سوزان ابراهيم - لياليهــا أضاءت نهــاراتنا

تروي الأسطورة أن بجماليون النحات القبرصي العبقري كره النساء فعاف الزواج, لكنه حين أراد صنع تمثال خارق الجمال, جاء تمثالاً لامرأة فائقة الروعة فوقع بحبه, أحست آلهة الحب بالعطف نحوه,

فحولت التمثال إلى امرأة حقيقية تتكلم, إنه الحب الذي أدى إلى فعل الحياة, فعل الكلام, على ضفة أخرى جاءت شهرزاد « ألف ليلة وليلة» بفعل مماثل, فحولت شهريار الصلب الشبيه بالتمثال لناحية عدم الإحساس بالحب, إلى رجل مكتمل بحب المرأة وذلك عبر الحكايات /الكلام.

حفل تراثنا ومازال بصورة خرساء للنساء فهي إما موءودة, أو معشوقة مستترة, أو معبودة صامتة, أو ملكة, ولطالما ترسخ في أدبياتنا مديح صمت المرأة, وعابوا عليها الكلام الذي صار حين تمارسه المرأة ثرثرة فارغة, لقد أقصيت النساء عن ساحات اللغة والكتابة عصوراً طويلة, لتكون حكراً على الرجال, و قد حاول المجتمع البطريركي تكريس الصمت كصفة أساسية للمرأة الجميلة, وتكريس الأنوثة بوصفها قيمة خرساء, بمعنى أن تبقى صفحة بيضاء, أي جهاز استقبال مستسلم!

جاءت شهرزاد لتعاكس التيار, وها هي تقابل القتل والموت بالحكي والحكاية, وقد نجحت, فكانت مسيحاً آخر حين افتدت بنات جنسها بنفسها ( تخاطب أباها الوزير: إما أنجح في تخليص شعبي أو أموت ) لكن المجتمع البطريركي الذي أنتج الليالي لم يستطع التخلص نهائياً من عقدته تجاه المرأة, فحاصر كلامها بستائر الليل والمخادع واللهو والتسلية, إذ كان يسمح لها بالكلام ليلاً فقط, بعيداً عن دائرة الضوء التي تشكل دائرة الفعل, إذ تسكت عن الكلام المباح حين يقترب الصباح! لكنها مع ذلك غلبت العقلية الذكورية حين تمكنت من ترويض شهريار بالكلام / الحوار.

يعترف أندريه جيد بأهمية « ألف ليلة وليلة » حين يؤكد أن أمات الكتب العالمية ثلاث وهي: الكتاب المقدس, وأشعار هوميروس, وألف ليلة وليلة, ولا ينكر الغربيون تأثيرات شهرزاد على المرأة الأوربية, شهرزاد الأنثى الشرقية التي استمدت القوة من ثقتها بنفسها وما تحمله من معارف وعلوم وحنكة وسياسة... تفوقت شهرزاد ونجحت لأنها كانت خازنة الكلمة / المعرفة, لكن حفيداتها - الأوربيات بشكل خاص - لم يكنّ أكثر من خازنات الكلمة / الصمت, حبيسات الجسد وإيحاءاته المادية, فبقيت شهرزاد داخل أسوار الحكاية والجسد, ولعل أحفاد شهريار أرادوا الثأر من جدهم الذي تحول من قاتل إلى إنسان, حين استطاعت شهرزاد أن تجره إلى ساحة الندم وهو عنصر فاعل للتغيير, وهكذا جاء غوته الألماني في قصته « الليلة الثانية بعد الألف » فأنهى دور شهرزاد / الراوية التي فرغت جعبتها من الحكايات, فأوكل فعل الكلام « لفرنشيسكو» الذي أخذ يروي الحكايات, لكنه لم يستطع إمتاع شهريار, فقام هذا بقتل شهرزاد, بمعنى آخر أبعدها عن ساحة الكلام, وغيّبها في مملكة الصمت, لقد ألغى غوته / العقل الذكوري نصف معادلة الكلام, فأي كلام يحتاج إلى آخر, ليبقى منفرداً بساحة القول بعد قتل الآخر أونفيه.

من المتفق عليه أن كتاب ألف ليلة وليلة نشأ بشكل تراكمي وقد أعاد بعض الدارسين نشأته الأولى إلى بلاد فارس عبر كتاب ( هزار أفسانة ) الذي يشتمل على ألف خرافة وهي معنى العنوان في اللغة الفارسية. احتلت ألف ليلة وليلة المرتبة الثالثة بعد القرآن الكريم والشعر في القص الشفهي وتقاليده عند العرب. احتفى الغرب بالليالي فجاءت ترجمتها الأولى على يد الفرنسي أنطوان غالان في 12 مجلداً عام 1704, ولم تظهر طبعتها الأولى بالعربية إلا عام 1818 في الهند, أما الطبعة العربية الأولى لها في الوطن العربي فكانت عام 1835 في مطبعة بولاق في مصر.

ما زال العقل الذكوري يتلاعب بمصير شهرزاد , وما زال من ينصبون أنفسهم كحراس للتراث يتلاعبون بمصير كتاب ألف ليلة وليلة عبر تعقيمه كما حدث في الطبعة الخامسة : الليالي على يد الأب أنطوان صالحاني في لبنان, كما قام رشدي صالح بإعادة طباعة الكتاب في مصر عام 1969 بشكل ( مهذب ) وقد غلبت على الطبعتين السابقتين النزعة الأخلاقية.

كان شفاء شهريار من لوثة القتل على يد شهرزاد بفعل الحب, وبرأيي أنها لم تنقذ نفسها وبنات جنسها وحسب, بل أنقذت الرجل من نفسه أيضاً, يعتقد الكاتب حسن حميد في دراسته لألف ليلة وليلة أن شهريار كان مثلياً نتيجة مشاهد خيانة ارتكبتها أمه الملكة, فحقد على النساء وما يؤكد اعتقاده ذلك, إقدام شهريار على قتل العذراوات كل ليلة بعد فشله الجسدي معهن, وما كان القتل إلا إزاحة لشاهدات على عجزه! لقد حاول الانتقام من النساء فآذى نفسه, حين ابتعد عن عالم الأنوثة الرائع بكل ما فيه, وكما كانت المرأة علة دائه, كانت سبب شفائه فأي جهل يعيشه العقل الذكوري بإحساسه بالتفوق - وهو باعتقادي تفوق ظاهري- وهو يدرك ذلك في قرارة نفسه, بل ويخشى البوح به حتى لنفسه! من هنا ينبع إحساسه الدائم بالخوف من تفوق المرأة الباطني العميق, فيظلمها ويظلم نفسه من حيث لا يدري. يرى حسن حميد أن الشفاء جاء على يد شهرزاد حين عملت على تنمية الجانب الأنثوي في داخله ( ذلك البعد الملعون في المجتمع البطريركي العقيم لولا نعمة الأنوثة, والعقم هنا تتعدد مستوياته ) فاستخدمت ذكاءها لتطفئ روح العنف فيه وتنقله من دائرة القتل إلى دائرة العفو, ومعرفة عوالم الأنثى التي كان يجهل طبيعتها وأسرارها . هنا صار الكلام معادلاً للدم, فشهرزاد تدافع عن دمها المهدور بالحكي, ليعفو عنها شهريار وهي بذلك تهذب نفسه وتروض غريزة القتل والعنف لديه, وقد أرادت أن تعيد توازن المعادلة بين الكلام والدم فيغدو للكلام سلطة مانعة للقتل. ( لن أقتلها حتى أعرف نهاية الحكاية ) هكذا يعيد شهريار القول لنفسه وبذلك صار الكلام مفتاح شهرزاد لولوج عقل الذكورة المريضة والعمل على شفائها.

في بحث شيق للدكتورة فاطمة المرنيسي ( توظيف الفكر كسلاح شهواني في الف ليلة وليلة ) ترى منذ بداية الليالي تشابكاً معقداً بين العنف الجنسي والسياسي فثمة حرب بين الأجناس تطورت إلى عصيان سياسي ضد الحاكم من قبل الآباء الحزينين على بناتهم, وتذهب المرنيسي للاعتقاد بأن تلك الفتاة – شهرزاد – تمثل وجهاً للمقاومة والبطولة السياسية فهي لا تسير بسذاجة نحو الموت بل لها استراتيجية, سوف تحادث الملك إلى ان تتملكه بحيث لا يمكنه التخلي عنها وعن صوتها وقد سارت الامور كما خططت لها ولكي تنجح كان عليها أن تضع استراتيجيات ثلاث أولها معارفها الواسعة وثانيها موهبتها في خلق التشويق وثالثها برودة دمها بحيث تسيطر على الموقف بالرغم من الخوف. امتازت شهرزاد بطبيعة ذهنية أميرية وثقافة موسوعية وبطبيعة نفسية فهي تتقن اختيار الكلمات بحيث تؤثر في أقصى فكر شهريار. انتصرت شهرزاد ورغم الخوف لم تصرخ بل وظفت طاقة صمتها لمعرفة نوايا خصمها وتحديد نقطة ضعفه, امتلكت شهرزاد ثقة يقينية بكونها شخصية رائعة تمتلك ذكاء مذهلاً, لو أحست نفسها ضعيفة أو حمقاء لقطع الملك رأسها فهي متأكدة من أن الإنسان يملك خيار تغيير مصيره: دماغنا سلاح لا يقهر واحترام الذات سر النجاح.


- الثورة
 
أعلى