المدن, كل ذلك وغيره أكثر ـ قد هيأ له من الأسباب والعناصر والوثائق فرصة نادرة لاقامته هذه الدراسة الجادة التي اقتضته سنوات طويلة قضاها استاذا بالجامعة التونسية ـ لاالفرنسية كما جاء محرفا في المقالة السابقة ـ كما أعانه اطلاعه الواسع علي المصادر المجاورة لألف ليلة والتي تشترك معها في كثير من الأخبار والمواقف والنوادر والنصوص الأدبية والشعرية مثل أخبار الظراف والمتماجنين لابن الجوزي والامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي والمحاسن والأضداد للجاحظ والمحاسن والمساويء للبيهقي ومروج الذهب للمسعودي والمستطرف في كل فن مستظرف للابشيهي والعقد الفريد لابن عبد ربه ولطائف اللطف للثعالبي والنوادر للأعرابي وغيرها ـ أعانه هذا الاطلاع الواسع علي بناء تصوره واقامة دعائم دراسته.
يقول ـ علي سبيل المثال ـ وهو يعرض لمرجعيات التظرف في ألف ليلة: اذا كان التلميح والتماجن الظريف بين الفتيه والفتيان يستند الي مرجعية واسعة من الشعر المألوف والكلام المتداول والنوادر الشائعة, فما يقوله الفتي أو تأتي به الفتاة في معرض الاجابة هو جزء من مألوف حينذاك, ولهذا كثرت مثل هذه الاشارات والتلميحات واذا كانت ألف ليلة وليلة تزخر بمثل هذا الكلام, فان كتب النوادر والملح والطرائف تفيض بها هي الأخري اذ يذكر ابن الجوزي مثلا في أخبار الظرف والمتماجنين: خرج رجل فقعد يتفرج علي الجسر, فأقبلت امرأة من جانب الرصافة متوجهة الي الجانب الغربي, فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري, ومرا قال فتبعت المرأة وقلت لها: ان لم قولي ماقلتما فضحتك فقالت:
قال لي: رحم الله علي بن الجهم يريد قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر = جلبن الهوي من حيث أدري ولاأدري
وأردت بترحمي علي أبي العلاء قوله:
فيادارها بالحزن, ان مزارها = قريب, ولكن دون ذلك أهوال
من أمتع فصول الكتاب وأكثرها اثارة الفصل الخامس الذي يتحدث فيه المؤلف عن مدن الحكي حين يقول: تتأكد قوة الحكي بتلك الطاقة التي تسرقنا من أنفسنا, وتعطل لدينا القدرة الأخري علي التمحيص والتدقيق, وبرغم ذلك نشعر أننا نلتقي الجواري في الأسواق, وننظر الي التعامل الجاري هناك, والي ذلك الحشد من الناس المشتغلين والمنصرفين للأعمال والمتطفلين, وندور في الأزقة ونجلس عند المصاطب ونبصر كفا تظـهر من النافدة ونري الخياط في دكانه وعيناه علي الزقاق المقابل بانتظار وجه يطل عليه من روش, ونري التجار والصيارفة يعنون بأموالهم, وكأن الحكاية تنقل عن التنوخي في نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة عن طرائق التحصين من اللصوص في بغداد, بينما يصعب تفريق مايأتي في التاريخ عن اللص الذي صار بزازا ـ أي تاجر حرير ـ وتاب ليستخلص حقه من لص آخر بعد جولة طويلة يستخدم فيها درايته كتلك التي يظهرها الدنف في حكايات ألف ليلة وليلة. لكن الحكايات تمتد بين القصر الفاره والزقاق الضيق, بين السوق وبين السرداب, بين البستان والنهر, حيث يتحرك الجواري وأبناء التجار والحرفيون والمغنون والقواد والنسوة والحمالون والصبايا والغلمان والبغال والحمير, بينما يشخص بين هؤلاء: الخلفاء والحلاقون وجواري البلاط والطفيليون, محركين السرد ودافعين به الي أمام,وتتعدد الضواحي والأزقة والحمامات والأسواق حتي قيل ان بغداد ليس لها مايوازيها, فكتب فيها.
أحمد بن الطيب فضائل بغداد. ثم يقول: وكأن حاضرة الخلافة بغداد رأت مارأت من التمدن السريع حتي بات الانهماك في تفاصيل الأشياء بمثابة الحياة اليومية للناس. ولهذا تحفل الحياة بالتناقض الشديد, بين الزهد والشهوة, بين المتعة والجلال, الرفعة والابتذال, العشق والفجور, المجون والعفة, الجمال والقبح, الكرم والطمع, التسامح والثأر. فبدت الرغبات متقاطعة حادة والنزوات مريبة. فبينما تتمظهر الكلمات في الأشياء والوقائع والأحوال, لأناس يغرقون في المتعة, كانت حكاية أخري يطل منها بائع فول بأسماله في ليلة ممطرة باردة, ويجري هذا المشهد في الشوارع الخلفية التي تتواري بعيدا عن قصور الخلافة.
يلفت النظر توقف الدكتور محسن الموسوي عند الشعر في ألف ليلة وليلة. وهو توقف له قيمته ومغزاه خاصة أنه يشغل مساحة ليست صغيرة في السرد, وعلي الرغم من شيوع الفكرة التي قالها بعض المستشرقين من أن الشعر فائض وليست له مكانة وظيفية. والمؤلف يري أن هذا الحكم ـ علي اطلاقه ـ ليس صحيحا, فثمة مراجعة لازمة لطبيعة الوحدات السردية في حكايات ألف ليلة وليلة, وكلما تحرك السردية دائريا أو لولبيا أو في صورة ترابطات هندسية ومواصفات تشكيلية أو موسيقية, صعب الحديث عن الوظائف التي تخص الرحلة من وإلي, أو تلك التي تعني بالاكتشاف أو البحث بموجب رغبات وعواطف كالحب والغيرة والخديعة.
ويلاحظ الدكتور الموسوي أن الشعر في ألف ليلة وليلة لم يستأثر باهتمام ملحوظ, بالرغم من محاولات جمعه أو ارجاعه إلي قائليه, إلا أن دراسته يمكن ان تقود الي فضاءات أخري في الحياة الوسيطة, وإعادة قراءة هذه النصوص الشعرية مرة في ضوء التقاليد الأدبية السائدة, ومرة أخري خارجها فمن الأمور المتكررة ـ مثلا ـ قصائد العشق, والتي غالبا ما تستأثر بالشائع وما هو مألوف في أغاني أبي الفرج الأصفهاني, لكن بعض هذه القصائد النادرة لم تكن مألوفة تماما لغربتها أو لخصوصيتها, كما أن بعضها يخرج عن المألوف ويمثل انشقاقا ما كانشقاق الحكاية الشعبية المدونة أو المنقولة مشافهة.
وفي ضوء المنهج الذي بني عليه المؤلف دراسته, فلن يتحقق هذا بدون تفكيك هذه النصوص الشعرية, ومعرفة مكونات القصيدة مأثوراتها وصورها واستعاراتها, وعزل ماهو شعري فيها عما هو توصيلي فحسب, ثم تمييز مستويات الاستعاري في الأول وإحالة الآخر إلي الأخبار والنوادر, ثم وضع الجميع في سياقات التجريد والتجسيد في خطابات المجتمع, بقدر ما تتيحه هذه الخطابات من معرفة بالفئات الاجتماعية وطبائعها وعاداتها وتكويناتها. يستشهد المؤلف ـ في هذا المجال ـ بما نقله التوحيدي مثلا عن طرب ابن غيلان البزاز كلما استمع إلي بلور جارية ابن اليزيدي وترجيعاتها وهي تترنم بالشعر, فهو اذا استمع اليها انقلبت حماليق عينيه, وسقط مغشيا عليه, وهات الكافور وماء الورد..
تقول بلور في غنائها:
أعط الشباب نصيبه = مادمت تعذر بالشباب
وانعم بأيام الصبا = واخلع عذارك في التصابي
وأعظم من بلور في غناء الشعر والترنم به صبابة التي زلزلت بغداد كما يقول التوحيدي لنوادرها وحاضر جوابها وحدة مزاجها وسرعة حركتها بغير طيش ولا إفراط حتي كان الشيخ الصالح الكناني المقريء يطرب لما تغنيه أشد الطرب:
عهود الصبا هاجت لي اليوم لوعة = وذكر سليمي حين لا ينفع الذكر
بأرض بها كان الهوي غير عازب = لدينا وغض العيش مهتصر نضر
كأن لم نعش يوما باجراع بيشه = بأرض بها أنشا شبيبتنا الدهر
بلي, إن هذا الدهر فرق بيننا = وأي جميع لا يفرقه الدهر
مثل هذه الأشعار تسرب في أجواء الحكايات وأصبح جزءا من ذاكرة العامة, خاصة أن لكل محلة في بغداد تقاليدها وشعراها ومغنيها. كما أن الشعر ـ في رأي المؤلف ـ كان يلتحم في حالات عديدة مع الخطاب المراوغ للمجتمع الملفق, فثمة مسعي للالتحام بالسلطة والتلاقي معها. في مثل شعر من قال ـ علي سبيل المراوغة والاستجداء:
الثم أنامله فلسن أناملا
لكنهن مفاتح الأرزاق
وقول الشاعر الذي أنشد الخليفة هذين البيتين بعدما أسبغ عليه النعم:
تصبحك السعادة كل يوم = بإجلال وقد رغم الحسود
وزالت لك الأيام بيضا = وأيام الذي عاداك سوء
من الصعب الانتهاء من قراءة هذا الكتاب الحافل: مجتمع ألف ليلة وليلة للدكتور محسن جاسم الموسوي دون أن نردد مقولة الدكتور حمادي صمودـ أستاذ البلاغة والأدب في الجامعة التونسية ـ عنه لعل أطرف ما في هذا الكتاب سعة اطلاع صاحبه علي النقد الحديث علي نهج المدرسة( الأنجلو سكسونية) وهي تتعامل مع النصوص تعاملا يختلف اختلافا كبيرا عما تعودنا عليه في المدرسة الفرنسية, ثم إنه قدم كل ذلك في لغة سهلة دالة مطمعة.
وان كان هذا الحكم الآخر لا ينبغي الاحساس إزاء بعض المقاطع ـ في بعض الفصول ـ بأنها مترجمة أكثر من كونها مؤلفة, وربما يرجع هذا لكثرة ما كتب المؤلف بالانجليزية والعربية من كتب ومقالات وأبحاث ودراسات عن الموضوع, مما جعله يستدعي بعض هذا الذي كتبه, وربما كان عليه ان ينقله من اللسان الانجليزي الي العربي, فجاء علي الصورة التي توحي بالترجمة عن أصل سابق, قد يكون أكثر وضوحا وتدفقا وألفة.
كذلك فإن مجتمع ألف ليلة وليلة هو لمجتمع البغدادي وحده, الذي عكف عليه المؤلف ونجح كل النجاح في جلائه وتحليله. أما الأصول المصرية والهندية والفارسية التي أنتجت بدورها بعض الصور المغايرة لمجتمعات غير بغدادية( وغيرعراقية) فلم يتوقف عندها المؤلف, ولم يعتبرها ذات شأن أو قيمة في تشكيل مجتمع ألف ليلة وليلة, وربما اهتم بهذا الجانب باحثون آخرون, أكثر قربا من طبيعة هذه المجتمعات الأخري أو قدرة علي التعامل معها.
ويكفي الدكتور محسن الموسوي في هذه الدراسة الجادة والممتعة والشاملة أنه أعادنا الي عالم ألف ليلة وليلة أكثر وعيا وبصيرة بما يثيره من قضايا وما يطرحه من رؤي وتحليلات, ستظل كالحكايات نفسها تتداخل وتتناسل, بفضل المناهج النقدية الحديثة, التي لا نهاية لكشوفها وقدرتها علي الادهاش.
ahramorg
في مرحلة ما من حياتنا كانت الليالي العربية حلما أكثر من كونها قصة. عندما كنا في ظل ذلك الامتزاج المضبب للهوية الذي لم نزل نحياه في الأحلام. ليس أنفسنا بل علاء الدين, ولكن ليس علاء الدين بل أنفسنا الذي يحدق في شجرة الفاكهة المحملة بالمجوهرات ويتزوج ابنة الوزير ويهيمن علي مقادير المصباح وطاقاته, نعاني وننتصر مع السندباد ونتذوق التقلبات ونحياها مع قمر الزمان, ونتمتع بالمحبة المتناقضة ونبحر فوق البساط المسحور ونمتطي الحصان الطائر.
هذه السطور المترجمة تمثل اقتباسا واحدا من بين اقتباسات عديدة, يستعين بها الناقد والباحث الكبير الدكتور محسن جاسم الموسوي في إنجاز مشروعه الضخم عن ألف ليلة وليلة المتمثل في كتابه الجديد ـــ المثير للتأمل العميق وجدل الحوار والمتعة معا ــ مجتمع ألف ليلة وليلة. وهي مهمة لايتصدي لها غير أمثاله من الباحثين الجادين, المزودين بعمق الرؤية ونفاذ البصيرة وحداثية المنهج واتساع أفق المعرفة, والاحتشاد الطويل لموضوع يستغرق من صاحبه سنوات متصلة من المقاربات البحثية والنقدية تمثلت في كتابيه السابقين: ثارات شهرزاد: فن السرد العربي الحديث والوقوع في دائرة السحر: ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي وفي العديد من مقالاته ودراساته التي تتابعت عبر السنوات العشرين الأخيرة وكأنها كانت بمثابة التهيئة لهذا المشروع الضخم المتمثل في كتابه الجديد مجتمع ألف ليلة وليلة, من بينها مقالاته:ليس بالحكي وحده تشتغل شهرزاد وصيغ الكتابة في ألف ليلة وليلة والفضاء المباشر لحكايات ألف ليلة وليلة ــ وقد نشرت جميعها في مجلة فصول القاهرية, وتقديم مجتمع ألف ليلة وليلة ــ في مجلة الحياة الثقافية الفرنسية, والخارق في ألف ليلة وليلة
ــ في مجلة الفكر العربي المعاصر, وألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي ــ في مجلة الأقلام العراقية.
نحن إذن مع باحث من طراز فريد. يحتشد لموضوعه بكل ما يتسع له الجهد والوقت, ويستوعب ـــ من قبل أن يخط حرفا واحدا ــ ماقام به السابقون عربا وأجانب. مصادره العربية تبدأ بطبعة بولاق لألف ليلة وليلة(1252 هجرية) مقابلة وتصحيح الشيخ محمد قطة العدوي ولاتغفل الطبعتين: اليسوعية والشعبية, وألف ليلة وليلة في أصوله العربية الأولي تحقيق الدكتور محسن مهدي, وعشرات المصادر الأخري التي تضم الأمهات من كتب التراث العربي فضلا عن المراجع الحديثة التي لاتغفل الدراسة المهمة للدكتورة سهير القلماوي عن ألف ليلة وليلة( دار المعارف1966)., ثم المصادر الأجنبية وفي مقدمتها دراسة الدكتورة فريال غزول التي تتضمن تحليلا بنيويا لليالي العربية وميا جيرهارد وستانلي لين بول وتودورف. وهو ما جعل من كتاب محسن الموسوي ــ كما يقول عنه الدكتور حمادي صمود أستاذ البلاغة والأدب في الجامعة التونسية, محاولة عميقة جادة لبناء مجتمع ألف ليلة وليلة, بما يعتمل داخله من سلط متصارعة وقوي خفية متنازعة تحرك الحكي فيه وتبني كيانه السردي وتحرك وراء ذلك كله المجتمع الذي هو سياقه الحاضن والفضاء الذي يرتع فيه.
وهي محاولة رجل عالم بأسرار الحكي في أمهاتها النظرية, له بألف ليلة وليلة إلف قديم نعرفه عنه بما كان نشر باللسانين الإنجليزي والعربي من كتب ومقالات أصبح بعضها مراجع لاغني عنها وممرات إلي هذا الأثر المدهش لامناص من اجتيازها.
إنه مساهمة جادة في بيان الصلة الدقيقة المضنية بين الوقع والواقع والنص وحياته. ولاشك عندنا ــ يقول حمادي صمود ــ أن دراسة كهذه لاتستقيم لصاحبها إلا بالخبرة الراقية والسنوات الطويلة.
وهي عندنا اضافة حقيقية إلي ما نعرف عن ألف ليلة وليلة وإلي بعض قضايا الأدب النظرية كقضية التحويل ــ مثلا ــ التي تعتني بالكيفيات التي بموجبها يحول الأدب الموجودات إلي هيئات, قد أخرجها صاحبها إخراجا لايغرق في الأكاديميات الكابحة أحيانا لمغامرة الكتابة ولذة الافتراض وحرية التعامل مع النص والذهاب في تأويله مذاهب مخصبة.
ولعل من أطرف ما في هذا الكتاب سعة اطلاع صاحبه علي النقد الحديث, علي نهج المدرسة الأنجلوسكسونية, وهي تتعامل مع النصوص تعاملا يختلف اختلافا كبيرا عما تعودنا عليه في المدرسة الفرنسية, ثم إنه قدم كل ذلك في لغة سهلة دالة مطمعة لما قد يبدو علي التحليل من بساطة ظاهرة لم تتأت لصاحبها إلا بالخبرة والألفة.
وهي شهادة لها قيمتها من ناقد وباحث تونسي كبير, كان قريبا من المؤلف وهو يعمل علي إنجاز كتابه خلال إقامته في تونس وعمله أستاذا بالجامعة الفرنسية, قبل أن ينتقل مؤخرا للعمل في الجامعة الأمريكية بإمارة الشارقة.
والطريف أنني التقيت بالدكتور محسن الموسوي في القاهرة منذ ثلاث سنوات عندما جاء مدعوا للمشاركة في مهرجان القاهرة الأول للرواية العربية, وكان اللقاء مناسبة لحوار ثقافي وأدبي في برنامج لإذاعة لندن العربية.
يومها كان مشغولا جدا بكتابه الذي لم يكن قد رأي النور مجتمع ألف ليلة وليلة والمنهج الذي استراح إليه في تأليفه, والقضايا العديدة والخطيرة التي سوف يثيرها, والجهد الذي استغرق منه سنوات متصلة لإنجاز الكتابة بالصورة التي ارتضاها له. وعندما تفضل بإهدائي نسخة من كتابه فور صدوره, أدركت جسامة ما كان مقدما عليه, وقدرته الفذة علي استدعاء موهبته الروائية وقدرته علي الحكي ــ وهو الذي أصدر ثلاث روايات يتضمنها سجل مؤلفاته باللغة العربية هي العقدة(1988) ودرب الزعفران(1989) وأوتار القصب(1990) ــ مما مكنه من روعة البناء الأدبي لمجتمع ألف ليلة وليلة,وأضيف إليها من مجموعات القصص المدونة علي مر العصور الشيء الكثير وأن الجزء المترجم عن الهزار افسانة البهلوية أقل الأجزاء شأنا وأحقرها حجما. ومن القصص مالها أصول هندية قديمة معروفة, ومنها ماهو مأخوذ من أخبار العرب وقصصهم الحديثة نسبيا. ثم هناك موضوع الموطن حيث تمثل القصص بيئات شتي خيالية وواقعية. وأكثر البيئات الواقعية بروزا مصر ثم العراق وسورية.
واختلف الباحثون حول تقسيم القصص حسب الموطن.
وقد أظهرت الدراسة اختلاف أساليب القصص وطرق المعالجة باختلاف الموضوع لاصطباغه بالمنبع الذي عنه أخذ. ويقسم ليتمان الليالي إلي موضوعات ــ في آخر نسخة من دائرة المعارف الإسلامية ــ علي أساس مختلف.
كذلك تدرس من حيث النسخ والترجمات دراسة دقيقة.
ومازالت الليالي عند الغرب تدل علي كثير من خيال الشرق وسحره ومازالت عند الغرب كتابا من كتب العامة.
لم يكن الدكتور محسن الموسوي بعيدا عن هذا كله, وهو يؤكد منذ السطور الأولي في كتابه أن حكايات ألف ليلة وليلة تكتسب أهمية متزايدة كلما تعقدت أوجه الحياة وسبلها وتنوعت وسائل الاتصال المسموعة والمرئية, وهي تبحث في خزينة الحكاية وأشكالها ومادتها في صورة جياشة بالتدفق والحياة والقدرة علي التلوين والتوقف عند الدلالات العامة والتفاصيل الجزئية, فامتزج التاريخ بالتخيل, والحضور العجائبي بالعناصر الخارقة كالعفاريت والجن والمردة, جامعا بين الطلاسم في الفضاء والمحكي والاثار إلانسية في مملكة العفاريت والفجيعة الجسدية ــ والجنسية علي وجه الخصوص ــ ومبدأ المصادفة بين المقدر والمكتوب, والمنامات, والأزقة والمتاهات ووسطاء العشق, والمعيش والخارق وتبادل الأدوار لنيل المعشوق, والعشق بين العامة والخاصة, والكتابة الطلسمية, وأصول اسفار السندباد والوجوه الكثيرة للحكي, وغيرها من المداخل التي تشكل اقتحاما جسورا لفضاء هذا العالم الذي يعيد المؤلف تكوينه وتشكيله, مستعينا بخبرة السنوات, ومخزون المعرفة والوعي, والمرجعية الثقافية: السياسية والاجتماعية والسيكلوجية, والرؤية النقدية النافذة التي لاتتوقف عن التساؤل, والتحليق بالقاريء إلي آفاق العديد من الاحتمالات والتوقعات.
ألف ليلة وليلة هو الكتاب العربي في الذاكرة الإنسانية شرقا وغربا, عبر العديد من الآداب والثقافات,
تقول عنه الموسوعة العربية الميسرة: نسخ الكتاب المعروفة مرتبة علي هذا النحو: كلكتا الأولي, ثم بولاق, ثم كلكتا الثانية, ثم برسلاو وأخيرا بولاق الثانية. وكلها حديثة لاترجع إلي أقدم من أول القرن التاسع عشر مما جعل البحث في أصلها عسيرا للغاية. وقد شغل المستشرقون ببحث هذا الأصل والعثور علي نص قديم يذكرها مثل نص ابن النديم في الفهرست الذي يعد مفتاحا للبحث.
ذكر ابن النديم أنها مترجمة عن أصل بهلوي ( أي فارس قديم) اسمه الهزار إفسانة أي الألف خرافة.
ولما كان هذا الأصل نفسه غير موجود فإن البحث عن أصل الليالي يزداد غموضا. منذ ترجمها بتصرف كبير الكاتب الفرنسي أنطوان جالان ذاي في أوروبا وترجمت عن جالان مرارا طوال القرن الـ18, وفي آخر القرن19 ترجمت عن الأصل ومازالت إلي اليوم تصدر لها ترجمات مصورة فاخرة. أهم من ترجمها برتون ولين وليتمان ومردروس قلدت الليالي بصور كثيرة واستنفدت في تأليف القصص ــ وبخاصة للأطفال ــ وكذلك المسرحيات الحديثة, وألهمت رسامين وموسيقيين.
ثم تتعرض الموسوعة لأهم نقاط البحث حول ألف ليلة وليلة وفي مقدمتها الأصل باعتبار أنها ألفت علي مراحل, وفضاءاتها لتعيد إخراجها في هذا الثوب أو ذاك. ثم حين يعلق علي التأثير الذي تركته ترجمة أنطوان جالان إلي الفرنسية في القاريء الأجنبي: سرعان ما اجتاحت الحكاية ببدايتها ونهايتها المعروفة وسطا كان يتلهف إلي ما يعوزه ويحتاج إليه من روي وغرابة وطرافة وحيلة واجتهاد وخليط من الشخوص والحرفيين والوسطاء والتجار والصاغة والسراق والخلفاء والأمراء والقوادين والنخاسين والرقيق والجن الطيب والشرير, وكأن الحكايات ليست غير قمقم من قماقم النبي سليمان انفتحت لتوها عن مردة يملأون الفضاء الخارجي حضورا, دخانا أولا, قبل استردادهم لأنفسهم مخلوقات لا مرئية تستجيب لصاحب السر كلما استدعت الحاجة إلي ذلك. ويبدو أن جالان قد فتح القمقم وامتلك السر وأصبح المردة في عهدته يأتمرون بأمره, فأوقعوا العباد في قبضته يحركهم كيف يشاء, ولكن فوق كل ذي علم عليم.
وفي محاولة من المؤلف للتنقيب عن مؤلفين لألف ليلة, فإنه يقوم بعملية مسح شاملة و مراجعة نقدية للموقف من المحكي في العصر الوسيط متعرضا لأشكال السرد في العصر العباسي التي تجمع بين المقامة والروي والقصص والتندر وفي مقدمتها الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي الذي سامر به أبو حيان الوزير أبا عبدالله الحسين بن أحمد بن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي سبعا وثلاثين ليلة: كانت مسامرته فيها محاولة للاستجابة لرغبة ما أو نزولا عند تساؤل أو مسعي من أبي حيان لعرض مالديه من نوادر وملح وطرائف مختلفة كتلك التي تناولتها الجارية تودد في ألف ليلة وليلة.
خاصة أن أبا حيان يظهر معرفة واسعة بالقينات والإماء والشواعر في بغداد حين يقول: ولقد أحصينا ــ ونحن جماعة في الكرخ ــ أربعمائة وستين جارية في الجانبين, ومائه وعشرين حرة, وخمسة وتسعين من الصبيان البدور, يجمعون بين الحذق والحسن والظرف والعشرة هذا سوي من كنا لانظفر به ولا نصل إليه لعزته وحرسه ورقبائه, وسوي ماكنا نسمعه ممن لايتظاهر بالغناء وبالضرب إلا إذا نشط في وقت, أو ثمل في حال, وخلع العذار في هوي قد حالفه وأضناه, وترنم وأوقع, وهز رأسه وصعد أنفاسه وأطرب جلاسه..فهل كان أبو حيان التوحيدي ــ علي هذه الصورة التي نطالعها في كتاب الإمتاع والمؤانسة ــ واحدا من المؤلفين المجهولين لألف ليلة وليلة أم هم الآخرون من أمثال الجاحظ وثعلب والمسعودي والأصمعي والثعالبي وابن الجوزي والجهشياري والإبشيهي والطقطقي والبيهقي وقدامه بن جعفر وغيرهم؟
****
فاروق شوشة
قراءة جديدة لألف ليلة وليلة
ـ2 ـ
ليس أولي من الباحثين العراقيين بالاهتمام بألف ليلة وليلة قراءة ودراسة وتحليلا, وتوقفا أمام العديد من الموضوعات والقضايا التي ستظل الليالي العربية وهو الاسم الذي عرفت به ألف ليلة في الكتابات الأجنبية, تثيرها وتدفع بالحوار الدائر من حولها الي ساحات جديدة من الرؤي, ومناهج جديدة من الدراسة والتناول أحدثها علي الاطلاق هو هذا البحث النقدي الضخم للناقد العراقي الدكتور محسن جاسم الموسوي الأستاذ بالجامعة الأمريكية في الشارقة تحت عنوان:مجتمع ألف ليلة وليلة.
ذلك أن قراءة ألف ليلة تثير فينا علي الفور تصورات مختلفة للحياة في بغداد, بددا من حياة القصور حتي مدارج الحياة الاجتماعية الدنيا, مرورا بمجتمع الجواري والغلمان وخدم القصور, ومجتمع التجارة والتظرف والشراكة في السلطة ـ كما تسميها الدراسة ـ وندماء الخليفة والقوادين, والعشاق, وشعراء اللهو والمجون, كل هذه العناصر تتكامل في بانوراما هائلة تجسد للقاريء صورة بغداد المتخيلة أو المتوهمة ـ خاصة خلال العصر العباسي ـ حين كانت حاضرة الدنيا, ومطلع شموس الثقافة العربية والحضارة العربية, ولايمكن النظر الي شخصية شهرزاد الا بوصفها البغدادية الفائقة الذكاء والحيلة, التي استطاعت بقدرتها الهائلة علي القص والرواية أن تبني هذه المملكة الشاسعة من الأحلام والحكايات الممكنة والمستحيلة, وأن تجعل من غواية الخيال وفضول المعرفة اغراء لاتنفد أساليبه أو عجائبه, في انتظار أن يحدث التطهير المطلوب فعله في وجدان شهريار, ويعود الي طبيعته السوية بعد أن تم علاجه علي يدي شهرزاد.
وفي هذه الدراسة الجادة والممتعة للدكتور محسن الموسوي ـ وهو يحاول بناء مجتمع ألف ليلة وليلة ـ فان معرفته العميقة ببغداد تاريخا وعمرانا ومجتمعا وبيئات وطبقات, وقدرته علي استدعاء التفاصيل الكثيرة المتناثرة في الكتب الأمهات للتراث العربي, ولربط الأجزاء والعناصر بعضها الي بعض, وصولا الي مايسميه: الطعام في الحياة الاجتماعية والطعام في تكوينات السرد ودراسته من ثم لصنعة الطبيخ وأكلات العرب وقصف الخليفة(من لهو الملذات) والأكلات الموصوفة وفعلها داخل المحكي, والطعام والمرتبة الاجتماعية والتطفيل ـ الدخول علي موائد الخاصة, ولغة ارستقراطية المجتمع, ومرجعيات ترف المدينة, والمدينة: الأزقة والسراديب والموت, والكلام والسلعة: تبادل الأدوار لنيل المعشوق ودلالات الحركة في المدن, كل ذلك وغيره أكثر ـ قد هيأ له من الأسباب والعناصر والوثائق فرصة نادرة لاقامته هذه الدراسة الجادة التي اقتضته سنوات طويلة قضاها استاذا بالجامعة التونسية ـ لاالفرنسية كما جاء محرفا في المقالة السابقة ـ كما أعانه اطلاعه الواسع علي المصادر المجاورة لألف ليلة والتي تشترك معها في كثير من الأخبار والمواقف والنوادر والنصوص الأدبية والشعرية مثل أخبار الظراف والمتماجنين لابن الجوزي والامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي والمحاسن والأضداد للجاحظ والمحاسن والمساويء للبيهقي ومروج الذهب للمسعودي والمستطرف في كل فن مستظرف للابشيهي والعقد الفريد لابن عبد ربه ولطائف اللطف للثعالبي والنوادر للأعرابي وغيرها ـ أعانه هذا الاطلاع الواسع علي بناء تصوره واقامة دعائم دراسته.
يقول ـ علي سبيل المثال ـ وهو يعرض لمرجعيات التظرف في ألف ليلة: اذا كان التلميح والتماجن الظريف بين الفتيه والفتيان يستند الي مرجعية واسعة من الشعر المألوف والكلام المتداول والنوادر الشائعة, فما يقوله الفتي أو تأتي به الفتاة في معرض الاجابة هو جزء من مألوف حينذاك, ولهذا كثرت مثل هذه الاشارات والتلميحات واذا كانت ألف ليلة وليلة تزخر بمثل هذا الكلام, فان كتب النوادر والملح والطرائف تفيض بها هي الأخري اذ يذكر ابن الجوزي مثلا في أخبار الظرف والمتماجنين: خرج رجل فقعد يتفرج علي الجسر, فأقبلت امرأة من جانب الرصافة متوجهة الي الجانب الغربي, فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري, ومرا قال فتبعت المرأة وقلت لها: ان لم قولي ماقلتما فضحتك فقالت:
قال لي: رحم الله علي بن الجهم يريد قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر = جلبن الهوي من حيث أدري ولاأدري
وأردت بترحمي علي أبي العلاء قوله:
فيادارها بالحزن, ان مزارها = قريب, ولكن دون ذلك أهوال
من أمتع فصول الكتاب وأكثرها اثارة الفصل الخامس الذي يتحدث فيه المؤلف عن مدن الحكي حين يقول: تتأكد قوة الحكي بتلك الطاقة التي تسرقنا من أنفسنا, وتعطل لدينا القدرة الأخري علي التمحيص والتدقيق, وبرغم ذلك نشعر أننا نلتقي الجواري في الأسواق, وننظر الي التعامل الجاري هناك, والي ذلك الحشد من الناس المشتغلين والمنصرفين للأعمال والمتطفلين, وندور في الأزقة ونجلس عند المصاطب ونبصر كفا تظـهر من النافدة ونري الخياط في دكانه وعيناه علي الزقاق المقابل بانتظار وجه يطل عليه من روش, ونري التجار والصيارفة يعنون بأموالهم, وكأن الحكاية تنقل عن التنوخي في نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة عن طرائق التحصين من اللصوص في بغداد, بينما يصعب تفريق مايأتي في التاريخ عن اللص الذي صار بزازا ـ أي تاجر حرير ـ وتاب ليستخلص حقه من لص آخر بعد جولة طويلة يستخدم فيها درايته كتلك التي يظهرها الدنف في حكايات ألف ليلة وليلة. لكن الحكايات تمتد بين القصر الفاره والزقاق الضيق, بين السوق وبين السرداب, بين البستان والنهر, حيث يتحرك الجواري وأبناء التجار والحرفيون والمغنون والقواد والنسوة والحمالون والصبايا والغلمان والبغال والحمير, بينما يشخص بين هؤلاء: الخلفاء والحلاقون وجواري البلاط والطفيليون, محركين السرد ودافعين به الي أمام,وتتعدد الضواحي والأزقة والحمامات والأسواق حتي قيل ان بغداد ليس لها مايوازيها, فكتب فيها.
أحمد بن الطيب فضائل بغداد. ثم يقول: وكأن حاضرة الخلافة بغداد رأت مارأت من التمدن السريع حتي بات الانهماك في تفاصيل الأشياء بمثابة الحياة اليومية للناس. ولهذا تحفل الحياة بالتناقض الشديد, بين الزهد والشهوة, بين المتعة والجلال, الرفعة والابتذال, العشق والفجور, المجون والعفة, الجمال والقبح, الكرم والطمع, التسامح والثأر. فبدت الرغبات متقاطعة حادة والنزوات مريبة. فبينما تتمظهر الكلمات في الأشياء والوقائع والأحوال, لأناس يغرقون في المتعة, كانت حكاية أخري يطل منها بائع فول بأسماله في ليلة ممطرة باردة, ويجري هذا المشهد في الشوارع الخلفية التي تتواري بعيدا عن قصور الخلافة.
يلفت النظر توقف الدكتور محسن الموسوي عند الشعر في ألف ليلة وليلة. وهو توقف له قيمته ومغزاه خاصة أنه يشغل مساحة ليست صغيرة في السرد, وعلي الرغم من شيوع الفكرة التي قالها بعض المستشرقين من أن الشعر فائض وليست له مكانة وظيفية. والمؤلف يري أن هذا الحكم ـ علي اطلاقه ـ ليس صحيحا, فثمة مراجعة لازمة لطبيعة الوحدات السردية في حكايات ألف ليلة وليلة, وكلما تحرك السردية دائريا أو لولبيا أو في صورة ترابطات هندسية ومواصفات تشكيلية أو موسيقية, صعب الحديث عن الوظائف التي تخص الرحلة من وإلي, أو تلك التي تعني بالاكتشاف أو البحث بموجب رغبات وعواطف كالحب والغيرة والخديعة.
ويلاحظ الدكتور الموسوي أن الشعر في ألف ليلة وليلة لم يستأثر باهتمام ملحوظ, بالرغم من محاولات جمعه أو ارجاعه إلي قائليه, إلا أن دراسته يمكن ان تقود الي فضاءات أخري في الحياة الوسيطة, وإعادة قراءة هذه النصوص الشعرية مرة في ضوء التقاليد الأدبية السائدة, ومرة أخري خارجها فمن الأمور المتكررة ـ مثلا ـ قصائد العشق, والتي غالبا ما تستأثر بالشائع وما هو مألوف في أغاني أبي الفرج الأصفهاني, لكن بعض هذه القصائد النادرة لم تكن مألوفة تماما لغربتها أو لخصوصيتها, كما أن بعضها يخرج عن المألوف ويمثل انشقاقا ما كانشقاق الحكاية الشعبية المدونة أو المنقولة مشافهة.
وفي ضوء المنهج الذي بني عليه المؤلف دراسته, فلن يتحقق هذا بدون تفكيك هذه النصوص الشعرية, ومعرفة مكونات القصيدة مأثوراتها وصورها واستعاراتها, وعزل ماهو شعري فيها عما هو توصيلي فحسب, ثم تمييز مستويات الاستعاري في الأول وإحالة الآخر إلي الأخبار والنوادر, ثم وضع الجميع في سياقات التجريد والتجسيد في خطابات المجتمع, بقدر ما تتيحه هذه الخطابات من معرفة بالفئات الاجتماعية وطبائعها وعاداتها وتكويناتها. يستشهد المؤلف ـ في هذا المجال ـ بما نقله التوحيدي مثلا عن طرب ابن غيلان البزاز كلما استمع إلي بلور جارية ابن اليزيدي وترجيعاتها وهي تترنم بالشعر, فهو اذا استمع اليها انقلبت حماليق عينيه, وسقط مغشيا عليه, وهات الكافور وماء الورد..
تقول بلور في غنائها:
أعط الشباب نصيبه = مادمت تعذر بالشباب
وانعم بأيام الصبا = واخلع عذارك في التصابي
وأعظم من بلور في غناء الشعر والترنم به صبابة التي زلزلت بغداد كما يقول التوحيدي لنوادرها وحاضر جوابها وحدة مزاجها وسرعة حركتها بغير طيش ولا إفراط حتي كان الشيخ الصالح الكناني المقريء يطرب لما تغنيه أشد الطرب:
عهود الصبا هاجت لي اليوم لوعة = وذكر سليمي حين لا ينفع الذكر
بأرض بها كان الهوي غير عازب = لدينا وغض العيش مهتصر نضر
كأن لم نعش يوما باجراع بيشه = بأرض بها أنشا شبيبتنا الدهر
بلي, إن هذا الدهر فرق بيننا = وأي جميع لا يفرقه الدهر
مثل هذه الأشعار تسرب في أجواء الحكايات وأصبح جزءا من ذاكرة العامة, خاصة أن لكل محلة في بغداد تقاليدها وشعراها ومغنيها. كما أن الشعر ـ في رأي المؤلف ـ كان يلتحم في حالات عديدة مع الخطاب المراوغ للمجتمع الملفق, فثمة مسعي للالتحام بالسلطة والتلاقي معها. في مثل شعر من قال ـ علي سبيل المراوغة والاستجداء:
الثم أنامله فلسن أناملا
لكنهن مفاتح الأرزاق
وقول الشاعر الذي أنشد الخليفة هذين البيتين بعدما أسبغ عليه النعم:
تصبحك السعادة كل يوم = بإجلال وقد رغم الحسود
وزالت لك الأيام بيضا = وأيام الذي عاداك سوء
من الصعب الانتهاء من قراءة هذا الكتاب الحافل: مجتمع ألف ليلة وليلة للدكتور محسن جاسم الموسوي دون أن نردد مقولة الدكتور حمادي صمودـ أستاذ البلاغة والأدب في الجامعة التونسية ـ عنه لعل أطرف ما في هذا الكتاب سعة اطلاع صاحبه علي النقد الحديث علي نهج المدرسة( الأنجلو سكسونية) وهي تتعامل مع النصوص تعاملا يختلف اختلافا كبيرا عما تعودنا عليه في المدرسة الفرنسية, ثم إنه قدم كل ذلك في لغة سهلة دالة مطمعة.
وان كان هذا الحكم الآخر لا ينبغي الاحساس إزاء بعض المقاطع ـ في بعض الفصول ـ بأنها مترجمة أكثر من كونها مؤلفة, وربما يرجع هذا لكثرة ما كتب المؤلف بالانجليزية والعربية من كتب ومقالات وأبحاث ودراسات عن الموضوع, مما جعله يستدعي بعض هذا الذي كتبه, وربما كان عليه ان ينقله من اللسان الانجليزي الي العربي, فجاء علي الصورة التي توحي بالترجمة عن أصل سابق, قد يكون أكثر وضوحا وتدفقا وألفة.
كذلك فإن مجتمع ألف ليلة وليلة هو لمجتمع البغدادي وحده, الذي عكف عليه المؤلف ونجح كل النجاح في جلائه وتحليله. أما الأصول المصرية والهندية والفارسية التي أنتجت بدورها بعض الصور المغايرة لمجتمعات غير بغدادية( وغيرعراقية) فلم يتوقف عندها المؤلف, ولم يعتبرها ذات شأن أو قيمة في تشكيل مجتمع ألف ليلة وليلة, وربما اهتم بهذا الجانب باحثون آخرون, أكثر قربا من طبيعة هذه المجتمعات الأخري أو قدرة علي التعامل معها.
ويكفي الدكتور محسن الموسوي في هذه الدراسة الجادة والممتعة والشاملة أنه أعادنا الي عالم ألف ليلة وليلة أكثر وعيا وبصيرة بما يثيره من قضايا وما يطرحه من رؤي وتحليلات, ستظل كالحكايات نفسها تتداخل وتتناسل, بفضل المناهج النقدية الحديثة, التي لا نهاية لكشوفها وقدرتها علي الادهاش.
ahramorg