نقوس المهدي
كاتب
في "ألف ليلة وليلة" لا يستطيع جودر الحصول على " الكنز " الا إذا حلّ جملة من الرموز وعرّى أمه. يخفق جودر في المحاولة الأولى ثم ينجح في الثانية .ونظرا لطول القصّة يمكن الاقتصار منها على هذين المشهدين : "وخرجت أمه وقالت: له سلامات يا ولدي. فقال: أنت أي شيء؟ قالت: أنا أمك ، ولي عليك حق الرضاعة والتربية وقد حملتك تسعة أشهر يا ولدي.فقال لها: اخلعي ثيابك ، فقالت: أنت ولدي ! فكيف تعرّيني؟ قال: لها اخلعي ثيابك ! والاّ أرمي رأسك بهذا السّيف. ومد يده فأخذ السيف وشهره عليها، وقال لها: إن لم تخلعي قتلتك. وطال بينها وبينه العلاج، ثم إنه لما أكثر عليها التهديد خلعت شيئا فقال: اخلعي الباقي وعالجها كثيرا حتى خلعت شيئا آخر. وما زالا على هذه الحالة وهي تقول: يا ولدي خابت فيك التحية.
حتى لم يبق عليها شيء غير اللباس فقالت يا ولد : هل قلبك من حجر؟ فتفضحني بكشف العورة يا ولدي أما هذا حرام؟ فقال لها: صدقت فلا تخلعي اللباس. فلما نطق بهذه الكلمة صاحت وقالت: قد غلط فاضربوه. فنزلوا عليه ضربا مثل قطر المطر واجتمعت عليه خدام الكنز فضربوه علقة لم ينسها في عمره ودفعوه ورموه خارج الكنز. وانغلقت أبواب الكنز كما كانت فلما رموه خارج الباب أخذه المغربي في الحال وجرت المياه كما كانت."
ثم يعيد جودر الكرة، فيبطل الأرصاد السبعة إلى أن يصل إلى أمه ( بعد أن أوصاه عبد الصمد المغربي بأن المرأة ليست أمه وإنما هي "رصدة في صورة أمه") :
" ووصل إلى أمّه فقالت له: مرحبا يا ولدي .فقال لها : من أين أنا ولدك يا ملعونة؟ اخلعي! فجعلت تخادعه وتخلع شيئا بعد شيء حتى لم يبق عليها غير اللباس . فقال لها: اخلعي يا ملعونة! فخلعت اللباس وصارت شبحا بلا روح فدخل ورأى الذهب أكواما فلم يعتن بشيء …"
إلى أيّ مدى يمكن الاستئناس بـ"أسطورة" كهذه لتسويغ القول بـ"أوديب" عربي "خاصّ"، في ثقافة مثل ثقافتناخاضعة لتأثير مزدوج، كما يؤكد عبد الوهاب بو حديبة في دراسته للعلائق بين الطفل والأم في المجتمع العربي:
"تأثير التقاليد الأبوية الذكورية التي تضفي على المرأة والطفل كليهما وعلى الصلات المتبادلة بينهما، حشدا من الصور المتواترة المتميزة، من ناحية وتأثير المشروع الحضاري التحديثي الذي يحاول أن يغذي في هذه الصور الثابتة قيما وتقاليد "مغرّبة" و"تاريخانيّة " من ناحية أخرى؟"
فالطفل في المجتمع العربي يوكل إلى الأم، فتنطبع حياته بكثير من خصائص شخصيتها، إذ هي التي ترسي في مرحلة الطفولة الأولى، علاقته بجسده وبلغته ومجتمعه. ومن ثم فإن "الليبيدو" يجد صعوبة كبيرة في أن يتركز على غير جسد الأم أو جسد الطفل نفسه. وهذه العلاقة الخاصة تؤكد أن "عقدة أوديب"، وإن كانت ظاهرة انسانية عامة، فإنها تختلف من مجتمع إلى آخر. ففي المجتمع العربي الذي لا يزال محكوما بسلطة الأب، لا يمكن إلاّ أن يكون لهذه العقدة خصوصيتها. ولذلك فإن اعتماد المنهج النفسي في معاينة العلاقة المثيرة بين جسد الطفل وجسد الأم، يستوجب الوصل بين "الأوديب" العربي والإجتماع الذي ينشئه، وتميز الخطوط الدقائق التي تصله بغيره من صورة "الأوديب" في المجتمعات والثقافات الأخرى، والخيوط التي تفصله عنها .
يذهب عبد الوهاب بوحديبة إلى أن المجتمع العربي يتميز بجملة من السمات الثقافية التي تصوغ شخصية الطفل وتتحكم في نموها، وأن هذه السمات المتمثلة خاصة في "اجتماعية" متعددة الأجزاء والمظاهر وفي ارتباط الطفل بالأم ثم انتزاعه منها، وفي صورة الأب الخاصي ، والمجتمع القامع، والبحث في كل شيء عن تأكيد الذات … تفسيح المجال لقراءة "الأوديب" العربي من زاوية غير الزاوية "الفرويدية" .فهذه السمات تنطوي على كل العناصر النفسية والإجتماعية، الفردية والجماعية، الشعورية واللاشعورية، التي تسوّغ الحديث عن "علاقة جودرية"عوضا عن "علاقة أوديبية" وإن كان السياق واحدا .
إن أسطورة "جودر" الواردة في "ألف ليلة وليلة" قد تساعد أكثر على استجلاء الموضوعات الموصولة بصورة الجسد،كالحب والموت والخوف والقلق … بل قد تسمح بالحديث عن علاقة بين جسد الطفل وجسد الأم خالية من كل شعور بالذنب. فإذا كان "أوديب" الغربي آثما يرزح تحت وطأة الجريمة التي ارتكبها ، فإن "جودر" العربي لم ير الأم عارية إلاّ بسبب من الخيالات الفاسدة والهلوسات البصرية، بحيث أن الجسد العاري لم يكن إلاّ جسدا متخيلا أو شبحا بلا روح. بل إن "جودر"، على عكس "أوديب " يتبين أن الفعل الذي أتاه لم يكن إلاّ تحريرا لذاته ولأمّه معا. ولكن، قد يكون من المفيد أن نشير، ولو في خطف كالنّبض إلى الأصول التي تقوم عليها هذه الظاهرة، عسى أن نتريّث ولا نسلّم باستنتاجات الأستاذ عبد الوهاب بوحديبة، تسليما، خاصّة أنّ قصّة"جودر" قد تنطوي على خوف غامض من الجسد جسد المرأة، عند المسلم. وليس أبلغ من الحجاب دليلا على ذلك.
إن الجسد، في ما تبيّنه الدّراسات الحديثة، منظومة رموز تستطيع اللغة أن تطويها وتنشرها، أن تخفيها وتكشفها. وهذه العلاقة بين الجسد واللغة تنشأ في مرحلة الطفولة الأولى، من علاقة حسية بين جسد الطفل وجسد الأم أو جزءا من أجزاء جسده تفتح فيه ثغرة تمتّع بحيث يستشعر الطفل الدعابة كلذة تدونها الأم في هذا العضو أو الجزء، وينمو لديه احساس بالفارق بين لذة موطنها الأذن مثلا ولذة موطنها العنق. وفي الآن نفسه تدوّن الأم في عضوها المداعب (الإصبع مثلا) حرفا "حسيّا" يحدّد التباين أو المسار في كل تمتّع. وعلى هذه العلاقة بين الأم والطفل يقوم أساس الصلة بين الجسد واللغة، فيغدو صراخ الطفل دعوة إلى الحب، تستجيب لها الأم، فتشبع جسدها وجسد طفلها، وترسم بحركة أو مداعبة، بإشارة أو كلمة، لغة خاصة بالجسد، يدلّ كل عنصر منها على الفرق بينه وبين العناصر الأخرىوقد بيّن "دوسوسير" أن اللغة لا تحوي إلاّ فوارق، فهي لا تنطوي لا على أفكار ولا على أصوات سبق وجودها وجود النظام اللغوي، وإنما تنطوي على فوارق تصورية وفوارق لفظية ناشئة عن هذا النظام.
من أهم النتائج التي تترتب على علاقة الجسد بالأم، في المقاربات التحليلية النفسية، أن الإحساس الذي يرافق الإنسان في مراحل حياته أنه "أمّ جسده الرؤوم"، فيوليه نفس العناية التي كانت الأم توليه في الطفولة، أو يحبه على طريقتها ويدركه بلغتها. وجملة القول أن الإنسان يعثر على وجود أمّه الغريب في كل صور الجسد، كما يقول "ميشال برنار"، فهو إذ يعتقد أنه موجود في جسده، وأنه يتحاور معه، من خلال وعيه إيّاه، لا يفطن إلى أن الحوار الحقيقي هو الذي بدأ مع جسد الأم ويستمر مع هذا الجسد الغائب _ الحاضر، حتى الموت .
لهذا كله فإن اللغة هي "الفضاء" الذي ينبغي البحث فيه عن هذا الجسد المرئي المتخيل، ما دامت هذه اللغة تتمثل خيالاتنا وأحلامنا ورغائبنا والعلاقات الحسية الناشئة عن وضعنا الأودويبي
حتى لم يبق عليها شيء غير اللباس فقالت يا ولد : هل قلبك من حجر؟ فتفضحني بكشف العورة يا ولدي أما هذا حرام؟ فقال لها: صدقت فلا تخلعي اللباس. فلما نطق بهذه الكلمة صاحت وقالت: قد غلط فاضربوه. فنزلوا عليه ضربا مثل قطر المطر واجتمعت عليه خدام الكنز فضربوه علقة لم ينسها في عمره ودفعوه ورموه خارج الكنز. وانغلقت أبواب الكنز كما كانت فلما رموه خارج الباب أخذه المغربي في الحال وجرت المياه كما كانت."
ثم يعيد جودر الكرة، فيبطل الأرصاد السبعة إلى أن يصل إلى أمه ( بعد أن أوصاه عبد الصمد المغربي بأن المرأة ليست أمه وإنما هي "رصدة في صورة أمه") :
" ووصل إلى أمّه فقالت له: مرحبا يا ولدي .فقال لها : من أين أنا ولدك يا ملعونة؟ اخلعي! فجعلت تخادعه وتخلع شيئا بعد شيء حتى لم يبق عليها غير اللباس . فقال لها: اخلعي يا ملعونة! فخلعت اللباس وصارت شبحا بلا روح فدخل ورأى الذهب أكواما فلم يعتن بشيء …"
إلى أيّ مدى يمكن الاستئناس بـ"أسطورة" كهذه لتسويغ القول بـ"أوديب" عربي "خاصّ"، في ثقافة مثل ثقافتناخاضعة لتأثير مزدوج، كما يؤكد عبد الوهاب بو حديبة في دراسته للعلائق بين الطفل والأم في المجتمع العربي:
"تأثير التقاليد الأبوية الذكورية التي تضفي على المرأة والطفل كليهما وعلى الصلات المتبادلة بينهما، حشدا من الصور المتواترة المتميزة، من ناحية وتأثير المشروع الحضاري التحديثي الذي يحاول أن يغذي في هذه الصور الثابتة قيما وتقاليد "مغرّبة" و"تاريخانيّة " من ناحية أخرى؟"
فالطفل في المجتمع العربي يوكل إلى الأم، فتنطبع حياته بكثير من خصائص شخصيتها، إذ هي التي ترسي في مرحلة الطفولة الأولى، علاقته بجسده وبلغته ومجتمعه. ومن ثم فإن "الليبيدو" يجد صعوبة كبيرة في أن يتركز على غير جسد الأم أو جسد الطفل نفسه. وهذه العلاقة الخاصة تؤكد أن "عقدة أوديب"، وإن كانت ظاهرة انسانية عامة، فإنها تختلف من مجتمع إلى آخر. ففي المجتمع العربي الذي لا يزال محكوما بسلطة الأب، لا يمكن إلاّ أن يكون لهذه العقدة خصوصيتها. ولذلك فإن اعتماد المنهج النفسي في معاينة العلاقة المثيرة بين جسد الطفل وجسد الأم، يستوجب الوصل بين "الأوديب" العربي والإجتماع الذي ينشئه، وتميز الخطوط الدقائق التي تصله بغيره من صورة "الأوديب" في المجتمعات والثقافات الأخرى، والخيوط التي تفصله عنها .
يذهب عبد الوهاب بوحديبة إلى أن المجتمع العربي يتميز بجملة من السمات الثقافية التي تصوغ شخصية الطفل وتتحكم في نموها، وأن هذه السمات المتمثلة خاصة في "اجتماعية" متعددة الأجزاء والمظاهر وفي ارتباط الطفل بالأم ثم انتزاعه منها، وفي صورة الأب الخاصي ، والمجتمع القامع، والبحث في كل شيء عن تأكيد الذات … تفسيح المجال لقراءة "الأوديب" العربي من زاوية غير الزاوية "الفرويدية" .فهذه السمات تنطوي على كل العناصر النفسية والإجتماعية، الفردية والجماعية، الشعورية واللاشعورية، التي تسوّغ الحديث عن "علاقة جودرية"عوضا عن "علاقة أوديبية" وإن كان السياق واحدا .
إن أسطورة "جودر" الواردة في "ألف ليلة وليلة" قد تساعد أكثر على استجلاء الموضوعات الموصولة بصورة الجسد،كالحب والموت والخوف والقلق … بل قد تسمح بالحديث عن علاقة بين جسد الطفل وجسد الأم خالية من كل شعور بالذنب. فإذا كان "أوديب" الغربي آثما يرزح تحت وطأة الجريمة التي ارتكبها ، فإن "جودر" العربي لم ير الأم عارية إلاّ بسبب من الخيالات الفاسدة والهلوسات البصرية، بحيث أن الجسد العاري لم يكن إلاّ جسدا متخيلا أو شبحا بلا روح. بل إن "جودر"، على عكس "أوديب " يتبين أن الفعل الذي أتاه لم يكن إلاّ تحريرا لذاته ولأمّه معا. ولكن، قد يكون من المفيد أن نشير، ولو في خطف كالنّبض إلى الأصول التي تقوم عليها هذه الظاهرة، عسى أن نتريّث ولا نسلّم باستنتاجات الأستاذ عبد الوهاب بوحديبة، تسليما، خاصّة أنّ قصّة"جودر" قد تنطوي على خوف غامض من الجسد جسد المرأة، عند المسلم. وليس أبلغ من الحجاب دليلا على ذلك.
إن الجسد، في ما تبيّنه الدّراسات الحديثة، منظومة رموز تستطيع اللغة أن تطويها وتنشرها، أن تخفيها وتكشفها. وهذه العلاقة بين الجسد واللغة تنشأ في مرحلة الطفولة الأولى، من علاقة حسية بين جسد الطفل وجسد الأم أو جزءا من أجزاء جسده تفتح فيه ثغرة تمتّع بحيث يستشعر الطفل الدعابة كلذة تدونها الأم في هذا العضو أو الجزء، وينمو لديه احساس بالفارق بين لذة موطنها الأذن مثلا ولذة موطنها العنق. وفي الآن نفسه تدوّن الأم في عضوها المداعب (الإصبع مثلا) حرفا "حسيّا" يحدّد التباين أو المسار في كل تمتّع. وعلى هذه العلاقة بين الأم والطفل يقوم أساس الصلة بين الجسد واللغة، فيغدو صراخ الطفل دعوة إلى الحب، تستجيب لها الأم، فتشبع جسدها وجسد طفلها، وترسم بحركة أو مداعبة، بإشارة أو كلمة، لغة خاصة بالجسد، يدلّ كل عنصر منها على الفرق بينه وبين العناصر الأخرىوقد بيّن "دوسوسير" أن اللغة لا تحوي إلاّ فوارق، فهي لا تنطوي لا على أفكار ولا على أصوات سبق وجودها وجود النظام اللغوي، وإنما تنطوي على فوارق تصورية وفوارق لفظية ناشئة عن هذا النظام.
من أهم النتائج التي تترتب على علاقة الجسد بالأم، في المقاربات التحليلية النفسية، أن الإحساس الذي يرافق الإنسان في مراحل حياته أنه "أمّ جسده الرؤوم"، فيوليه نفس العناية التي كانت الأم توليه في الطفولة، أو يحبه على طريقتها ويدركه بلغتها. وجملة القول أن الإنسان يعثر على وجود أمّه الغريب في كل صور الجسد، كما يقول "ميشال برنار"، فهو إذ يعتقد أنه موجود في جسده، وأنه يتحاور معه، من خلال وعيه إيّاه، لا يفطن إلى أن الحوار الحقيقي هو الذي بدأ مع جسد الأم ويستمر مع هذا الجسد الغائب _ الحاضر، حتى الموت .
لهذا كله فإن اللغة هي "الفضاء" الذي ينبغي البحث فيه عن هذا الجسد المرئي المتخيل، ما دامت هذه اللغة تتمثل خيالاتنا وأحلامنا ورغائبنا والعلاقات الحسية الناشئة عن وضعنا الأودويبي