احمد زين الدين - «الليالـي العربيـة» وأحـلام العربـي المجهضـة

من غير المستغرب أنّ كتاباً يمثّل ذروة جماليات الحكي في التراث العربي، مثل «ألف ليلة وليلة» ما زال ماثلاً في ذاكرتنا الجماعية حتى عصرنا الراهن، بعد أن انصرمت أحقاب طويلة على تدوينه وتداول حكاياته بين الناس. فمثل هذا الكتاب النفيس الذي فتن مخيلة البشر وعقولهم، هو جزء من إرث إنساني عالق في الأذهان ومتوارث بين الأجيال. في صغري سمعت أمشاجاً مبعثرة من قصص هذا الكتاب، وأحياناً كانت قصصاً مرتجلة وملفقة ومنسوبة الى «ألف ليلة وليلة»، لأنها كانت المعين الذي لا ينضب لتوالد الحكايات الشعبية المسلية. وتواترت على ألسنتنا عهذاك، أسماء ابطالها واسماء بلدانها ومدنها وكائناتها الحقيقية والخرافية. وكانت نسخها المعلقة على واجهات المكتبات الشعبية ورفوفها كتباً رخيصة رثّة الورق، سيئة الطباعة، وبدائية الرسوم. لكن «ألف ليلة وليلة» لم تكن في حياتنا كتاباً مثل سائر الكتب نقلّب صفحاته، أو نتحرّى عن نسبه المجهول والغامض، أو معرفة أصوله وجذوره، أو اسم كاتبه أو كتّابه، أو تحديد عصره وزمانه، او تركيبه وبنائه. إنما كانت «ألف ليلة وليلة» فوق هذا وذاك، أشبه برحلة خيالية أثيرية عبر الأزمنة والأمكنة، نتماهى فيها مع شخصياتها المستولية على أفئدتنا وعقولنا، قبل أن نكتشف مع الوقت، معادلها الأدبي ببنيته المفتوحة على سرديات متواصلة متواشجة ومتداخلة، وعلى عوالم وأحداث كأنها منسوجة من أحلامنا الأثيرية تلك. قصص تحيل على قصص أخرى، في سياق فضاء حكائي لا تنغلق دائرته. قصص لا ترتوي ولا تتوقف، لأن راويها إذا ما صمت عن الكلام، كان مصيره الموت. فاستمرار حياته مقرون باستمرار حكايته. قصص غذّت وتغذي خيالنا وأمانينا البشرية وأهواءنا الجامحة المنفلتة من عقالها، أو ما يسميه فرويد «الهو» فنحلّق معها في أجواز الفضاء، ونمخر عُباب البحار، ونتوغل في الغابات الموحشة، ونتعارك مع الضواري والعمالقة، ونرسو على شواطئ الجزر النائية الحقيقية والوهمية. ونمتلك القدرات الخارقة التي نطوي بها المسافات، والكلمة السحرية التي تفتح لنا أبواب الرزق والكنوز المخفية.

هذه الأنماط التعبيرية التخييلية التي تقف «الف ليلة وليلة» على رأسها، تُقرأ اليوم قراءات معاصرة، ومن منظورات مختلفة انتربولوجية وألسنية وسيميائية وسيكولوجية. وقد أضاء المحللون النفسانيون الصور اللاواعية المكبوتة التي تطلقها الأساطير والخوارق والحكايات الشعبية المرتبطة بأحلام اليقظة، وبالميول والنزاعات الداخلية المتصارعة داخل الذات، لا سيما بين الميول التي يوجبها مبدأ الواقع، والميول التي يتطلّبها مبدأ اللذة، إذا ما استخدمنا الثنائية الفرويدية المعروفة.

ومثل كل أنماط الكتابة العجائبية يستحضر نسيج «ألف ليلة وليلة» الحكائي تداعيات واعية ولاواعية تخامر عقل القارئ أو المستمع. تداعيات تشكّل لحظات استيهامية تتيح للمرء أن يخلخل صورة الواقع الرتيبة، وأن يفرّ من عالم القسوة اليومية والمعاناة الوجودية ومرارة الإخفاقات الفردية والجماعية، وأن يتملّص من حبائل العالم وشراكه. ومثل هذا النزوع الخيالي والأسطوري أمارة على مأزومية الفرد وحياته المجهضة، وعلى هزيمة الجماعة، لاسيما عقب الحروب الخاسرة والنكبات العسكرية، كما هو حاصل اليوم في تاريخنا العربي الحديث. (راجع صادق جلال العظم: النقد الذاتي بعد الهزيمة، وأطروحة المغربي شعيب حليفي).
لا يمكن مقاربة «الف ليلة وليلة» مقاربة وحيدة الجانب، أو الإحاطة بها إحاطة جامعة مانعة. فهي ثمرة عصور من الثقافات والأفكار والخيالات التي ترسّبت فيها على مراحل. هي سليلة كتب الرحلات والمغامرات في اصقاع الدنيا البعيدة. الرحلات والمغامرات الحقيقية، او الرحلات والمغامرات المتخيّلة التي ولّدت ما يسميه المستشرق كراتشكوفسكي «الجغرافية الأسطورية»، حيث ينزل الأبطال في بلاد واق الواق، او جبل قاف، او أرض يأجوج ومأجوج، وغيرها من المدن الأسطورية التي تسكنها كائنات غريبة، مثل حوريات البحر والمردة والأقزام والعفاريت.

ثمرة العصور

بُنيت «ألف ليلة وليلة» من طبقات متعددة، ومن عقليات متنوعة متباينة، بيد ان الطبقة الإسلامية هيمنت عليها وعلى أحداثها. فشاعت كرامات الأولياء المسلمين، وذُكرت الآيات القرآنية والسنن النبوية وقصص الأنبياء، ومفاعيل السحر والتنجيم، وأثر الطلاسم والتعاويذ، ورواية الأشعار والحكم الشعبية والأسجاع والأحاجي، والحديث عن الجن وطرائقه. وقد استطاعت «ألف ليلة وليلة» في هيكلها الروائي المركّب والمعقد أن تستوعب أشكالاً حكائية شعبية وأساطير وخرافات من بلدان غريبة ومختلفة، بعد أن صُبغت بالطابع الإسلامي.
وإذا كان ما يميز «ألف ليلة وليلة» هو هذا الطابع. فإن الحكايات المماثلة عند شعوب عديدة، لا تخلو هي الأخرى من صبغة دينية خاصة بها. وقد رأى المحلل النفساني برونو بتلهايم ان الأخوين غريم اللذين جمعا حكايات شعبية أوروبية لم يتوانيا عن إظهار الحقائق المسيحية الموجودة داخل البناء اللاشعوري الديني للجماعات التي أبدعت هذه الحكايات. وعمدت طائفة من علماء اللاهوت المسيحي إلى تحليل هذه الحكايات على ضوء تعاليم مذاهبهم، لا سيما المذهب البروتستانتي، ففسروا على سبيل المثال شخصية الصياد في قصة «ذات القبعة الحمراء» الذي أنقذ الفتاة أنه هو الله الذي عبر بها الى الحياة اللانهائية. أما «ألف ليلة وليلة» فتوجّس منها رجال الدين المسلمون شراً، ولم يعثروا فيها إلا على وصف لحياة الحريم ومكائدهن، وعلى حياة الماجنين، ومظاهر البلاطات الباذخة المترفة، وعلى ضروب من الإثارة والإباحية والشبق الجنسي. وسعوا الى بتر هذه المقاطع المشبوهة. وقد درجت تسمية هذه الطبعة المبتورة بالطبعة المهذّبة. وفي إطلاق هذه الصفة ما ينمّ عن نظرة أخلاقية تطهّرية، دون مراعاة الجماليات الأدبية والفنية التي ترفل بها هذه الرواية.

بيد أن المستشرق الفرنسي أنطوان جالان (1646ـ 1715) ترجم حكايات «ألف ليلة وليلة» كاملة، لكنه شذبها من الهذر الوصفي الطويل، والتزويقات اللفظية، والإستطرادات الشعرية. وكانت الطبعة الفرنسية في كثير من الأحيان، في متناول المثقفين العرب الذين رغبوا في قراءتها تامة غير منقوصة.

في مرآة التربية

كانت ترجمة جالان فاتحة لترجمات أوروبية أخرى، حرّكت قرائح الروائيين والموسيقيين والمسرحيين والسينمائيين والتشكيليين والشعراء، وقيل: إن فولتير قرأ ترجمة جالان أربع عشرة مرة، واستوحاها في تأليف كتابه «كانديد». كما كانت بالطبع مصدر إلهام للكُتاب والروائيين العرب، من توفيق الحكيم، وطه حسين، إلى نجيب محفوظ، وألفرد فرج، وسعد الله ونوس، وهاني الراهب، وواسيني الأعرج، وسواهم. وسعى الأدباء الأجانب والعرب، كل على طريقته وبأسلوبه، إلى محاكاتها وتقليدها، أو إلى إقامة علاقات تناصية وتفاعلية معها، لما تحويه من امكانيات، ومن محمول حضاري وفكري، ومن قيم جمالية واجتماعية وايديولوجية.
وإذا كانت «ألف ليلة وليلة» مستودعاً للموضوعات الخيالية الخلابة والمشوقة، ولمشهديات التحويل السحري، والآلية الفوق طبيعية والعناصر الأسطورية والميتولوجية والجموح الخيالي، فإن القارئ الإنكليزي تعرّف على «ألف ليلة وليلة» مترجمة الى لغته، وهو يعيش أثناءها في مجتمع صناعي سيطرت عليه العقلانية والنزعة النفعية والتملكية، لاسيما عند الطبقات الصاعدة، وجذبته «الليالي العربية»، كما سمّاها الغربيون، لا الى متابعة الحكايات العجائبية والمغامرات والأهوال فحسب، إنما تجلى اعجابه أيضاً، فيما مثّلت من طبائع اجتماعية وعادات وأجواء منزلية. ووجد في شخصية مثل شخصية سندباد نموذجاً للإنسان المثابر النشيط الذي لا يحصل على قوته إلا بما يبذله من جهد ومشقة، والذي يُماثل النمط الإنساني المتخيّل عند مفكري الاقتصاد، في عهد شهد انتقالاً من عهد الإقطاع إلى العصر الرأسمالي الحديث. (محسن الموسوي: ألف ليلة وليلة في الغرب) أما القارئ الإنكليزي المحافظ فلم ير في هذه الليالي، إلا ما رآه المتدينون المسلمون، أي حياة الدعارة والتهتّك والإغواء الجنسي التي شكّلت في معظم التيارات الإستشراقية الغربية، صورة ثابتة عن حياة المسلم او الشرقي، وعلامة بارزة على سلوكياته وأخلاقه.

وبما أنّ «الف ليلة وليلة» متعددة الطبقات وحمّالة أوجه، فقد قاربها علماء النفس من منظورهم، وأوّلوا حكاياتها تأويلاً سيكولوجياً. لاسيّما أن هذه الحكايات حملت ثيمات موازية، وموضوعات مناظرة لها، في القصص الشعبية المتداولة في الغرب. فالموروث الشعبي في انحاء العالم متماثل في خطوطه العامة، وإن اختلف بين صياغة أوروبية أو إسلامية أو هندية أو صينية. والشكل الحكائي العجائبي منه، يخاطب الجانب اللاعقلاني في الإنسان حيثما كان، ويتلمّس مشكلاته الوجدانية العميقة ومآزمه وصراعاته الذاتية. وقد اعتنى المحلل النفساني برونو بتلهايم بالناحية السيكولوجية التربوية من موضوع الحكايات. وزوّدته آلية التحليل النفسي الفرويدي بأدوات السبر والكشف عن ماهية التطور النفسي عند الطفل، من خلال دراسة بعض العيّنات من الحكايات الشعبية، وقد أدرج حكايات ألف ليلة وليلة في مضمار عمله، لا سيما قصة الصياد والجني، وقصة السندباد، ليستخلص في ضوء التحليل النفسي الفرويدي المضامين النفسية الخفية لسيرورة التطور عند الطفل، أو حلّ النزاع الأوديبي الذي هو سلسلة من الاختبارات المؤلمة والمضللة التي يجب على الطفل أن يجتازها، مقاوماً الخوف والأهل، إلى أن يبلغ استقلاله النفسي ونضجه العقلي والأخلاقي، وقدرته على إرساء علاقات إيجابية مع محيطه. وإذ يحمل بتلهايم على العقلانيين الذين يرفضون التعويل على الحكايات الشعبية لمساعدة الأهل على تربية الطفل، فإنه يرى إلى الحكاية الشعبية، إذا ما فُهمت على حقيقتها، مصدراً من مصادر التوازن النفسي، ووعي الطفل بسيرورته الداخلية.
 
أعلى