احمد النويهي - ألف ليلة وليلة ما يزال ساحرا في الغرب

منذ ثلاثة قرون افتتن الغرب وأوروبا بشكل خاص بكتاب ألف ليلة وليلة في غياب التلفزة والسينما والرحلات السهلة كان الكتاب النافذة الوحيدة للاطلال على ذلك الجزء المغلف بالأسرار من العالم

وكان كتاب ألف ليلة وليلة بالذات مسؤولا بشكل رئيسي عن تشكيل تلك الهالة التي عرفت بـسحر الشرق. كان سرا جمع بين الحقيقة والخيال, بين الحكمة والتسلية, وبين الأدب الشعبي والأدب الرفيع. وكانت لياليه الواحدة والألف تقدم دنيا من الترف والبذخ يعبق في اجوائها البخور وينثر في دروبها الهال والريحان, تسكنها صبيات فائقات الجمال وعجائز متمرسات في الدهاء وشبان مجبولون على المغامرة وملوك ووزراء وجنود وتجار تتقاذفهم الأقدار في لعبة الحظ الدائر.

لكن صدور ترجمة جديدة للكتاب هذا الشهر في لندن والاستقبال الحافل الذي استقبلت في اوساط النقاد والجمهور يدل على ان التلفزة والكاميرا ووسائل الاعلام الحديثة لم تنل من سحر الكتاب. وأن الشرق الذي تخيله القارىء الغربي الأول عالما قصيا مسيجا بالمغامرة والفتنة قد تحول الآن الى دنيا مثالية يتوق اليها الخيال الذي اجدبته المادة وتصبو اليها الروح القاحلة في عالم الواقعية.

الترجمة الجديدة للكتاب قام بها البريطاني مالكولم لايونز بمساعدة زوجته اورسولا لايونز وصدرت عن دار بنجوين للنشر. الاسم الذ اختاره لايونز وهو الليالي العربية: حكايات ألف ليلة وليلة, يقول الكثير عن هذه المحاولة الجديدة, فقد عرف كتاب ألف ليلة وليلة في بريطانيا تحت اسم الليالي العربية. وقيام لايونز بتثبيت الاسم الاصلي للكتاب الى جانب الاسم الذي عرفه به جمهور الانجليزية يكشف عن تمسك المترجم بالنص الاصلي مع عدم تخليه عن ملامح شعبية الكتاب.

ترجمة لايونز لألف ليلة وليلة ليست الترجمة الانجليزية الاولى للكتاب, لكنها الترجمة الكاملة الاولى التي يطلع عليها جمهور الانجليزية منذ ان اصدر الرحالة والمستشرق البريطاني ريتشارد بيرتون ترجمته للكتاب بعنوان الليالي العربية في الاعوام من 1885 الى .1888
كان اول ظهور لكتاب ألف ليلة وليلة في اوروبا في القرن الثامن عشر على يد المستعرب الفرنسي غالاند الذي نشر ترجمته الفرنسية للكتاب تحت اسمه الاصلي ألف ليلة وليلة وصدرت الترجمة في 12 مجلدا خلال الأعوام من 1704 الى .1717
تبع ذلك ظهور ترجمات اوروبية متعددة جعلت من الكتاب جزءا من الأدب العالمي حيث احبه الصغار والكبار, الروائيون والشعراء, المثقفون والعامة. والواقع ان غالاند لم يكتف بترجمة الكتاب بل انه وضع له الصيغة التي ثبت عليها في جميع الترجمات الاوروبية واضاف له قصصا مثل قصة علي بابا والسندباد وعلاء الدين وهي قصص لم تكن ضمن الكتاب الاصلي بالعربية لكنها تحولت الى جزء منه بعد صدور ترجمة غالاند, حتى أن الطبعات العربية الحديثة نسبيا قد تبنتها وأدخلتها على الكتاب الأصلي.

في القرن التاسع عشر, ظهرت ثلاث ترجمات للكتاب باللغة الانجليزية. أصدر المستعرب البريطاني ادوارد ويليام لين ترجمته عام 1839 التي كيفها للذوق الفيكتوري المحافظ واضطر فيها الى اغفال عدد لا بأس به من الحكايات والمقاطع والأشعار. ما بين الأعوام 1882 و 1884 صدرت ترجمة انجليزية اوسع للكتاب قام بها جون باين. لكن صدور ترجمة ريتشارد بيرتون خلال الأعوام 1885 الى 1888 طغى على ترجمة باين حيث اكتسبت النسخة التي ترجمها بيرتون شهرة واسعة واستحوذت على مفاتيح الخيال البريطاني وظلت متربعة على عرشه ردحا من الزمن.

لكن مفردات بيرتون القاموسية وصياغاته التي لا تخلو من الغرابة اضعفت رصيد الكتاب لدى القارىء المعاصر الذي كان عليه ان يقنع بترجمة انجليزية لاحقة قام بها جي. سي. ماردروس عن النسخة الفرنسية. في هذه الاثناء بدأت بعض الترجمات العصرية المنقولة مباشرة عن النص العربي بالظهور بالانجليزية, كان من بينها الترجمة التي قام بها ن. ج. داوود وظهرت قبل اكثر من نصف قرن ضمن سلسلة الاعمال الكلاسيكية التي تصدرها دار بنجوين, لكن ترجمة داوود عانت بشدة من تدخلات المترجم الذي أغفل جميع الأشعار الواردة في النص كونها تعيق تدفق الحكاية حسب ما جاء في المقدمة التي وضعها للكتاب. كما قام المترجم بتغيير الكتاب عندما امتنع عن توزيع الحكايات على الليالي الواحدة والألف, وأضاف اليها حكايات لم ترد في النص العربي لمجرد أنها نموذج للحكايات القصيرة المسلية التي ما تزال شائعة في الشرق الأوسط, حسب قوله. لاحقا وفي الأعوام 1990 و 1995 أصدر حسين هداوي ترجمة أفضل للكتاب في جزءين.

في الوقت الذي صدر فيه الجزء الاول من ترجمة حسين هداوي, ظهرت الترجمة الاكاديمية الاولى لكتاب ألف ليلة وليلة التي قام بها محسن مهدي. استند مهدي الى أقدم مخطوطة متوفرة للكتاب يعود تاريخها الى القرن الميلادي الخامس عشر, وان كان مهدي نفسه يعتقد انها اقدم تاريخا من ذلك. المخطوطة, وهي نفسها التي اخذ عنها غالاند ترجمته الفرنسية الأولى, تتميز بلغة عربية حية اقرب الى العربية المحكية من بقية النسخ العربية المنمقة التي صدرت في كل من القاهرة وكلكتا في القرن التاسع عشر وهي النسخ التي استند اليها باين وبيرتون والكثير من المترجمين الاوائل. لكن من سوء الحظ ان هذه النسخة غير كاملة. اذ انها لا تغطي سوى حكايات الليالي الـ 282 الاولى فقط.

وقد اختار حسين هداوي ومحسن مهدي هذه النسخة معولين في اكمال الليالي الباقية على نصوص القاهرة وكلكتا. ويبرر الاثنان اختيارهما لتلك المخطوطة بكونها تقدم صيغة اكثر أصالة وشعبية غير متأثرة بتدخلات المراجعين من عرب ومستعربين ممن سعوا الى تنميق النص وتهذيبه في القرن التاسع عشر.

لكن ذريعتهما, وان بدت مقبولة, غير واردة من ناحية الدقة التاريخية. اذ لا يوجد نص اصلي لألف ليلة وليلة التي كانت تروى شفاها وتنمو مع الأيام لتضم حكايات فارسية وهندية وسواها الى جانب الحكايات العربية. كما ان حكايات الف ليلة وليلة ليست شعبية كلها طورها وشذبها المحررون اللاحقون. فالبعض منها ينتمي اصلا, الى الادب العربي الرفيع كتلك المأخوذة عن كتاب الفرج بعد الشدة للتنوخي.

عندما تصدى مالكولم لايونز للقيام بالترجمة الاخيرة لكتاب ألف ليلة وليلة كان عليه, أولا, ان يختار النص الذي سيترجم عنه من بين عدد ليس بالقليل من النصوص, وكان امامه نصان يدعيان الأصالة هما المخطوطة التي استند اليها حسين هداوي ومحسن مهدي ونص آخر نشر ما بين الأعوام 1839 و 1842 وعرف بنص كلكتا ,2 وقد وقع اختياره على نص كلكتا 2 بسبب وجيه هو توفر ترجمة مهدي وهداوي بالانجليزية اضافة الى كون المخطوطة التي استندا اليها غير كاملة.

ويمكن القول ان لايونز مؤهل تماما للقيام بترجمة ألف ليلة وليلة فهو خبير بالعربية ويشغل منصب استاذ اللغة العربية في جامعة كمبردج اضافة الى كونه خبيرا في دراسات التراث الادبي. وله دراسة موسعة منشورة حول الملامح الشعرية الشعبية اضافة الى عدد من الدراسات المهمة عن الشعر.

حاول لايونز ان يكون امينا في الترجمة ما استطاع الى ذلك سبيلا. حافظ, اولا, على هيكل النص الموزع على ألف ليلة وليلة, مبتدئا حكاية كل ليلة بعبارة شهرزاد الشهيرة بلغني ايها الملك السعيد, ذو الرأي الرشيد, ومختتما اياها بالعبارة الأشهر وعندما ادرك شهرزاد الصباح, سكتت عن الكلام المباح. لكنه لم يسع الى تقليد السجع العربي الجميل الذي يميز النص العربي خصوصا في المقاطع الوصفية حيث يساهم السجع في تشييد ابهة لفظية ضرورية لرسم صورة الابهة الموصوفة. أما في تعامله مع المقاطع الشعرية فقد وجد لايونز في التزام من سبقه من المترجمين امثال بيرتون وهنداوي بترجمة الشعر العربي الى شعر انجليزي مقفى تكلفا غريبا على النص الانجليزي يقتضي, بالضرورة, خروجا عن النص وتشويها له. ولهذا فقد آثر الترجمة بالشعر المرسل او بالنثر العادي. ولعل اهم مزية في لغة لايونز هي المباشرة والبساطة التي جاءت مقاربة لبساطة النص العربي ومباشرته.

ترجمة لايونز لكتاب ألف ليلة وليلة صدرت في ثلاثة أجزاء عن دار بنجوين. كتب روبرت أروين ثلاث مقدمات لكل جزء من الأجزاء الثلاثة, ناقش فيها طبيعة العمل, وتاريخ النص, اضافة الى تتبعه للأثر الاستثنائي الذي تركه كتاب ألف ليلة وليلة على الأدب العالمي وعلى الفنون والسينما.

وليس غريبا ان يأتي هذا الاصدار الأخير لألف ليلة وليلة مزينا بصور باذخة عززت الأجواء الباهرة للكتاب, فالكتاب منذ صدوره كان وما يزال مصدر الهام العديد من الفنانين في مختلف الثقافات والعصور
 
أعلى