عفاف مطيراوي - جودر ليس بديلا عن أوديب تعقيبا على منصف الوهايبي

تناول عبد الوهاب بوحديبة بالدرس في الفصل الثالث عشر،"في مملكة الأمّهات"، من كتابه " الجنسانيّة في الإسلام" حكاية من ألف ليلة و ليلة، هي حكاية جودر بن عمر وأخويه، معتمدا القراءة النّفسيّة الاجتماعيّة ليصل إلى نتيجة شكّلت محور بحثه وهي القول بـ"عقدة جودر" كصيغة مخصوصة تميّز الثقافة العربيّة الإسلاميّة، و بذلك تختلف "عقدة جودر" العربيّة الإسلاميّة عن "عقدة أوديب" الكونيّة (ٍالابن الذي عرّى أمّه… "جودر" بدل "أوديب"؟).

وعقدة أوديب كما نعلم تعني في أهمّ ما تعنيه: اشتهاء الطفل لأمّه، رغبته في قتل أبيه، شعوره بالذنب، ورهابه من الخصاء. وأهمّ ما يميّز أوديب الكونيّ شعوره بالذنب لأنّه تزوّج من أمّه و قتل أباه. ورغم أنّه فقأ عينيه إلاّ أنّ ذلك لم يكفرّ عن ذنبه ولم يمنع شعوره بالذنب.إذن فـ"أوديب الحقيقيّ مذنب" إلاّ أنّ جودر لم يرتكب إثما لذا فهو خلو من كلّ شعور بالذنب.

ولذا يقول، عبد الوهاب بوحديبة: "يبدو لنا مشروعا جدّا أن نرى عقدة جودر الشكل الخاصّ بالثقافة العربيّة الإسلاميّة من أشكال عقدة أوديب، نعني بذلك أوديب المبرّأ من أيّة إجراميّة". فرغم أنّ جودر قد كشف عن عورة أمّه بعد اجتيازه للامتحان السابع للوصول إلى كنز الشمردل إلاّ أنّ ذلك لا يجعل منه أوديبا مذنبا، مع العلم أنّه فشل في المرّة الأولى عندما خدعته صورة أمّه وأوهمته بأنّ ما سيأتيه من فعل تعريتها يعدّ حراما وعارا. ممّا يعني أنّ جودر كان مسكونا بعقدة أوديب ولكنّه استطاع في المرّة الثانية أن "يقتل في داخله صورة الأمّ و ينزع عنها صفة الأسطورة و طابع القداسة". وإنّه لقول جميل قول بوحديبة بأنّه "درس جميل في كيفيّة نزع الصفة الأسطوريّة تعلمنا إيّاه حكاية جودر". و نضيف: إنّه لمطمح كبير نعدّه حقوقيّا إنسانيّا: القدرة على نزع الصفة الأسطوريّة بوجهيها القداسيّ

والشيطانيّ عن صورة المرأة/الإنسان، بمعنى القدرة على أنسنة المرأة: كيانا، ذاتا، وجسدا بعيدا عن كلّ ما تلبّس بصورتها على مدى عصور من بعد قداسيّ إلهيّ وآخر شيطانيّ إبليسيّ.

كما حاول بوحديبة من خلال قراءة هذه الحكاية تبيان صورة المرأة/الأمّ في المتخيّل العربيّ الإسلاميّ بوجهها الحقيقيّ المتمثّل في تلك الأمّ الحقيقيّة الّتي "كانت غارقة في بؤس لا مثيل له، متسوّلة، قذرة، تائهة، مشرّدة على باب المدينة، تمدّ يدها للمارّة" وبوجهها الرمزيّ الأسطوريّ. وقد اعتبر بوحديبة أنّ "أمّ جودر الحقيقيّة تمثّل من جهتها وبطريقة مدهشة الأمّ العربيّة. إنّها النموذج الأصليّ الأمين الّذي لم يفقد القيمة الرمزيّة ولا الخصائص الاقتصاديّة الاجتماعيّة والثّقافيّة المرتبطة بدور الأم في مجتمعاتنا المعاصرة أيضا". إذن فجودر استطاع أن يقتل صورة أمّه المزيّفة ليرتقي بأمّه الحقيقيّة البائسة وليرتقي بنفسه نفسيّا واجتماعيّا واقتصاديّا ويخلّص نفسه من إسار صورة الأمّ الأسطوريّة الرمزيّة العابثة بمتخيّلنا ولاوعينا.

وقد تناول فرج بن رمضان في كتابه "صورة الأمّ في المتخيّل العربيّ، حكاية ألف ليلة وليلة (جودر بن عمر و أخويه)" هذه الحكاية قراءة وتحليلا ونقدا لقراءة بوحديبة لحكاية جودر. ويعتبر فرج بن رمضان أنّ هذه الحكاية هامّة جدّا لما فيها من عناية بصورة الأمّ وبعلاقة الابن بها. ويبدو حسب بن رمضان أنّ "الأستاذ بوحديبة هو أوّل من انتبه إليها".

ويعتبر بن رمضان أنّ الامتحان الّذي خضع له جودر قبل الوصول إلى الكنز هو "اختبار القدرة على انتهاك الصورة-الأسطورة المقدّسة للأمّ بإكراهها على التّعريّ وكشف العورة".

ولا يعني نقد بن رمضان لقراءة بوحديبة لحكاية جودر الرفض والدحض والإنكار. إذ يرى بن رمضان أنّ الّذي دعاه إلى "ممارسة هذا النقد لقراءة بوحديبة إنّما هو بالأساس اختلاف في المنهج: منهج الباحث الاجتماعي النفسيّ من جهة والدارس الأدبي من جهة أخرى".

كما ويرى أنّ " المشكل الأساسيّ في قراءة بوحديبة" "أنها قراءة جزئيّة انتقائيّة لم يقرأ صاحبها من حكاية جودر إلاّ جزءا بعينه: قصّة الكنز، ثم لم يقرأ من هذا الجزء نفسه إلاّ ركنا أو مستوى واحدا:علاقة جودر بالأمّ". وهذه القراءة الانتقائيّة هي الّتي جعلت بوحديبة يصل إلى النتيجة التي قامت عليها أطروحته وهي القول بأنّ عقدة جودر هي الصيغة الخاصّة بالثقافة العربيّة الإسلاميّة العارية من كلّ شعور بالذنب. إلاّ أنّ "القراءة الأدبيّة الشاملة لحكاية جودر كفيلة بإبراز حضور كثيف، متعدّد الصور والصيغ لعقدة أوديب في منوالها الكونيّ بمختلف مكوناته و لحظاته". بل و يحاول بن رمضان التدليل على أنّ حتّى حكاية الكنز الّتي اقتصر بوحديبة على قراءتها مشبعة بالصور الدّالة على "خضوع لاوعي جودر لعقدة أوديب و تحديدا لأحد تداعياتها في اللاوعي الكونيّ، أعني قلق الخصاء". و ما تلك الامتحانات الستّة الّتي خاضها جودر قبل الوصول إلى الكنز غير تعبير عن قلق الخصاء لما في تلك الصور من تهديد بالموت.

خمس من تلك الاختبارات كانت اختبارات لـ"مدى قدرة جودر على عدم الخوف" من الموت (مواجهة صاحب السيف وصاحب الرمح وصاحب السهم والأسد المفترس والثعبانين). و"الصورة الوحيدة الّتي لا تتضمّن تهديدا بالموت هي صورة العبد الأسود وراء الباب الخامس، وإنّها حقّا لبمثابة الاستثناء الّذي يؤكّد القاعدة" على حدّ عبارة صاحب كتاب "صورة الأمّ في المتخيّل العربيّ ". و لسائل أن يسأل عن العلاقة بين الخوف من الموت والخصاء. يجيب بن رمضان عن ذلك بقوله: "إنّ الخوف من الموت في لغة التحليل النفسي إنّما يعبّر عن قلق الخصاء" والعلاقة جدّ متينة بين الأوديبيّة وقلق الخصاء، ذلك أنّ "قلق الخصاء أو عقدة الخصاء تمثّل مكوّنا أساسيّا في عقدة أوديب، فهي نتاج الإحساس بالذنب الناجم بدوره عن تفاعل رغبتين محرّمتين: جماع الأمّ وقتل الأب". وبذلك يفنّد بن رمضان القول بخصوصيّة جودر. إذ أن "نجاح جودر في اجتياز اختبارات الخوف من الموت إنّما يعبّر إذن عن النجاح في التّخلّص من رواسب عقدة الخصاء أو التّخلّص من بقايا عقدة أوديبيّة غير منحلّة بصفة نهائيّة".

وممّا يؤكّد فكرة الخوف من الخصاء وسائل القتل المعتمدة "السيف قاطع الرأس، الرمح الطّاعن للصدر، السهم المصوّب إلى الصدر"، هذا من جهة. فهذه الصور تدلّ بوضوح على الخصاء من خلال تدليلها على الموت. و من جهة أخرى يشير شكل هذه الوسائل علاوة على طرائق استخدامها في القتل إلى الخصاء. فلا يخفى ما لهذه الصور من "دلالة ذكوريّة قضيبيّة اختراقيّة". و لا تخفى أيضا العلاقة الوثيقة بين النّظام الأبويّ الذكوريّ و بين رهاب الخصاء، ذلك أنّ المجتمع الأبويّ هو المجتمع الخاصي بامتياز "يمارس فعل الخصي" كما يقول بذلك بوحديبة نفسه وبن رمضان وغيرهما.

إذن فقد حاول فرج بن رمضان "إثبات خضوع اللاوعي الجودري لعقدة أوديب في الجزء الّذي عُني بوحديبة بقراءته من الحكاية". وما يؤكّد " تداخل معاني القتل والخصي والأوديبيّة" في حكاية جودر، صورة أخرى تظهر في نهاية الحكاية. فبعد أن قتل سالم أخاه جودر بعد أن دسّ له السمّ أراد أن "يأخذ الخاتم السحريّ من إصبعه فعصى منه فقطع إصبعه بالسّكين". هذه الصورة تدلّ بوضوح على فعل الخصي "إذ من المعلوم المبذول أنّ الإصبع في مقدّمة أعضاء الجسد في النيابة عن القضيب". هذا علاوة على صورة العبد الأسود الّذي يظهر لجودر وراء الباب الخامس. و من المعلوم أنّ صورة العبد الأسود، و كما يتجلّى ذلك بوضوح في حكايات ألف ليلة وليلة ولاسيّما الحكاية الإطاريّة، اكتسبت صفة رمزيّة تجمع بين الفحولة و القوة الجنسيّة من جهة وبين الخصاء من جهة أخرى، خصاء من أجل حماية نسب النظام الأبوي.

ولكلّ ما تقدّم، يتوصّل بن رمضان إلى خلاصة مفادها "أنّ قصّة الكنز حافلة بالعلامات والصوّر الدّالة على الحضور القويّ لعقدة الخصاء وقلقها في نفسيّة جودر و من ثمّة على حضور عقدة أوديب في صيغتها النّمطيّة الكونيّة باعتبار الخصاء جزءا منها".

ولئن كان بوحديبة قد قرأ حكاية جودر "في اتّجاه اشتقاق العقدة الخصوصيّة العربيّة" فإنّ بن رمضان قد أعاد قراءة الحكاية وقراءة بوحديبة لها ونقدها" في اتّجاه إثبات أنّ اللاوعي الجودريّ ومن ثمّة اللاوعي العربيّ خاضع إلى ذلك بمفعول العقدة الأوديبيّة الكونيّة".

وفضلا عن عقدة الخصاء توصّل بن رمضان إلى أنّ جودر بسبب "فائض الحبّ الأبويّ" الّذي كان يكنّه له أبوه عمر، وبسبب أنّ جودر الابن الأصغر تحولّ بعد موت أبيه إلى "المعيل الوحيد والبقيّة تابعون له" حُقّ القول بأنّ "الرمزيّة الأبويّة في شخص جودر" تجلّت كأوضح ما يكون التّجليّ مع تقدّم أطوار الحكاية.

ولو جاز "الافتراض أنّ نفسيّة جودر عارية من أثر عقدة أوديب أو أنّ العقدة مطموسة فيه لا غير بفعل فائض الحبّ الأبويّ" فإنّ أخاه سالما "يمثّل بامتياز الحالة الأوديبيّة كأشفّ ما تكون وأبلغ" وربّما كان الأجدر دراسة هذه الشخصيّة السالميّة، الأوديبيّة بامتياز.

وتتجلّى أوديبيّة سالم بوضوح خاصّة في نهاية الحكاية حيث تُوّج صراع "سالم مع الأبويّ الرمزيّ في شخص جودر بالتجسيم الفعليّ لأحد مكوّنات عقدة أوديب: قتل الأب بقتل سالم لجودر لتتأكّد أوديبيّة سالم بقطعه لإصبع جودر الحامل للخاتم السحريّ وبذلك أيضا يتأكّد "المعنى الخصائيّ الثاوي وراء الرغبة في قتل الأب".

ولو أردنا أن نذهب شوطا في التحليل أبعد فلا نظنّنا نجانب الصواب إن قلنا بأنّ سالما القاتل لجودر- رمز الأب واعتلاءه السلطة و قراره الزواج من زوجة أخيه المقتول إبّان قتله دون انتظار العدّة ليس إلاّ اشتهاء للأمّ إذا اعتبرنا أنّ السلطة هي في النهاية "تحقيق لاستيهام الاستئثار بالأمّ". فالسيّدة آسية أرملة جودر هي أمّ رمزيّة. و بذلك يكون سالم قد مثّل الأوديبيّة بمختلف وجوهها: قتل الأب واشتهاء الأمّ والزواج بها فضلا عن قلق الخصاء.. وحتّى "تقديس الأمّ و عبادتها" المتجلّية في حكاية جودر " بفعل عقدة جودر" لا يمنعان "شهوة سفاح الأمّ بفعل عقدة أوديب" بل أن "ذلك التقديس وتلك العبادة لا يمنعان من هذه الشهوة على أيّ حال".

وأهمّ ما توصّل إليه فرج بن رمضان تترجمه النقاط التالية:

عقدة جودر ليست صيغة من عقدة أوديب وليست بدلا عنها وليست خالية من الإحساس بالذنب والخطيئة.بل على العكس من ذلك هي "حاصل تضخّم متورّم لأحد مكوّنات عقدة أوديب نفسها في منوالها الكونيّ المعهود وأعني به الاشتهاء المحرّم للأمّ وليست عبادة الأمّ و تقديسها، وعليها مدار عقدة جودر، سوى الوجه الآخر للاشتهاء بل الدليل على قوّة الشهوة وعنفها".

و بناء عليه، "فإنّ عقدة جودر لا يمكن أن تعدّ مظهرا من مظاهر الخصوصيّة العربيّة الإسلاميّة لأنّ عبادة الأمّ ليست ممّا يختصّ به العربيّ دون سائر البشر".

وختاما، ما نودّ التأكيد عليه أنّ المرأة في المتخيّل العربيّ الإسلاميّ الّتي يمكن أن نستجلي صورتها من خلال قراءة حكاية جودر بن عمر و أخويه هي من الأهميّة بمكان، بل وأهمّ في نظرنا من البحث عن "عقدة جودر" أو "عقدة أوديب" أو عن خصوصيّة جودريّة عربيّة إسلاميّة أو عن كونيّة أوديبيّة.

ونظنّ أنّ محاولة البحث عن أنسنة صورة المرأة بتخليصها من الأسطوريّ فيها بوجهيه التقديسيّ و الإبليسيّ هو الرهان الأهمّ و الأخطر.
 
أعلى