محسن جاسم الموسوي - محكي المال والتجارة في الليالي العربية

بين المرأة والمال تتعدد الرغبات ومحمولات الأفعال، ويتدفق المحكي، فثمة شخوص وهموم وتطلعات ومخاطرات، وثمة نجاحات واخفاقات في داخل هذه المساحة المغرية التي تتشكل فيها حياة ألف ليلة وليلة: وعلى الرغم من كل تدخلات العجائب لاستعادة المال الى فلان الفلاني أو تمكينه في ظروف صعبة كتلك التي تحيط بأبي الحسن علي المصري أو بمحمد الكسلان، فإن القلق والترقب والخشية والطموح هي المواصفات التي تطبع الفعل في الحكايات، وتجعل منه مرادفا للتجارة وتبعاتها وآمال أصحابها. وفي كثير من الحالات تصبح التجارة فعلا تنتمي اليه المتواليات السردية الأساس في الحكاية المدينية: فهناك الرغبة في المال والرغبة في الجمال والمرأة، وهناك رغبة تقود الى أخرى وتتداخل معها، فيضيع المال من أجل الجمال، أو يضيع الجمال بضياع المال في حالات نادرة، وهناك تطلع الى المقام الأعلى لبلوغ الجمال البعيد المنال، وهناك خوف وقلق على المال، فيعود المرء يتخفى في السراديب، قناعه ما له في المطامير، أو عزونه عن المخالطة في لحظة الخوف من الخليفة:

وفي مجتمع الف ليلة وليلة يستحيل الانتقال من موقف اجتماعي عام الى ما هو خاص بدون مجموعة من الشروط: فعلي المصري ابن الجوهري الذي يمنى بالإفلاس يرحل نحو بغداد بعدما عرف من غيره بمنام يخبره بالمبيت في منزل موصوف في أرض واحدة من غرفة ورخامة ولولب يقود بعد فركه الى الكنز؛ فالحكاية تكرر (الموتيفات) المعروفة من منام ومصادفة ورخامة ولولب وكنز وعفاريت، لكنها تتموضع في الرحلة نحو بغداد بصفتها عاصمة الخلافة ومبتغى الباحثين عن الجاه والمال والشهرة والمخاطرة، ولهذا فإنها تتأسس في السياق الاجتماعي – السياسي شأن عشرات أو آلاف الرحلات التي جرت وتجري حينذاك بحثا وراء الرزق والمخاطرة. وبينما يبدو بيت الأموات الذي يصادف من ينام فيه الموت، ينجو علي المصري ما دام قد رحل في ضوء ما هو مكتوب ومقدر له حسب انساق القدر الفاعلة في ألف ليلة وليلة والتي تتجاوز (المصادفة ) الاعتيادية. والحكاية يمكن أن تنتهي عند الكنز واستدعاء العائلة من مصر ولقاء الأحباب لولا أن الراوية يريد تصعيد مكانة المال الى العرش والسلطة، ولهذا كانت فديته من أطباق الذهب تثير انتباه الحاكم، فيهم بمصاهرته. ومثله – شأن تجار ألف ليلة وليلة لا يستدرج بسهولة، إذ (لا يصح أن يكون صهر الملك تاجرا مثلي – الليلة 432، ص 610)؛ وما يبدو تعللا خلوقا وتواضعا هو استدراج آخر للسلطة، على خلاف مداخل الآخرين ممن عرضوا أنفسهم للبطش فيكون جواب الملك أو الحاكم أو الخليفة (أنعمت عليك بذلك وبالوزارة). أي أن المال الوفير يساعد على تجسير الهوة، شريطة أن يجري التعامل معه بحذر وحذق وإظهار للمعرفة والتعفف بقصد بلوغ السلطة والمشاركة فيها: ففي ألف ليلة وليلة لا يتوقف الطموح عند حد في مجتمع ملي ء بالمغريات. وليست حال علي المصري وحيدة في الف ليلة وليلة، فالمال الذي جاء به كنز الشمردل الى جوار يجعله بمصاف السلطان، بينما ينعم علاء الدين أبو الشامات بالمناصب، ويتنقل بعض التجار في الحظوة حسب ما يشتهيه الخلفاء: ومثل هذه المكافآت تتأسس في أنساق لم تكن غريبة على فضاءات الحياة التي تتأكد فيها مواصفات التكافل ورد الجميل: وعندما كان المستعصم سجينا في برج القصر حظى بعناية الحمال عبدالغني بن الدرنوس الذي أصبح براجا في أبراج الخليفة المستنصر، ومتقدم البراجين أيام المستعصم، ثم فضله على غيره حتى كان يتقدم على سواه في مجلسه ليحوز لاحقا على لقب (نجم الدين) وبينما اعتبر الطقطقي رد الجميل صحيحا، كان جمال الدين بن محمد الدستجرداني يستعيب (تسليط مثل ذلك الأحمق على اعراض الناس وأهوالهم ) (1) مضيفا ان رد الجميل يتم بـ (مكافأته.. بمال أو بمنزلة لا علاقة لها بأمور المملكة ). ويقول الطقطقي (كان نظر جمال الدين في هذا المعنى أدق من نظري).

لكن العلاقة بين الخلافة وذوي العون تتأكد أكثر مع التجار والموسرين.

وكلما تعاظمت سلطة المال واتسعت تيسرت سبل العلاقة بينه وبين وسطاء الخلافة من الغلمان والجواري وأركان البلاد: وعندما كانت الف ليلة وليلة تعرض مثلا لمحمد بن علي الجوهري، أو لأبي الحسن الخراساني الجوهر، أو لعلي المصري ممن اتسعت استثماراتهم فانها تستكمل العلاقة باستحسان الخليفة لما يجري ورضاه عن الموسرين اذا اجتمع عندهم العشق والظرف وسعة اليد وكثرة المال. ولهذا لم يستكثر الخليفة على الجوهري تقليده أياه، كما أن الخليفة المعتضد في الحكاية ذات الأصل التاريخي لم يستغرب من الخراساني الصيرفي بذله وجاهه ووجاهته، فهؤلاء ليسوا مجرد تجار، ولهذا يمكن أن يصعد واحدهم الى المناصب المقربة للخلفاء. وما بدا كلاما مكرورا في الحكايات في تصعيد فلان التاجر الى مرتبة وزير لا يبدو هزلا في أجواء الحكايات، اذ أن فضاءاتها التاريخية والسياسية تتحرك في مثل هذه التقلبات: فابن الجصاص الحسين بن عبدالله الجوهري كان يقدر على انتشال الدوله من الافلاس، وينقل الصولي في الأوراق (2) إن الخليفة الراضي نعى على عصره غياب أمثال ابن الجصاص ممن يلجأ اليهم عند الأزمات كالتي عصفت به سنة 322هـ (933م). وفي حكاية عبدالله البري (الليلة 942، ص 519ج 2). يرى الملك وجاهة البري وما له ما يبرر له المصاهرة ؟ واذا كان البري يستكثر الاستيزار وهو لا شأن له بالسياسة، يقول له الملك ان المصاهرة واشغال الحكم من شأنهما دفع غائلة الآخرين (المال يحتاج الى الجاه فأنا أدفع عنك تسلط الناس عليك في هذه الأيام. ولكن لربما عزلت أو مت أو تولى غيري فإنه يقتلك من أجل حب الدنيا والطمع).

واذا كانت بعض الحكايات تعرض للخلفاء وهم يعلنون أمام الملأ اعترافهم بجميل التاجر الفلاني أو بظرفه (أي ليقاته لدخول مجتمع الخاصة ) فإن واقع الحياة في الدولة العباسية مثلا كان يؤكد وجود مثل هذا الهوى لدى الخلفاء الذين أقاموا على الدنيا بحب باد، وبعد أن أخذ التجار يشاركون في البيعة للخلافة كما حصل عندما أشرك الرشيد أهل السوق في البيعة للمأمون، فإن المسافة بين المشاركة الأوسع ومن ثم ممارسة السلطة ليست شاسعة. وكلما اختلطت السياسة بالمال، واتجه أصحابها الى الجاه والبذخ، بدا زواج المصلحة ضروريا ولازما بين السياسي والتاجر: وهكذا كان المعتصم يستوزر الفضل بن مروان، ومثله محمد عبدالملك الزيات وحامد بن العباس وعلي ابن عيسى وغيرهم، ويروي النتوخي في نشوار المحاضرة انه ما كان لحامد بن العباس أن يتقلد الوزارة عام 918م (306هـ) لولا أنه ذو يسار عظيم. ولكن الحكايات تستبقي التحفظ على محترفي التجارة، الذين يحسبون للدرهم ألف حساب، كما تقول الليالي: فهؤلاء غير ذوي اليسار والنعمة والظرف. ولمثل هذا التمييز يلجأ الجهشياري عندما يورد نصوصا تحذر من الخداع المقرون بالاتجار (انت رجل شريف وابن شريف وليست التجارة من شأنك ). (3)

ومن الخطأ النظر الى ما تورده الف ليلة وليلة من حكايات ذات أصول تاريخية على انها واحدة أو متشابهة:

فالخليفة المعتضد بالله في حكاية ابن حمدون التي تظهر في الف ليلة وليلة (ص 544، ج 2، الليلة 959) يسأل مضيفه بعدما رأى ما رأى عنده من جاه ووجاهة وثراء وحشم عما اذا كان من (الاشراف )، فيكون الجواب واضحا مليئا بالثقة، لا، أنا أبو الحسن الخراساني، الصيرفي، فالثقة التي يظهرها الجواب لها علاقة بمكانة الصيرفة في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري، فكما يروي الصابي وغيره كانت أيام المعتضد تشهد مشاركة أهل الحرف كالصاغة والخياطين الاساكفة والوراقين والنجارين وغيرهم في حشم الخليفة. ولم يكن أبو الحسن بعيدا عن الحكاية عما آل اليه أمر التجار والصيارفة والصاغة من حظوة ومكانة، خاصة وان هؤلاء كانوا يبحثون عن العلوم والآداب، يتثقفون بها سبيلا إن لم تكن لهم بها حاجة أو لديهم الولع بها ولهذا كان التجار الذين لم يأتوا المهنة احترافا كليا كالمرابين منهم ينشغلون أيضا بالمنادمة وقراءة الشعر وتعلم الظرف ومشاركة الظرفاء وتوخي صداقة الجواري من المحظيات. ويقول المقدسي في لطائف الظرائف (ما من تاجر ليس بفقيه) والمستثنى منهم (أهل الربا)؛ وهو ما يتكرر عند الجاحظ في الرسائل عندما تجري الاشارة الى ميلهم للأخذ من كل معرفة بطرف. (4)

ومهما بدت بعض الحكايات تفيض في ذكر السلطان ووجاهته وعدله، الا أنها تحتفظ دائما بمواصفات مرتبية المجتمع البطريقي، أو ذلك الذي اكتسب هذه المرتبية بطرائق الاحتراف واضطر المجتمع الى الركون اليها والقبول بها: ولهذا كان غانم بن أيوب في حكايته مع قوت القلوب يطلع على ما هو مكتوب (على دكة لباسها) انها محظية الخليفة: فتخلى غانم عن عشقه ساعة، وأخذ ينام على فراش منفصل، (وكل شي ء للسيد حرام على العبد). أما علاء الدين أبو الشامات فلم يدخل على الجارية قوت القلوب المهداة له من الخليفة، (الذي يصلح للمولى لا يصلح للخدام): وقد يلجأ الرواة الى اسقاط رغباتهم على الروي، فيصنعون بعض اللمسات التي تحقق لهم انفراجا نفسيا ما، شأن ذلك الذي يضعه الراوي على لسان كريم الصياد بعدما ارتدى الخليفة جبته في مهمته التنكرية تاركا ثوبيه من الحرير للصياد، فـ «جال القمل على جلد الخليفة فصار يقبض بيده اليمين والشمال من على رقبته ويرمي ثم قال يا صياد ويلك ما هذا القمل الكثير في هذه الجبة، فقال يا سيدي انه في هذه الساعة يؤلمك فإذا مضت عليك جمعة فإنك لا تحس به ولا تفكر فيه فضحك، الخليفة..». أما الجوهري أو الحسن علي بن طاهر فإنه عندما يدرك أن ( علي بن بكار) يقيم علاقة مع واحدة من محظيات الخليفة المقربات يقرر الرحيل بماله وأهله سرا الى البصرة: فالتقاطع مع البلاط والحاشية يقود الى الهلاك، يقول أبو الحسن لصاحبه (اعلم اني رجل معروف بكثرة المعاملات بين الرجال والنساء وأخشي أن ينكشف أمرها – علي بن بكار والجارية شمس النهار- فيكون ذلك سببا لهلاكي وأخذ مالي وهتك عيالي. ولهذا أضاف صاحبه (أخبرتني بخبر خطير يخاف من مثله العاقل الخبير). (5)

ويجري التمييز بين البلاط والحاشية وبين التجار بوضوح كبير في الف ليلة وليلة ؛ ومهما كثرت أهوال هؤلاء الا أنهم يبقون بعيدين عن آداب الفئة المترفة أو عن مشاريعها: ولهذا فثمة فضاء في ألف ليلة يجري في تجسير العلاقة بين السوق والحاشية أو الخاصة، لكن هذا الفضاء لا يعني ضرورة التحاق التجار بالمقبولين في نطاق الخاصة فالجوهري في حكاية علي بن بكار مثلا سبيله في العلاقة مع شمس النهار. ومتى ما عرف انها محظية الخليفة تنحى عن جادتها. كما أن الجوهري يرق لدنيا ويتمادى في الاستجابة ما دامت هي الآمرة. أما المرجعية التي يجري الاستناد اليها في مثل هذا الأمر فهي مرتبية تنبني على أساس الآداب والانتماء لا المال، فثمة ارستقراطية وثمة فئة مترفهة، يتجاذبان على صعيد الأفراد لا على صعيد العلاقة المتأسسة. لهذا يكتب التوحيدي في الامتاع والمؤانسة ما يرضي الوزير قائلا:

"لا يوجد الأدب إلا عند الخاصة والسلطان ومدبريه، وأما أصحاب الأسواق فإنا لا نعدم من أحدهم خلقا دقيقا ودينا رقيقا، وحرصا مسرفا وأدبا مختلفا، ودناءة معلومة ومروءة معدومة وإلغاء اللفيف ومجاذبة على الطفيف، يبلغ أحدهم غاية المدح والذم في علق واحد في يوم واحد مع رجل واحد، إذا اشتراه منه أو باعه إياه، إن بايعك مرابحة وخبر بالأثمان، قوى الأيمان على البهتان" (6).

لكن التاجر هو (قناع) الخليفة المتنكر أيضا، فهو المغامر الموفور المال وكلما اجتمع الاثنان سهلت الحركة وطابت، ولهذا غالبا ما يقود القناع الى تجسير المسافة بين التجارة والخلافة.

وتتحقق صورة الخلافة في عقول الآخرين، وفي عقول الرواة لهذا المعنى أيضا، من خلال مجموعة من الاعتبار!ت منها:

* السلطة الصارمة والقمعية.

* الامتلاك الكامل للدنيا.

* مزاولة اللذة ومكوناتها.

* تقديم العطايا والهبات.

ويبدو من الصورة المتقاربة بين حكايات الف ليلة وليلة وكتب التواريخ ان بني العباس انهمكوا في السلطان والدنيا انهماكا كبيرا، فلهم شؤون ومباذل كثيرة، وهكذا كانت قصة محمد علي الجوهري "الليلة 286،ص 459 ج 1" تعيد تشكيل اعتبارات الخلافة، كما كانت مألوفة حتى أن الرشيد كما يعرض له الراوي يقول (والله إن هذا الجالس لم يترك شيئا من شكل الخلافة) بوزرائه وندمائه وموكبه. فهو في الزورق معه المنادي المحذر الآمر بلسان السلطة بانتفاء الملك العام واستئنافه خاصة بعدما ظهرت رغبة السلطان ودانت. ولهذا لم يعد الدجلة نهرا عاما عندما جال فيه الزورق. أما القارب نفسه ففيه حملة مشاعل من (الذهب الأحمر) يقول الراوي: رأوا في مقدم الزورق رجلا بيده مشعل من الذهب الأحمر وهو يشعل فيه بالعود القافلي وعلى ذلك قباء من الأطلس الأحمر وعلى كتفه مزركش أصفر وعلى رأسه شاش موصلي وعلى كتفه الآخري مخلاة من الحرير الأخضر ملآنة بالعود القافلي يوقد منها المشعل عوضا عن الحطب، ورأى رجلا آخر في مؤخر الزورق لابسا مثل لبسه وبيده مشعل مثل المشعل الذي معه ورأى في الزورق مئتي مملوك واقفين يمينا وشمالا ووجد كرسيا من الذهب الأحمر منصوبا وعليه شاب حسن جالس كالقمر وعليه خلعة سوداء بطرازات من الذهب الأصفر بين يديه انسان كأنه الوزير جعفر وعلى رأسه خادم واقف كأنه مسرور وبيده سيف مشهور ورأى عشرين نديما.

أي أن مواصفات الثراء والحضور هي مكونات (الخلافة) عند العباسيين أيام ازدهار النعمه ورفاه المجتمع (7)، فأصبحت السلطة تترادف مع الذهب والندماء والوجاهة وطقوس الحضور الجلوس، فتعامل معها الروي بانسياب بالغ وكأنها أمر متعارف عليه، لكنها تظهر في السرد وكأنها بعض من (حلة الواقع) التي تسقط صفة التماثل والمشاكلة بين الواقع وبين الحكاية، وسواء كانت الحكايات تتطابق مع التاريخ أو تتباعد عنه، فإنها تحتمل المشاكلة معه كثيرا من خلال هذا الوصف.

وتعد (مرآة العرض) و(التمثيل ) من بين أبرز سبل التشاكل في الكتابة وأكثرها قدرة على مد الجسر مع الواقع والتاريخ: فالخليفة يرى نفسه في غيره يستعرض الأمر والنهي والانفاق والغطرسة والملك واللذة والعطايا والهبات والندماء، كما يزاول السلطة يوميا.

ولما يقوله جحظة البرمكي (معجم الأدباء م 1، ج 2) في تمييز وضعه الأدنى عن غيره ما يشير الى هذه المرتبية ومواصفاتها:

الحمد لله ليس لي كاتب

ولا على باب منزلي حاجب

ولا حمار إذا عزمت على

ركوبه قيل: جحطة راكب

ولا قميص يمون لي بدلا

مخافة من قميصي الذاهب

وعند نزول المراقبين (الرشيد وصحبه) من المركب، دخلوا من باب السر الى البستان، ومنه كان ما يلي:

"فلما وصلوا الى البساتين رأوا زربية فرسا عليها الزورق واذا بغلمان واقفين ومعهم بغلة مسرجة ملجمة فطلع الخليفة الثاني وركب البغلة.. وسار بين الندماء".

ولا يسمح الخليفة بحضور مجلسه الا لمن يقدم المتعة والفرجة، كالنديم والقينة ويحق للغريب ذلك عندما يرى الخليفة فيه ما يسره، ولهذا كان الجوهري يسمح بذلك أيضا لكنه يغتاظ من التشاور، فصاح بهما (بالرشيد وجعفر وهما بلباس التجار): المشاورة عربدة. وبدأت بعد ذلك طقوس اللذة وكلما ضرب الجوهري بقضيب على مدورة، (واذا بباب فتح وخرج منه خادم يحمل كرسيا من العاج مصفحا بالذهب الوهاج وخلفه جارية بارعة في الحسن والجمال والبهاء والكمال فنصب الخادم الكرسي).

والطقوس الخاصة بالغناء تتكرر في الليالي، في حكاية علي بكار وشمس النهار، كما هو الأمر في الحمال وثلاث بنات، أو كما هو الأمر في نوبة زوج علاء الدين ابي الشامات، أو في مقصورة بستان الخليفه بين علي نور الدين وأنيس الجليس. (8)

وتمتد طقوس الغناء والرقص امتدادا واسعا في فضاءات الزمان والمكان، وتتشاكل كثيرا مع ما يجيء في الأغاني لابي الفرج، كما تتكرر أبيات الشعر وطرائق الغناء لدرجة تتماهي فيها الطقوس وتتداخل الحكاية بما هو تأريخي، فالخليفة هناك دائما يبحث عن (نوبة عظيمة)، فعملت لهم زوجة (نوبة على العود ترقص الحجر الجلمود فباتوا في هناء وسرور ومسامرة الى أن طلع الصباح )، لكن طقوس الفناء في مقصورة الخليفة الثاني لها امتدادها في الفضاء البغدادي العباسي، فأهل بغداد (يقولون الشراب بلا سماع ربما أورث الصداع) والسماع يقترن بالجواري والقيان والاماء الشواعر الذين كانوا يشكلون وضعا خاصا في حياة البلاط والموسرين: فثمة وقائع وتبعات ومعرفة وتلقين ومنافسة وتضحية ومكيدة داخل هذه الأجواء التي تكاد تكون الجانب (الانحطاطي) لحضارة نضجت بسرعة لدرجة التفسخ والانهيار؟ فالقينة ينبغي أن تكون جميلة جسدا وصوتا، (كالشمس الضاحية في السماء الصاحية )، لها معرفة بالعود (فوضعته في حجرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها وغنت عليه.. وقلبت أربعا وعشرين طريقة… ثم عادت الى طريقتها الأولى ) (9)، فتنشد ما يطرب ويثير الجسد، وتكون استجابة (المستقبل) جسدية هي الأخرى، كشق الثوب والصراخ، وتأتي بعدها الثانية والثالثة… الخ.

أما انتهاء هذا التجسير فيتم في حالة الوعي الكلي بالسلطة عند ذلك تختفي الرغبة في الموسيقى والغناء والحكي وتحل أخرى بديلة لا يسع الندماه والمغنون الا الانصياع لها. اذ تفرض التركيبة المرتبية للمجتمع البطريقي أنماطا سلوكية معينة، والتزامات محددة،وعلى الرغم من أن (الندماء) الذين يلجأ اليهم خلفاء بني العباس طلبا للذة والمسامرة والظرف يعدون من الحاشية بهذا الشكل أو ذاك، إلا أنهم يتهيبون من تجاوز الحدود، عارفين بأن المزاج الحاد للخلفاء الذي توجده السلطة غير المحدودة والسيطرة على المال العام وقد يقود الى مقتلهم أو تعذيبهم وهو ما تكرر كثيرا. وهكذا فبينما كانت الجارية الشاعرة فضل تمر على شاعر الترف والخلاعة سعيد بن حميد اعتذرت عن المكوث عنده وهو المتيم بها لبعض الوقت وقالت:

قد جاءني وحياتك رسول الخليفة، وليس يمكنني الجلوس عندك، وكرهت أن أمر ببابك ولا أراك.

فكان جوابه شعرا على البديهة:

قرب ولم نرج اللقاء ولا نرى

لنا حيلة يدنيك منا احتيالها

فأصبحت كالشمس المنيرة ضوؤها

قريب ولكن أين منا منالها؟ (10)

فكلما كان البلاط هو الممتد الى الآخرين، ضاقت الحياة، وقلت الفرصة، وصعب المنال، وتعقدت الآمال والعواطف ومثل هذه المخاوف من قبل الجارية ومثلها مخاوف سعيد بن حميد لها رصيدها التاريخي كما تدلل قضية عنان جارية النطافي التاجر مثلا:

وعلى الرغم من أن المؤرخين يعرضون لقضية قلق أصحاب المال والموسرين خشية ضياع نسائهم ونفاد أهوالهم وكأنها قضية محض (اقتصادية)، كما يفعل ابن عبد ربه مثلا (11)، الا أن المعلومات الأخرى التي ترد على صفحات سابقة أو تالية توضح أيضا الأسباب الأخرى لمثل هذا الخوف من الضياع وفقدان الثروات واذ ينعم هؤلاء بحياة باذخة في قصور فخمة ومفروشة، وبمباهج الطعام والفناء والجواري والمنادمة، يشتد مثل هذا القلق، وتصبح الحاجة ماسة الى مد الجسور مع السلطة، وهكذا تأتي الف ليلة وليلة لتختصر هذه المسافة في التفسير بهدوء عابث ما دامت تعوزها صنعة المناطقة والمحللين والمفسرين، ففي حكاية أبي قير وأبي صير يقول القبطان لأبي صير (كل ذي نعمة محسود – الليلة 938، ص 513)، بينما تحذر أم الصيرفي الخراساني أبا الحسن من انشغاله بمحظية المتوكل (اياك ان تتعرض لها فتهلك – الليلة 961، ص 546). لكنه مدفوع بالعشق لذاته من جانب وحريص على بلوغ السلطان من أجل ذلك أيضا: ولهذا تقول الحكاية ان المتوكل سأل شجرة الدر (كيف تختارين علي بعض أولاد التجار)، لكنها اعتذرت له بـ (العشق)؛ اذ يقول له الخراساني (حملني على ذلك جهلي والصبابة والاقبال على عفوك وكرمك )، فما دام التاجر ظريفا وعارفا بقدره ومقبلا على عفو الخلافة سهلت أموره وتيسرت وجيء به طبعا الى السلطة، ويعكسه فالمغامرة مهلكة والمصادرة متوقعة، (الليلة 963، ج 2، ص 550).

وعندما يتعلل التاجر بالعشق والظرف فإنه يتخلى ظاهرا في الأقل عن موقعه الاجتماعي ليذهب الى آخر، هو امتياز الظريف والعاشق. واذ تتيح (المرونة الاجتماعية) مثل هذا الامتياز لم يبد الاستغراب على الخليفة. اذ يقول الوشاء أبو الطيب محمود بن اسحق في الظرف (ربما تكلفه قوم ليس من أهله فظرف وعاناه فلطف) (12). كما أن العشق له مرجعيته وتقدم مثل هذه المرجعية التبرير، فالعاشق معذور عند بني العباس، وهو في هذا لم يعد من أهل السوق الذين أخرجهم أبو جعفر المنصور من مدينته المدورة مخلين إياها للشرط والحرس. (13)

وحكاية الشاب البغدادي مع قهرمانة السيدة شغب أم المقتدر التي أوردتها الليلة 27ص 84 في الحكاية على أنها زبيدة، تمتلك في تكييفاتها وأصولها متنا واسعا مليئا بالقرائن والأوصاف: لكن هذه القرائن لا تعرض فقط لمسعى الجواري للزواج والاستقرار، ولا لطبيعة القصور ودواخلها وأنظمتها فحسب، وانما تعرض أساسا لذلك التجسير بين السوق والبلاط: فرغبة الجارية في بلوغ الزواج من شاب يمتلك المال والجمال والأدب هي ما ترتضي به السيدة شغب، والجارية لا ترى من يقدر على الايفاء بالتزامات طموحاتها غير التاجر ما دام البلاط صعب المنال من جراء المرتبية فيه التي لم تختف رغم ذيوع التسري بالاماء.

أما التاجر فهو وريث مال أبيه ووصاياه ضد الاسراف، لكنه وجد نفسه مأخوذا بحب الجارية، فضاعت أهواله في مشترياته لسد طلباتها التي لم تدفع عنها بعد. أي أن التاجر الشاب لم يزل بعد حديث العهد على التجارة، مأخوذا بالعشق، غير عابيء بالمخاطرة، وبعد ما تأخرت الجارية في السداد، كثرت ديونه وباع ما لديه وأوشك على الافلاس والدمار، ودخلته الريبة في وجود احتيال عليه. أي أن هذا النمط من التجار هو المجازف من أجل العشق على خلاف التجار المتمرسين في حكاية علي شار الذين فروا الى البصرة بعدما عرفوا بعلاقته بجارية الخليفة، ومثل هذا التاجر مسموح به. يتواضع من أجل الفوز بالعشيقة التي يتمناها ويضحي بماله لأجلها. وهو لم يحترف بعد المجازفة، ولهذا بقي شخصية (حكائية)، متقلبة قلقة، منادمة،، تلوم نفسها عند الشدائد، ولهذا يقول في مجرى الحكي المتدفق عندما وضعوه في الصندوق لتهريبه الى داخل القصر لكي ترده أم الخليفة وتوافق عليه: (قتلت نفسي لشهوة)، وتنهمر كلمات الملامة والتشجيع الذاتي والنذور في مثل هذا المأزق، كما يتدفق السرد غير عابيء بـ (المستفضح ) في القول والسلوك ؟ فهو في الموقف الخطير يبول خوفا (وبلت فزعا، فجرى البول من خلل الصندوق ). والجارية لم تستغرب ذلك، وانما أفادت منه في خداع رئيس الخدم، فالتاجر الشاب ليس فارسا، والذي يقبل بالصناديق وسيطا لبلوغ القصر محب من نوع آخر، العشيق الذي ظهر في أيام الرخاء وسعة النعمة وتعاظم الشهوة والدلال والظرف. ولهذا صادقت السيدة شغب عليه (فتأملتني وقالت: ما اخترت يا فلانة إلا حسن الوجه والأدب ) فشكله لا فروسيته وظرفه لا قتاله هما المقياسان اللذان يتيحان للتاجر الشاب تجسير المسافة مع محظيات القصر، والتاجر في هذا الأمر سلبي، فالأخرى هي التي اختارته (ما اخترت يا فلانة الا…)، ولهذا فإنه رغم حسن وضعه التالي لم يهجر التجارة، ففيها مستقبله مادام قادرا عليها ضعيفا في غيرها، وبضمنها اختيار الزوجة:

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبدالباقي البزاز، عن أبي قاسم علي بن عبدالمحسن النتوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبوالفرج أحمد بن عثمان بن إبراهيم الفقيه المعروف بابن النرسي، قال كنت جالسا بحضرة أبي وأنا حدث وعنده جماعة، فحدثني حديث وصول النعم الى الناس بالألوان الطريفة، وكان ممن حضر صديق لأبي فسمعته يحدث أبي، قال: حضرت عند صديق لي من التجار كان يحزر بمائة ألف دينار في دعوة، وكان حسن المروءة، فقدم مائدته وعليها ديكيريكة، فلم يأكل منها فامتنعنا، فقال: كلوا فإني أتأذى بأكل هذا اللون، فقلنا: نساعدك على تركه، قال: بل أساعدكم على الأكل واحتمل الأذى، فأكل فلما أراد غسل يديه أطال، فعددت عليه أنه قد غسلها أربعين مرة، فقلت: يا هذا وسوست ؟ فقال: هذه الأذية التي فرقت / منها فقلت: وما سببها ؟ 472/ب فامتنع من ذكره، فألمحت عليه، فقال: مات أبي وسني عشرون سنة، وخلف لي نعمة صغيرة، ورأس مال ومتاعا في دكانه، وكان خلقانيا في الكرخ، فقال لي لما حضرته الوفاة: يا بني أنه لا وارث لي غيرك ولا دين على ولا مظلمة فإذا أنا مت فأحسن جهازي وتصدق عني بكذا وكذا، وأخرج عن حجة بكذا وكذا، وقال وبارك الله لك في الباقي، ولكن احفظ وصيتي. فقلت: قل ؛ فقال: لا تسرف في مالك فتحتاج إلى ما في أيدي الناس ولا تجده، واعلم أن القليل مع الإصلاح كثير، والكثير مع الفساد قليل، فالزم السوق وكن أول من يدخلها وآخر من يخرج منها، وإن استطعت أن تدخلها سحرا بليل فافعل فإنك تستفيد بذلك فوائد تكشفها لك الأيام.ومات، وأنفذت وصيته وعملت بما أشار به، وكنت أدخل السوق سحرا وأخرج منها عشاء، فلا أعدم من يجيئني من يطلب كفنا فلا يجد من قد فتح غيري فأحكم عليه ومن يبيع شيئا والسوق لم تقم فأبيعه له وأشياء من الفوائد، ومضى على لزومه السوق سنة وكسر، فصار لي بذلك جاه عند أهلها، وعرفوا استقامتي فأكرموني، فبينا أنا جالس يوما ولم يتكامل السوق إذا بامرأة راكبة حمارا مصريا وعلى كفله منديل دبيقي وخادم، وهي بزي القهرمانة فبلغت آخر السوق، ثم رجعت فنزلت عندي، فقمت اليها وأكرمتها، وقلت: ما تأمرين ؟ وتأملتها فإذا بامرأة لم أر قبلها ولا بعدها الى الآن أحسن منها في كل شي ء، فقالت: أريد كذا ثيابا طلبتها، فسمعت نغما ورأيت شكلا قتلني وعشقتها في الحال أشد العشق، فقلت:

أصبري حتى يخرج الناس فآخذ لك ذلك فليس عندي إلا القليل مما يصلح لك، فأخرجت الذي عندي وجلست تحادثني والسكاكين في فؤادي من عشقها وكشفت عن أنامل رأيتها كالطلع، ووجه كدارة القمر، فقمت لئلا يزيد علي الأمر، فأخذت لها من السوق ما ارادت وكان ثمنه مع مالي نحو خمسمائة دينار، فأخذته وركبت ولم تعطني شيئا وذهب عني لما تداخلني من حبها أن أمنعها من المتاع إلا بالمال وأستدل على منزلها ومن دار من هي، فحين غابت عني وقع لي أنها محتالة، وأن ذلك سبب فقري فتحيرت في أمري وقامت قياستي وكتمت خبري لئلا افتضح بما للناس علي، وعملت على بيع ما في يدي من المتاع واضافته الى ما عندي من الدراهم ودفع أموال الناس اليهم ولزوم البيت والاقتصار على غلة العقار الذي ورثته عن أبي، ووطنت نفسي على المحنة، وأخذت أشرع في ذلك مدة أسبوع، وإذا هي قد نزلت عندي، فحين رأيتها أنسيت جميع ما جرى علي وقمت اليها، فقالت: يا فتى تأخرنا عنك لشغل عرض لنا، وما شككنا في أنك لم تشك أننا احتلنا عليك ؟ فقلت: قد رفع الله قدرك عن هذا، فقالت: هات التخت من الطيار، فاحضرته فأخرجت دنانير عتقا فوفتني المال بأسره، وأخرجت تذكرة بأشياء آخر فأنقذت الى التجار أموالهم، وطلبت منهم ما أرادت، وحصلت أنا في الوسط ربحا جيدا، وأحضر التجار الثياب فقمت وثمنتها معهم لنفسي، ثم بعتها عليها بربح وأنا في خلال ذلك أنظر اليها نظر تألف من حبها، وهي تنظر الي نظر من قد فطن بذلك ولم تنكره، فهممت بخطابها ولم أقدم فاجتمع المتاع وكان ثمنها ألف دينار، فأخذته وركبت ولم أسألها عن موضعها، فلما غابت عني، قلت: هذا الآن هو الحيلة المحكمة، أعطتني (خمسة آلاف درهم) وأخذت ألف دينار، وليس إلا بيع عقاري الآن والحصول على الفقر المدقع، ثم سمحت نفسي برؤيتها مع الفقر وتطاولت غيبتها نحو شهر، وألح التجار علي المطالبة فعرضت عقاري على البيع ولازمني بعض التجار، فوزنت جميع ما كنت أملكه ورقا وعينا، فأنا كذلك إذ نزلت عندي، فزال عني جميع ما كنت فيه برؤيتها فاستدعت الطيار والتخت فوزنت المال ورمت الي تذكرة يزيد ما فيها على ألفي دينار بكثير، فتشاغلت بإحضار التجار ودفع أموالهم اليهم وأخذ المتاع منهم، وطال الحديث بيننا، فقالت: يا فتى لك زوجة ؟ فقلت: لا والله ما عرفت امرأة قط، وأطمعني ذلك فيها، وقلت: هذا وقت خطابها والإمساك عنها عجز، ولعلها تعود أو لا تعود وأردت كلامها فهبتها وقمت كأني أحث التجار على جمع المتاع، وأخذت يد الخادم وأخرجت له دنانير وسألته أن يأخذها ويقضي لي حاجة.

فقال: أفعل وأبلغ لك محبتك، ولا آخذ شيئا، فقصصت عليه قصتي وسألته توسط الأمر بيني وبينها، فضحك وقال: إنها لك أعشق منك لها، والله ما بها حاجة الى أكثر هذا الذي تشتريه، وإنما تجيئك محبة لك وتطريقا الى مطاولتك فخاطبها بظرف ودعني فإني أفرغ لك من الأمر، فجسرني بذلك عليها فخاطبتها. وكشفت لها عشقي ومحبتي، وبكيت فضحكت وتقبلت ذلك أحسن تقبل، وقالت: الخادم يجيئك برسالتي.، ونهضت ولم تأخذ شيئا من المتاع فرددته على الناس وقد حصل لي مما اشترته أولا وثانيا ألوف دراهم ربحا، ولم يحملني النوم تلك الليلة شوقا اليها وخوفا من انقطاع السبب، فلما كان بعد أيام جاءني الخادم فأكرمته وسألته عن خبرها، فقال. هي والله عليلة من شوقها اليك، فقلت: اشرح لي أمرها؟ فقال: هذه مملوكة السيدة (أم المقتدر، وهي من أخص جواريها بها واشتهت رؤية الناس والدخول والخروج. فتوصلت حتى جعلتها قهرمانة، وقد والله حدثت السيدة بحديثك ) وبكت بين يديها، وسألتها أن تزوجها منك فقالت السيدة: لا أفعل أو أرى هذا الرجل، فإن كان يستاهلك وإلا لم أدعك ورأيك، ويحتاج في إدخالك الدار بحيلة، فإن تمت وصلت بها إلى تزويجها وإن انكشفت ضربت عنقك في هذا، وقد نفذتني اليك في هذه الرسالة وقالت لك: إن صبرت على هذا وإلا فلا طريق لك والله الي ولا لي اليك بعدها.

فحملني ما في نفسي أن قلت: أصبر، فقال: إذا كان الليل فاعبر الى المخرم فادخل الى المسجد وبت فيه، ففعلت، فلما كان السحر إذا أنا بطيار قد قدم وخدم قد رقوا صناديق فرغ فحطوها في المسجد وانصرفوا، وخرجت الجارية فصعدت الى المسجد ومعها الخادم الذي أعرفه، فجلست وفرقت باقي الخدم في حوائج، واستدعتني فقبلتني وعانقتني طويلا، ولم أكن نلت ذلك منها قبله، ثم أجلستني في بعض الصناديق وقفلته، وطلعت الشمس وجاء الخدم بثياب وحوائج من المواضع التي كان أنقذتهم اليها، فجعلت ذلك بحضرتهم في باقي الصناديق وقفلتها وحملتها الى الطيار وانحدروا، فلما حصلت فيه ندمت وقلت:

قتلت نفسي لشهوة وأقبلت ألومها تارة وأشجعها أخرى وأنذر النذور على خلاصي، وأوطن نفسي مرة على القتل الى أن بلغنا الدار، وحمل الخدم الصناديق، وحمل صندوق الخادم الذي يعرف الحديث، وبادرت بصندوق أمام الصناديق وهي معه والخدم يحملون الباقي ويلحقونها، فكل ما جازت بطبقة من الخدم والبوابين قالوا نريد نفتش الصندوق فتصيح عليهم، وتقول: متى جرى الرسم معي بهذا؟ فيمسكون وروحي في السياق الى أن انتهت الى خادم خاطبته هي بالأستاذ، فعلمت أنه أجل الخدم فقال: لابد من تفتيش الصندوق الذي معك، فخاطبته بلين وذل، فلم يجبها وعلمت أنها ما ذلت له ولها حيلة وأغمى علي، وأنزل الصندوق للفتح، فذهب على أمري وبلت فزعا، فجرى البول من خلل الصندوق، فصاحت: يا أستاذ، أهلكت علينا متاعنا بخمسة آلاف دينار/ في الصندوق ثياب مصبغات وماء، ورد قد انقلب على الثياب والساعة تختلط ألوانها وهي هلاكي مع السيدة فقال لها: خذي الصندوق الى لعنة الله، أنت وهو ومري، فصاحت بالخدم احملوه.

وأدخلت الدار فرجعت الى روحي، فبينما نحن نمشي إذ قالت: ويلاه، الخليفة والله فجاءني أعظم من الأول، وسمعت كلام خدم وجوار وهو يقول من بينهم ويلك يا فلانة ايش في صندوقك ؟ أريني هو، فقالت ثياب لستي يا مولاي والساعة أفتحه بين يديها وتراه، وقالت للخدم أسرعوا ويلكم، فأسرعوا وأدخلتني الى حجرة وفتحت عني وقالت: أصعد هذه الدرجة الى الغرف واجلس فيها، وفتحت بالعجلة صندوقا آخر فنقلت بعض ما كان فيه الى الصندوق الذي كنت فيه وقفلت الجميع، وجاء المقتدر وقال: افتحي، ففتحته فلم ير منه شيئا وخرج، فصعدت الي وجعلت ترشفني وتقبلني، فعشت ونسيت ما جرى، وتركتني، وقفلت باب الحجرة يومها، ثم جاءتني ليلا فأطعمتني وسقتني وانصرفت، فلما كان من غد جاءتني، فقالت: السيدة الساعة تجيء فانظر كيف تخاطبها. ثم عادت بعد ساعة مع السيدة،فقالت: انزل، فنزلت فإذا بالسيدة جالسه على كرسي وليس معها إلا وصيفتان وصاحبتي، فقبلت الأرض وقمت بين يديها، فقالت اجلس، فقلت: أنا عبد السيدة وخادمها وليس من محلي أن أجلس بحضرتها، فتأملتني وقالت: ما اخترت يا فلانة إلا حسن الوجه والأدب.

ونهضت فجاءتني صاحبتي بعد ساعة وقالت: أبشر فقد أذنت لي والله في تزويجك، وما بقي الأن عقبة إلا الخروج، فقلت يسلم الله فلما كان من الغد حملتني في الصندوق فخرجت كما دخلت مخاطرة أخرى وفزع نالني، ونزلت في المسجد ورجعت الى منزلي فتصدقت وحمدت الله على السلامة، فلما كان بعد أيام جاءني الخادم ومعه كيس فيا ثلاثة آلاف دينار عينا، وقال أمرتني ستي بإنفاذ هذا اليك من مالها، وقالت: تشتري به ثيابا ومركوبا وخدما، وتصلح به ظاهرك وتعال يوم الموكب الى باب العامة وقف حتى تطلب، فقد وافق الخليفة أن أتزوجك بحضرته، فأجبت عن رقعة كانت معه، وأخذت المال واشتريت ما قالوا بيسير منه، وبقى الأكثر عندي، وركبت الى باب العامة في يوم الموكب بزي حسن وجاء الناس فدخلوا الى الخليفة، ووقفت الى أن استدعيت، فدخلت فاذا أنا بالمقتدر جالس والقواد والقضاة والها شميون، فهبت المجلس وعلمت كيف أسلم وأقف، ففعلت فتقدم المقتدر الي بعض القضاة الحاضرين فخطب لي وزوجتي، وخرجت من حضرته، فلما صرت في بعض الدهاليز قريبا من الباب عدل بي الى دار عظيمة مفروشة بأنواع الفرش الفاخرة، وفيها من الآلات والخدم والأمتعة والقماش كل شيء لم أر مثله قط، فأجلست فيها وتركت وحدي وانصرف من أدخلني، فجلست يومي لا أرى من أعرفه، ولم أبرح من موضعي إلا الى الصلاة، وخدم يدخلون ويخرجون، وطعام ينقل، وهم يقولون: الليلة تزف فلانة – باسم صاحبتي الى زوجها البزاز فلا أصدق فرحا فلما جاء الليل أثر في الجوع، وقفلت الأبواب ويئست من الجارية فقمت أطوف الدار، فوقفت على المطبخ ووجدت الطباخين جلوسا، فاستطعمتهم فلم يعرفوني، وقدرني بعض الوكلاء، فقدموا الي هذا اللون من الطبيخ مع رغيفين فأكلتهما وغسلت يدي بأشنان كان في المطبخ وقدرت أنها قد نقيت، وعدت الى مكاني، فلما جن الليل إذا طبول وزمور وأصوات عظيمة، واذا بالأبواب قد فتحت وصاحبتي قد أهديت الي، وجاءوا بها فجلوها علي وأنا أقدر أن ذلك في النوم فرحا، وتركت معي في المجلس وتفرق الناس.

فلما خلونا تقدمت اليها فقبلتها وقبلتني فشمت لحيتي فرفستني فرمت بي عن المنصة، وقالت: أنكرت أن تفلح يا عامي يا سفلة، وقامت لتخرج، فقمت وعلقت بها وقبلت الأرض ورجليها، وقلت: عرفيني ذنبي واعملي بعده ما شئت، فقالت: ويحك أكلت فلم تغسل يدك، فقصصت عليها قصتي، فلما بلغت الى آخرها قلت علي وعلي فحلفت بطلاقها وطلاق كل امرأة أتزوجها، وصدقة مالي وجميع ما أملكه والحج ماشيا على قدمي، والكفر بالله، وكل ما يحلف المسلمون به لا أكلت بعدها ديكيريكة إلا غسلت يدي أربعين مرة، فأشفقت وتبسمت وصاحت يا جواري، فجاء مقدار عشر جوار ووصائف، وقالت: هاتوا شيئا نأكل، فقدمت ألوان طريفة وطعام من أطعمة الخلفاء، فأكلنا وغسلنا أيدينا ومضى الوصائف، ثم قمنا الى الفراش فدخلت بها وبت بليلة من ليالي الخلفاء، ولم نفترق أسبوعا، وكانت يوم الأسبوع وليمة هائلة اجتمع فيها الجواري، فلما كان من غد قالت: ان دار الخلافة لا تحتمل المقام فيها أكثر من هذا فلولا أنه استؤذن فأذن بعد جهد لما تم لنا هذا لأنه شيء لم يفعل قبل هذا مع جارية غيري لمحبة سيدتي لي، وجميع ما ترده فهو هبة من السيدة لي، وقد أعطتني خمسين ألف دينار من عين وورق وجوهر ودنانير وذخائر لي خارج القصر كثيرة من كل لون، وجميعها لك فاخرج ال منزلك وخذ معك مالا واشتر دارا سرية واسعة الصحن فيها بستان كبير كثير الشجر فاخر الموقع وتحول اليها وعرفني لأنقل هذا كله اليك، فإذا حصل عندك جئتك، وسلمت الي عشرة آلاف دينار عينا فحملها الخادم معي فابتعت الدار وكتبت اليها بالخبر، فحملت الى تلك النعم بأسرها فجميع ما أنا فيه منها، فأقامت عندي كذا وكذا سنة أعيش معها عيش الخلفاء ولم أدع مع ذلك التجارة، فزاد مالي، وعظمت منزلتي، وأثرت حالي وولدت لي هؤلاء الفتيان، وأومأ الي أولاده، ثم ماتت رحمها الله تعالى وبقي علي من مضرة الديكيريكه حاضرا ما شاهدته.(14)

ومتى ما أعيدت قراءة النصوص المعنية بالتجار في ألف ليلة وليلة، وبخاصة في حكايات ابي الحسن مع علي بن بكار وشمس النهار (الليلة 152، ص 329) ومحمد علي الجوهري (286، ص 459)، ومحمد الكسلان وجوهرة السيدة زبيدة (ليلة 301، ص 473)، لظهرت أيضا حالة تباعد بين التاجر والخلافة، وهي حالة تنبني على أساس العلاقة بين المال والسلطة، الملكية والوجاهة، والخوف والحاجة، الرغبة والمستحيل: وشأن الثنائيات العديدة في الحكايات فإن توتر الأحداث يتأتى من الانشداد بين قطبين، فالتاجر يتوق الى القصر، والقصر يغريه المال الموجود، والأول يخشى ضياع ماله وحاله، والثاني يمسك بالسوط للكبح والتحريم والمصادرة في غياب القانون، فإذا رغبت السيدة في الجوهرة كان على التاجر الموافقة، واذا أراد الرشيد جارية النطافي فلابد من ذلك، واذا أرادت دنيا طرد الجوهري حصل لها ذلك، وأبو الحسن يدرك أن تجاوز الخط الأحمر خطر ما بعده خطر ولهذا يفر بعياله وماله. وغالبا ما يقترن الخوف بأشخاص معينين بالرشيد والمتوكل وبمحمد بن سليمان الزيني، بينما تختفي حالة الخوف مع المأمون وشقيقه أبي عيسى (مكاتبة مع جارية علي بن هشام مثلا في الليلة 413، ص 1594، أومن البرامكة وخالد بن عبدالله القسري. وعلى الرغم من أن بعض ما يخص المنصور وغيره أسقط على الرشيد، الا أن مناخ الليالي يفضي دائما الى مثل هذا الانشداد بين الخوف والمتعة كلما كان الأمر يتعلق برغبة السلطان في امتلاك ما لدى التاجر: وغالبا ما يخشى الأخير المفاجآت، لكنه يبقى منشدا الى مجالس الجاه، وهكذا يصبح مادة للحكاية، كما هو عليه في الواقع وما يورده كشاجم (15) في أدب النديم عن الجوهري نديم اسحق بن ابراهيم أيام المتوكل انما يعيد تأكيد المواصفات الأساس لفضاء حكايات التجار في ألف ليلة وليلة. فالتاجر صديق لاسحاق، كما أنه من (جلة التجار ووجوههم)، ولهذا عظمت منزلته (ولم يكن أحد يتجاوزه في الحظوة): لكنه فوجيء بصديقه أمير بغداد الباحث عن الاسرار اسحق بن ابراهيم يدعو الجلادين والسياط آمرا بتجريد الرجل، واضعا اياه بين (العقابين) حتى لحقه خوف عظيم، سائلا دون نتيجة عن ذنبه. وبعد أن لحقه (من الرعب والهيبة ما أنساه الدالة والندام) والماضي كله قال له:

فص عندك من حاله وقصته كيت وكيت. قال: أحضره، فليأمر الأمير باطلاقي حتى آتى به. قال: لا سبيل الى ذلك.

فدعا بدواة وقرطاس وكتب وهو في الحال الى ثقته في منزله، وتقدم اليه بالتوجيه بالفص فاحضره وجعله اسحق في منديلي وختم عليه وانفذه، ثم قام بنفسه الى الرجل فتولى حل وثاقه بيده وأعتقه. وخلع عليه فاخر من كسوته.

وقال: لم يكن في حق السلطان الا مارأيت، ولو لم أفعل ما فعلته لما أمنت دالتك ولا كنت أراك تخرج مثل هذه العقدة النفسية.

أي أن الأمير تصرف غير مكتف بما يقدر عليه من مصادرة خشية ان ينتهي الرجل الى الموت اذا ما تردد في الاستجابة لرغبة المتوكل ؛ كما أن (أمر المتوكل باحضار الرجل ومطالبته بالفص ومناظرته بالثمن ) يعني البدء بممارسة الارهاب ضد الرجل (الأمر والاحضار والمطالبة )؛ كما أن الرغبة في (الفص) تعني تغييب الآخرين، فما يمتلكونه يمكن أن يضيع بين لحظة وأخرى لأنه (فص كبير جليل القدر منقطع الشبيه ):

وضاعت هيبة التاجر وعزته ووجاهته لضمان تنفيذ رغبة المتوكل أولا، بما يعني أنها رغبة قاطعة جازمة كالقدر لا تتوقف عند حد، وهي لهذا السبب تبقى الفئات الأخرى قلقة متوترة حذرة، تبالغ في الترف كما تبالغ في الكرم، في البذخ كما في التكافل ؛ بينما تبقى السلطة غامضة غريبة وشديدة العزلة في مثل هذه الحال، وما يبدو لقاريء الحكايات خارج هذه الفضاءات أخيلة وأوهام يعاد تأسيسه وتشكيله واقعا من خلال مثل هذه المقارنات بين الواقعة التاريخية وبين الحكاية، فلابد لمحمد الكسلان أن يأتي بالجوهرة الى السيدة زبيدة، ولابد لأبي الحسن أن يهجر بغداد، ولابد من أن يستمع علاء الدين الى نصيحة أحمد الرتق، فالقدر ضاربا بدون رحمة قد يتجسد في مثل هذه النزوات.

ولا يتكرر الخوف من المصادرة والتهجير اعتباطا في الف ليلة وليلة: فالحكايات تمتد في فضاءات جغرافية وتاريخية وسياسية متقلبة منذ القرن الثاني الهجري، وبينما تستقر الأوضاع لمراحل تزدهر فيها التجارة وتنمو وتتكاثر، وتنجب السلطة داخلها عناصر الاضطراب،تولدها حالات الرفاه والجاه، فالبحث المستفيض والطموح غير المحدود في الاستئثار بكل شيء، ما دامت السلطة توحي للمتمتع بها بأنها تمنحه ما يحلو له، كأنها فص مسحور وبساط طائر، قنديل موعود وحصان سحري: ولهذا كان لا يتورع عندما يركبه الطيش ولا يحد منه العقل الى مصادرة أموال الآخرين، وهو ما يخاف منه علي بن طاهر التاجر في قصة علي بن بكار (الليلة 153، ص 320) مثلا، بينما تنبه الأم ولدها أبا الحسن الصيرفي (الليلة 961، ص 545، ج 2) الا يتصادم مع الخليفة (فتهلك)، وتعرض له حكاية أخرى (ج 1، ص 106) على أنه سلوك الولاة في الاستحواذ على مال الآخرين:

فالتاريخ العباسي في منتصف القرن التاسع مليء بالأخبار في هذا الميدان، ولا يقل عنه التاريخ المملوكي لاحقا في ذكر ما يجري من مصادرة وضياع. اذ كان ابن الجصاص الجوهري على سعه ماله قد تعرض للمصادرة مرتين (908و914) (16)، بينما عرف أحمد الخصيبي الوزير بولعه الذي يضاهي ولع ابن الفرات في ميدان الاستحواذ على مال الآخرين، ولهذا سادت ظاهرة دفن الأموال تحت الأرض وفي المطامير والبساتين كما فعل ابن الجصاص، حيث الجرار الخضر والقماقم المرصصة الرؤوس، أو كما فعلت قبيحة أم المعتز نفسها أي أن ما يظهر في الحكايات استجابة لمنام يوصي بالبحث عن كنز هنا أو هناك كان يتأسس في واقع مليء بالرغبة المضادة للمصادرة:

وبينما كان التجار يشغلون مكانة كبيرة على قمة الرعية بعد أهل الدولة، كما يقول تقي الدين المقريزي في تقسيماته للشعب في مصر، اغاثة الأمة بكشف الغمة، الا أن ظروف الاضطراب والتدهور قادت الى مصادرة أموال التجار، اذ تكرر في مصر أيضا ما كان قد حصل في بغداد؟ بينما وجد أركان الدولة الاسبق أنفسهم أيضا موضوعا للمصادرة، ولم تكن الحكايات التي يتعرض فيها أبناء الوزراء الى العقاب والمطاردة من قبل أشخاص كمحمد بن سليمان الزيني وغيره، غير أخذ وتكييف عما هو ميسور ومعروف على لسان الرواة والمؤرخين.

ومطامير الذهب تحت الأرض والقماقم المرصصة والجرار التي يرد ذكرها عند المؤرخين في ذكر المصادرات وما أدت اليه من إقدام الموسرين على دفن أموالهم تصبح في الحكايات حافزا للفعل والحدث أو استجابة لانقلاب ما في الأحوال تحققه المصادفة وعندما ينز الفضاء بالغرابة وتشتغل المفاجآت في تقويض المنطق الدارج يمكن لقمر الزمان أن يجد تحت جذع شجرة الخروب طابقا تحت الارض فيه ذهب أحمر (الليلة 209، ص 374، ج 1)، كما يمكن لعلي المصري بن الجوهري في الحكاية الواردة في الليلة 428(ص 606ج 1) أن يصيح بالمنادي وأين الذهب، وهو في ذلك البيت المسكون في بغداد، (فما قال له ذلك حتى صب عليه ذهبا كالمنجنيق ~ص 607).

إذ أن الإزدهار لم يكن يلغي القلق والخوف من ضياع النعمة: ولا يتحدد هذا الضياع المحتمل بالمال، بل لربما يتجاوزه الى ما يملكه التاجر من جوار، كما ان الخليفة لا يجد ما يحول دون ذلك غير رغباته وقياساته. فالرشيد يعشق عنانا جارية النطافي، (لولا أن العيون قد ابتذلتك ابتذالا،مشتركا كبيرا لاشتريتك ولكنه لا يصح للخليفه من هذه سبيله) (17)، فهي التي قال فيه أبو نواس:

ما يشتريها إلا ابن زانية وقلطبان يكون من كانا

وليس الجواري فئة واحدة، فالإماء الشواعر يحظين بالامتياز لما في حضورهن من وجاهة ومتعة وظرف، ولهذا يشكل حضورهن لوازم عصر كما أن المتاجرة بهن مربحة وسائدة.

وما يعرض له اليعقوبي في مشاكله الناس لزمانهم (18) حول ولع الناس بالغناء والموسيقى والقيان أيام بعض خلفاء بني العباس ومن شايعهم أو سعى لتقليدهم ومحاكاتهم من اللاحقين أو الولاة والمعاصين ينبغي أن يؤخذ مأخذ التدقيق والتمحيص: فهناك مجتمعان الخاص والعام والأخير يسعى لاستحصال مكانة ما أو حظوة أو – على صعيد الأفراد – المال والجاه أو حتى ما يتيح له الحياة، ولهذا أصبح الغناء والشعر والموسيقى والتعالم من بين الصنائع المطلوبة، كما أصبح التنافس في هذا الميدان شديدا بصفته من لوازم الجاه. وما يظهر عند المسعودي وابي الفرج الأصفهاني والتوحيدي في هذا الميدان كثير يستحق المعالجة. أما في الف ليلة وليلة فإن التنافس بين المغنين والقيان ليس مجردا من ذلك المسعى لكسب المال والحظوة واستحصال العمل.. وما جاء في الليلة 334 مثلا عن اليماني الذي ارتحل نحو بغداد بجواريه الست ينسجم مع الرأي السابق، فالارتحال يبتغي شيئا آخر هو بيع البضاعة مجسدة في الجواري المغنيات اللائي يأتين لشي ء جديد هو امتداح الواحدة لشكلها فنا، فالموسيقي والشعر موضوعان لملاءمة المنافسة بين جمال الاشكال، فالسمراء غير الصفراء، والبيضاء تختلف عن غيرها، ولمثل هذا المقام أمام المأمون مثلا طرافته وجدته، وهو ما يحدو باليماني الى القدوم لكن الجمال لا يقل اغراء، ويصبح امتلاكه نزعة دموية تتسلل في أصول الرغبات والأفعال في الحكاية كما هو أمرها في الواقع. اذ يقول الجاحظ في المحاسن والاضداد عن مثل هذه النزعة:

حدثنا إبراهيم بن اسماعيل عن ابن القداح، قال: كانت للربيع جارية يقال لها "أمة العزيز" فأهداها للمهدي، فلما رأى حسنها وجمالها وهيئتها قال: "هذه لموسى أصلح"، فوهبها له، فكانت أحب الخلق اليه، وولدت له بنيه الأكابر. ثم أن بعض أعداء الربيع قال لموسى انه سمع الربيع يقول: "ما وضعت بيني وبين الأرض مثل أمة العزيز، فغار موسى، فدعا الربيع، فتغدى معه، وناوله كأسا فيها شراب ؛ فقال الربيع: "فعلمت ان نفسي فيها وإني أن رددتها من يدي ضرب عنقي، فشربتها وانصرفت»، فجمع ولده وقال: "اني ميت"، فقال الفضل ابنه: "ولم تقول ذلك، جعلت فداك"؟ قال: "ان موسى سقاني شربة فأنا أجد عملها في بدني"، ثم أوصى بماله ومات في يومه. (19)

وحتى عندما تظهر دلائل تغييب الملكية الجسدية من خلال الرغبة في الآخر (غير الخليفة) أو من خلال الرغبة المنحرفة (بين جاريتين مثلا) فإن صاحب الملك أو الخليفة لا يرى ضيرا في استعادة دور شهريار؛ فهو في مثل هذا الأمر تاجر دموي"، يبتغي الامتلاك القاطع ما دام يمتلك السلطة التي تعوز التاجر الاعتيادي.

وتقترن تقلبات الأمزجة بالرغبة في الابقاء على الملك، مالا وجاها وبشرا واناثا، ولهذا يقترن التقلب بالوشاية والسعاية وفي الحكايات التي يوردها المؤرخون عن موسى الهادي وغيره من بني العباس ما يبرر ذلك القلق الذي يتكرر عند علي بن الحسن الجوهري وعلاء الدين ابي الشامات وغيرهما في أن ما للسيد لا يجوز للعبد: اذ أن الهادي كان يتعامل مع القتل على أنه حقه المطلق، فيسرف فيه، حتى اقترن اسمه بالدم، وهي مزية عامة لدى بني العباس الذين شعروا بعظمة الدولة واسقطوا هيبتها على أنفسهم، فتعاملوا مع التفاصيل والأمور الكبيرة بمعيار واحد، فكثر المال والدم والجاه والفساد والبذخ والخديعة والاتساع والخراب في ثنائيات متناقضة شديدة تفسر معنى الانهيار العاجل لحضارة قوية وغنية ومعقدة ويكفي أن يتناهى الى سمع الهادي خبر محبة بين جاريتين، سحاقيتين، أو بين جارية وأخر، حتى يعجل بالضرب غير عابيء بأمر، ويقول

الجاحظ:

عن علي بن يقطين، قال: كنت عند موسى الهادي، ذات ليلة، مع جماعة من أصحابه إذ أتاه خادم فساره بشيء، فنهض سريعا فقال: "لا تبرحوا": فمضى فأبطأ، ثم جاء وهو يتنفس ساعة، حتى استراح ومعه خادم يحمل طبقا مغطى بمنديل، فقام بين يده، فأقبل يرعد، وعجبنا من ذلك، ثم جلس، وقال للخادم: "ضع ما معك" فوضع الطبق، وقال: "ارفع المنديل" فرفعه فاذا على الطبق رأسا جاريتين لم أر، والله أحسن من وجهيهما قط، ولا من شعورهما، فاذا على رأسيهما الجوهر منظوم على الشعر، واذا رائحة طيبة تفوح فأعظمنا ذلك، فقال:"أتدرون ما شأنهما"؟ قلنا: "لا" قال: بلغني أنهما تحابا، فوكلت هذا الخادم بهما لينهي الي أخبارهما، فجاءني وأخبرني أنهما قد اجتمعا، فجئت فوجدتهما كذلك في لحاف، فقتلتهما، ثم قال: "يا غلام ! ارفع" ورجع في حديثه ، كأنه لم يصنع شيئا. (20)

وسواء كان المقصود بفضاء الحكايات المجتمع البغدادي أو البصري أو القاهري، فإن (السعاية) شكلت جزءا من الحياة السياسية والاجتماعية المتقلبة ؟ ومهما كان مسعى السلطان أو الخليفة للبقاء محايدا أو عادلا فان غياب المؤسسة ومرونة بنية الدولة وتحولها المفاجيء من (عشيرة) الى (دولة) كلها تساعد في بقاء الأوضاع قلقة تتيح التقلبات في الأوضاع، وتعرض الناس الى الصعود والهبوط والموت.

وتظهر علامات (السعاية) في عدد كبير من الحكايات، كحكاية علاء الدين ابي الشامات، أو كحكاية علي بن بكار مع شمس النهار فالتاجر أبو الحسن الجوهري يخشى السعاة فيضيع ماله وأهله، بينما يتعرض علاء الدين الى الموت لولا مسعى آخرين لانقاذه أما نكبة البرامكة فإنها لا تبتعد عن (السعاية) وضعا وسلوكا في مكونات البلاط والدولة. ومن الملاحظ أن عددا كبيرا من المؤرخين والمعنيين بالسياسة وأصول الحكم كانوا يحذرون من السعاة، وكأنهم يسعون للحيلولة دون تعرضهم كما تعرض أمثالهم من قبل ال المطاردة والتجويع والسجن.

ويلوم الطقطقي الدولة العباسية لانشغالها بالسعاة (ما اعتنت دولة بتحصين الاسرار والمبالغة في حفظها كالدولة العباسية، فان لها من هذا الباب عجائب، وكم من نعمة أزالوها عن أربابها، ونفس أزهقوها بسبب كلمة منقولة أو حكاية مقوله ) (21)

وتجري مواجهة مثل هذه النزاعات بإسقاطات مختلفة على المحكي لايجاد العهود والمواثيق وردع النزوات: وبينما يصعب استدراج هذه الكوابح حكائيا للحد من رغبة الخليفة أو قدرته مثلا، فإنها تتضامن مع الهموم الأوسع لدى الفقهاء والكتاب لايجاد الأحكام السلطانية وسياسة الملك وغير ذلك مما يثبت المؤسسات ويحول دون الارتجال والحمق.

ولربما تتخذ المواثيق والاعراف والاتفاقات أشكالا غامضة وذات طبيعة (سرية) أو غرائبية لكنها على الرغم من ذلك تشير الى اتجاهات جادة في المجتمع الوسيط نحو (المدنية)، أي نحو تأكيد المواثيق كخطوة نحو مؤسسات المجتمع المدني التي لم تتحقق بعد، كما أنها لم تتحقق تماما كما تفصح عن ذلك كتابات الماوردي اللاحقة في الأحكام السلطانية: فالمكتوب يسعى للتأسيس ويشير الى غياب ما هو عازم عليه شارح له. لكن الواقع كان يملي بعض الاعراف، وبقيت المواثيق ملزمة، كما هو الأمر بين الشاب البغدادي والتجار، أو كما هو الأمر بين التاجر والعفريت، أو كما هو بين (السمك) أو البشر المسحورين وبين (الصبية) الجميلة التي انشق عنها الحائط: <<يا سمك يا سمك هل أنت عل العهد مقيم ). والسمك يجيب كأنه يستعيد بشريته وانسانيته (نعم نعم. ان عدتم عدنا، وان وفيتم وفينا، وان هجرتم فنحن قد تكافينا). ومهما كانت درجة التلفين في هذه الاجابة وبمعزل عن تكوين القصة الغرائبي عن مملكة مسحورة، فإن الاجابة تحتمل التكافل في العهود والمواثيق (طبعة برل، 1960، ص 108 – 109).

وبقدر ما تعنيه الشروط والمواثيق من أعراف اجتماعية وما تدل عليه من مجتمع يبني لنفسه مواثيقه وعلاقاته في ظرف حركية اجتماعية متبدلة شديدة، فإنها تعني في بناء الحكاية الاستقرار والثبات، وما الخروج عنها قصدا أو انحرافا أو استدراجا، إلا نسف لهذا الاستقرار، واستقدام الاضطراب، أي عودة الحركة ثانية الى الحكاية:

ولنقرأ مثلا حكاية الصبية في الحمال والثلاث بنات، فهي (الليلة 17، ص 47 – 48) تستدرجها عجوز لتدخل قصرا (دهليز مفروشا بالبسط معلقا فيه قناديل موقدة وشموع مضيئة ) ثم قاعة مفروشة حيث يوجد شاب يجري تزويجها منه، فيطلب منها:

(يا سيدتي اني اشرط عليك شرطا، فقلت يا سيدي وما الشرط، فقام واحضر لي مصحفا وقال احلفي لي انك لا تختاري أحدا غيري ولا تميلي اليه فحلفت له على ذلك….).

ثم استدرجتها العجوز الى البزاز الشاب الذي طلب قبلة مقابل قطعة القماش (فلما قبلني عضني عضة قوية حتى قطع اللحم من خدي فغشي علي..) ولربما كانت المصادفة التي تدفع بالعجوز الى تزيين أمر القبلة، ولربما كان ذلك شرطا، ولربما كان الشرط نفسه الذي يضعه الزوج، يشتمل على مثل هذه الاختبارات مرتبة سرا مع العجوز، لكن ما جرى هو خرق لعهد كان السوق هو الغادر به هذه المرة ما دام يشكل فضاء من الاغراء والغواية والمماطلة. ان فعل التجارة متحول متغير له وجوهه واقنعته الكثيرة كما أنه فعل ينتمي بقوة الى المدينة، وما اصرار الشاب على عهد الزوجة الا مسعى من قبله لتثبيت ما تقدر المدينة على التلاعب به والعبث بماله وتفصيلاته اذ يصبح الحمام مساحة (الخليفة) للتلصص، كما فعل المهدي، والجراب مساحة البزاز الشاب للاندساس برأسه واستحصال القبلة – العضة، وسوق الصاغة مساحة الاشتباك بين التجارة والقصر بين التجسير والتباعد؛ وإذ يحفل سوق الجواري بالمقالب والمبيعات التي يشترك فيها الكبير والصغير، ويتآزر المال والجاه والجمال في الاستدراج والمكيدة، وينزوي الظرف عاملا مساعدا لتجسير الهوة ورأب الصدع، يصبح الحرص المبالغ فيه مبررا أو مقبولا فيكون طلب العهود والمواثيق، ويتفجر نقضها في أفعال ثأرية حادة !!




الهوامش

1- الفخري، ص 22.
2 – الصولي، الأوراق، ص 16، وأسواق بغداد ص 335: وكذلك نشوار المحاضرة واخبار المذاكرة للقاضي، ابي علي المحسن بن علي التنوخي، تحقيق عبود الشالجي ج 1، ص 25.
3- الجهشياري، الوزراء، ص 186.
4 – الصابي، تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء (بيروت اليسوعية 1904 )، ص 314: ورسائل الجاحظ (مصر 1324 0)، ط 8 ص 157: وكذلك حمدان الكبيسي، أسواق بغداد (بغداد: الثقافة، 1979)، ص 325.
5 – بولاق، ج ا، ليلة 40، ص 131، وليلة ج 262، ص 432: وليلة 35، ص 120 وليلة 159، ص 230.
6 – الامتاع والمؤانسة ج 3، ص 61.
7 – يقول ايليسيف في الشرق الأوسط في العصر الوسيط، ص 206 ان العباسيين على الصعيد الاجتماعي كانوا ممثلي الارستقراطية وبينهم وبين من ساعدهم على السلطة والمال فارق كبير في الجاه.
8 – طبعة بولاق، الليلة 289، ج 1، ص 461: وص 325، 28: والليلة 257 ص 42742، وص 115.
9 – طبعة بولقت، ص 427 وا46. وتتكرر مثل هذه العبارات في حكاية ابي القاسم، الرسالة البغدادية.
10 – الاماء الشواعر، ص 75.
11 – ابن عبد ربه، شهاب الدين: العقد الفريد (ط 2، القاهرة 1953)، ج 2، ص 212.
12- الموشى، ص 73.
13 – تاريخ الامم والملوك، لابي جعفر محمد بن جريير الطبري (بيروت: دار سويدان )، ج 7، ص 653.
14- ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 13، ص 322 – 329.
15- البصائر والذخائر، ح 4، 18- 19.
16- ابن الأثير، ج 5، ص 344، التنوخي، نشوار المحاضرة، ج 1، 25: مروج الذهب، ج 4، 228.
17 – الاماء الشواعر، لابي الفرج الاصفهاني، تحقيق جليل عطية (دار النضال )، ص 41، 42، 36، 45 بالتعاقب.
18- تحقيق وليم ملورد (بيروت: دار الكتاب الجديد، 1962).
19-1لمحاسن والاضداد، ص 172.
20- المصدر نفسه، 172.
21- الفخري في الأحكام السلطانية، ص 50.


محسن جاسم الموسوي (كاتب وباحث عراقي)



* عن مجلة نزوى
 
أعلى