كندة السوادي - الديكاميرون..كتاب التسلية يضاهي الالياذة...

ترجم كتاب الكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو (الديكاميرون) إلى اللغة العربية فجاء في سبعمئة وصفحتين (702) من القطع الكبير، وقد قام بترجمتها صالح علماني الذي تحدث في مقدمته، عن بوكاشيو: فنه، وعلاقاته الأدبية، ومغامراته وإحباطاته النسائية، وصداقته مع شاعر إيطاليا الأكبر (بترارك)، وكتاباته التي مهدت لظهور هذا العمل، وما لحق به من تشويه واتهام بأنه يدعو للفساد والتحلل كما يرى المترجم.

تدور أحداث الديكاميرون في عشرة أيام، في تلك الفترة الرهيبة التي حصد فيها الطاعون أرواح خمس وعشرين مليوناً من الأوروبيين، هم حوالي ربع السكان في النصف الأول من القرن الرابع عشر حيث أحداث الرواية السياسية.

يكتب المترجم في المقدمة حول ترجمة الديكاميرون قائلاً: «على الرغم من انقضاء سبعة قرون على ظهور هذا الكتاب لأول مرة باللغة الإيطالية العامية، الآخذة بالانشقاق عن اللاتينية آنذاك، إلا أنه لم ينقل إلى العربية كاملاً من قبل، بل ظهر منه في النصف الأول من القرن الماضي عدد من القصص ضمن مجموعتين قصصيتين، بترجمة كامل كيلاني. وفي خمسينيات القرن الماضي، ربما في عام 1956، وضمن سلسلة كتابي التي كان يشرف على إصدارها حلمي مراد، صدر الكتاب الثالث عشر من السلسلة بعنوان «الديكاميرون / ألف ليلة وليلة الإيطالية» بترجمة إسماعيل كامل». ويقول عنها بأنها: «أقرب إلى التعريب مثلما جرت العادة في مطلع القرن العشرين، حيث يعمد المترجم إلى إعادة صياغة النص بأسلوب إنشائي مزخرف، وبلغة عربية محشوة بالتنميق، تكثر فيها المحسنات اللفظية التي تثقل أحيانا على القصة، ولا يتورع في أحيان أخرى عن إضافة فقرات مطولة، أو الخروج باستنتاجات أخلاقية».

يرى بعضهم أن الدّيكاميرون أو «الأيام العشرة» رواية تنتمي إلى القرن الرابع عشر الذي كان بداية لاحتضار العصور الوسطى في أوروبا، وتبدلاً في العقلية الاجتماعية والدينية مدفوعاً بنظام اقتصادي سيسود أوروبا في عصر النهضة، ويبدو هذا ظاهراً في معظم فصول الرواية...

يبدأ الراوي حديثه عن «الطاعون الأسود» الذي أودى بربع سكان أوروبا في تلك المرحلة، الذي سيدفع بأبطال القصص إلى الهروب من «فلورنسا» إلى الريف، ليبعدوا عن أذهانهم ما عاشوه من أهوال... وليبدأ منفاهم الاختياري برواية قصصهم كلّ حسب رؤيته، فيشكلون رواية تطعن بقيم عصرهم، وبمصداقية الكنيسة التي بدأت تفقد سلطتها وهيبتها الروحية بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية المقدسة، كما يرى بعضهم، وبعد تشكل أمم أوروبية مختلفة بدأت بها حياة جديدة أكثر أهمية نتيجة لتطور الصناعة الحرفية وظهور طبقة البرجوازية التي أدت إلى انهيار النظم القروسطية، فظهرت هذه المتغيرات في الرواية على شكل حكايات تصف الخيانات الزوجية، والأبناء غير الشرعيين، والحط من قيم النبلاء الإقطاعيين، وترسيخ قيم البرجوازية التي ناصرت الأدب والفنون، وأحلت الكتب اليونانية محل الكتاب المقدس، والعقل محل الإيمان.

لقد كتبت الديكاميرون باللغة العامية الإيطالية الآخذة بالانشقاق، حينها، عن اللغة اللاتينية كما ذكرنا في البداية. وتضم مئة قصة تروى خلال عشرة أيام على ألسنة سبع نساء وثلاثة رجال تتراوح أعمارهم ما بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، يدفعهم المؤلف إلى كنيسة سان ماريا ليتعارفوا ويتفقوا على الهرب من الوباء الذي اجتاح فلورنسا عام 1348م، فيذهبون للعيش في قصر فخم في إحدى القرى القريبة من المدينة... وهناك يكون البحث عن أداة للتسلية تعينهم على العيش والترفيه في تلك المزرعة التي هي عملياً المنفى، فيكون السرد الحكائي، كما يرى أحدهم، هو الخيار الأفضل، ولهذا دلالاته التي تذكرنا بـ ألف ليلة وليلة، فالحكاية تعني استمرار الحياة، والتغلب على الموت، ومن هذه اللفظة يبدأ الكاتب روايته بعرض تفصيلي عن أعراض الطاعون، ثم ينتقل ليقدم الرواة الذين سيستخدمهم الكاتب -بدلاً عنه- في الفضاء السردي للرواية، فيتفق الهاربون على تنصيب ملكٍ عليهم كلّ يوم، يكون من بينهم، ويقوم بتنظيم حياتهم، وترتيب القصص داخل الرواية، وهذه إشارة أخرى لانهيار النظم القروسطية، ومحاولة لترسيخ قيم جديدة قوامها الديمقراطية البرجوازية، وترسيخ أفكارها المحدثة كما يرى بعض الكتاب الذين درسوا هذا العمل الضخم الكاتب الذي يعتبر من كلاسيكيات الأدب العالمي.

تنتهي الرواية مع نهاية القصة المئة بعد أن تقدم للقارئ، بأسلوب سهل كما يفترض، الصورة الحقيقية لتلك المرحلة بكل تفاصيلها ونزعاتها الاقتصادية والدينية والثقافية، والتي تعارض النزعة المثالية لرواية الفروسية التي كانت سائدة..

الجدير ذكره أن الكاتب توجه بهذه الرواية إلى نساء عصره بهدف تسليتهن، لأنهن كُنَّ محرومات من وسائل اللهو المتاحة للرجال في ذلك العصر... هذه الأحاديث الموجهة للنساء، والهادفة إلى تسليتهن، صارت فيما بعد تصنف إلى جانب أعمال هوميروس وشكسبير والكتب المقدسة...


* الديكاميرون
جيوفاني بوكاشيو
ترجمة: صالح علماني
إصدار: دار المدى- دمشق
 
أعلى